لعل سؤال الحداثة من أكثر الأسئلة تداولا في حياتنا العربية منذ ما ما يزيد على القرن من الزمن، ذلك أن الإنسان العربي ظل يتساءل عن الحداثة، ينقب عنها يحن إليها، يرفضها تارة ويقلبها أخرى، يراها ضرورة صالحة حينا، وتطفلا باطلا حينا آخر، يحتضنها مرة لأنه يحتاجها لحماية نفسه، ويغلق دونها الأبواب وينظر إليها كأنها جسد غريب مرة أخرى، لأنه يراها تحطم ماضيه وذاكرته بل ووجوده المقدس(1). وقبل النبش في الحداثة الشعرية العربية لا بد من الوقوف عند الكلمة/ المفهوم والمصطلح
الحداثة من الناحية الايتيمولوجية من فعل "حدُث" حداثة (فصيغة فعُل في العربية يصاغ منها مصدران فعولة كسهُل سهولة وصعُب صعوبة وفعالة كفصُح فصاحة وحدُث حداثة). وهي لغويا عكس قدُم وإذا ذكر مع قدم ضم إتباعا نحو: "أخذني ما قدُم وما حدُث"، والحداثة من الأمر أوله وابتدائه ويقال كذلك الحدوثة والحدثان، وهي ليست من فعل حدث حدوثا بمعنى وقع وقوعا(2). ورغم وجود لفظة الحداثة ضمن معاجم وقواميس اللغة العربية مرادفة لمعنى الحديث، فإنها ظلت بعيدة عن الممارسات النقدية العربية القديمة. واستعيض عنها بـ"المحدث" و"المولد" وغيرهما من المصطلحات التي نجدها عند النقاد القدامى، ولم تستعمل الحداثة كمصطلح إجرائي وظلت اللفظة (الحداثة) مرتبطة بأصلها وجذورها اللغوي والمعجمي "حدث" كما ظلت غريبة وغير متداولة حتى ظهرت مصطلحات تقترب منها دلالة بل تجاوزتها، واكتسبت مشروعيتها في الكتابات النقدية والإبداعية على السواء كـ"التجديد" و"التحديث" و"الحديث" والمعاصرة... الخ، وبقي لفظ الحداثة محتشما ينتظر، ليعلن نفسه كمصطلح إجرائي في الكتابات النقدية العربية، ظهور الشعر الحر ومنذ ذلك الحين، وهو مصطلح ثابت في وجه التيارات المضادة.
أما اصطلاحا فقد تعددت تعاريف الحداثة فقيل هي "ذلك الوعي الجديد بمتغيرات الحياة والمستجدات الحضارية، والانسلاخ من أغلال الماضي والانعتاق من هيمنة الأسلاف، ليست مقصورة على فئة أو طائفة أو جنس بعينه بل هي استجابة حضارية للقفز على الثوابت."(3) وبذلك فهي محاولة الخروج عن الأنماط التقليدية والأشكال العتيقة، إنها محاولة إبداع أشكال ومضامين جديدة وغريبة، "وكل جديد غريب"، كما يقول "بودلير"، إنها انزياح على السنن المعروف والنهج المألوف، فينعكس ذلك في لغة وصور غير مألوفة، فهي حسب أدونيس "رؤيا جديدة وهي جوهريا رؤيا تساؤل واحتياج: تساؤل حول الممكن واحتجاج على السائد"(4)، إنها بذلك مرحلة التنافر والتصادم بين البنية السائدة وما تتطلبه حركة المجتمع من تغيير يستجيب للحظة التاريخية المعاشة، إن مفهوم الحداثة إذن يضع التراث، كشيء معطى أومبريقي، في إشكالية معقدة مع البنية الحديثة التي تحاول تأسيس وجودها لا على التراث، إنها انتزاع لأشكال التعبير من أسر المطلق، وبعبارة أوضح إنها تحرير التعبير كما ترى "خالدة سعيد" في كتابها "حركية الإبداع". ويبدو من المقبول اعتبار الحداثة هي ذلك الانسلاخ والتجاوز للماضي والمضامين التقليدية، لكن هذا التجاوز والانسلاخ لا يعني تجاوزه إطلاقا "وإنما يعني تجاوزا لأشكاله ومواقفه ومفهوماته وقيمه، التي نشأت كتعبير تاريخي عن الحالات والأوضاع الثقافية والإنسانية الماضية، والتي يتوجب اليوم أن يزول فعلها لزوال الظروف التي كانت سببا في نشؤئها"(5).
من خلال قول أدونيس هذا يتضح لنا أن الحداثة تقف من الأشكال القديمة موقف الرفض النسبي مؤمنة أن لكل عصر ظروفه الخاصة به ومميزاته المكونة له والتي تختلف طبعا عن ظروف ومميزات الأزمنة السابقة، فضرورة التجديد، إذن أمر حتمي.مع الإيمان بأن ما هو قديم كان جديدا في عصره، وما نعتبره نحن اليوم جديدا سيصبح يوما ما قديما. إن هاجس الحداثة والتجديد والخروج عن التقاليد البالية، فكرة تسكن إنسان كل فترة تاريخية، ورواد كل مرحلة أدبية، وذلك من أجل تشكيل فن أدبي يساير العصر المُعاش، بكل تركيباته وظروفه المميزة له عن العصور السابقة، وبتعبير آخر أن الإنسان يسعى دائما وراء الخلق والإبداع مادام الإبداع يمثل بداية جديدة، و"كل عمل إبداعي بالمعنى العميق والحديث، هو محاولة بداية"(6). والإبداع يفترض بدئيا رفض التقليد(7). وهو عبارة عن تعارض بين واقع قائم وواقع غير متحقق، أو حركة تؤثر بين راهن ومحتمل حسب تعبير خالدة سعيد، إلا أن الثورة على السائد تختلف وضوحا وضبابية من مبدع إلى آخر ومن عصر إلى آخر. وقد احتفظت لنا كتب تاريخ الأدب العربي بأسماء شخصيات أدانت التقليد وتمردت على السائدة، وبالتالي حاولت التحديث والتجديد والنفور من الأنماط القديمة شكلا أو مضمونا أو هما معا.
