تعتبر كتابات الروائي السوري حيدر حيدر من أهم الكتابات العربية المعاصرة، فاللغة الشعرية المكثفة تنساب مع انسياب التاريخ العربي وما شهده من اهوال وفظائع حيث تبدو غرائز السلطة أقوى واشد اضطراما من الغرائز الأخرى، كالجنس والجوع، والبقاء، بل لعلها في العمق النفسي والفلسفي جماع هذه الغرائز.وهو ما تتناوله: (وليمة لأعشاب البحر، الزمن الموحش، غسق الآلهة، شموس الغجر، …) وتعتبر رواية : (مراثي الأيام: ثلاث حكايات عن الموت)(1) شهادة حية عن وقائع الاستبداد ببلاد العرب وتفكك نوى المقاومة في مواجهته، هذا التفككك والاضمحلال هل كان نتيجة طبيعية لمسار مجتمع تاصل فيه الاستبداد والقتل، ام تتساوق عوامل اخرى ادت في النهاية الى هذه النتيجة؟
تاريخ متواصل من العسف والاغتيال:
في الجزء الأول من رواية حيدر حيدر "مراثي الأيام : ثلاث حكايات عن الموت" تتوارد أخبار القمع والتنكيل الذي يسيده الحاكم العربي في صفوف العامة والمعارضين وحتى المقربين للحفاظ على حكمه وسطوة جبروته:
ـ ما فعله أبو العباس السفاح بجثث بني أمية عندما أخرجها من قبورها وراح يجلدها ثم احرقها ونثر رمادها في الريح. (ص 8)
ـ واقعة مقتل عمرو بن سعيد بن العاص على يد عبد الملك بن مروان. (ص 12-13)
ـ واقعة مقتل الحسين بن علي وسلبه والتنكيل بجثته. (ص 14-15)
ـ واقعة اقتتال آخر ملوك غرناطة المهزومين: أبو عبد الله الصغير مع أبيه أبو الحسن النصري. (ص 16-17-18).
ـ وصية أبو جعفر المنصور لابنه المهدي حول السلطان، وحادث مقتل أبو مسلم الخراساني والتنكيل به. (ص 19- 20 - 21)
ـ حادث مقتل زوج العباسة على يد هارون الرشيد ومطاردة البرامكة .(ص 25)
ـ وقائع الاقتتال الدموي بين الأخوين الأمين والمأمون من اجل الاستحواذ على الملك. (من ص 29 الى 34)
ـ مجزرة بن طلحة بالجزائر في صفوف الأهالي والمرتكبة من طرف الجماعة الإسلامية المسلحة وفتاويها حول السبي والمغانم، وتقاعس العسكر عن تقديم الحماية لسكان البلدة. (ص 41-43)
ـ واقعة قصف بلدة حلبجة الكردية من طرف الطائرات العراقية عام 1980 بالمواد الكيماوية السامة وسقوط حولي خمسة آلاف قتيل والآلاف من مشوهي الغازات السامة، وشهادات الطفلة عزيزة، والدكتورة كريستين كوسدن، والصحافي والمنتج السينمائي: كوين روبرت، ونداء احمد بن بلة من اجل الكف عن إبادة الأكراد العراقيين، وشهادتي البراءة من طرف الكاتبين العراقيين: هادي العلوي وسعدي يوسف (ص: 45 الى 49).
هذه الوقائع المتتالية عن استبداد الحاكم العربي وتسلط المجموعات المستبدة في التاريخ القديم والمعاصر تتواتر على لسان راويين:
الأول: تاريخي وهو الطبري.
الثاني: معاصر وهو غيلان الدمشقي.
يستعمل الكاتب التناص والذي يعقبه التعليق، ويتداخل فيه التاريخ العربي القديم والحديث الى حد الامتزاج والرابط دائما الوحش الأسطوري : اللويثان : أو الحاكم الفرد المستبد المعصوم من الخطأ وظل الله في الارض، والمجموعات المستبدة كالمجموعة السلفية الجزائرية.
اغتيال الأمل وحلم الانعتاق:
في الجزء الثاني من الرواية : اغتيال في الغسق يورد الكاتب "حكاية ماكرة عن الصياد والكلب في ظاهرها، غير ان مداها المفتوح يتدفق متشعبا عبر مدارات تشبه رمي حصاة في بحيرة تنداح أمواجها موجة اثر موجة لتنكسر على الشاطئ ثم ترتد الى البحر" (ص 79)
كلب الصيد "فيديل" الوفي والذي تربطه علاقة حميمية اكثر من اللازم مع الراوي والذي يقضي صيفه في مخيم على شاطئ البحر سيتم اغتياله في "غسق عسكري".
