يقدم لنا الكاتب المصري المرموق هنا مجموعة من اللوحات القصصية الطالعة من ذاكرة طفولة مترعة بالحنين إلى ماضِ كان يتسم بقدر كبير من الوئام الاجتماعي والتحضر الأخلاقي والعاطفي معا، بصورة ينهض بها الماضي القديم وقد توهج بالحيوية والحركة معا، والتناقض المضمر مع الواقع المتردي في الزمن الرديء.

نوستالجيا غيط العنب

لوحات سردية

رجب سعد السيّد

فولُ «موريس» وفلافله !
في صباي، انتقلت أسرتي الصغيرة، أبي وأمي وأبناؤهما، إلى مسكن آخر، بعد تفكك (العيله) برحيل جدتي ثم جدي. كان مسكننا الجديد في شارع (الرند) - والرند، حسب الويكيبيديا، هو نبات الغار أو ورق الغار ؛ بالإنجليزية: Bay Laurel؛ عبارة عن اشجار كبيرة معمرة اسمها العلمي Laurus nobilis. استخدمها اليونانيون والرومانيون كمادة طبية. تحتوي الاوراق على زيت طيار - وليس في الشارع أي من هذه المعاني، ولا ترى فيه، حتى عود نبات فجل في أصيص!.

وكان للفول، في موقعنا الجديد، مصدران: إما (عربية محمد)، أو (دكان موريس).

الفارق بينهما أن عربية محمد تتميز بنوع خاص من الفول، لونه أحمر، يجيد (محمد بتاع الفول) صنعه، كما أنه (يتوصى) عند الكيل. ولا يتوفر إلا في ساعات الصباح الأولى، وينفد فول محمد عند التاسعة.

أما دكان موريس، فهو معنا طول اليوم. ولا يكتفي بالفول، وهو فول جيد أيضاً، وإن كان بلا لون أحمر كفول محمد، كما أن فلافله كانت شهية، وكنا نحصل عليها (ساخنة) طول الوقت، فتحاسب عم موريس في جزء من الدكان، فيعطيك (قرطاساً) ورقياً بحجم متفق عليه بين العاملين في الدكان، تذهب به إلى القسم الآخر، حيث طاسة الزيت، فتخرج منها الفلافل إلى قرطاسك مباشرة. وكان موريس منافساً خطيراً لمحمد، إذ يزيد فيقدم للمشترين هدية من مخللاته اللفتية والجزرية والفلفلية. كما أنه كان يعد السندويتشات، وقد استجاب محمد لهذه المنافسة، فأتي بالمخلالات، وزجاجة (الدقة)، التي هي معلَّق من الشطة، لمن يحب إضافتها إلى فوله.

وأنا مدين لموريس بنصف (لحم كتافي)، فقد كانت مدرستي الإعدادية (مدرسة النيل)، وهي تابعة للجمعية الأورثوذكسية الخيرية، مجاورة لدكانة موريس، لدرجة أننا في حجرات الدراسة كنا نشم رائحة الفلافل الفواحة، فيسيل لعابنا، وما إن يضرب جرس الفسحة حتى نتسابق إلى (الكانتين)، الذي كان يجلب لنا (ساندويتشات من موريس)، الواحد بتعريفه (أو نصف قرش، أو خمسة ملينات). كان يكفيني واحد منها، كوصية أمي، رحمها الله، حتى (أعرف آكل) عندما أرجع للبيت، وأيضاً لأن أكثر من ساندويتش يؤثر على الدماغ أيما تأثير، ولا يكاد المتخم فولاً وفلافلاً يفقه شيئاً في (دروس ما بعد فول موريس) !