وإذا كانت الحداثة ثورة ومحاولة تجاوز للثابت، حق لنا القول إنها متجذرة في كل الشعوب و"إنها ملازمة" للقدم في كل مجتمع وفي كل مرحلة"(8). وليس غريبا أن تختلف أبعادها وأشكالها من مجتمع إلى آخر أو من زمن إلى آخر، فالحداثة الشعرية هي دائما حداثة شعر معين، في شعب معين، في أوضاع تاريخية معينة، ومن هذا المنطلق يحق لنا أن نتتبع، في اختصار خطوات الحداثة عبر محطات تاريخنا الشعري. يذهب ادونيس، في الثابت والمتحول: "صدمة الحداثة"، إلى أن الحداثة كانت منذ العصر الجاهلي، فهو يؤرخ لها منذ الصعاليك، باعتبارهم حاولوا الخروج عن القيم الاجتماعية السائدة في المجتمع الجاهلي، ويبني قيم أخرى كان الذوق القبلي الجمعي يعتبرها غريبة وغير مألوفة، ومع ظهور الإسلام نبغ شعراء متأثرون بالثورة الإسلامية والحركة الدينية الجديدة فجاءت موضوعاتهم منسجمة مع القيم الجديدة، "ثائرة" على قيم كانت محمودة، وداعية إلى قيم كانت مذمومة، بل إن الإسلام شكل في حد ذاته حداثة بثورته على الأعراف والتقاليد المجتمعية الجاهيلية، وبعد انتشار الإسلام شكل شعر الخوارج "حداثة" برفضه للقيم الاجتماعية المعاشة آنئذ.إلا أن الحداثة إلى هذا الحين، لم تكن تركز إلا على جانب القيم الاجتماعية في وقت ظل الشكل القديم هو المهيمن، بينما في العصر العباسي نجد التجديد أكثر وضوحا، وقد أسهب النقاد القدامى الحديث عن الحداثة في الشعر، وعن الصراع بين "القديم" والمولد" أو "المحدث"، وتم التركيز بشكل أساسي على الشكل، ويكفي أن نذكر هنا أسماء مثلت "الحداثة الشعرية" بخروجها عن الأشكال الموروثة، مثل أبي نواس وبشار وأبي تمام وغيرهم، وكان المعاصرون لهم يدركون أن شعرهم كان بالفعل، شيئا غير مألوف: فقد ثار كل من أبي نواس وبشار بن برد على القيم العربية فوجدنا بشارا يتمرد على قيم العرب السائدة في المجتمع من حيث الأكل ونمط العيش وهو القائل ساخر من عيشة العرب:
سَأخْبِرُ فَاخِرَ الأَعْرَابِ عَنِّي * * * وعنه حين بارز للفخار
أَحِينَ لبِسْتَ بَعْدَ الْعُرْي خَزًّا * * * ونَادَمْتَ الكِرَامَ عَلَى الْعُقَارِ
تُفَاخِرُ يَابْنَ رَاعِيَة ٍ وَرَاعٍ * * * بَنِي الأحْرَارِ حَسْبُكَ مِنْ خَسَارِ
وكنت إذا ظمئت إلى قراح * * * شركت الكلب في ذاك الإطار
وَتَقْضَمُ هَامَة َ الْجُعَلِ الْمُصَلَّى * * * ولا تعنى بدراج الديار
وتدلج للقنافذ تدريها * * * وُيُنْسِيكَ الْمَكَارِمَ صَيْدُ فَارِ
بل سخر من صلاة المسلمين وطقوس عبادتهم وتجاوز ذلك إلى تفضيل إبليس عن آدم في مجتمع إسلامي كما في قوله:
إبليس أفضل من أبيكم آدم ***** فتنبهوا يا معشر الأشرار
النار عنصره وأدم طينته ***** والطين لا يسمو سمو النار
ولتجديد ابي نواس مظاهر كثيرة
دع المساجد للعباد تسكنها * * * وطف بنا على الخمار يسقينا
ما قال ربك ويل للذين سكروا * * * ولكن قال ويل للمصلينا
ومخالف لما عرف بعمود الشعر".
ولا ينبغي أن ننسى حركة الموشحات الأندلسية، وما سجله أصحابها من خروج على سنن الشعر القديم:أوزانه وقوافيه(9).
وتجدر الإشارة إلى أن الحداثة مع هؤلاء جميعا كانت أحادية الجانب، لأنها ركزت على القيم الاجتماعية (الصعاليك، الإسلام، الخوارج.) أو على الشكل (شعراء بني العباس، الموشحات، الزجل...).
أما في العصر الحديث فقد ظهرت الحداثة بشكل أكثر جدية بشكلها التام.إذ أثارت إشكالية الحداثة ضجة كبرى بين النقاد وأصبحت موضوعهم الراهن، بل ومجال حديثهم في كل الصحف والمجلات والكتب، التجديد والخروج عن الأنماط التقليدية، ما دامت الإنسانية في تطور مستمر، وتسير من الحسن إلى الأحسن، وتحاول توظيف السابق لينفع ويعطي روح الاستمرارية للأحق، فالإنسان إذن دائما ساع إلى التغير والتطوير، لأن نفسه لا تخول له اجترار نفس الأنماط والعيش على التقليد. إذ أن متطلبات الحياة تلزم عليه البحث والتنقيب عن المناسب، ومن تم فهو دائما طموح إلى الحداثة والتحديث في كل مجالات الحياة، ومن البديهي أن يختلف فهم الحداثة من منطقة إلى أخرى تبعا لاختلاف الظروف والملابسات، التي أنشأتها، بل واختلاف القراءة والفهم.
عندما نطلق مصطلح "الحداثة" نربطه بالعصر الحديث أكثر من غيره من العصور، فالحداثة لم تكن مقصورة على مجال دون غيره من العصور، فالحداثة لم تكن مقصورة على مجال دون غيره فقد امتدت آثارها إلى كل شيء في المجتمع الإنساني. فمنذ العصر الحديث –وما شهده من صراعات وتصدعات وتحولات واختراعات وحروب- والإنسان لم ينفك يتحدث عن التغيير والتجديد اللذان رافقا هذه التغيرات. إلا أن الحداثة العربية لم تتفاعل مع الاجتماعي التاريخي المعرفي، مما استحال معه استيعاب بعدها المعرفي النقدي عكس الحداثة الغربية(10).
ونحن لا تهمنا الحداثة الغربية وملابساتها في شيء، إذ أن موضوعنا يتمحور حول الحداثة الشعرية العربية. وأن أي مقارنة بسيطة بين الحداثتين، تبدي للقارئ للوهلة الأولى تضارب واختلاف المواقف والآراء حول طيلة أو انفصال الحداثة العربية عن الغربية باختلاف النقاد والقراء، بل يمكن أن نجد هذا التضارب حتى لدى الناقد الواحد، فمحمد بنيس يؤكد –كما سبق- أن الحداثة العربية لا تتفاعل مع محيطها، وأنها نبتت في غير التربة العربية، وهي بذلك تظل جسدا غريبا عنا. وأن النقاد لا يزالون يتحفظون أثناء التعامل مع إشكالية ومصطلح الحداثة، وأنهم لازالوا لم يقتحموا موضوعها بجرأة كبيرة، في وقت بدأ فيه الغرب يخطط لمرحلة ما "بعد الحداثة"، و"فيما نحن ما نزال معلقين بأوهام التدرج في مراتبها"(11). ويكاد ادونيس يشاطره الرأي، في أن الحداثة الشعرية العربية متأثرة بالحداثة الغربية، إلا أنه يرى أن هذا التقليد مقصور على الأشياء الشكلية والعرضية دون المسائل الجوهرية؛ "إننا اليوم نمارس الحداثة الغربية على مستوى تحسين الحياة اليومية ووسائلها لكننا نرفضها على مستوى تحسين الفكر والعقل ووسائل هذا التحسين، أي أننا نأخذ المنجزات ونرفض المبادئ العقلية التي أدت إلى ابتكارها، إنه التلفيق الذي ينخر الانساف العربي من الداخل"(12).