الاغتيال الثاني المفاجئ سيتعرض له الصديق الحميم للراوي في مخيمه الصيفي: علي التريكس أو حوت البحر، العامل الزراعي سليل أسرة كادحة عملت في أراضى الإقطاع على مدى ثلاثين عاما وحازت على نصف الأرض بعد كفاح مرير مع مالك الارض، اغتيال علي التريكس المفاجئ سيحدث على نحو مباغت وبعد عودته من الدمام حيث كان عاملا بها.
الاستسلام في مواجهة الاستبداد:
الجزء الثالث من الرواية "المجرات" يتضمن حكاية وهيب الساهر المدرس الذي ناضل في الجامعة ضد الديكتاتورية وسجن مع رفاق له كسليم مرزوق اكثر من مرة خلال مظاهرات عدة، توفيت زوجته التي احبها بعد حادث ولادتها الأولى، وسيدعى وهيب الساهر للخدمة العسكرية، وسيلبي النداء بحماس، حيث سيشارك في الحرب ضد إسرائيل برتبة ملازم في الجيش، بعد الهزيمة سيسجن لمدة 45 يوما لتشهيره بالتقصير الذي أدى للهزيمة، وسيتم تسريحه في النهاية من الجيش.
حين عودته الى بلدته "عين الريحان" سيقيم الأهالي "احتفالا بابنهم الوطني البار (ص 146)" ورفعوه فوق الأكتاف وفكروا في إقامة نصب تذكاري له في ساحة البلدة، وسيحبه كل أهالي البلدة، فقد غدا النموذج الذي يجب الاقتداء به لانه رفض الصمت والسكوت عن أسباب الهزيمة في مواجهة العدوان وشهر بكل ما أوتي من جهد بمسببات الهزيمة، وحاز على اثرها نقمة الماسكين بزمام البلد. سيحاول بعد عودته للبلدة تأسيس خلية معارضة وداعية لتغيير السلطة المسؤولة عن ما آلت إليه أحوال البلد والبلدة. وسينجو على اثرها من الاعتقال بعد تحذير احد رفاقه سليم مرزوق بكون الخلية مخترقة من طرف البوليس.
سيساهم سليم مرزوق وتحت ذريعة "الواقعية الذكية" وبكون "القيم والوطن والتاريخ تختزل الآن عبر مفردات عالمية اسمها الاقتصاد والمال والتجارة والسوق" (ص155) سيحدث انعطافة كبرى في حياة وهيب الساهر والذي أراد ان يكون "نظيفا في زمن الوحل والتلوث وفيا في زمن الغدر والخيانات، نقي الضمير من عصر دفنت فيه الضمائر" (ص 151) وقد أتاه سليم مرزوق التاجر والسمسار حاليا، "بكفن ليطوي جثة عصره الدرويشي".(ص151) لانه يقود حتما الى "هاوية الفقر والعزلة والنبذ ".(ص 151) وان "ابن هذا الزمان هو من يصلي وراء علي حين تقام الصلاة، ثم لا يلبث ان يهرع الى مائدة معاوية حين يمد سماط الطعام واللهط. هذه هي الدنيا الآن."
ان قصة وهيب الساهر في الرواية تعتبر خير دليل على منحى الانهزام والاستسلام الذي يدعو له أشخاصا مشكوكا فيهم وتحوم حولهم شبهات الارتباط بالسلطات " وفي أعقاب الاعتقالات سرت الخبر ان المرزوقي كان الواشي" (ص181). بعد هذا الاستسلام سيتحول ابن الوطن البار وهيب الساهر الى "المقامر المعزول عن العالم ونبض الحياة الحي" (ص 171). وسيتم اعتقاله بعد مداهمة بوليسية لبيته الذي غدا نادي قمار و بعد ان "ضاعت روحه بعدما ضيع طريق البحر" سينتهي منتحرا في الزنزانة بعدما قطع شريان يده اليسرى.
