«نحن نرى أن الضدية ضد الراهن لا تغدو، إن تجاوزنا المفهوم الميتافيزيقي عن الزمان، ضدية موجهة ضد الحاضر (إذ أن الراهن ليس هو الحاضر)، وإنما هي ضدية موجهة نحو الماضي قصد فتحه على آفاق جديـدة، وعـدم سجنه ضمن صـورة متجمـدة منغلقة، تجعل منه تقليداً جامداً ميتاً. وهي ضدية موجهة نحو المستقبل لفتح آفاقه المتعـددة وعدم سجنه ضمن مخططات وتصاميم رياضية، لكنها أساساً ضدية موجهة نحو الحاضر، نحو الحضور، ليس كنمط للزمان، وإنما كميتافيزيقا وتقنية» عبدالسلام بنعبدالعالي.
يواصل المفكر المغربي عبدالسلام بنعبدالعالي في كتابه "ضد الراهن" الصادر عن دار توبقال للنشر، تدقيق مفاهيم الانفصال كممارسة فكرية في الفكر الفلسفي، امتداح مفهوم الانفصال ضدا على سيكولوجيا الاجترار والتكرار وأنطولوجيا التطابق والوحدة.لكي تغذو الفلسفة سعيا لإحداث الفجوات فيما يبدو متصلا، وخلق الفراغ فيما يبدو ممتلئا، وزرع الشك فيما يبدو بديهيا، وبعث روح التحديث في ما يعمل تقليدا، وتوليدا البارادوكس في ما يعمل دوكسا. تغدو الفلسفة مقاومة ضد كل ما يكرس الامتلاء والتطابق والتقليد. ولتكريس هذا الانفصال يعمق المفكر عبدالسلام بنعبدالعالي تدقيق مفاهيم الراهن، الايديولوجيا، الحداثة، التقليد، الإعلام...ويعتبر المفكر بنعبدالعالي أن آلية الايديولوجية تقوم أساسا على إعادة إنتاج علائق الإنتاج، هي الإسمنت الموحد للمجتمع والمغلف لتناقضاته والبات لنوع من الرأي يكبل التفكير ويخنق كل روح انتقادي، ففي مجتمع الفرجة، الفرجة هي الايديولوجيا بلا منازع، إذ تخلق آلتها "ما يعمل كواقع" هي فن جعل الواقع مفعول ما يصور به وما يقال عنه، وإذا كانت الايديولوجيا هي ما يجعل الأشياء حقيقية، والفرجة انفراج وفوهةوابتعا د.. مجتمع الفرجة "لب سريالية الواقع". فمع الشاشة التي غذت صورة عن الواقع، أمسى الإعلام يصهرنا في الواقع، ويحشرنا في الراهن ويغرقنا فيه، فعوض جعلنا ندرك الأحداث في بعدها التاريخي ودلالاتها العميقة صرنا نضيع في جزئياتها، لقد إذا الإعلام أداة لتفتيت الواقع، ولا حديث عن الفلسفة اليوم دون حديث عن الفرجة، الايديولوجيا، الإعلام كتوتاليتارية.
