تتناول المجموعة القصصية التي بين أيدينا ويكتبها المهندس سامح شاهين مضامين جديدة في عالم السرد والحكي، المجموعة القصصية شديدة الثراء والتجديد في موضوعاتها ولعل هذا سبب شدها لانتباه أي قارئ حيث يجد في قصص هذه المجموعة الجدة في تناول موضوعات مسكوت عنها من جانب وكذلك هناك القصص ذات اللفتات الذكية أو اللقطات ذات المغزي وهناك القصص ذات البعد الأسطوري إلخ من أنماط الحكي التي تتواشج في تضاعيف هذا الكتاب الجاذب.
تبدأ المجموعة القصصية بقصة "رهان" والتي تستخدم نفس النمط الذي تعتمده القصص الأخرى داخل هذه المجموعة من تناول أمورا مسكوتاعنها تتعلق بالعالم غير المرئي من عالم الحياة والموت وعالم الملائكة وعالم الحساب بعد الموت مثال قصص "يوم القيامة"، "نملة سيدنا سليمان"، "دموع آدم"، "الآن عرفت أني أحبك"، "العودة". هذا وتتناول قصص أخرى تيمات للتناول وأعني موضوعات حياتية تشدنا شدا وتأتي على رأسها قصة "الكتاب الأسود" والتي تمثل القلب من هذه المجموعة القصصية.
في قصة "رهان" والتي تمثل القصة الأولى في المجموعة نلق الحياة والموت مجسدين أمامنا في صورة إمرأة ذات صدر ممتلئ وسيقان عارية، والموت في هيئة رجل قبيح مدعي. يدور المشهد مفعما بالتوتر بين الفتاة التي تجالس الحياة لتحكي لها عن أسرار جمالها وفتنتها، والشاب الذي ابتعد حينما زجره الموت وأعلمه بأنه الموت وأنه قادر أن يبطش به ويقضي عليه، ولكنه في ابتعاده لايزال يختلس النظر إلى صدر الحياة الفائر. أسعد الموت خوف الشابين منه وإحساسهم بالفزع لوجوده، وأحس أنه الفائز وأخذ يجادل الحياة في هذه الأمر، وطال بينهما الجدال ولكن بعد فترة تكشف الحياة عن ساقيها وتطلب من الموت الرقص معها، وهنا نجد هذا العبارة التي تلخص قصة الحياة والموت في أسطر جامعة مانعة "لاحظ الجميع كيف غاب الموت في أحضان الحياة مستسلما، يتجرع لذة طالما تمناها، ولكن أحدا لم يلاحظ الحياة وهي تغمز للفتاة التي كانت تجلس بعيدة على طاولتها، مندهشة تماما من جنون صديقتها الجديدة"(ص11).
بعد هذه القصة الأولي نجد أن الأمر قد توطد في نفس القارئ وأحس أنه لابد أن ينهي هذه المغامرة الجميلة ألا وهي قراءة هذه المجموعة حتي نهايتها، وقد دفعه الشوق واللهفة إلى رؤية الجديد في جعبة كاتبنا النابه. لقد شدني موقف مراقصة الحياة للموت وذوبانه في أحضانها في معاني تذهب النفس فيها كل مذهب.
في قصة "العطر" نجد تجربة فريدة تواجهنا أو رأيناها في حياتنا أو سمعنا عنها إنها قصة الذين يرحلون ونحن معهم نجالس أشيائهم ونجد أوراقهم التي خطوها بأيديهم، صورهم، ملابسهم، حليهم وعلب دوائهم "كل هؤلاء يصرخون في وجهي يريدون أن يعرفوا كيف غافلهم الموت هكذا وخطفها فجأة دون سابق إنذار أو تحذير. لماذا لم يرحمهم وتركهم هكذا في قسوة شديدة وحدهم دونها كالأطفال اليتامي؟"(ص13). نجد هنا إضافة الأنسنة على الأشياء وخلع صفات الإنسان عليها من إحساس بالغضب وباليتم وبالخوف وبالوحدة بل تطور الأمر إلى أن هذه الأشياء تقوم بفعل الصراخ في تطور وتوليد لمعان هذا الاتجاه في التعامل مع الأشياء الأمر الذي يضفي على العمل السردي العمق ويضيف أبعادا فوق الأبعاد الموجودة فنجد الأشياء التي تنفعل مثل الإنسان في دراما حياتية من نوع جديد لايحسها إلا من تلظي بالحزن وبالفقد فيخلع على من حوله مثل إحساساته في تفاعل أرهف منه الحزن والألم الداخلي.
