رسالة العراق
رحيل مفكرين
إذ يفتك الموت المجاني بالعراقيين كل يوم، وربما كل ساعة فتزداد بذلك فداحة خساراتهم من الطاقة البشرية الهائلة التي عرفوا بها، كونهم شعبا، على الرغم من تعدد القوميات والطوائف الدينية، قد أثبت التاريخ أنهم مبدعون، وكان ذلك التعدد القومي والطائفي ميزة للإبداع، وليس مشكلة معرقلة له، لذلك بانت بوضوح شديد كل علامات التأخر والتخلف والهدم، ما أن ظهرت بوادر فك التلاحم والفرقة التي استطاع زرعها المغول الجدد، والهمجيون ورجال الكهوف، فضلاً عما يقوم به من يسمون أنفسهم بحاملي مشعل الحضارة وما بعد الحداثة، من أسلحة فتاكة، والأخطر منها عقلية همجية أخرى ما بعد كولونيالية غالباً ما تستعمل القوة المفرطة في التعامل مع ما تدعيه أنها أهدافها. فتحرق في أكثر الأحوال الأخضر واليابس، جاعلة من العراق ساحة لحرب لم يكن طرفاً فيها، ليفشل الطرفان، في المحصلة، في فهم حقيقة الناس في هذه البلاد ولا يقدموا لهم إلا الموت والخراب. هذا الموت والخراب صار يمثل كابوساً شرساً يقض مضاجع العراقيين وخصوصاً المثقفين منهم مما أدى إلى حالة من الانكسار النفسي والاجتماعي سرعت في وفاة عدد كثير منهم. ومن بين أبرز من افتقدتهم الأوساط الثقافية العراقية هما الكاتبان المفكران محمد مبارك ومدني صالح. لقد كان أثر الظروف الأخيرة وما تبع ذلك من تدهور بكل أشكاله السياسية والاجتماعية والاقتصادية واضحاً بجلاء على روحية هذين المفكرين الكبيرين. ولاجدال أن الظروف غير المستقرة في العراق هي السبب الفعال في تعطيل الفرصة الكاملة لاكتمال نضوج كثير من المفكرين إلى فلاسفة لهم الفرصة الكاملة في تأسيس منظوماتهم الفكرية. وهذا القول يصدق بوضوح على فقيدي الثقافة العراقية والعربية مبارك وصالح. محمد مبارك جاء محمد مبارك الماركسي إلى بغداد من مدينة الحلة التي تحمل عبق وسحر التاريخ البابلي عام 1958 بأمر حزبي من سكرتير الحزب الشيوعي العراقي آنذاك سلام عادل، كما شهد بذلك أحد المقربين منه وزميله الدكتور جليل كمال الدين في الندوة التي أقيمت ببغداد مؤخراً حول حياة الفقيد وفكره، حاملاً عقلية المثقف العضوي المنضوي تحت راية الفكرة الثورية حيث السعي إلى التأثير في الواقع وتغييره. ولكن ظل الاشتباك بين الثقافي والسياسي يمثل إشكالية صعبة الحل لدى محمد مبارك لم يتسن له النجاح في حلها على نحو مرض. لم يبق محمد مبارك أسير الفكر الماركسي التقليدي، بل اتجه إلى آفاق فكرية وفلسفية رحبة وبان اتجاهه العقلاني الواسع منذ بواكير كتاباته واتضح ذلك في كتابه الأول "الكندي فيلسوف العقل" الذي أكد انحيازه إلى الفكر العقلاني البعيد عن المغالاة والتطرف ودافع عن الفلسفة والفكر مثلما دافع عن أصالة الفلسفة العربية ضد من يتهمونها بالتبعية للفلسفة الغربية مثبتاً من خلال ذلك تعمقه الشديد بالتراث العربي والإسلامي وقراءته العلمية الخاصة لهذا التراث البعيدة عن التعصب والانغلاق، مفنداً الآراء الاستشراقية غير الموضوعية التي تنظر بتعال غير مبرر لمنجز العرب الفلسفي. كان مبدأه يستند إلى مقولة للإمام علي وهو أن "الحجة تقرع بالحجة". كما أنه كان يرى في التراث الفكري الإنساني عبارة عن سلسلة متواصلة من الجهود التي تتواصل مع بعضها البعض والتي تكمل بعضها من دون انقطاعات وقد شارك الجميع فيها. لذلك من غير الموضوعية ولا من الأمانة تجاهل الواحد لجهود الآخر. لكن الفلسفة لم تكن الميدان الوحيد الذي كان لمحمد مبارك فيه حرية التنزه والتجوال، فهو في حقيقة