***

بيض عم زخاري
كان يسير صباح كل يوم في شوارع غيط العنب، منادياً على بضاعته: (ع المكسر يا بيضا بسته مليم!) وكان يحتفظ ببيضه في سلة من الخوص، ويتعامل معها كأنها الجواهر.
وكنت أحب أن أراقبه وهو يبيع، سواء لجدتي أو لأي جارة أخرى، فأنزل إلى (باب الشارع)، حيث يتوقف منتظراً نزول من نادى عليه.
كانت جدتي تنزل ومعها الطبق الصاج النظيف، وثمن البيضات العشرة (ستة قروش)؛ وتوصي زخاري، بعد (الصباح عليه) بأن ينتقي لها البيض (العيون).
وكنت أعتقد أن ثمة صلة بين كلمة (عيون)، وما يقوم به (عم زخاري) وهو ينتقي لها البيضات العشر، فقد كان يقبض على كل بيضة بكامل كف يده، ويركز عينه في فتحة من فتحتى القبضة الجانبيتين، ويجعل الأخرى في اتجاه الشمس، ويلف البيضة في قبضته مرة أو مرتين، ثم يكسرها، ويفرغ محتواها في طبق جدتي، أو يعيدها إلى جانب من قفصه الخوصي، إن لم يكن راضٍ عنها.
وأخيراً، أجد (العيون) العشرة الذهبية تطفوا في زلال أبيض، تعالجها جدتي، لتصنع لنا بها، مع طبق الفول العظيم (أبو بليله)، والبصل المدشدش، والزيتون المخلل والخبز الساخن، أحلى إفطار، لم أذق مثله بعد انقضاء تلك الأيام.

وقد حاولت بعد ذلك بسنوات طويلة أن أراجع تجربة عم زخاري في فحص البيض بالعين، في ضوء الشمس، فلم أر شيئاً؛ غير أنني لا زلت متأكداً أن عم زخاري كان يرى، وكان حريصاً على أن تكون بيضاته كلها (عيون) !

***

القَصْـد ... !
كنتُ أحبُّ خالي عبد العزيز جداً. كان ذلك انعكاساً لشعوره ناحيتي. وكان، أيضاً، يعطيني قرشاً كلما قابلتُه، ويعطيني ورقة بعشرة قروش في العيدين؛ وقالت لي أمي أنه أعطاني ريالاً من الفضة (بحاله)، يوم جاء للتهنئة بختاني!.
وكان خالي يبادل أبي نفس الدرجة من المودة. وكانت جلساتهما معاً من أمتع الأوقات. كان أبي لا يتحدث كثيراً، بينما خالي عبد العزيز حكّاء من الطراز الأول، هو المقصود بالوصف (يمتلك ناصية الحكي)!. كان يمضي في حكايته، حتى لو كانت حول موضوع عابر لا يبدو عالي القيمة، فيتحدث عنه بصوته المتأني الخفيض، ولفافاته لا تتوقف عن الاحتراق. وكانت من لزماته في الحكي عبارتان: (الشيئ بالشيئ يُذكر)، و(القَصْد). وكان يستخدمهما عندما يمهد للاستطراد، وعندما يقطع الاستطراد ليعود إلى السياق الأصلي. وإن قوطع بتدخل عارض، كأن يجيئ الشاي، مثلاً، كان يتوقف تماماً حتى ينتهي التدخل، ثم ينطلق إلى (القصد)!.
كانت حكاياته تنساب مسلية، لا يتسرب الملل إلى مستمعه. وكانت استطراداته مقبولة، يجيد الخروج إليها، والخروج منها، على عكس كثيرين ممن يتدخلون في حوارات بأسلوب (الشيئ بالشيئ يُذكر)، على نحو ثقيل لا يُطاق.
وكان خالي يستطرد ويُطنب، غير مدرك أنه يستخدم خاصتين شائعتين من خصائص الأدب العربي، أو - حسب الموضة - السرديات العربية؛ وإن كانتا مكروهتين عند بعض المتذوقين للأدب. ولا أعتقد أن آداباً أخرى تعرف الاستطراد والإطناب على نحو ما ينتشر في تاريخنا الأدبي. ولعل ذلك يعكس طبيعة آليات العقل العربي، الذي يغيب طويلاً في أعماق اللغة، لمجرد الاستمتاع بالغياب غارقاً فيها، وهي التي يجب أن تعبر في سرعة، ومن أقصر طريق.
ومن أجمل حكايات خالي عبد العزيز تلك التي سمعتها منه عن (معارفه) من الأشقياء والخارجين على القانون!.
نعم. كنتُ أزوره كثيراً، بصحبة أبي، في موقع عمله؛ فقد كان مشرفاً على (محطة الضغط العالي) للمياه، التابعة لشركة مياه الإسكندرية، الواقعة على شاطئ ترعة المحمودية في (مينا البصل)، المنطقة التي صورها إدوار الخراط في بعض قصصه. وكانت المحطة بالنسبة لي في ذلك الوقت معجزة تكنولوجية مذهلة، بأنابيبها وعددات القياس التي تتحرك مؤشراتها طول الوقت. وكان خالي يرفع الضغط إلى أعلى درجة إذا وقع حريق في المنطقة التي تنتشر فيها محالج القطن.
وفي تلك المنطقة، كان يلجأ إليه بعض من لصوص الجمرك، فدائرة جمرك الإسكندرية قريبة جداً، وتجار الحشيش والأفيون (لم تكن العقاقير الحديثة ظهرت)؛ كما أنه كان صديقاً لبعض الفتوات، الذين كان يحلو لهم مجالسته والاستماع إلى حكاياته، وشرب أكواب الشاي المنعنع الذي كان يجيد صنعه.