إن الفلسفة بما هي مواجهة لكل نزعة كليانية هي مواجهة للإعلام، سعي التجاوز التقنية، واسترجاع قدرات التمييز وحس الاختلاف، الفلسفة مقاومة للماضي الجاثم، للتقليد لبعث تراث حي، انفصال عن الرؤى لحظة تصدع، فاللحظة تحدث فجوة في الحال الراهنن اللحظي بما هو ما يقوم ضد الراهن "إنه قرار التاريخ النقدي الذي ينزل الماضي وعلى ثقل الحاضر" نيتشه. الفلسفة هي انفصال عن الرؤى التي تسعى أن تكلس التراث عندما تسجنه داخل قوالب جاهزة، فالمعاصرة تعني أن يعيش الإنسان عصره، العصر "كعلاقة متفجرة للماضي بالمستقبل"هيدغر، الماضي لا يمكن أن يصبح حاضرا، ولن يكون كذلك إلا إذا تخلله الزمان، كي يغدو حركة فانفصال، ففراغات وقطيعة. هذا الشكل الممكن لتملك فعلي للتراث، يؤكد أن الحداثة علاقة متفجرة للماضي بالمستقبل، علاقة متوترة مع الراهن، نمط من التفكير، طريقة في السلوك ووعي بتحول الكائن، إنها إثبات للانفصال، ووعي باللحظة التي يصبح فيها الانفصال من صميم الوجود، الحداثة تقابل التقليد موقف مضاد للتحديث. إن الضدية ضد الراهن يؤكد المفكر بنعبدالعالي هي ضدية موجهة نحو الماضي كأشكال يستعاد بها ، هي ضدية موجهة نحو المستقبل لفتح آفاقه المتعددة، ضدية موجهة نحو الحاضر ليس كنمط للزمان وإنما كميتافيزيقا وتقنية.
هوية تتجدد:
يشير المفكر بنعبدالعالي أن الحديث عن الهوية هو موقعة ورسم على خارطة جغرافية وسياسية وثقافية، لكن هل من معنى لسؤال الهوية اليوم في عالم صار يفرض علينا إعادة النظر حتى في الأسئلة التي نطرحها؟ فإلى وقت قريب كان من المشروع التساؤل عما يميزنا، ويحددنا وتحديد ذواتنا فرديا وقوميا داخل عالم محدد المعالم. اليوم يتم التساؤل على الحدود في عالم بلا حدود، وعن مرجعية في فضاء بلا مرجعيات، في عالم مشمول بالتقنية، وغياب الاختلاف وسيادة التنميط والأحادية، أمسى الفكر اليوم فكرا كوكبيا كونيا، اكتساح التقنية غير مفهوم العالم، وطبعه بمفهوم جديد عن الزمنية.
إن الكونية يشير المفكر بنعبدالعالي لا هوية لها، بل هي التي تحدد اليوم كل هوية، والانخراط فيها قدري تاريخي يرمي بإنسان اليوم في الكون وبالفكر في الكونية، حتى أن مبدأ التمييز الذي دأبنا عليه بين الأصالة والمعاصرة قد فقد كل معنى، فكل ما هناك هو كيفيا أصلية للمساهمة في الكونية والمشاركة في العالمية. إن الاختلاف ينخر الكائن ذاته ويصدع الهوية، أما التميز فيتم بين هويات متباعدة وكيانات منفصلة، رغم أن الاختلافات التي يعج بها الخطاب العربي هي مجرد تمييزات تكون في أحسن الأحوال "اختلافات" أنتروبولوجية، وفي أغلبها "اختلافات" جغرافية بل عرقية، الاختلاف يدقق الباحث بنعبدالعالي هو مفهوم أنثلوجي، إذ بفضله يتحدد الكائن كزمان وحركة ويصير التعدد خاصية الهوية، والانتقال سمة الذات، والانفتاح والتصدع صفة الوجود والانفصال سمة الكائن، إن الانفصال واللاتناهي كلها مفاهيم تبعد الهوية عن كل تخشب واستقرار، وتنفي عنها الانغلاق والتوحد، مما يعكس لنا مفهوما يشغل الفكر الفلسفي اليوم هو مفهوم التعدد وما يقابله من مفهوم عن الوحدة. التعددية الحزبية والدينية والفكرية، في تمرسها خلقت لنا مفارقة يؤطرها المفكر بنعبدالعالي تفصيلا في " لا تروم التعددية هنا خلخلة مفهوم الوحدة وإنما إقامة وحدات أخرى الى جانب الوحدة القائمة، ونكون في النهاية أمام مفهوم واحد تعددا أم وحدة".