يظهر من خلال ما سبق أن الحداثة العربية متأثرة بالحداثة الغربية بل أكثر من ذلك، فغن المعادين لحركة الحداثة وللأشكال الشعرية الجديدة يذهبون إلى أنها لم تكن غير صورة طبق الأصل للأشكال الأوروبية، ولا علاقة لها بالعشر العربي وأنها جسد غريب –بتعبير بنيس- يعيش بيننا إلا أن المتحمسين لهذه الحركة والذين أخذوا على عاتقهم مهمة الدفاع عنها، يذهبون إلى أنها من أصل عربي ولا علاقة لها بالغرب، ومبررهم على ذلك هو أن لكل مجتمع خصائصه وظروفه وملابساته المختلفة عن أي مجتمع آخر، فعبد المعطي حجازي(13) مثلا يذهب إلى أن الشعر العربي لم يكن بدعا من الشعر الغربي، ويبرهن على ذلك بأن الممارسات الشعرية الأوربية قد مرت من نفس المراحل، التي يقطعها الشعر العربي من التزام بالقافية والوزن تارة، وعدم الالتزام بهما والرجوع إليهما تارة أخرى، كما نجد أدونيس يؤكد أن العرب عرفوا الحداثة إذا كانت تعني "التغاير والخروج من النمطية والرغبة الدائمة في خلق مغاير "منذ القرن الثامن أي قبل بودلير ومالارميه ورامبو بحوالي عشرة قرون، وهي إذن ليست مستوردة ولا دخيلة، وإنما هي ظاهرة أصلية وعميقة في الشعر العربي(14)، ونكاد نصادف نفس النظرة تتكرر عند نازك الملائكة، إذ ترى أن "حركة الحداثة" كانت "اندفاعة اجتماعية"(15)، وأن حركة التجديد لها جذور عميقة في تراثنا، وبذلك فإن محاولات وأدها قد فشلت كلها، وهذا ما يؤكد أن الحركة عربية بحثه ومنبعثة من أعماق أعماقنا العربية الخالصة، وبالتالي فإن محاولة نزعها بمقالة أو مقالات أمر عسير، مادامت اندفاع محتوما حتمت وجودها عوامل اجتماعية عديدة تذكر منها نازك الملائكة أربعة وهي: النزوع إلى الواقع، النفور من النموذج، الهروب من التناظر، والحنين إلى الاستقلال(16).
ومما تجب الإشارة إليه، أن هذا الخلاف والتضارب في الآراء حول أصالة الحداثة الشعرية العربية، لم يبق قائما بين النقاد فحسب، بل إنه أصبح يسكن حتى عقل الناقد الواحد. ونحن نتحدث عن النقاش الذي أثارته أصالة الحداثة، يتوجب علينا أن نشير إلى شيء نراه مهما جدا، يتعلق بترجمة المصطلح، وهي إشكالية تطبع ميادين ثقافتنا العربية، لان ترجمة المصطلح لا تقف عند البحث عن المقابل اللغوي في اللغة العربية، بل تتعلق المسألة بالفرق الشاسع الذي يظل قائما بين إنتاج المصطلح في محيط دلالي معين، وعملية انتقاله إلى محيط دلالي آخر، وهكذا "يبدو في العربية وكأنه (مصطلح الحداثة) ابتداع لغوي أكثر مما هو ملصق بحمولة معرفية، ذات إشعاعات تتصل بالحداثة وكفعل للشمول"(17). وبتعبير آخر إن الترجمة الحرفية لمصطلح غربي إلى العربية، لا تعني انتقال النوع المعرفي أو الدلالي الذي يؤديه المصطلح في المجال الذي ظهر فيه لأول وهلة، إذ بترجمته يفرغ من الحمولة المعرفية والخلفيات الفكرية التي يحملها في محيطه الأصل.
لا يمكن الحديث عن الحداثة الشعرية العربية في العصر الحديث، ما لم نتحدث عما سبقها ومهد لظهورها وما كنت هي نتيجة له، فالحداثة العربية لم تنزل من السماء، وإنما جاءت حصيلة تغيرات وتحولات عرفها التاريخ والإنسان العربيين، فكان لابد من تجديد وتحديث لمسايرة هذا التطور، كما أن الحداثة الشعرية العربية لم تنشأ دفعة واحدة بل كان عليها أن تمر عبر مراحل قبل أن تتبلور كمصطلح أو كإشكالية، بل وكقضية فرضت ذاتها على كل مبدع ومنظر أدبي. إن ما سبق الحداثة من حركات فكرية وأدبية شهدتها العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كان الممهد للحداثة.. وأبرز هذه الحركات الاتجاه "الكلاسيكي الجديد" ومن النعوت التي ارتبطت بالكلاسيكية في العشر الحديث كونها جديدة، وبالتالي قد يرى فيها البعض شيئا من الحداثة.. ويحق لنا أن نفسر هذه القضية تفسيرين متكاملين:
أولهما: له صلة وثقى بالمرحلة التي ظهرت فيها الكلاسيكية الجديدة في مقابل الكلاسيكية القديمة، وثانيهما: يتعلق بالمفارقة التي تميزت بها كلاسيكية أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، على مستوى الموضوع والمضامين بتناولها لقضايا معاصرة لها مع حفاظها على الأشكال القديمة، أو حفاظها على الموضوعات القديمة نفسها بغير التعبير عن قضايا جديدة.
من خلال هذين التفسيرين يتضح لنا مدى استمرارية الارتباط بالتراث. ولما كان الشعر القديم هو المثل الأعلى والنموذج الأمثل لشعراء هذه المرحلة، فإنه يمكننا أن نقتبس مختزلين ما ذهب إليه عمر الدسوقي(18)، أثناء تقسيمه للشعراء المقلدين.
1- طائفة لم تكن لهم شخصية بتاتا (تقليد الأعمى) سلكت نفس الطريق الذي سار عليه شعراء الانحطاط.