ولم أكن أتوقف أبداً عند أن هؤلاء الناس (وحشين)، فقد كانت حكايات خالي عنهم تصورهم أبطالاً دراميين، معجونين بالشهامة و(الجدعنة) والكرم !. وقد أحببتهم حقاً، بسبب حكايات خالي عنهم.

القَصْـد .. لا أعتقد أن طفلاً له خال بهذه المواصفات لا يمكن إلا أن يكون حكّاءً، مثله !

***

إللي يشيل .. ياخد !
هذا هو مبدأ لعبة الطائرات الورقية، على نحو ممارساتنا لها زمن الطفولة.
كنتُ من أشهر (مهندسي) أو صانعي الطائرات الورقية المعروفين في غيط العنب.
كنتُ أجيد، أولاً، تقطيع سلخات من الغاب (البوص)، أحرص على أن تكون منتظمة السمك، قوية؛ تتساوى سلختان منها طولاً، هما ما يصنعان معاً علامة (إكس)، عندما أربطهما في المنتصف، أما الثالثة، فتكون أقل قليلاً، وتربط إليهما، ليتأسس من الثلاثة المعمار السداسي للطائرة الورقية؛ ثم أقوم بالتأكيد على ملامح هذا الشكل، بإحاطته بخيط قوي، ألفه بحيث أربط به قمة كل طرف من الأطراف الستة للسلخات الثلاث.

وإن وافق شهر رمضان صيفاً، كنت أصنع الطائرة الفانوس؛ ولكن شرحها يطول، لأنها أكثر تعقيداً من السداسية المسطحة.

تأتي بعد ذلك عملية تكسية المسطح السداسي بالورق. وكنت أتفنن في تكوينات ملونة، تلفت أنظار أبناء الشوارع الأخرى عندما تمر طائراتي في الجو فوق أسطح منازلهم. وكان أشهر تصميماتي هو الطائرة (النجمة)، حيث كنت أصنع محيطاً داخلياً من الخيط على شكل نجمة، أكسيه أولاً بورق ملون، ثم أكسي بقية المسطح بلون آخر، فتبرز النجمة.
ثم يأتي إعداد ذيل الطائرة. وكان على شكل رقم سبعة، ساقاه طويلتان، تبدآن من عند قاعدة الجسم السداسي، من خيط قوي، لأن الخيط هو مصدر القوة أو الضعف في قتال الطائرات الورقية. وكنا نصنع فيه عُقداً، نضع في كل منها سلخة ورقية رفيعة، طولها نحو 10 سم، وإن كانت السلخات ملونة أضفى منظر الذيل جمالاً إلى جمال جسم الطائرة. وعند التقاء الساقين، نربط ثقلاً، قد يكون (قلحة) أذرة، أو قطعة طوب صغيرة، لغرض الإسهام في تحقيق توازن الطائرة.
أما التوازن الأساسي فيتحقق عن طريق (الميزان). وميزان الطائرة عملية فنية دقيقة. وهو عبارة عن قطعة خيط يربط طرفاها من خلال ثقبين صغيرين في ورق الطائرة، عند كل من طرفيها العلويين، بحيث ينتج مثلث، تتطابق رأسه تماماً عند مركز التقاء السلخات الثلاث. ويخرج من هذا المركز خيطٌ آخر، يُربط بالمثلث الخيطي، في منتصفه تماماً، لتصنع أطراف خيوط الميزان الثلاثة مخروطاً لا يتزحزح، هو الذي يجعل الطائرة تحلق في الهواء (زي العروسة)