الأمر، وكما وصفه بيان النعي الذي أصدره اتحاد الأدباء في العراق عنه، عشرة رجال في رجل واحد، إذ ألف في الفكر والأدب وعلم الاجتماع والمسرح والسياسة. ففي نقد الشعر كان مبارك ناقداً بارزاً للشعر وقد ألف في ذلك الدراسات الرصينة الكثيرة عن ظواهر وقامات شعرية كثيرة ضمها في كتابه المهم "في الوعي الشعري" الذي صدر ببغداد عام 2004، وهو يقع في 450 صفحة والذي درس فيه خمسة وعشرين موضوعاً من بينها الأدب والهوية القومية والشعر والسايكولوجيا والفلسفة والنقد وفي النظرية الشعرية وقصيدة النثر ودراسات تطبيقية عن المتنبي والجواهري وعبدالوهاب البياتي والسياب وسعدي يوسف وحسب الشيخ جعفر. غير غافل المنجز الشعري لدي الأجيال الشعرية الجديدة مثل وسام هاشم وعبدالخالق كيطان على سبيل المثال. كان محمد مبارك في نقده الشعري مثال للناقد الواعي لأدواته النقدية ذو الحساسية الدقيقة للإبداع في اللغة الشعرية، منتبه لمزالق الشعراء وسطوعهم. وكان من بين القلائل من النقاد ممن يتذوقون بفنية عالية الإنجاز الحقيقي في بناء القصيدة العربية الكلاسيكية وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر الحديثة في الوقت نفسه. ولذلك قرأنا له دراسات على المستوى نفسه من الدقة النقدية للأنماط الشعرية الثلاثة التي اتسم بها الشعر العراقي والعربي في العصر الحديث وخلال ثلاث حقب متعاقبة. وكان منهج مبارك النقدي أنه يؤمن بالرسالة الاجتماعية للأدب ولذلك من الضرورة أن يحافظ الأدب على هذه الوظيفة ولا يخاطر بها من أجل تكريس النزعات الجمالية البحتة على الرغم من قناعته التامة بقيمة اللعب الحر والجمالي للبنية الشعرية. إن تصدي مفكر وناقد من مستوى محمد مبارك للشعراء الشباب الذين يكتبون قصيدة النثر لهي دلالة على سعة ذهنيته في اكتشاف كل ما هو خالد وفعال في التجربة الإبداعية وعدم النظر إلى الجديد بأنه بدعة ضالة أو انحراف عن مسار الشعر العربي الذي لم يخرج عن سكة الأوزان والقوافي الخليلية. لكن محمد مبارك شخص حالة الوهم المنفلت والإبهام والانطواء على الذات المستشرية في تجارب كثيرة لقصيدة النثر، إلا أن تجربة عبدالخالق كيطان، كما يراها هو، ترتفع "بطاقة الوهم هذه إلى صعيد الوعي اللغوي وتحررها من أعباء تشكلاتها الكاذبة في الجزئي والاعتباطي من مدركات الحس التي يستوي فيها الانسان وبقية الأحياء مما هو دونه، ولتتفرد طاقة إبداع وخلق في صعيد من الوعي الكلي الباذخ، والذي لا يقف في صياغاته وتشكلاته الجمالية عند رصد المتعين المحدود وانما يجوزه إلى ما ينتظم هذا المتعين من صيرورة لا تني تتقدم به جديداً ليس له أن يستقر على حال ولكن ليتابع صوراً وأوضاعاً مضطردة التشكل والصياغات الجمالية المتجددة أبداً وبذلك تتقدم هذه التجربة الشابة بالقصيدة وعياً في اللغة وباللغة لتحيط بالماحول صيرورة وتستوعبه نبضاً وايقاعاً تتفجر معهما المنطويات والطاقات لغة تثري اللغة ومدركات وحدوساً تصير بالانسان إلى أصعدة عتيدة في الوعي اللغوي والحساسية الجمالية والاستشرافات الذهنية الراقية، محققة بذلك انتقال القصيدة من الغناء- حيث الذات مرهونة بالحواس ووعيها الأولي أدواتها الخلقية- الفسلجية، إلى وعي الآخر وتحصيل اطراداته وقوانينه، التي يتشكل هو بها كينونته وهويته... "، كما نقرأ ذلك في مقالته عن شعر عبدالخالق كيطان. وكان المسرح من الميادين الرحبة التي جال فيها عقل محمد مبارك بكل حرية. وربما كان ميله للجدل والحوار هما من قرباه إلى هذا الفن فكتب فيه الكثير