ذهب البعض الى نبذ مفهوم الوحدة لما اعتراه من شدة الاستعمال الايديولوجي والإنهاك الفكري، وهو رفض لا يقل ميتافيزيقية المفهوم، لذلك يميز المفكر بنعبدالعالي بين مفهومية الوحدة والتوحيد، التوحيد إلغاء للتعدد واختزال له، إنه صلب صلابة الميتافيزيقا. إن الهوية ليست هي التطابق لأنها ترعى الاختلاف وتترك للتفردات نصيبها في الوجود، إنها حركة لا متناهية للضم والتباعد، وإنسان التعددية هو كائن سندبادي ينسج شبكات مقاومة تعلنها حربا شعواء على التنميط والأحادية ، وهي الشبكات/النسيج التي يدعو المفكر بنعبدالعالي المثقف للانصهار فيه، لتحرير قوى الحياة والسماح لحياة قوية بالتفتح، كي يأخذ الفكر معناه الاشتقاقي كانعكاس ومراجعة الذات، إذ لا تتحدد المقاومات في النهاية بلونها بل كا مفي إمكانها أن تتشكل كشبكات هي بالضبط شبكات مقاومة النمطية لإبداع هوية ما تفتأ تتجدد.
في نظرية الحوار بين الثقافات والصراع بينها:
يشير المفكر بنعبدالعالي الى أن ما سمي ب"نظرية" صراع الحضارات جاءت في وقت كان فيه العالم في أمس الحاجة الى أواهم جديدة، وقد حولها الاجترار الإعلامي الى رأي كوني، ويرى المفكر بنعبدالعالي الى أن الأساس لن يتجه الى خوض نقاش فلسفي، ولكن فضح آليات عملها. فهاته "النظرية" لم تكن تستهدف الوقوف عند حركة التاريخ بقدر ما كانت ترمي الى صنعه ورصد آفاقه والمساهمة في خلق ممكناته.
يتوقف الباحث عند نتيجتين تمخضت عن "نظرية" صراع الحضارات: التسليم بصراع الثقافات أو القول بالحوار بينها، وهكذا طرح الحوار مقابلا للصراع، ونتيجة ثانية هو أن الصراع أو الحوار طرح بين معسكرين ثقافيين. بالنسبة للصراع/الحوار، فالحوار لا يتحدد بآليات منطقية ودوافع أخلاقية، إنه صراع مقنع لتعيين من يحدد المعاني ويطرح الإشكالات ويعرف المفاهيم ويعين الحقائق، وفي الحوار تبرز أداته التي هي اللغة مرتع تناحر القوى وميدان مفعولات السلطات. في نقطة تحديد أطراف الصراع، يشير المفكر بنعبدالعالي الى هذه التقسيمات المانوية والتي تأتي ممن وضعوا أنفسهم جهة ثقافة الحداثة والعقلنة، باستخدام آليات ايديولوجية مسكونة بنظرية استعلائية تعتبر الثقافات الأخرى ثقافات تهدد القيم الكونية التي تزعم الثقافة الغربية أنها هي الحامل لها. إن ما يميز عالم اليوم وقد اكتسحته التقنية والإعلام هو غياب الاختلاف أي سيادة التبسيط والأحادية والتنميط الثقافي.
الصراع اليوم هو بين ثقافتين تتجسدان في الموطن الواحد، هما ثقافة الحداثة وثقافة التقليد، إن ثقافة الحداثة هي انسلاخ دائم عن ثقافة التقليد ، ويظل الأساس عند المفكر بنعبدالعالي هو دحض هذا التصور في عدم أهمية الطرح مادام يدخل في إطار ما يسمى بالتنميط الثقافي.
الثقافة العربية في مرآة الآخر:
يعود المفكر عبدالسلام بنعبدالعالي الى نصين أساسين: المناظرة التي نقلها التوحيدي في الإمتاع والمؤانسة بين المنطقي مثنى بن يونس والنحوي أبي سعيد السيرافي، والنص الثاني مأخوذ من شذرات لف شليجل رغبة منه الوقوف على علاقة الثقافة العربية قديما بغيرها من الثقافات. اعتبرت الثقافة الكلاسيكية أن لغة الثقافة هي العربية، بما يعني علاقة القوة التي ربطت الثقافة العربية مع غيرها من الثقافات، مقابل لعلاقة القوة أمست العربية اليوم لا تدرك ذاتها إلا في مرآة الآخر، هي لا تعيش التثاقف كحركة تأليف كتفاعل فكري، وإنما كأسلوب عيش ونمط وجود، هي لا تعيشه كتفاعل وتثاقف وإنما كانفعال وإثقاف.