في قصة "يوم القيامة" نجد هناك مستويين من القص، المستوي الأول يتكلم عن حلم الجدة في يوم القيامة وما يتم في نهاية الحساب من عودة المذنبون إلى الأرض مرة أخرى ويحيوا سويا، العجيب في الأمر أن المذنبين "يفرون من فزع العودة، ينتشرون في كل مكان، يصرخون، يتوسلون، ولكن لا أحد من الملائكة يرق لتوسلاتهم"(ص20) معني في حلم الجدة ولكنه معني جديد كل الجدة، يأتي بعد ذلك المستوى الثاني في القصة، والذي يتناول كلام الجدة مع حفيدها حول ذهابه إلى النار حسبما قال له جده ذلك إذا "عمل دوشة وهو مش بيعرف ينام منه؟" قالت الجدة كلاما أخر لحفيدها عن جدو ولخصت الحياة في جملة واحدة "أهم حاجة بس إنك ماتعملش حاجة تتكسف إن الناس تعرفها"(ص20). وتنتهي القصة بمكر الطفولة وعبثها مع الكبار وبخاصة العجائز منهم "هروح أصحي جدو" لفتة ذكية من كاتب ماهر ختم قصة قصيرة ببراعة عقل الطفولة وعفويتها ليتركنا نعيد الموقف والمشهد تلو المشهد في تذكر مفعم بالإعجاب والتأمل.
في قصة "نملة سيدنا سليمان" نجد المشهد كله هنا من وجهة نظر نملة في وادي النمل لا تخشى وتتقدم وعلى أخر لحظة تقرر أن تفر من الموت ونجد عبارا ت القصة تندفع في صياغة موسيقية متراكمة في إيصالنا إلى نهايتها لنلقي "تتفادي الأقدام وتتفاني في خداع الموت الذي أحاط بها من كل ناحية، تحاول الهرب والفرار بكل وسيلة. أخيرا تنتهي حيلها وتستسلم رغما عنها، فتدوسها الأقدام وتلفظ أنفاسها الأخيرة، ولكن هذه المرة زينت وجهها إبتسامة جميلة، طالما بحثت عنها طوال حياتها"(ص25). ينغلق المشهد على فعل التحدي والتراجع والمغامرة. معاني نلقاها ونسعي حواليها ونجتهد أن نفعلها وتعلمنا النملة ذلك.
لنص القرآني في القصة القصيرة يضفي هالة من التدبر على القصة ويجعلك تشعر بأهمية ماتفعله النملة وأنها في مهمة حتى لوكانت تحدي لما حواليها.
في قصة "أول مرة" نلمح الأخت البريئة التي تخور مقاومتها وتستسلم لأول مرة يلمسها رجل، وهي ذات التربية الدينية، كان الإعتراف للأخ الذي فاجئه سؤالها البريء في نهاية القصة وكأنه لطمة على وجهه:
"هل سيغفر الله لي؟"(ص29) لتجيء الإجابة من الأخ بالفعل لا بالكلام "ينظر إليها ويبتسم، ثم يحتضنها، ولايعلق"(ص29)، نري في هذه القصة الكلام حينما يلزم الحوار بين الشخصيات والتصرفات والإنفعالات والتفاعل غير اللفظي حينما يستوجب الأمر ذلك.إنها المراوحة التي يعتمدها الكاتب سامح شاهين في عالمه الذي يرسمه لنا بريشة متأملة متمهلة ومتقنة.
في القصة التالية "حلم" نجد أنفسنا في حلم داخل القصة ذاتها ونجد البطل يحاول أن يتخلص من إخفاق عدم إتمام الإرتباط بالهروب من الموقف بالنوم ولكن هيهات يجد في النوم الراحة، فنجده يغوص في حلم بأن لديه كلب نسيه في الشرفة دون طعام ثلاثة أيام كاملة ويهرع إليه ليجده ينتظر حتفه ويفزع بطل القصة من النوم وفي هذه القصة القصيرة المعبرة نري الكلب والذي يذكرني بالكلب الأسود رمز الإكتئاب والذي نلقاه هناك في حياتنا جاثما على قلوبنا وإحساساتنا كثيرا. ألمح هذا الكلب في هذه القصة وأرى أن الكاتب بوعي أو بدون وعي منه أرسل إلينا رسالة بأن بطل القصة في حالة إكتئاب دونما أن يبين لنا السبب، بل يتركنا في حالة من الترقب والإحساس بالحيرة اللذيذة التي تأخذنا إلى عالم بطل هذه القصة، والذي لا نريد أن نكون مثله.