من المسرحيات التي كانت جلها من المسرحيات الفكرية التي جرب كتابتها أكثر من الأنماط المسرحية الأخرى. لقد حاول مبارك في تجاربه المسرحية ترسيخ نماذج عربية خاصة مثلما ترسخ نموذج هاملت والملك لير وفاوست على سبيل المثال، ولذلك لجأ إلى التاريخ. والحقيقة أن النقد لم يكشف لنا مستوى نجاح محمد مبارك في هذا المسعى. وبعد التغيير الدرامي الذي حدث في العراق بعد 9/4/2003 ولثقة مبارك بالدور القيادي الذي حري بالمثقف أن يقوم به في وقت الأزمات التي تمر بها بلاده فقد انخرط في العمل الإعلامي والسياسي المباشر والحر وعمل رئيسا لتجرير الجريدة السياسية اليسارية "القاسم المشترك"، لكن الواقع العراقي أبى إلا أن يكون صادماً وقاهراً مما أصاب محمد مبارك بخيبة الأمل وربما الذهول وهي الحالة التي شوهد عليها مبارك في الفترة الأخيرة جدا من حياته من خلال زياراته لأصدقائه ، كما بين ذلك الفنان عزيز خيون وهو يدلي بشهادته عن مبارك، ومن خلال حضوره الدائب لندوات اتحاد الأدباء، إذ كان من الواضح عليه الانشداه وتشتت الذهن حتى وافاه الأجل يوم 29/8/2007. مدني صالح منذ أن عرف طريقه من مدينته الريفية هيت إلى ثانوية الرمادي ليدرس اللغة العربية والأدب على يدي أهم شاعرين معاصرين هما السياب والبياتي، كان مدني صالح متمرداً له الثقة العالية بنفسه وعقله. وقد منحته هذه الثقة العالية بالنفس حصانة ضد الخضوع لإملاءات الآخرين وغطرستهم. وقد ضحى من أجل ذلك بأشياء باهضة الثمن مثل شهادة الدكتوراه من جامعة كامبردج التي سافر من أجل نيلها والتي لم يتوان عن رفضها مادامت لا تمنح له إلا بالتنازل والخضوع لقوانين هذه الأكاديمية الصارمة التي لم تكن تتماشى مع قوانين العقل والمنطق عند مدني صالح. حين وجد مدني أن استاذه يقف موقف المتعصب ضد الفلسفة الإسلامية ولم يرض برأي مدني صالح أن لرواية حي بن يقظان التأثير الواضح في رواية "روبنسن كروزو" لدانيال ديفو وطالبه بإجراء تغييرات كثيرة، ووقفت اللجنة المشرفة مع هذا الاستاذ رفض الانصياع لما طالبوه به من تغييرات، لاعتقاده الجازم بعدم عدالة ذلك الموقف والانحياز الفاضح للمشرف على الرسالة واللجنة المشرفة لما يفترضونه بالمركزية الغربية التي يناهضها مدني بكل ما أوتي من معرفة. المفارقة هنا أن هذه الأكاديمية نفسها عادت بعد زمن لتقر لمدني صالح بالتميز الذهني والعقلي. جاء مدني صالح إلى الأدب عن طريق الفلسفة، إذ سجل عبر كتابه (الوجود) ريادته الفلسفية الاولى، كما هو حال زميله محمد مبارك. وقد قسمت أعماله الفكرية إلى مراحل ثلاث مهمة: هي أولا المرحلة الأدبية التي كتب فيها النقد الأدبي في كتبه "هذا هو السياب" و"هذا هو البياتي" و"مقامات مدني صالح". وعندما اصدر كتابه: (مقامات مدني صالح- 1989) صنف الناس إلى ثلاثة: عابث مدفوع إلي الحياة بغرائزه. ومتشكك بقدرة المعرفي علي اجتراح معجزة الإنماء. ومخلوق على آبائه يتسول علي الطارئ. وقال مدني صالح لكل هؤلاء: اخرسوا فأنتم بكم صم منذ ولدتكم أمهاتكم، ثم يضحك مدني على حياة أولئك. وقد تميزت هذه المرحلة باسلوب مدني المتفرد في الكتابة الساخرة والجديدة الذي لا أحد يكتب به إلا مدني صالح. والمرحلة الثانية هي المرحلة التي تداخلت فيها أعماله الفلسفية والأدبية فكانت كتبه، (ابن طفيل - قضايا ومواقف) و(الغزالي وفلسفة النشوء والارتقاء) و(رسالة التربيع والتدوير للجاحظ) وكتابات أخرى بين بحث ومقالة. أما المرحلة الثالثة التي تعد أهم مراحل الحياة الفكرية عنده، والتي يمكن