وهو ما يجعلنا لا نقرأ إنتاجنا الفكري اليوم إلا مقارنين موازيين مترجمين، لكي نطلع على النص العربي نستدعي النص الآخر، لا يقرأ حي بن يقظان إلا بحثا عن روبنسون كروزوبي ولا رسالة الغفران إلا تقصيا لدانتي. إن المرور الى الذات عبر الصورة التي يعكسها الآخر يحجب الآخر ويحجب الذات معا ولا يمكن تأسيس لثقافة عربية مغايرة إلا بتوليد الآخر كآخر، وأيضا بالتحرر من الرغبة في التحول الى أصل والتخلي عن افتراض أي مفهوم مطلق عن الخصوصية في الميدان الثقافي، سعيا لأفق ثقافة كونية حوارية تستثمر الاصول وتعيد إنتاجها فتنتعش الفكر وتفتح له آفاق مغايرة.
ثقافة الكتاب وثقافة الشاشة:
يسم المفكر بنعبدالعالي المعاني بأنها أرواحا طاهرة، وتسكن مادية الكتابة وتتقمص جسدها وتتغذى من حبرها ودمها، وأن يرتوي المعنى حبرا وأن يلبس الكتابة يحمل اسما بعينه ليس هو أن يظهر صورة على شاشة صغيرة، إنه اختلاف بين ثقافتين ورؤيتين للعالم، بين عالمين متباينين، لعل إحدى أهم تجلياته النص الالكتروني والنص الورقي. بعدما أرست الثورة الإعلامية عالما مغايرا، وعلاقة جديدة للإنسان بالعالم، إن الصورة والكتابة والكلام تحدد جميعها مجالا معينا للمعقولية وإذا كانت الكتابة هي فكرة أخلاقية حيث تتواصل الإنسانية مع ذاتها وتتحدد ككائن عاقل، في ثقافة الشاشة يدرك الموجود مبتعدا عن ذاته مفوضا بديله وصورة عنه، وهو ما يمثل قلبا لرؤية أفلاطون وتجاوزا لموقف كانط، بل قلبا لهما. كما يشكل خلخلة لبعض الثنائيات المألوفة كالقارئ والمؤلف، فمع الصورة، ومع نسيج الأنترنيت فقد المؤلف سلطته، ولم يعد ذاتا فردية، والنص لم يعد يحمل توقيعا بعينه، لم تعد له هوية محددة.
يعدل المفكر بنعبدالعالي من سؤال مصير الكتاب في عصر الصورة، الى سؤال حول مصير الثقافقة التي كرسها الكتاب، وهو فرع لسؤال أوسع يطرح مهام الفكر في عصر التقنية.
إشكالية التراث: هايدغر ضد هيجل:
ترتبط الأصول الفلسفية لإشكالية التراث، هذه الإشكالية الألمانية بمسألة التراث وبالكيفية التي بحثها الفكر الألماني منذ بداية القرن الماضي، والمرتبطة بملابسات سياسية وفكرية معينة، وإذا كان الموقف الأول يمتد منن هيجل الى ديلتي ينظر الى التراث من خلال نزعة تاريخية وداخل ميتافيزيقا الهوية والتطابق فالطرف الثاني يضع جنبا الى جنب ماركس، نيتشه وفرويد وهايدغر.