ثم ننطلق إلى أسطح منازلنا، برغم اعتراضات أهلنا، ونطلق طائراتنا، ونفسح لها المجال لتصل إلى أبعد مسافة وأعلى ارتفاع، حسب طول ما لديك من (دوبار تطيير)، وهو وقود طائرتك الورقية. وكان هدفي دائماً أن أصل إلى أقرب نقطة من (الملاحة)، وهو الاسم الشائع لبحيرة (مريوط) وقت أن كانت بحيرة حقيقية فعلاً تحتل مساحة كل جنوب الإسكندرية. وكانت الطائرة التي تصل إلى الملاحة، على بعد نحو كيلومتر من منتصف غيط العنب، نطلق عليها صفة (ملَّحت). كما كنت أحرص على أن تكون طائرتي هي الأعلى، حتى أتيح لنفسي قدرات أكبر على المناورة، إن ظهر منافس يوافق على مبدأ (إللي يشيل ياخد)؛ أي من يوقع بطائرة الآخر، ويجعل ذيلها يشتبك بدوبار طائرته، يمكنه إن سحبها أولاً أن يأخذها كغنيمة قتال!.
وكنت (أشيل) و(أشال) !

وذات يوم، فوجئتُ بجدي يصعد إلينا فوق السطح ساخطاً، فقد أزعجته دبدبتنا فوق سقف غرفة نومه، وكانت أسقف البيوت وقتها من (الخشب البغدادلي). وتقدم نحونا ساخطاً، مستهدفا لعبتنا الساحرة؛ لكنه سرعان ما هدأ وهو يتابع طائرتي الجميلة تتلألأ في صفحة السماء الصيفية الصافية، وكنت قد صنعت لها (شراشيب) جانبية تجسد تراقصها مع موجات الهواء. إقترب منا على مهل، ثم فوجئتُ به يلتقط مني قيادة الطائرة عن طريق طرف الدوبارة.
وقضى جدي دقائق قليلة يلعب بطائرتي، فظهر لي إجادته التعامل معها. ثم انتبه أخيراً إلى أنه تجاوز الحدود، فغادر طفولته التي حلت به فجأةً، وتراجع على مهل، نازلاً إلى غرفة نومه ذات السقف البغدادلي.

***

»أُودَةُ الفيران»
في (روضة) مدرسة رياض، في آخر شارع الريف، بغيط العنب، كانت أول معرفتي بوجود "أودة الفيران".
كانت "أبله سميره"، التخينه، المفشفشه، تخيفنا، لنكف عن إحداث الضجيج، حتى لا يسمعنا الناظر رياض، صاحب المدرسة، لتتمكن هي من الاختفاء لعدة دقائق خلف باب الأستاذ حلمي السكرتير. كانت قبل أن تغادرنا تؤكد لنا إن من ستضبطه متلبساً بإحداث الضجيج ستسكب عليه العسل الأسود، وتُدخله (أودة الفيران)، فتهجم عليه الفئران وتأكله وهي تلعق العسل. وكانت تقول لنا قبل أن تغادر الحجرة: أنا رايحه أحضَّر العسل !.
وظللت، زمناً طويلاً، أحلم بالفئران التي تلعق وجهي ومؤخرتي؛ وتأكد لي صدق ما تهددنا به أبله سميره عندما حاولتُ، مع ولد آخر، البحث في (الأود التحتانية) عن أودة الفيران، فتسللنا بعد انتهاء يومنا في روضة رياض، التي لم نكن نرى فيه غير أبله سميره، ونزلنا درجات متآكلة إلى الطابق تحت الأرضي، فوجدنا عدة غرف، كانت كلها بغير أبواب، وقد تحطمت جوانب من جدرانها؛ وتسمرنا أمام باب وحيد مغلق. لم نشك لحظة في أننا أمام سكن الفئران. وفوجئنا بالفئران ترتع صارخة، وقد أخافها وجودنا، فخفنا نحن بدورنا، واستدرنا مسرعين إلى السلم متآكل الدرجات، فقابلنا رجلاً غريب الهيئة نازلاً، نجحنا في الإفلات منه وتجاوزناه إلى سطح الأرض، وهو يسبنا ويتساءل عما كنا نفعله بأسفل.
لا تغادرني أودة فيران أبله سميره حتى الآن. كانت أول حجرات الفئران التي طاردتني في مراحل من حياتي. وحتى بعد أن قرر أبي إبعادي عن (مسخرة) مدرسة رياض، إختار لي أودة فيران أشد رعباً .. (السُّنِّيَّة)!. أو مدرسة الجمعية السنية لتحفيظ القرآن الكريم، حيث تم اعتقالي لأكثر من ثلاث سنوات، قبل أن ينقذني منها انتقال وظيفة أبي إلى مدينة دمنهور، وانتقال كل الأسرة معه. في (السنية) جربت وأنا لما أزل بعد دون العاشرة، نموذجاً بشعاً مما عرفت فيما بعد أنه هو الفاشية الدينية، حيث خضعت للعقاب بأداة تعذيب المعتقلين، وهي (الفلقة)، عدة مرات؛ ولم يكن العقاب لأن الشيخ يريد أن يختلي بأبله سميره، ولكن ربما لأنه لا يعرف طعم الاختلاء بأي (أبله)، ولا يجيده!.