في قصة "البلوفر الأخضر" دراما الحياة من نوع أخر حيث لا يعجب بلوفر محمد الأخضر مساعد المخرج في قبوله للقيام بدور مع المجاميع المختلفة ويكون الحل مع حودة ممبار والبلوفر الخاص به وبه ثقب كبير في الصدر، القصة تجعلنا نري الأشياء من منظور حياتي واقعي غاضب على ما تعرض له محمد وناقم على حودة ممبار الذي استبدل بلوفره المتهالك ببلوفر محمد الأخضر الجديد إلى الأبد تنتهي القصة، ونجد محمد "يراقب هو البلوفر الأخضر الفاقع وهو يذهب بلا عودة مع حودة ممبار"(ص37). نبكي من الداخل مع محمد وهو في هذه المبادلة الظالمة لبلوفره، ولكننا لا نملك سوى أن نهز الكتفين في تبرم ونولي ونحن ننكفيء على جراحنا اليومية ومتاعبنا الحالة المرهقة.
في قصة "الدبة اللعبة" نلمح مع البطل معنى واحدا في أرجاء القصة يدور معها وجودا وعدما، ألا وهو الإصرار على النجاح مهما كلفنا ذلك، الدبة في الملاهي تنظر إلى بطل القصة في ابتسامة، إنها تتحدى إرادته على أن ينالها ويفوز بها ويعاود بطلنا المحاولة في إصابة الهدف لينال الدبة ولكنه لاينالها في اليوم الثاني، ويعيد المحاولة في اليوم الثالث لينالها، ونجد الكاتب يميز هذه المرحلة بعبارة "ثورته تقوده هذه المرة، نفسه العطشى لا يروي رغباتها سوى تحقيق هدفه"(ص40)، وينجح بطلنا في إصابة الهدف ونوال الدبة وتختتم قصتنا بمشهد كأنه زفة للدبة ومن نالها "يأخذها في سعادة ويغادرا سويا الملاهي، وجميع العيون تشيعهما في فرحة، وكأنهما عاشقان اجتمعا بعد طول فراق"(ص40).
في"دموع آدم" نجد الملكان يراقبان آدم، وقد انزوى في ركن وحيدا وانتابته نوبة بكاء شديدة، ونذهب مع القصة في حوار بين الملكين عن أحوال أولاد آدم، وفيهم فئتان متناقضتان تثيران الفضول والغرابة، إنهم أصحاب الجاه والسلطان والشهداء. حوار يدور بين ملكين كأنهما من عالمنا يتحدثان كما نتحدث، ويعبران عن تأففهما من بعض أفاعيل البشر، وآدم المسكين يبكي على حال أولاده المتردي.
في قصة "الكتاب الأسود" والمسماه المجموعة القصصية على اسمها نجد الأب يكتب الكتاب الأسود ويسميه على اسم غلافه، ليلفت نظر أولاده إلى ضرورة التمسك بما في هذه الكتاب بلونه الأسود، حتى يذكرهم بضرورة ألا يبتعدوا عن النور والهدى وفعل الخير. إنه الكتاب الرسالة وكأنه وثيقة سماوية مباركة تتناول في صفحاتها كل أخطاء بني البشر من تجاربهم وأطماعهم وشرح مفصل لكيفية التغلب على مثل هذه الأطماع البشرية. إنه ناموس حياة وقانون السير على دروبها في منعة من الزلل أو الوقوع في الخطأ ويوصي الأب أبنائه الثلاثة بالاجتماع أسبوعيا من أجل مدارسة هذا الكتاب ومافيه وتستمر هذه العادة حتى تتوفى الأم والأبن الأكبر، ويسافر الإبن الأوسط ويبدأ الشقاق على احتفاظ ابن الأخ الكبر بحلي جدته، وترى أحداث القصة القصيرة في تتابع الأجيال حتى نجد انفسنا وقد تبدل الكتاب الأسود وتحور، وإن كان الكتاب الأصلي لايزال لدي البعض. كل هذه الأحداث تصور لنا في دراما الحياة ممثلة في هذا الكتاب الأسود ضرورة التعاون ونبذ الخلافات فيما بيننا من أجل البقاء وحدة واحدة وتنتهي القصة بالعبارة الموحية التالية والتي تقطر أسى "ولكن رغم كل ذلك، ظل الأمل قائما لدي بعض الأبناء من العائلات الثلاث، الذين حفظوا وفهموا الكتاب الأسود الأصلي، وكانت قلوبهم دائما تنبض بالحب والتسامح والرغبة العارمة في أن يعيشوا في النور وليس الظلام، كما أراد لهم الأب يوم أن شرع في كتابة الكتاب الأسود"(ص60).