هذه الملابسات دفعت أساسا بتميز ظهور الوعي القومي والنزعات التاريخية وعلم التاريخ النقدي ونحث مفهوم الايديولوجية واللاشعور. إن مسألة التراث عندما تطرح يؤكد المفكر بنعبدالعالي تفرض مفهوما معينا عن الهوية وعن التاريخ ثم عن الوعي، وارتباطا بالعالم العربي، تنبع الصياغة النظرية لمسألة التراث من كونه عامل تأصيل وخصوصية حضارة ويتبلور الإشكال في التقابل مع مفهوم المعاصرة، والتي تنهار كلما رأينا الماضي ما ينفك يمضي والى الحاضر على أ،ه ما يفتأ يحضر، حتى يكون التراث وراءنا ونحن لا نكون لا على مسافة قريبة ولا على مسافة بعيدة عن أصولنا الفكرية بل تكون الأصول معاصرة لنا، فحضور التراث في اختلافه وانفصاله وتباعده.
يشير المفكر بنعبدالعالي الى مفهوم الانفصال كمفهوم يبنيه لإقحامه في وجودنا عند النظر الى التراث والإصغاء لأصواته المتعددة لإنقاذه من ميتافيزيقا التطابق، ومن صوته المتفرد، ولعل فيه شيء من خلخلة المركزية وإعطاء الكلمة للهوامش.
أنطولوجيا فوكو:
العنوان يشير الى نص فوكو "مسرح الفلسفة" الذي كتب تعليقا على كتابي دولوز "منطق المعنى" و "الاختلاف والتكرار" ويقف المفكر عبدالسلام بنعبدالعالي على النص بما هو نص كتبه فوكو لا تعليقا على مصنفي دولوز، متناولا إحدى أهم إشكالات الفكر الفلسفي وأكثرها تعقيدا : من يتكلم وراء هذا النص؟؟ كما يضعنا السؤال في صلب إشكالية تحديد مفاهيم معينة لتاريخ الفلسفة. ويميز النص بين الصيرورة والرجوع والعود، إن الوجود هو الرجوع وقد تخلص من انحناء الدائرة ليغذو عودا أبديا وفي إنعاش دينامية التكرار وتحرير الاختلاف إ يميز النص بين أربعة أشكال لهذا القهر والإخضاع:
1- تطابق التصور كما حدده أرسطو
2- تشابه المدركات كما حددته فلسفات التمثل
3- تعارض المتناقضات كما حدده هيجل
4- تقسيم الوجود الى جهات ومقولات
ويلزم لإقامة فكر متعدد ورحال تحرير الاختلاف من فلسفة التصور ثم فلسفات التمثل فالفلسفة الجدلية إننا أمام أنطولوجيا تسعى الى التحرر من العمق الأصلي كي تتمكن من التفكير في قوى الزيف بعيدا عن كل نموذج.
ولإعادة الاعتبار لمعنى الحدث يجب استبعاد ثلاث معاني أعطيت له عبر تايخ الفلسفة عند فلسفات هي الوضعية الجديدة، الفينومنولوجيا، فلسفة التاريخ، ويدعونا فوكو في النص الى إقامة:
- ميتافيزيقا الحدث اللاجسماني ضد الوضعية الجديدة
- منطق للمعنى المحايد ضد الفينومينولوجيا، فكر الحدوث ضد فلسفة التاريخ، وسنكون حينها أمام أنطولوجيا تمنح المعنى وضعا في غاية التفرد.
يستدعي المفكر بنعبدالعالي دور الفكر كتوليد مسرحي للاستيهام وتكرار الحدث في تفرد، الفكر يولد حدثا معنى بتكراره للاستيهام، وهكذا إذا تبين ان الفكر ليس دوما إلا استجابة لضغط خارجي إلا استجابة لقوة وهو دوما فكر الخارج وليس منبعه هو الوعي فإننا في النهاية نستخلص أن هذا الوعي ليس حتى مسرحه..