***

شيخ (الفلقة) وشيخ (درس النسوان) !
إرتبطت ملابس الشيوخ عندي بنموذجين عرفتهما في الطفولة:
= الشيخ المكوكل المعمم (إسمه الشيخ الشورى)، في المدرسة السنية لتحفيظ القرآن الكريم، في غيط العنب، بالإسكندرية، وخيزرانته الرفيعة الرهيبة في يده، يرفعها وينزل بها على قدميَّ، وأنا ملقىً على الأرض، وساقاي مرفوعتان إلى (الفلقة)، التي يمسك بطرفيها (فرَّاشان)، أحدهما اسمه (الرحيمي)، وأنا أصرخ مع الضربات الخمس على باطن قدميَّ العاريتين، وأستمر في الصراخ بعد أن تفلتني الفلقة، وأذهب إلى بيتنا وأنا أعرج من تأثير (المد)، وهو اسم العملية كلها.
السبب هو أنني نسيت آية طويلة، لم أتمكن من حفظها بسبب طولها.

=  الثاني، نموذج متكرر للـ (مُقرئ)، الذي ارتبط عندي بالموت، وأول ما رأيته كان في الصباح التالي ليوم وفاة جدتي، وكان قادماً ليعطي درساً لـ (النسوان)، في بيتنا، وجلس أمامهن مقرفصاً فوق الكنبة، يشرب أكواباً متتالية من القرفة، وبعد انتهاء (درس النسوان الصباحي)، رأيته وهو يرفض الربع جنيه الذي قدمته له أمي، رحمها الله، مع ربطة مأكولات و(قرص)، رحمة ونور ع المرحومه، ويصرُّ على نصف جنيه ! .
وأنا لا أفكر إلا في أنه شيئ ضروري مكمل للموت .. فمجيئه يعني الموت !
ولما زرت مقبرة الأسرة في (العامود)، أو مقابر منطقة كرموز، رأيت العديد من هؤلاء المقرئين، أو (الفقها) كما يسميهم العوام، يتسابقون ويتدافعون من أجل (الرحمة والنور)، وهو نوع من التسول المغلف بالزي الديني، وأدعية لجلب الرحمة والإبعاد عن النار وتخفيف عذاب القبر، وإبعاد الثعبان الأقرع عن الميت في ليلة الحساب !!

الآن، وأنت تختتم السابعةَ والستين، هل تشكُّ لحظةً في مفعول سحر جدتك، حين فصلتْ فوق رأسك قرني فول ملتصقين ؟!