2- طائفة حاولت ونجحت أحيانا، ولكنها لم تستطع مقامة سيطرة النموذج القديم.
3- طائفة حاولت الخروج من أسر الانحطاط (لكنهم ظلوا يرفلون في حقل التقليد).
4- طائفة حاكت النماذج القديمة الرفيعة فارتفعوا بالشعر إلى درجة عالية (البارودي، شوقي، حافظ...).
فالكلاسيكية إذن لم تخرج عن كونها قلدت السابقين وأعادت كلامهم ولم يكن لها أن تفعل أكثر من ذلك، ولا يحق لنا أن نطالبها بأكثر مما أتت به. يقول البارودي(19):
تكلمت كالماضين قبلي بما جرت * * * به عادة الإنسان أن يتكلمها
فلا تعتد مني بالإساءة غافل * * * فلا بد لابن الايك أن يترنما
لكن كيف يحق لنا أن نقول إن ما عرفته النهضة –ولم تكن غير مقلدة- كان سببا في ظهور حركة الحداثة؟ إن حركة البعث جاءت استجابة لضرورة حتمية عرفتها المرحلة: أي جاءت إجابة عن أسئلة طرحت نفسها بشدة، مثل: لماذا تأخر العرب وتقدم غيرهم؟ كيف نخرج من أزمتنا؟ كيف نتعامل مع التراث؟... وغيرها من الأسئلة التي كثيرا ما لاكتها ألسن السلفيين والكلاسيكيين الجدد وكل رواد عصر النهضة.
وكان الجواب المقنع في نظرهم هو وجوب العودة إلى السلف(20) لحل كل مشاكل هذا العصر، ما دام الماضي كان فيه زمام الأمور بيد العرب، فكثر شعر المعارضات، وإثارة الموضوعات القديمة. وحتى من أثار موضوعا جديدا ألبسه ثوبا قديما، وفي كلتا الحالتين يظل نموذج الشعر القديم حاضرا شكلا أو مضمونا أو هما معا. بل يذهب بنيس إلى أننا "لا نجد ذكرا بتحديث والتجديد في مقدمة دواوين البارودي وشوقي وحافظ(21). كلام بنيس هذا يشير بوضوح إلى غياب الحضور الفعلي للحداثة والتحديث في الشعر النهضوي، ما دام شعراؤه لم يتجاوزا حدود الأنماط القديمة. إلا أنه يرجع بداية التجديد إلى المدرسة "الرومانسية" مع مطران وجبران إذ أنهما "أوضح في النعت والتجديد، فجبران يلخص مشروعه التحديثي في "الجديد". أما مطران فيقول: "قال بعض المتعنتين الجامدين أن هذا شعر عصري وهموا بالابتسام. فيا هؤلاء نعم هذا شعر عصري وفخره أنه عصري وله على سابق الشعر مزية زمانه".
هنا إذن مع الرومانسية أصبحنا نتحدث عن مصطلحات تلامس الحداثة مثل التجديد والمعاصرة. بل إنه (بنيس) يجعل الرومانسية البداية الأولى للحداثة "تبدأ اللحظة الأولى من الإحساس بهذا التصدع مع الرومانسية، جبران، مطران مدرسة الديوان"(22).
يمكن القول، إذن أن الرومانسية تشكل بحق حلقة وصل بين المشروع النهضوي المؤمن بالعودة الأبدية للموروث الشعري، ومشروع الحداثة التي حاول الانفصال عن التراث والتخلص من براثن التقليد، بإعطاء بديل شعري أنتجته ظروف اجتماعية وتاريخية وثقافية معينة. ومن ثم ظلت الرومانسية تملأ تلك الهوة التي تفصل بين التقليد (البعث) والتجديد (الحداثة)، إذ ظلت محاولاتها خجولة ومحتشمة، لان المجتمع لازال لم يتهيء بعد للتحول والتغير الكلي.
يبقى السؤال المهم طرحه في هذا الإطار هو: ما هي الدوافع إلى التجديد؟ أو ماذا وقع في هذه المرحلة تحتم معه الخروج عن الأنماط القديمة؟ أو بصيغة أخرى لماذا الحداثة؟
إن هذه المرحلة شهدت تحولات عدة على جميع الأصعدة، اجتماعيا، سياسيا، ثقافيا، اقتصاديا، تجلت أساسا في دخول الاستعمار وما شكله من تغير جذري داخل الأوساط العربية، وما نتج عن ذلك من انقسامات سياسية واجتماعية، جعلت العربي يعيش في مأزق ومخاض مستمرين لم يكن لهما مثيل في تاريخه الحضاري، وحتمت عليه القيام برد فعل تمثل في حركات التحرر وما رافقها من محاولات إصلاحية، وفكر تحرري مس كل القطاعات. ينضاف إلى هذا عامل قومي أساسي بل وحاسم، يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية كقضية عربية قومية، وقيام اسرائيل كعنصر دخيل بين البلدان العربية، يحاول إضعاف الشوكة العربية والإنسان العربي، الذي كان ينفجر في شكل حركات تحرر تارة، وفي شكل انقلابات حينا آخر في أكثر من منطقة عربية، وهو بذلك يعبر عن رفضه للعنصر الدخيل وللوضع المعاش، وعن الإحساس بالتصدع الذي فرض نفسه على إنسان تلك المرحلة، إذ من "المستحيل الدخول في العالم الآخر الكامن وراء العالم الذي نثور عليه، دون الهبوط في هاوية الفوضى والتصدع والنفي"(23). ويتوجب علينا، ونحن نتحدث عما قبل الحداثة، أن نشير إلى الحرب العالمية الثانية وما كان لها من دور أساسي في تشكيل حركة شعرية جديدة ولدت متأثرة بجحيمها. وكانت تعبيرا عن مدى إدراك الجيل الجديد لرفض الموقف الرومانسي من الواقع الاجتماعي المتخلف. يؤكد "كمال خير بك" أن الحداثة الشعرية العربية وليدة فترة الحرب العالمية الثانية وما بعدها، ذلك أنه "عقب الحرب العالمية الثانية، ظهرت حركة ثورية شعرية جديدة شرعت بالإنابة عن نفسها عبر قصائد ومجاميع مختلفة... فبدت هذه الحركة وكأنها شكلت مواصلة والتحاما مع المحاولات المجددة السابقة"(24).
ورغم ما يبدو في الفترة من زخم وغزارة الإنتاج الفكري والأدبي، وتنوع واختلاف القضايا المتداولة، فإنه يمكن اختزال ذلك في إشكالية النهضة أو الخروج من التأخر التاريخي. وتتمحور هذه الإشكالية حول ثلاثة محاور أساسية:
- نقد الذات.