في هذه القصىة نري القداسة التي تحيط بكلمة الكتاب والتي تربطنا بالكتب المقدسة كالتوراة والإنجيل والقرآن كل هذا في مخاطبة للعقل الجمعي لدي القارئ وبالتالي إيصال الرسالة المطلوبة له في سهولة ويسر.
في قصة "اللوحة" نرى بطل القصة يعجب بلوحة وضعها مالك العقار على يمين باب العمارة، لوحة بسيطة لإمرأة جميلة وصغيرة في السن شبه عارية ولكنها غاضبة لسبب غير واضح، وتنظر لشخص ما غير موجود في الرسم، بطل القصة تسحره في اللوحة نظرة بطلتها "كأن تلك النظرة الغاضبة التي أطلت من عينيها، أشعر أنها تقصدني أنا، لا تريد غيري بنظراتها هذه، تصرخ في وجهي أنا فقط دون كل الناس"(ص62).
عرض عليه صاحب العمارة أن يخلع اللوحة ويهديها إليه وهي التي كانت عند الجماعة الطليان، لقد حضرت إبنة أخت لهم وباعت كل شيء في عجالة وتركت هذا الكنز على حسب كلام بطل القصة. تنزع اللوحة وتذهب إلى صاحب العقار "الفخراني بيه" وهنا نجد الختام للقصة في عبارة راقية تضفي الأنسنة على الأشياء حتى نجد أنفسنا تمور وتجيش بالعاطفة في عبارة هي مسك الختام كما يقولون "أخذها ليعلقها في شقته، هي الآن تعيش وحيدة في بيته، ولاشك عندي أنها أصبحت أكثر غضبا مني"(ص64).
في القصتين "الآن عرفت أني أحبك" و"العودة" نلقي التيمة التي يلعب عليها الكاتب وبجدة في هذه المجموعة والتي تتناول عالم الملائكة والحساب ومابعد الموت في صياغات جميلة تمتاز بالجدة وتمتاز في الوقت ذاته بالغوص في هذا العالم المجهول والذي لم نره من قبل ولم نتعرض له، كل ماهنالك هو أننا سمعنا عنه وقرأنا عن أحواله في التراث الديني ولكننا لم ندخل إلى كنه، ففي قصة "الآن عرفت أني أحبك "نجد ذلك المحب الذي قضي يومين من الرجاء والتوسل المتواصل حتى سمحت له الملائكة أن يبعث لمحبوبته رسالة من العالم الأخر بعد وفاته يعترف فيها بحبه لها وبأنه عاشق متيم لها عن حب وعن صدق وأنه أراد أن يبدأ صفحة جديدة كل الجدة معها " ولكنني قررت صادقا أن أطوي هذه الصفحة من حياتي وأن آتي إليك مهرولا، شعرت بكل كياني يناديك، فقررت أن ألبي هذا النداء. صدقتني الملائكة في النهاية وعرفوا أني صادق، فهل ستصدقينني أنت أيضا؟ هالة.. الآن عرفت أني أحبك؟"(ص78).
في قصة "العودة" نجده يموت ويرى زوجته التي كدر لها حياتها وهي تبكي عليه، ويرى جنازته والتي لايصدقها " سار به الموكب إلى مثواه الأخير في جلال لم يسبق أن حظي به خلال حياته المديدة"(ص80).
بدأت مراسم الدفن ووري جسمه التراب وبعد وقت طويل جاءه الملك وهنا ندخل إلى عالم الكاتب حيث نجد هناك ملكين في هذه القصة والتي تنتهي بأن يعود الزوج إلى الحياة مرة أخرى طفلة أي أنثي ويقبل بطل القصة هذا على مضض ولكنه لايعلم أنه سيعود في شكل زوجته هو التي كال لها العذاب وأشربها من ويلاته وخياناته إننا هنا مع المفارقة التي ختمت بها القصة والتي نجد فيها حوار الملكين كما يلي في خاتمة فيها الإجادة كل الإجادة.