***

وما تلك بيمينيَ ؟
هي عصاي، لا أتوكأُ عليها، وليس لي غنم، ولكن أستشعر بها الأمان حين أوشك أن أفقد الاتزان، خاصة عند تغيير الاتجاه، وعند النظر لأعلى، ثم لأسفل.
أحببت العُصِيَّ منذ وعيت، طفلاً، على عصا جدي (السيد خليفة)، التي كان يمشي متعاجباً بها، في ذهابه وإيابه من جلسته شبه اليومية، عصراً، في (القهوة أم مرايات)، أمام كوبري راغب، في غيط العنب. لم يكن يذهب بها إلى عمله، رئيس عمال شركة المياه، في شارع فؤاد، وإنما كانت (ستي أم سعد) تقول عنه: راجل مزاجانجي .. جايب لي عصايه وارد بلاد السند .. شاريها للغندره !. وكانت تلتقطها منه عند رجوعه إلى البيت، وتمسحها، لتحتفظ بها نظيفة، معلقة في بروز مشجب ملابس حائطي. وكانت تسمح لي أن ألعب بها في البيت فقط، على شرط ألا أضرب بها أحداً، أو أكسر بها شيئاً، أو اسبب بها أذى لنفسي.
وكلما شاهدت يحيى شاهين (سي السيد)، في أفلامه المأخوذة عن ثلاثية عمي العظيم نجيب محفوظ، وهو يمشى في شوارع القاهرة الفاطمية رافعاً خافضاً عصاه في مشيته الواثقة، أتذكر عصا جدي القادمة من السند. كانت العصا ملمحاً اجتماعياً تراتبياً مرعياً. لم يكن لصعلوك، أو لأفندي، حتى، أن يحمل عصا النزاهة. كانت لذوي الثقل، أياً كان هذا الثقل، حتى إن كان ثقل البلطجة أو (الفتونة).
وظللت، طول الوقت، أفكرُ في اقتناء عصاً، ولو لمجرد الاقتناء؛ حتى حدث ذلك حين كنت أتجول في سوق تجارية كبيرة في المنامة، بمملكة البحرين، حيث عملت لشهور قليلة بجامعة الخليج العربي، ووجدتُني أتوقف مشدوهاً أمام مجموعة من العصيّ. وكان رفيقي في الجولة التسويقية الدكتور محمد هويدي، جاري في السكن، والأستاذ بالجامعة. سألني عن رأيي في أجملها، فأشرتُ إلى واحدة، فقال: هي لك. وأصرَّ على أن تكون هديته لي.
وعدتُ إلى الإسكندرية بعد غياب شهور قليلة، واحتفظتُ بعصا البحرين في جانب من مكتبتي الخاصة، وكنت أنساها طويلاً، وأعود لأمسح عنها الأتربة التي يثيرها القطار الذي يمر على مقربة أمتار قليلة من شرفة بيتي. حتى كان أن احتجتُ إليها، حين أصابني الإجهادُ الذهني، قاتله الله، ولم تعد دماء كافية تصل إلى (الأدوار العليا)، أي رأسي التي تبتعد 190 سم عن سطح الأرض، فلحق خلل بمركز للاتزان، جعلني – في لغة ميكانيكية السيارات – "أحدف يمين"، وأحتاج إلى (ظبط زوايا)!
عولجتُ طبياً، غير أن ثقتي في اتزان مشيتي لم تكتمل، خاصة عند تغيير مفاجئ للاتجاه، فاحتجتُ إلى أنيسٍ أجد فيه الثقة، فكانت عصا البحرين، التي اكتشفتُ أنها أقصر على نحو ما من المطلوب، فاشتريت عصا أخرى من بائع يمر على المقاهي. قال لي إنها فرع (بعبله) من شجرة رمان، فلم أملك إلا أن أصدقه، فأنا لم أر بحياتي إلا ثمار الشجرة. وهذه هي رفيق مسيرتي الآن، وإن كنت أصبحت أرفعها عن الأرض وأجعلها مائلة إلى جانبي بالطول، في محاولات تدريجية للاستغناء عنها.
من فوائد العصا أنها تكسبني عطف الآخرين، خاصة سائقي السيارات، وركاب المواصلات العامة، وتعطيني الحق في استخدام (شباك) صرف خاص في البنك المركزي، معلق عليه إعلان (لكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة) !