- التأكد على ضرورة العودة إلى "السلف" وتكييفه مع الواقع الجديد.
- الموقف من الخطر الخارجي.
وهي نفس المحاور التي ظلت تثار منذ سقوط بغداد وهي –كما نلاحظ- لا تدعو إلى التغيير، فأصحاب هذه المرحلة شهدوا لحظة احتضار الحضارة العربية، ولم يكن أمام أعينهم مثل يحتذى –خاصة وان الغرب لم يتغلغل بعد بشكل قوي داخل الأوساط العربية- إلا الماضي والسلف. فما كان على رواد عصر النهضة سوى سلك هذا السبيل. ولم يكن التجديد ممكنا، نظرا لما يعيش عليه العالم العربي من أوضاع مزرية وقاهرة أفقدت العربي ثقته في الحاضر، وبالأحرى في المستقبل، ولم يظهر التجديد بصورة واضحة إلا بعد الحرب العالمية الثانية وذلك لأن العربي أصبح أمام جثة ميتة مع تواجد الآخر بكل قواه، فكان طبيعي أن يحذو العربي حذو الغرب الأمثل، أو يبتكر نهجا جديدا، فانعكس ذلك على الأدب. لهذا لم تظهر الحداثة مع النهضة، فمع الرجوع والنكوص إلى الوراء كثرت المعارضات في الشعر وسد باب الاجتهاد في الفقه، وعم التقليد للأشكال والمضامين القديمة، وأمام كل هذا كانت الحداثة آخر ما يمكن التفكير فيه أبان عصر النهضة. وستبدأ الإرهاصات الأولى للتجديد مع الرومانسية، الديوان، أبولو والرابطة القلمية.
يبدو التساؤل عن الحداثة الشعرية العربية تساؤلا عن مضامين وأشكال ومناهج وسمات هذه الحداثة. وهو سؤال واسع يصعب إيجاد جواب جامع مانع يشفي غليل السائل، ويطمئن روحه، ويثلج صدره "لا أزعم أن الجواب عن هذا السؤال أمر سهل فالحداثة في المجتمع العربي إشكالية معقدة... بل يبدو لي أن الحداثة هي إشكاليته الرئيسية"(25).
وسؤال الحداثة سؤال عام يحوي كل الأسئلة التي تطرح حول التجديد والتحديث والمعاصرة، بل هو "رحم الأسئلة" حسب تعبير بنيس، إذ فيه تتلاحم وتتداخل سمات الحداثة وتاريخها. ونحن حين نطرح مشكلية الحداثة تتسابق إلينا التعريفات والأجوبة المختلفة باختلاف أصحابها، ويصبح سؤال الحداثة سؤالا حضاريا فنظل مع كل إحساس بالتصدع، نسأل بسؤال الحداثة ونجيب بجوابها، وسرعان ما نجد أنفسنا وحدنا في الساحة دون سؤال أو جواب وتضيع السمات وتفتقد الذات المتسائلة موضوع السؤال(26).
ومن هنا تصبح الحداثة مختبرا للأسئلة والأجوبة، بل أصبحت (إشكالية الحداثة الشعرية العربية) تسيج كل ظاهرة إبداعية أو تنظيرية تموضع نفسها ضمن التجديد، بل حتى أصبح مصطلح الحداثة الشعرية العربية، مصطلحا فضفاضا بلا ضفاف نظرا لكثرة استهلاكه وتمطيطه إلى حدود سريالية يصعب على العقل تحديد تخومها المعقولة.
هكذا أصبحت الحداثة الشعرية العربية "مظلة" يستظل بها، وشعارا يرفعه، كل من رغب في الإبداع على الطريقة الغير القديمة. ويصبح باسم الحداثة زائغا عن الحداثة نفسها، التي كادت أن تصبح "علاقة" نعلق عليها كل النتاجات الشعرية الخارجة عن النمط القديم، حتى وإن كانت على مستوى جد رديء من الناحية الفنية. وأصبح كل مبدع يمارس عاداته وطقوسه، ويطبق معتقداته، ويحل رموز طلاسمه في محراب الحداثة، مما ينتج عنه غربة الشاعر العربي عن واقعه، أو بعبارة أخرى ينفصل الشعري عن الواقعي باسم الحداثة. وبالتالي تفرغ الممارسة من وظيفتها الخطيرة في محيطها، فيحصل بذلك أن يتخلف ما هو شعري عن ترجمة ما هو واقعي. مما جعل الحداثة الشعرية العربية مجالا اختلط فيه الجيد بالرديء، والحسن بالقبيح، والعين الناذر بالرذل الساقط، فأثار ذلك ثائرة كثير من النقاد الذين رفضوا هذا الشعر الفتي، بل إن المبدعين أنفسهم أضحوا يتبرؤون من هذا "التدجيل" يقول محمود درويش: "إن ما نقرؤه منذ سنين بتدفقه الكمي المنهور ليس شعرا إلى حد يجعل واحدا مثلي متورطا في الشعر منذ ربع قرن مضطرا لإعلان ضيقه بالشعر وأكثر من ذلك يمقته يزدريه فلا يفهمه. أن العقاب الذي نتعرض له يوميا من جراء اللعب الطائش بالشعر يدفعنا أحيانا إلى قبول التهمة الموجهة للشعر العربي الحديث. لكن هل يكفي أن يتبرأ كل شاعر بطريقته الخاصة لينجو من الاتهام العام؟
إذ كيف يتسنى لهذا اللعب العدمي أن يوصل إلى إعادة النظر والتشكيك بحركة الشعر العربي الحديث ويعبر بها عن وجدان الناس إلى درجة تحولت فيها إلى سخرية؟ إن تجريدية هذا الشعر قد اتسعت بشكل فضفاض حتى سادت ظاهرة ما ليس شعرا على الشعر واستولت الطفيليات على الجوهر، لتعطي الظاهرة الشعرية الحديثة سمات اللعب والركاكة والغموض وقتل الأحلام والتشابه الذي يشوش رؤية القارئ بين ما هو شعر وما ليس شعرا"(27).
إن هذا الاستشهاد، وإن كان طويلا، فإنه يعكس ما نحن بصدده، وما لحق الحداثة من تمطيط لتشمل ما ليس شعرا.
ورغم كل الاختلافات والتناقضات والأسئلة، فإنه لا يختلف اثنان حول فحوى الحداثة، وحول الدور الذي لعبته في تطوير القصيدة العربية، وانتشالها من براثن التقليد والجمود. وان الحداثة الشعرية العربية ثورة حقيقية وخروج واضح عن هيمنة النصوص القديمة، وتحطيم لقدسيتها. إنها "رؤيا جديدة وهي جوهريا رؤيا تساؤل واحتجاج، تساؤل حول الممكن واحتجاج على السائد" وهنا نرى أن أدونيس يقرر بأن الحداثة تمثل "تساؤلا حادا يفجر أفاق اللغة الشعرية ويفتح دروبا وآفاقا تجريبية جديدة في فضاء الممارسة الإبداعية"(28).