تشييد مملكة اللوتس فوق المستنقع
تكشف كتابات حيدر حيدر عن جزء مهم من تاريخ اليسار العربي عموما واخفاقاته، كتشظي الحزب الشيوعي العراقي عقب صعود حزب البعث القومي نتيجة خيانات داخلية وهو ما تكشف عنه رواية "وليمة لأعشاب البحر" حيث ستذوب خلايا الحزب في سبخ مستنقعات الاهوار كما الملح، وهي نتيجة حتمية لتوجه متبع من قبل بعض الأحزاب الشيوعية العربية التي تقتدي بنموذج حرب العصابات كوسيلة أساسية للتحرر من ربقة التسلط والاستبداد، فحرب العصابات التي تقودها نواة من المناضلين "المحاربين" وفق نظام حياة وأخلاق خاصين وبالنيابة عن "الكل" وبدون سند قوي وعمل سياسي منظم في صفوف عمال المصانع وكادحي القرى وشباب الجامعات والمدارس سيكون مصيرها الفشل بعد العزلة والنبذ، فنقطة الارتكاز الأساسية يجب ان توجد في قلب المصانع والأحياء العمالية وليس في قمة الجبل، لان "تحرر الجماهير يجب ان يكون من صنع الجماهير نفسها" أي برفع درجة وعيها لدرجة تقرر هي نفسها حمل السلاح والاستيلاء على السلطة بوجه قمع قوى الدولة البورجوازية، فالمستقبل هو دائما للنضال العمالي والشعبي بشكل عام وليس لأنوية صغيرة مسلحة ومعزولة وسهلة الاقتلاع والاجتثاث، وهو ما تغفله كتابات حيدر حيدر.
ينضاف الى محدودية الرؤية الإيديولوجية المؤطرة لكتابات حيدر حيدر بنية الأحزاب الشيوعية العربية، كأحزاب ستالينية مرتبطة بنسخة اشتراكية جرى تشويهها بعناية مركزة بعيد وفاة لينين. فهذه الأحزاب مفتقدة لديموقراطية داخلية حقيقية وهو ما يرد على لسان الراوي: "عملنا معا أيام الاحزاب، ما كنا نخشى الصدام في المظاهرات. أنت تتذكر تلك الأيام يقول ما الذي حدث الآن؟ حولونا الى مجموعة حيوانات في محميات نأكل متى أرادوا وننام متى يشاءون، ونستيقظ كما يرغبون، ثم نصفق لهم في المناسبات، نحن دمى ولسنا بشرا، والانكى من هذا ان أحدا لا يجرؤ حتى على الصراخ مع ان البهيمة تصرخ إذ تجرح أو تؤذى. أما نحن فقد فقدنا حتى القدرة على الصراخ" (2) وكل ما يقرره الزعيم او القائد مقدس ولا يناقش.
من اجل إحداث تغيير حقيقي واصلاح الواقع الحالي لا يلوح أي بصيص من الأمل في رواية مراثي الأيام، فجوهر تاريخ السلطة العربية لم يتغير في الماضي والحاضر ومتأصل "بنيويا وسلاليا وجينيا (داخل علم الهندسة الوراثية) في التكوين السلطوي ونظرية الحكم" (ص8). وكل أحلام الشباب بالانعتاق والتحرر جرى اغتيالها وإجهاضها أما انوية المعارضة والمقاومة فقد جرى اختراقها وإحداث الانعطافة المميتة داخلها (حالة وهيب الساهر). وعلى امتداد الرواية تتعدد أنواع الهروب والابتعاد من الواقع الحقيقي الى جزر استيهامية : جزيرة حي بن يقظان في الجزء الأول حيث يهيم الراوي في فضاءات مفتوحة ومتعددة يعيد من خلالها طرح الأسئلة: "لم لا نجم في السماء يضيء؟ لماذا لم يحن وقت الزرع؟ وهل الشتاء كان جافا في هذه الأوقات؟ ولماذا لا اسماك في البحر ألأن الديناميت قتل بيوض وفراخ السمك؟" (ص 22).
كما ان غيوم اليأس القاتمة والتي هبت على الكتابات الروائية الأخيرة للكاتب، تنبع أيضا من فقدان المصداقية من النموذج الاشتراكي بعد انهيار جدار برلين وتفكك المنظومة البيروقراطية الشرقية، والتي تعتبر محصلة ونتيجة سياسة ستالينية أعدمت الديموقراطية الداخلية للحزب كما أعدمت الآلاف من كوادر الثورة البلشفية وحولت الأحزاب الشيوعية الى ملحقات لها بعد الإجهاز على الأممية الثالثة، وهو ما تغفله للأسف كتابات حيدر حيدر خلال محاولة " تشييد مملكة للبراءة والنزاهة والصيد واللعب، مملكة صغيرة، شبه منفية، خارجة على المألوف، أو عما هو معترف به في عصور التوحش والإرهاب والمطاردات والشك." (ص 125- 126).
هوامش:
(1)- مراثي الأيام "ثلاث حكايات عن الموت" الطبعة الاولى، 2001، الناشر امواج للطباعة والنشر والتوزيع ورد للطباعة والنشر والتوزيع.
(2) مراثي الأيام: الصفحة 90
المغرب