تسميتها بالمرحلة الاستشرافية، تؤرخ بدايتها مع عام 1997، والتي توجها بكتابين هما (ما بعد الطوفان) و(خراب الفلسفة) وكتاباته حول فلسفة التاريخ والحضارة. في كتابيه "ما بعد الطوفان" و"خراب الفلسفة" سعى مدني صالح إلى أن يوصل للقارئ لب فلسفته وخبرته في هضم الفلسفة لتأسيس موقف فكري يمكن أن يشخص حالة العلاقة المتوترة بين "كروزو" و"فرايدي" (شخصيتا رواية دانيل ديفو) كونهما يمثلان طرفي معادلة مختلة دائما بين الكولونيالي والمواطن الخاضع له، بين المحتكر والمستهلك، بين المالك لوسيلة الإنتاج والآلة والأجير، وأخيرا بين السيد والعبد. لقد نبهنا صالح هنا أن من الوهم الاعتقاد أن ثمة صراعاً بين الشرق والغرب فلم يعد الصراع بين غرب وشرق كما يحاول (كروزو) أن يوهمنا بذلك بقصد إدخالنا في صراعات وهمية، بل هو صراع بين التاجر المحتكر الذي يدور حول محور: (التجارة.. الحرب.. الاحتكار) ضد آل فرايدي وهم شعوب العالم أجمع الخاضعة لسطوة وسيطرة آل كروزو المحتكرين. لقد استطاع مدني صالح بشهادات زملائه وطلابه أن يقرب الفلسفة إلى القارئ من دون أن يخل بعمق ما يكتبه. كما سعى من خلال دراساته الأخيرة خصوصاً لتأسيس فكر عربي يستوعب الفكر العالمي ويضع يده على الجرح في أسباب التدهور السياسي والاجتماعي والاقتصادي التي تعيشها الأمم الفقيرة، والتي من أهمها حسب وجهة نظر مدني صالح الحالة لدى (فرايدي) في استمراء التبعية والتخاذل للمستعمر الكولونيالي الجديد، أو ما يسمى أيضاً بالسوبر كولونيالي، وعدم احترام النفس. وقد اقترح الحل لهذه العلاقة الشاذة بالنهضة الحقيقية في احترام الأنا لذاتها، والانفتاح على الآخر المختلف، فليس أمام فرايدي العربي سوى هذا الخيار الواحد للتحرر من سطوة السيد كروزو وآلته. وعليه عدم التفريط بحقه والتأسيس على جذر ثقافي ثابت. كان هاجسه الاساس هو كيفية أن يجعل من الفلسفة رؤية عقلية وموقفا نقديا للواقع، يؤمن بالمنهج الأستقرائي عبر الانتقال من الجزئيات الى الكليات. لقد هاجم مدني صالح النزعة الأستشراقية القائمة على القول بمركزية الغرب وهامشية الشرق، على الرغم من أنه يستوعب الكثير من إيجابيتها، ولكنه في الوقت نفسه يجد في الأستشراق نزعة تميل الى تأكيد القول بأفضلية الغرب على الشرق، المنسجمة مع ما ذهب اليه كل من (رينان) و(مونك) وغيرهما من القائلين بأرجحية العقل الآري (الغربي) على العقل السامي (الشرقي). إنها نزعة مبنية اساسا على تجهيل الاخر، قادمة مع الغرب الكولنيالي المحتكر المستعمر وهذا الموقف لا ينطوي على نزعة تشكيكية اتجاه الاخر تؤمن بنظرية المؤامرة بقدر ما هي اتجاه تشخيصي علمي لكثير من النزعات الاستشراقية. لقد شغلت فكرة العدل بمعناها السياسي والفلسفي والوضعي على الدوام في أعماله، وفي علاقاته، وفي حروف كتاباته. عرف عن مدني صالح زهده بالمناصب والسعي إليها بل كان يحيد عنها حتى حين تعرض عليه. كما عرف عنه عزوفه عن المهرجانات وموائد السلطات الرسمية التي كان يراها بعيدة عن الاهتمام الفعلي بالثقافة. مما جعله يؤثر العزلة والانكفاء في بيته. "بصمت شبيه بإعتكافه ، رحل أستاذ الفلسفة المفكر والناقد والأديب اللامع مدني صالح بعد حياة أكاديمية وإبداعية ثرة كان خلالها سيداً لكثير من النقاشات والحوارات على صفحات الجرائد والدوريات كافة، وكانت حجته دالة، وموقفه وطنياً تقدمياً ، محبا لشعبه وعراقه ورموزهما الثقافية، وتربى الكثير بهديه في رحلة الدراسة والكتابة والحياة". هكذا نعاه بيان اتحاد الأدباء.