وتبقى الحداثة الشعرية العربية محاولة تجاوز للماضي الشعري، إلا أنه لم يكن تجاوزا مطلقا بقدر ما كان محاولة تخط لأشكاله ومواقفه ومفهوماته وقيمه التي كانت نتيجة الأوضاع الثقافية والإنسانية الماضية، والتي لم تعد صالحة في هذا الوقت وبالتالي يتوجب اليوم زوالها لاختلاف الظروف والأوضاع العامة الراهنة عن السابقة. وهكذا تشترط الحداثة الشعرية العربية أن يظل المبدع دائما في حركة واستمرارية تدفعه لتجاوز الآخرين بل لتجاوز ذاته.
إن الحداثة الشعرية العربية إذن تشكل موقفا من التراث، إلا أنه ليس موقفا عدائيا ولا موقف مهادنة، غذ أن المهم هو أن "الموقف" من التراث لا يمكن أن يكون موقف قبول أو رفض إذ ليس لدى الإنسان من خيار في قبول تراثه أو رفضه. إن ما يجب تغييره هو فهمنا لهذا التراث، والمنظور الذي من خلاله نتطلع إليه ونمارس حكمنا عليه كما يرى ادونيس(29). إنها تمثل موقفا من التراث مادام الشعر القديم كان يمثل نظرة أفقية، وأن العلاقة التي تجمع الإنسان بعالمه في الشعر القديم، لم تخرج عن كونها جوهرية. أما مع حركة الحداثة فقد أصبح الشعر مغامرة إنسانية، هدفها الأسمى البحث عن حقيقة خاصة، وتكسير الآفاق المغلقة لمثل هذا العالم (التراث) سعيا وراء الانفتاح على عالم أوسع. إن حركة الحداثة قد بدأت منذ نازك الملائكة تقرع أبواب هذا العالم الكبير الغني، ذلك أنه ابتداء يكون فعل خلاص وتحرر. إنه يحاول جهد المستطاع الابتعاد عن مستنقعات التقليدية التي هي معادلة للبؤس والجهل واللاعدالة(30). لعل هذا ما جعل يوسف الخال يركز على "محدودية التراث العربي"، وبالتالي يدعو إلى وحدة التراث الإنساني، الشيء الذي يتوجب معه ضرورة خلق وإبداع نمط شعري جديد يتماشى مع روح العصر. لأنه ونحن نسير على الأنماط القديمة، سنكون مضطرين إلى "معاناة قضايا مجتمع قديم في عالم حديث ومعاناة قضايا مجتمع حديث في عالم قديم"(31).
والحداثة الشعرية العربية كثيرا ما تشحن بتضمينات وتحمل دلالات متعددة، مما يجعلها مقولة متلابسة. ومن تم تبقى مقولة تصورية، وأن النواة الدلالية المحددة لها تكمن أساسا في مبدأ النسبية(32) باعتبارها تمثل لب ماهية الحداثة. على هذا الأساس فإن شعر الحداثة يخلق حقلا متميزا لخلخلة اللغة والمضامين والأشكال المعهودة.
الجزء الثاني: بين الحادثة والمعاصرة
بعد أن أشرنا في الجزء الأول لمعاني الحداثة، ووقوفنا على الحداثة الشعرية العربية المفهوم والمصطلح والسياق التاريخي، وجدنا أنفسنا أمام عدد من المصطلحات التي تتداخل ومفهوم الحداثة، خاصة مفهوم المعاصرة لدرجة يكاد معها لا يخلو أي موضوع حول الحداثة من إشارة إلى مصطلح المعاصرة، والمقارنة بين المصطلحين، حتى أصبحت المعاصرة جارة الحداثة وربيبتها التي لا يمكن أن تفترق عنها، أثناء كل حديث عن التحديث والتجديد في الشعر بالخصوص، من هذا المنطلق نجد أنفسنا مضطرين للتعرض إلى ثنائية الحداثة/ المعاصرة.
يذهب الكثير من الباحثين إلى ربط الحداثة بالعصر الحديث، ومن ثم إعطاؤها نفس دلالة المعاصرة. وهو أمر يبدو مجافيا للصواب، وبالتالي ضرورة التفريق بين المصطلحين. فمصطلح المعاصرة يفرض طرح سؤالين: الأول يتعلق بمعنى المعاصرة، والثاني يرتبط بعلاقتها مع التراث، والمتمعن يرى أنهما سؤالان متصلان إذ "لكي تكون عصريا لا بد أن تحدد موقفك من التراث"(33) ويجيبنا زكي نجيب محمود ببساطة أن جميع الشعراء الذين يعيشون بيننا عصريون فقط لأنهم أبناء هذا العصر. وللمعاصرة شكلان يختلف أحدهما عن الآخر اختلافا واضح المعالم: شكل سطحي يحاول الشاعر فيه أن يتحدث عن مبتكرات ومخترعات عصره، وتركيباته الاجتماعية والسياسية... معتقدا أنه يمثل عصره ويصوره وينقله للمتلقي، بل ويظن أنه يشارك في سيرورته وتطوره. كل ذلك بأشكال وأساليب وتراكيب بل ورؤى قديمة تجعل الشاعر يعيش بعيدا عن هذا المجتمع. فليس المجدد المعاصر من عرف الطائرة والصاروخ والسيارة والمذياع وكتب عنها، وإنما قد يكون مجددا وهو يتحدث عن الناقة والفرس والكرم والشجاعة، إذ أن المجددين هم "الذين يهيئون للتراث الاستمرار والحيوية لا أولئك الذين يحنطونه بالتكرار والتقليد فيحكمون عليه بالعقم"(34).