***

تكعيبة قريسطينا !
أتذكرُ الآن أنني كنتُ مأخوذاً تماماً بجمال التكعيبة التي أقامها عمي الأوسط فوق سطح بيتنا، 51  شارع الريف، في غيط العنب. كانت الأسر القديمة في المنطقة، بعد قدومها إليها من الأرياف، بعد انتهاء أيام (الهجار)، بنهاية الحرب العالمية الثانية، تقيم تكعيبات عنب في مداخل دورها الخاصة، فسميت المنطقة بغيط العنب.

لكن تكعيبة عمي لم تكن أمام البيت، ولكن فوق سطحه، ولم تكن لغرض أن تلتف سيقان العنب المتسلقة عليها، لتتدلى منها العناقيدُ في موسم الأعناب، وإنما لتحتضن قصة حب ربطت بينه وابنة الجيران (كريستينا)، التي كانت جدتي تنطقهامتعمدة، ساخطة، ساخرةقريسطينا، فاستحسن الآخرون التسمية، كما أنهم لم يكونوا ليجرؤا على مخالفة جبروتها، فسايروها، ولم تلبث تسمية جدتي الحانقة على عمي بسبب علاقته أن حلت محل اسم ابنة الجيران الجميلة، التي لم أر في حياتي أرق منها.

وكان عمي يحاول استمالة أمه، فيدعي أنه أنشأ التكعيبة لتحلو الجلسة لها مع (أبو السِّيِد، فوق السطوح، في ضوء القمر، ونعيد اللي فات يا جميل!)؛ فكانت ترق وتلين لبعض الوقت، لتعود إلى تبرمها منه ومن تكعيبته ومن (حدوتته) التي بدأت (ريحتها تطلع)!

والحقيقة التي لم أعترف بها لعمي، وكنت أحبه ويحبني، أن سرَّ علاقته بكريستينا لم يتسبب في كشفها وتدميرها، بالمصادفة البحتة، غيري أنا. نعم. كان يستهويني في بعض ليالي الصيف أن أتسلل من الحجرة التي أنام فيها مع أخوتي، حافياً حتى لا تسمع أمي خطواتي، وأصعد إلى سطح بيتنا. وكان بيتاً ضخماً، واجهته في شارع الريف، وظهره في حارة لم أعرف لها اسماً، وكنا نسميها (الحاره إللي ورا)، وكان عمق البيت يساوي عمق بيتين، بنفس الارتفاع، أحدهما بيت كريستينا، والآخر بيت (عبده التخين) البقال، ولم تكن هناك أسوار، لا في الواجهة، ولا في الخلف، ولم تكن هناك (حدود) بين الأسطح الثلاثة.

وكنت قد اكتشفتُ أن (عبده التخين) يصعد إلى سطح بيته عند منتصف الليل، صيفاً، ويتجرد من ملابسه، ويقوم بتصرفات غريبة، فمرة يدندن بخليط من الأغاني الشائعة، ومرة ينوح كامرأة، وكثيراً ما رأيت جسمه البرميلي يتدحرج على سطح البيت. وكان يقضي في ممارسة طقوسه العجيبة نحو ساعة، ثم لا يلبث أن يرتدي سرواله الداخلى، وقفطانه، ويترك السطح. وقد ضبطني مرةً في تلصصي عليه، ولم يهتم، كما لم يكن يلتقت إليَّ عندما كنت أذهب لدكانه، لأشتري منه العسل والطحينة لأبي.

وذات ليلة صيفية، كنت أهم بالعودة بعد الفرجة على عبده التخين، لاحظت أن ثمة نشاطاً آخر يجري غير بعيد. كان عمي يقف بالقرب من حدودنا مع سطح كريستينا، التي لم تلبث أن ظهرت، وهرولت باتجاهه، فمد يده يساعدها على تخطي فارقاً يقل عن نصف متر بين السطحين. ثم اندمجا في حضن كبير، وكانا يحكان وجهيهما، أحدهما بالآخر؛ ثم تحركا واتخذا مجلساً تحت التكعيبة.