سياسة الحقيقة عند الغزالي وأثار دريدا:
هل يمكن الحديث عن سياسة للحقيقة عند الغزالي؟ والى أي حد؟ يشيبر المفكر بنعبدالعالي الى مفهوم الحقيقة لم يتخلص عند الغزالي من الطرح التقليدي، وهذا الأمر راجع الى حدود العلاقة التي يقيمها بين المعرفة والقوة، وتوفره على حل آخر لمعضلة الحقيقة، فالعلاقة التي يقيمها الفكر المعاصر بين السلطة والمعرفة ذلك أن الفكر لا ينظر الى السلطة كقوة تسند المعرفة كما أن علاقة السلطة والمعرفة ليست علاقة تخارج، فالقوة تدخل في نسيج المعرفة. إن كتب الغزالي حياة لأفكار وسياسة الحقيقة، ولقد أدرك الغزالي أن لا مفر من اقتران سلطة المعرفة بسلطات دنيوي.
ويتتبع المفكر بنعبدالعالي آثار دريدا الفيسلوف الشاعر من خلال رصد الصورة النمطية التي أطرت حضور فكره سواء عند النقاد أو في وسائل الإعلام، محاولا الإجابة على سؤال قرب دريدا الكبير منا، ويحيل الامر أن مرد شهرة دريدا سياسيا في نهاية التحليل خصوصا عندما يتحدث عن سياسة الفلسفة وسياسة الحقيقة وسياسة النقد.
لقد رأى دريدا في استقراءه لمفهوم الخارج، أنه لا يمكن أن يقوم إلا داخل كل نص، ذلك أن كل نص ينطوي على قوى عمل هي في الوقت ذاته قوى تفكيك النص. وما يهم التفكيك هو الإقامة في البنية غير المتجانسة للنص، يتعلق الأمر باستراتيجية شاملة للتفكيك تتجنب الوقوع في فخ الثنائيات الميتافزيقية. ويرى المفكر بنعبدالعالي التفكيك الطريق الأضمن الى بناء الهوية، لأن التفكيك ليس هدما ولا فلسفة عدمية، يتعلق الأمر بتوسيع شرخ لازم الميتافزيقا.
الأدب والفلسفة:
الفلسفة تتحدد بنتائجها الذي يتحقق في الكتابة، وهي نوع من الكتابة، نوع خاص لأنها تسعى الى محو خاصيتها الكتابية، وإذا كان الأدب الذي يملأ فراغ الفلسفة أصبح هو ذاته ضحية اكتمال الميتافيزيقا، وفي آراء كونديرا حول الرواية رصد لهذه الثنائية والتي يذيلها المفكر بنعبدالعالي بتأمل بليغ في إشارته الى أننا أمام Anti-littérature أمام أدب مضاد، لكننا أيضا أمام فلسفة مضادة، ثنائي جديد كل الجدة يطرح في ظرفية التي تتميز بها روح عصرنا، وتتشابك استراتيجية الفلسفة باستراتيجية الأدب. أو على الأصح استراتيجية اللاأدب باستراتيجية اللافلسفة، ونغذو أمام استراتيجية شاملة للتفكيك تتجنب الوقوع في فخ الثنائيات الميتافيزيقية لتقوم "ضد تقدم العالم".
من الاستقيصا الى الفكر المغربي ومسألة التحديث:
يقف المفكر بنعبدالعالي على كتاب الاستقيصا للناصري <1835-1897>، من حيث هو تجسيد لوحدة المغرب الأقصى، فإزاء التصدع للوحدة السياسية والعقائدية للبلاد يحاول الناصري أن يقوم بدوره بحركة ايديولوجية وأن يوحد الوطن ويعين له مركزا وقطبا ايديولوجيا مرجعيا، ويحاول صاحب الاستقيصا ترسيخ ذلك النموذج الحضاري الموحد والموحد الذي خلفه ماضي المغرب. ويتابع المفكر بنعبدالعالي رصد أفكار الكتاب، ليتساءل في النهاية عند وقوفه على الالتباس الذي طبع موقف الناصري من الغزو الأجنبي، "ألا يظل صاحب الاستقيصا كاتبا مخزنيا يسكنه فقيه!".