وشكل مغالى فيه ينادي ويطلب بالعصرية المطلقة والانفصال التام عن التراث، مع التسليم بالفساد لكل القيم التقليدية، والبحث عن تحطيم قدسية التراث. كانت بداية هذا الشكل منذ الصرخة الواضحة التي أطلقها رامبو "لا بد أن نكون عصريين بشكل مطلق "ومعنى هذا أنه ينبغي أن تعكس أشعار هؤلاء، بصورة مرؤوية، شهورهم بالظواهر المعاصرة كالآلة والمدينة الصناعية. إن هذا الشكل يشكل موقفا عدائيا ورافضا مباشرا للتراث، وتجدر الإشارة إلى أن فكرة الحداثة غير مرتبطة بالمعاصرة، إذ أن الحداثة "تتضمن تخصيص حصول الواقعة في نقطة محددة من محور الزمن الطبيعي، من هذا المنطلق يمكن لنقطة الحداثة أن تتعين في أي مجال من مجالات محور الزمن الطبيعي، والمهم أنها إذا تعينت قسمت محور الزمن إلى سابق ولاحق، هي التي تتوسطهما بنفسها، ولكننا نعلم من جهة أخرى أن الزمن الفيزيائي منقسم بصفة دائمة ومستمرة بين ماض ومستقبل، تتوسطهما لحظة الحاضر التي هي دائمة التحول طبيعيا، بحيث تكون نقطة الصفر، ويرمز للسابق بعلامة(+) واللاحق بعلامة(-)" انطلاقا من هذا النص يمكننا أن نضع هذه الترسيمة:
قديم – الحداثة – حديث
ماض – المعاصرة - مستقبل
لنفترق بين مصطلحي الحداثة والمعاصرة، ولنبين أنهما مختلفان. فالحداثة ليست هي المعاصرة ولا مرتبطة بالزمن لأنها لو كانت كذلك لفقدت صفتها بمجرد مرور قليل من الزمن.
من هنا تبدو ضرورة الفصل بين مصطلحي الحداثة والمعاصرة. فالمعاصرة contemporaine إذن مصطلح ينطبق على الزمن ليس غير، وهو محايد الإحالة ليس محملا بأية حساسية إيديولوجية، ولا يضم أي حكم قيمة. بينما الحداثة modernité تعني الأسلوب والحساسية والوعي الجديد بمتغيرات الحياة، إنها من هذا المنظور تتضمن حكما ووصفا نقديا. إن الذين يوحدون بين الحداثة والمعاصرة وبالتالي يربطون الحداثة بالعصر الراهن، مؤمنون بأن ما يجري الآن أفضل مما كان، وأن الآتي أحسن من الحاضر، وهي نظرة تركز على الزمن لا على الإبداع على الشاعر لا على إبداعه. ومن الخطأ أن نربط الحداثة بالمعاصرة أو بالزمن لأن من الحداثة ما يسبق الزمن ومنها ما يسايره ومنها ما يتاخر عنه.
وإذا كان الأمر كذلك فما الذي يجعل من النص نصا حداثيا:
سؤال كثيرا ما لاكته الألسن وطرح في الصحف والمجلات، ويبدو سؤال بسيطا، لكن عند طرق باب الأجوبة ترصد في وجهنا كل الأبواب لأن كل الأجوبة لم تتمكن من وضع الملح على الجرح، ولم تستطع تسييج كل ظاهرة إبداعية لتموضعها في محلها اللائق بها. فغذى السؤال سؤالا فضفاضا بلا ضفاف لكثرة استهلاكه، أجوف فاقدا لحيوية عناصره، وحتى لا تبقى دار لقمان على حالها نعيد طرح السؤال آملين أن نجد له جوابا يرتاح له المسائل ولو نسبيا.
1- هناك من حاول ربط النص الحديث بالعصر الراهن باعتباره الإطار الذي يحوي حركات التغير والتطور والإنسلاخ عن السلف –ومن تم فهو معادل للنص المعاصر- ونظرة هؤلاء للإبداع نظرة مثالية تجريدية شكلية تؤكد على الزمن، وتهمش الفن، تقبض على الشاعر وينفلت منها قوله بل تركز على السطح ولا تستطيع الغوص إلى الأعماق، إنها بكل بساطة نظرة تفضل النص الحديث، على شقيقه القديم وتتجاهل أن التحديث في الشعر ليس متزامنا دائما وبالضرورة مع "حداثة" الزمن، فالنص الشعري لا يكتسب حداثته من زمنيته وإنما يكتسبها من بنيته ذاتها.
2- وهناك من يرى أن النص الحديث هو ما يقع في الضفة المغايرة، او الجانب المناقض للنص القديم، ويقصرون تحديثيته على كونه مغايرا للنص الجاهلي او العباسي... إما في الشكل أو المضمون، فإلى هؤلاء نقول إن هذه الفكرة فكرة آلية تعتمد كأساس لها، فكرة إنتاج النقيض ومن هنا تقصر الإبداع في لعبة التضاد.
فالنظرة الأولى تضاد الزمن بالزمن وهذه تضاد النص بالنص هكذا مع هؤلاء يصبح الشعر ينفي بعضه بعضا مما يبطل معنى الشعر وإبداعه على السواء.
3- ونجد من الباحثين من لهم منطقهم الخاص، إذ يرون أن النص الحديث لا يكون حديثا إلا إذا كان صورة طبق الأصل للشعر الغربي. ويجب –إذا أراد النص العربي أن يكون حديثا- أن يحتذي الغرب في مقاييسه وأشكاله ومضامينه. وهي نظرة تنطلق من فكرة "المركزية الأوربية" وتقر –شاءت أم كرهت- بتفوق مسبق للغرب، ويعلنون تأخر الشعر العربي عن اللحاق بالشعر الغربي. إنهم يقعون في الاستلاب الكامل إلى درجة الذوبان في الآخر. ومن هنا ينفون خصوصية الشاعر العربي. ولا يصبح غير معيد أو مجتر لنجاح الآخر.
4- وهناك من الباحثين من يذهب إلى أن النص الشعري الحديث، هو الذي يخرج عن الأوزان القديمة. وأصحاب هذا الرأي هم المتحمسون لما سمي بـ "قصيدة النثر" باعتبارها –في رأيهم- تمثل تماثلا كاملا مع الكاتبة الشعرية الغربية، وتتنافى ومعمارية الكتابة الشعرية العربية. وهذه المقولة تنسى أنها تركز على أداة من أدوات الشعر ولا تعير أي اهتمام لجوهر الشعر.
5- إلا أن هناك من الباحثين من يقصر حداثية النص في كونه يعكس ويتناول قضايا عصره ومخترعاته وانجازاته. فهي رؤية ساذجة، لأنه قد يحدث أن يعبر الشاعر عن كل هذه المضامين لكن برؤى تقليدية، فالمواضيع لا تحدد الحداثة في النص، فلا ينبغي لنا البحث عن الحداثة في الأدوات.