ظللتُ، ليلتها، متسمراً في مكاني، أخاف أن أزعجهما، وبالوقت ذاته، كنت مستمرئاً مراقبتهما. غير أن أمي تبينت غيابي عن فراشي في تلك الليلة، لسوء حظ عمي وكريستينا، فلم تملك إلا أن تصعد إلى السطح، فقد كانت على علم بشغفي بالتلصص على البقال المخبول. وما إن اقتربت من التكعيبة حتى ارتفع صوتها: (ينيلكم .. أستروا نفسكم يا موكوسين!). فانتهزتُ أنا فرصة الارتباك الذي شهده سطحنا، ومرقتُ نازلاً، مندساً في فراشي.

ونقلت أمي ما رأته، بكل أمانة، إلى جدتي؛ فنشأت أزمة كبيرة. وتدخل جدي، وقرر طرد عمي من البيت، لولا رجاء من جدتي، على أن يعدنا العم العاشق بقطع علاقته بقريسطينا، وهدم التكعيبة.

ولم يهدم عمي التكعيبة إلاَّ بعد أن اختفت أسرة كريستينا من البيت، بل من المنطقة كلها، فانتابه حزن شديد، وأصابه هزال. ثم جاء صباح فوجدنا التكعيبة كأن لم تكن. فككها عمي سلخةً بسلخة، واحتفظ بالسلخات الخشبية الملونة في مكان خاص في دكانه الذي كان يمارس فيه النجارة، ربما على أمل أن يعيد إنشاء التكعيبة إن عادت كريستينا.

وقد انتهت القصة على نحو مؤسف، فبعد شهور قليلة، جاءنا شخصٌ يحمل لفافة قماش وبداخلها طفل وليد. كان ثمرة علاقة عمي بكريستينا، التي اختفت من المنطقة بعد انتفاخ بطنها، حتى وضعت طفلها، الذي جاء إلينا لأنهكما قال المرسال – (يخصنا).

وبعد مداولات، قررت الأسرة تبني قرار جدي بالتخلص منه، سراً، بوضعه في مدخل مسجد سرور، القريب من البيت.

وكان عمي هو الذي حمل وليده، حيث أرسله إلى المجهول.

***

محمود على البنا
لا أعرف حتى الآن سر إعجاب جدي، السيد خليفة، بالمقرئ محمود على البنا، بالرغم من أنني قد علمت مؤخراً أن جدي كان ناشطاً عمالياً بارزاً في الإسكندرية، في زمن الخمسينيات، وكان رئيساً لنقابة عمال شركة المياه، الأمر الذي قد يعني أن ميوله كانت اشتراكية، ولا أقول ماركسية، وبالرغم مما علمته بعد أن كبرتُ من أن علاقاته النسائية كانت متعددة، وكان (يشرب).

كان يقول دائماً إنه اشترى الراديو الفيليبس من أجل شيئين: قراءات محمود على البنا في يوم ثابت من الأسبوع، قبل نشرة أخبار الثامنة والنصف، وأغاني (الست أم كلثوم) وحفلتها الشهرية.

واعتدتُ، ربما مجاملة لجدي في بداية الأمر، أن أنصت باهتمام للشيخ البنا وهو يتلو القرآن، ثم أقبلتُ على سماعه بحرص. وكنت، كلما (لغوش) الراديو، أثناء التلاوة، أسرع أنا فأخبط على سطحه، فتستقيم الإذاعة، وأصبحت مشهوراً بأن مهمتي هي (خبط الراديو)!

وصرت أحب صوت البنا، ومعه أصوات قليلة أخرى، حتى حلَّتْ بنا لعنة أجهزة إذاعة الصوت المرقمنة، وأجهزة التكبير، فتراجع اهتمامي، وخفت، فقد تحولت أصوات المقرئين إلى (-0-0-0-0)، أي أصوات مرقمنة بلغة الكومبيوتر، لها نفس تنافر أصوات مقرئي المهرجان وعبد الباسط (حموده، لا عبد الصمد!)؛ وراحت تشارك كل أصوات (الأوباش) في الاعتداء على (أمني الصوتي)، فلا تجيئني هادئة متأنية جميلة، من الثامنة حتى الثامنة والنصف مساءً، ولكن في كل وقت (بل تتسلل إليَّ من شباك الجيران الخلفي وأنا أقضي حاجتي في حمام بيتي)، وفي كل شارع، وفي كل تاكسي، وكل (تكتك)، وكل نغمة رنين تليفون محمول !