في محاولة النمذجة التي يقوم المفكر بنعبدالعالي للفكر المغربي، يميز بين مفهومين عن الحداثة أو موقفين، موقف كرونولوجي ينظر الى الحداثة كحقبة تاريخية، ثم موقف استراتيجي يعتبر الحداثة في مواجهة مواقف مضادة، وإذا كان الموقف الأول يتميز بهمه التاريخي وتقطيعه الزمني وتحقيبه للتاريخ، فالموقف الثاني يعتبر الحداثة علاقة متفجرة للماضي بالمستقبل، وحين يتطرق المفكر بنعبدالعالي الى قضية الفكر المغربي ومسألة التحديث فإنه يعرج على مسألة التأصيل وفي الربط بين التحديث والتأصيل يستعرض المفكر بعض الثوابت التي يجملها في ثلاثة:
· النموذج الأول يعتبر أن تحديث للفكر العربي هو مشروط بالتأصيل، والذي يمثل عملية التبيئة الثقافية، وطرح الأصالة في مقابل المعاصرة داخله بمثابة وضع الفكر الإنساني في مقابل نفسه.
· أما النموذج الثاني فينطلق من رؤية أن لو انطلقنا من انجازاتنا الثقافية لاستحال أن نصل بمحض الاستنباط الى المفاهيم التي تقوم عليها الحداثة الفكرية. ومنذ البداية يعلن انفصاله عن التراث، وانفتاحه على الحداثة وتحصنه بالعقلية التاريخية، والتسلح بمكتسبات العقل الحديث، التأصيل عند هذا النموذج تبيئية للمفاهيم.
· ويحاول النموذج الثالث أن يستعيد الرؤية التجزيئية للنموذج الأول غير أنه يتميز عن الثاني في كونه لا يكتفي بالإعلان عن قطيعة مبدئية وتلقائية بين التقليد والحداثة، إنما يعمل على إثباتها وتأكيدها.
بعد حصر رؤى النماذج الثلاثة يتساءل المفكر بنعبدالعالي في نقطة تتعلق بمسألة الانفصال <وهي المبدأ الأساس والجوهري للكتاب> عن التراث، هل تتم القطيعة بشكل كلي أم أنها حركة لا متناهية؟؟ وفي نقطة ثانية يشير المفكر الى الخاصية الملتبسة المزدوجة للتراث، ليشير في الأخير الى كون التحديث شأنه شأن التأصيل لا يتمثل في مفاهيم بقدر ما يتمثل في عمليات الانفصال ذاتها، ولعلها أساس في قطع تلك الدروب وقوفا ضد كل رهان.
هوامش:
عبدالسلام بنعبد العالي، «ضد الراهن» دار توبقال للنشر-ط1/05- الدارالبيضاء.
· عبدالسلام بنعبدالعالي، المفكر والأستاذ الجامعي. صدر له أيضا: ميثولوجيا الواقع - 1999، والعقلانية ساخرة - 2004، الميتافيزيقيا، العلم والإيديولوجيا (دار الطليعة - 1981)، درس الإبستمولوجيا بالاشتراك مع سالم يفوت -توبقال – 1985، أسس التفكير الفلسفي (توبقال - 1991)، ثقافة الأذن وثقافة العين 1994، بين - بين (توبقال - 1996)، في الترجمة (دار الشراع - 1998)، الفكر في عمر التقنية (أفريقيا الشرق - 2000)، بين الاتصال والانفصال (توبقال - 2004)، ثم أنجز بالاشتراك مع محمد سبيلا مشروع (دفاتر فلسفية) التي أصدرتها توبقال تباعاً: التفكير الفلسفي - 1991، الطبيعة والثقافة - 1991م، المعرفة العلمية - 1992م، الحقيقة - 1993، اللغة - 1994، الحداثة - 1996، حقوق الإنسان 1998و الإيديولوجيا - 1999، العقل والعقلانية - 2003، العقلانية وانتقاداتها – 2004....