نكتفي بهذه المواقف والآراء –على سبيل التمثيل لا الحصر- التي حاولت الإجابة عن هذا السؤال وان تنسج له ثوبا يحميه شر التيارات الجارفة، إلا أنها عجزت عن ذلك وبقي السؤال عاريا يتطلب منا حقه من الثياب. وسنحاول –قصارى جهدنا- أن ننسج لهذا السؤال ثوبا يقيه. ونطرح السؤال بصيغة أخرى تقربنا من الدخول في الجواب: ماذا يميز النص الحديث عن القديم؟ إن حداثة النص الشعري تشكل موقفا قبل كل شيء، ويتضح ذلك في أنه يجب على الشاعر أن يعبر عن تجربته الحياتية الحقيقية كما يعيها بعقله وقلبه على السواء. أي أن يكون النص تعبيرا عن روح العصر، لا انعكاسا مرآويا، وذلك باستخدام الصورة الحية القائمة في التاريخ والحياة، بشكل يحاول الانفلات من قبضة الأنماط والقوالب الموروثة، بل واستبدال التعابير والمفردات القديمة بمفردات جديدة، لا نقصد المفرد بالمعنى الحرفي، وإنما نقصد اللغة الشعرية باعتبارها إحساسا ووعيا مقصودا، تفرض نفسها فوق الرسالة التي تتضمنها وتعلن نفسها بشكل سافر. ها هنا تخرج الألفاظ عن كونها مجرد وسائل، غنها تتحول من الدوال إلى المدلولات، ويصبح كل شيء مقصودا وله معنى: الكلمات، ترتيبها، أشكالها الداخلية والخارجية... إننا لا نريد أن نقر أن الكلمة تكسب هذه القيمة بمعزل عن السياق العام للنص، بقدر ما نؤكد أنها لا تكتسب الوظيفة إلا من خلال حضورها ضمن بنية تعبيرية تحدد إيماءاتها الدلالية في جسد النص.
ففي النص الحديث يصبح كل شيء له معنى حتى البياض أو الصمت اللغوي، فإنه ليس بريئا بل إنه أصبح أحد المعالم المميزة للقصيدة الحديثة. وله صور مختلفة، وفي كل الصور لا يقتصر الإبداع على المبدع، وحده، إن النص الحديث يحاول إشراك القارئ في دلالة النص الغائبة المتمثلة في الصمت إذ أن اللغة، "لا تقدر أن تتجاوز سطح التجربة أما الباقي فيظل خارج اللغة يلفه الصمت"(35).
والشعر الحديث يهدف إلى تطوير الإيقاع، وتحطيم قدسية الأوزان القديمة، لكن ليس هدفه وغايته في تحطيم هذه الأوزان فقط، وإنما في صقلها لتطابق المضامين الجديدة، فينبغي في النص الحديث أن يكون الشكل مطابقا للمضمون بل ومعبرا عنه ورغم أن النص الحديث يهدف للتمايز عن النص القديم فإنه ما ينفك بغوص في أعماق التراث وفهمه والتفاعل معه باستخدام الإيحاءات التاريخية والأسطورية والفلكلورية ما دام هدفه هو تعميق الفكرة.
* * * *
الهوامش
(1) "حداثة السؤال بخصوص الحداثة العربية في الشعر والثقافة"، ص 131، محمد بنيس، دار التنوير، بيروت، نشر المركز الثقافي العربي، البيضاء، طـ1، 1985.
(2) المنجد في اللغة والأدب، ص 121، دار المشرق، بيروت، 1986.
(3) مجلة عالم الفكر، المجلد التاسع عشر، العدد الثالث، أكتوبر، نوفمبر، ديسمبر 1988، الكويت، ص 6.
(4) أدونيس، "فاتحة لنهايات القرن"، ص 34، ادونيس، دار العودة، بيروت، طـ 1، 1980.
(5) زمن الشعر، ص 60، ادونيس، الطبعة الثانية، دار العودة، بيروت.
(6) خالدة سعيد، حركية الإبداع، دراسات في الأدب العربي الحديث، طـ 1، 1979، دار العودة، بيروت، ص 13.
(7) خالدة سعيد، المرجع نفسه، ص 12.
(8) أدونيس، "فاتحة لنهايات القرن"، ص 327.
(9) الدكتور عبد الهادي محبوبة، "مقدمة"، الطبعة الأولى لكتاب نازك الملائكة، "قضايا الشعر المعاصر"، ص 344، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة السابعة، 1983.
(10) محمد بنيس، حداثة السؤال، ص 140.
(11) نفس المرجع، ص 131.
(12) أدونيس، "الثابت والمتحول، صدمة الحداثة"، ص 268، دار العودة، بيروت، طـ 1.
(13) أحمد عبد المعطي حجازي، "القصيدة الجديدة وأوهام الحداثة"، مجلة إبداع، عدد 9، سنة 03 سبتمبر 1985.
(14) أدونيس، "فاتحة لنهايات القرن"، ص 326.
(15) نازك الملائكة، "قضايا الشعر المعاصر"، طـ 7، دار العلم للملايين، بيروت، 1983، ص 55.
(16) نازك الملائكة، المرجع السابق، ص 54 إلى 62.
(17) أدونيس، "فاتحة لنهايات القرن"، ص 336.
(18) عمر الدسوقي، الأدب الحديث، ج 1، ص 155 وما بعدها.
(19) ديوان البارودي، ج 1، ص 5، الأميرية القاهرة، 1943.
(20) لا بد من الإشارة إلى ضرورة التفريق بين (السلف) عند الكلاسيكية والسلف عند السلفية الدينية، فالكلاسيكيون لم يعتبروا عصر الرسول والخلفاء هو العصر الذهبي بل تجاوزوا ذلك إلى العصر الجاهلي وامتدوا بالعصر الذهبي إلى العصر العباسي.
(21) محمد بنيس، "الحداثة السؤال"، ص 137.
(22) نفس المرجع، ص 143.
(23) أدونيس، "زمن الشعر"، ص 54.
(24) كمال خير بك، "حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر"، ترجمة لجنة من أصدقاء المؤلف، الطبعة الثانية، 1986، ص 35.
(25) أدونيس، "فاتحة لنهايات القرن"، ص 320.
(26) أدونيس، "حداثة السؤال"، ص 143.
(27) محمود درويش، "انقذونا من هذا الشعر"، الكرمل، عدد 6، ربيع 1982، ص 6.
(28) عبد السلام المسدي، "النقد والحداثة"، طـ 1، 1983، ص 9.
(29) ورد في "حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر"، كمال خير بك.
(30) المرجع نفسه، ص 75.
(31) يوسف الخال، "الحداثة في الشعر"، دار الطليعة، بيروت، ديسمبر، 1978، ص 6.
(32) راجع عبد السلام المسدي، "النقد والحداثة"، ص 9.
(33) عز الدين إسماعيل، "الشعر العربي المعاصر"، قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية"، دار العودة ودار الثقافة، بيروت، طـ 2، 1972، ص 9.
(34) عبد السلام المسدي، "النقد والحداثة"، ص 8-9.
(35) كمال خير بك، "حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر"، ص 152.