"أنا مازلت لا أفهم قراركم هذا، ياله من محظوظ ، كم من البشر ينالون فرصته هذه، أتعرف في أي شخصية وجسد سيعود؟
بالطبع!
من؟
ابتسم الملك، وقال في هدوء:
زوجته"(ص87).
في خاتمة المطاف أعرج على بعض القصص القصيرة التلغرافية والتي تتناول أمورا خاطفة في الحياة فنجد في قصة "المزلاج " الأخت التي لاتنسي بعد أن دفنت أخيها أن تغلق باب البيت بالمزلاج حيث "أصبح ذلك الحدث الوحيد ضمن روتين يومها الذي لاتنساه، أو تسهو عنه أبدا"(ص99).
في قصة "قفزة" نجد هناك اللفتة الذكية، حيث ثلاثة فتيات على حافة حمام السباحة في حالة الاستعداد للقفز ونجد أن أشدهم تركيزا وجدية هي التي لاتقفز بل تراقب قفزات وضحكات صديقاتها في الماء، لفتة من الجمال والدقة والسرعة بحيث تأخذنا إلى عمق المشهد بظلاله وجلاله وخفته وثقله.
في قصة "الحكاية" نجد التوازي بين إعتنائها بالحديقة وتلقيها للرسائل من محبوبها، كانت الحديقة رسالة حب وكانت رسالة للمحبين "بعضهم كان يقطف وردة ويهادي بها حبيبته، بعضهم كان يفترش بقعة تحت ظلال اشجارها، و يخطط لحياته المشرقة ومستقبله السعيد، أخرون كانوا دائما مايهيمون سعداء حول الحديقة بلا هدف"(ص103)، تلك لقطة الرسائل الواردة ومعنويات المحبوبة العالية والتي تتوازي معها الحديقة الغناء ولكن تأبي القصة إلا أن تعكس لنا الجانب الأخر من الحياة، الجانب المر أو المظلم.
"انتهت الحكاية عندما توقفت رسائله، أهملت هي الحديقة، هجرتها الطيور، ذبلت الورود، وماتت الأشجار، أما العشاق فوجدوا لهم طريقا أخرى، يمرون منها كل يوم"(ص103)، لقد تبدلت الحال ولا ندري هل هذه الحديقة على المستوي المادي الملموس أم على المستوى المعنوي الداخلي، حيرة يضعنا فيها الكاتب المهندس/ سامح شاهين في قصة قليلة الأسطر كبيرة المعنى.
في قصة "الزيارة" نري التفاعل الأبوي بين بطل القصة وإبنته الصغري وقلبه الشغوف بها، فصحته قد تداعت ولكن زيارة ابنته الصغرى له لاتتوقف رغم أنها حديثة عهد بالزواج تختتم القصة اللقطة بعبارة من البلاغة والرقة والرفاهية بحيث نجد فيها كل حب الأب وتقديره لابنته وهي تغادر هي وزوجها "يراقبهما يرحلان دون أن يفهم كيف تبعث رؤيتها في كل مرة في نفسه هذه النشوة الطاغية التي تجتاح جوارحه وتنسيه الآلام"(ص106).
في قصة "راحة نفسية" نجد أنفسنا وقد أحسسنا بعدطول الرحلة مع كاتبنا المقتدر/ سامح شاهين بالراحة النفسية وإن إختلفت راحتنا النفسية عن راحة بطل القصة، فهو مغادر للحياة في شهور قليلة ولكنه سعيد لماذا "أخيرا سأتوقف عن إيذاء من أحب بقصد أو دون قصد، أخيرا سأعرف بالتأكيد ردودا قاطعة لأسئلتي الحائرة"(ص107).
تنتهي القراءة للمجموعة القصصية ولا ينتهي الحنين لمعاودة قراءتها مرة أخرى في إحساس دائم بالتطهر من وعثاء الحياة ومن ضغوط الواقع الذي نعاينه، إنه الفن القصصي الذي يعالج الواقع بلقطات منه في معمار فني وكأن لسان حالنا "داوني بالتي كانت هي الداء" تحية إلى كاتب القصة وتحية له لتجديده في موضوعات قصصه والتي إرتاد فيها بقاعا مجهولة فأضائها لنا وأنار لنا السبيل في ارتياده لمناطق جديدة في عالم السرد.