إذ يفتك الموت المجاني بالعراقيين كل يوم، وربما كل ساعة فتزداد بذلك فداحة خساراتهم من الطاقة البشرية الهائلة التي عرفوا بها، كونهم شعبا، على الرغم من تعدد القوميات والطوائف الدينية، قد أثبت التاريخ أنهم مبدعون، وكان ذلك التعدد القومي والطائفي ميزة للإبداع، وليس مشكلة معرقلة له، لذلك بانت بوضوح شديد كل علامات التأخر والتخلف والهدم، ما أن ظهرت بوادر فك التلاحم والفرقة التي استطاع زرعها المغول الجدد، والهمجيون ورجال الكهوف، فضلاً عما يقوم به من يسمون أنفسهم بحاملي مشعل الحضارة وما بعد الحداثة، من أسلحة فتاكة، والأخطر منها عقلية همجية أخرى ما بعد كولونيالية غالباً ما تستعمل القوة المفرطة في التعامل مع ما تدعيه أنها أهدافها. فتحرق في أكثر الأحوال الأخضر واليابس، جاعلة من العراق ساحة لحرب لم يكن طرفاً فيها، ليفشل الطرفان، في المحصلة، في فهم حقيقة الناس في هذه البلاد ولا يقدموا لهم إلا الموت والخراب.
هذا الموت والخراب صار يمثل كابوساً شرساً يقض مضاجع العراقيين وخصوصاً المثقفين منهم مما أدى إلى حالة من الانكسار النفسي والاجتماعي سرعت في وفاة عدد كثير منهم. ومن بين أبرز من افتقدتهم الأوساط الثقافية العراقية هما الكاتبان المفكران محمد مبارك ومدني صالح. لقد كان أثر الظروف الأخيرة وما تبع ذلك من تدهور بكل أشكاله السياسية والاجتماعية والاقتصادية واضحاً بجلاء على روحية هذين المفكرين الكبيرين. ولاجدال أن الظروف غير المستقرة في العراق هي السبب الفعال في تعطيل الفرصة الكاملة لاكتمال نضوج كثير من المفكرين إلى فلاسفة لهم الفرصة الكاملة في تأسيس منظوماتهم الفكرية. وهذا القول يصدق بوضوح على فقيدي الثقافة العراقية والعربية مبارك وصالح.
محمد مبارك جاء محمد مبارك الماركسي إلى بغداد من مدينة الحلة التي تحمل عبق وسحر التاريخ البابلي عام 1958 بأمر حزبي من سكرتير الحزب الشيوعي العراقي آنذاك سلام عادل، كما شهد بذلك أحد المقربين منه وزميله الدكتور جليل كمال الدين في الندوة التي أقيمت ببغداد مؤخراً حول حياة الفقيد وفكره، حاملاً عقلية المثقف العضوي المنضوي تحت راية الفكرة الثورية حيث السعي إلى التأثير في الواقع وتغييره. ولكن ظل الاشتباك بين الثقافي والسياسي يمثل إشكالية صعبة الحل لدى محمد مبارك لم يتسن له النجاح في حلها على نحو مرض. لم يبق محمد مبارك أسير الفكر الماركسي التقليدي، بل اتجه إلى آفاق فكرية وفلسفية رحبة وبان اتجاهه العقلاني الواسع منذ بواكير كتاباته واتضح ذلك في كتابه الأول "الكندي فيلسوف العقل" الذي أكد انحيازه إلى الفكر العقلاني البعيد عن المغالاة والتطرف ودافع عن الفلسفة والفكر مثلما دافع عن أصالة الفلسفة العربية ضد من يتهمونها بالتبعية للفلسفة الغربية مثبتاً من خلال ذلك تعمقه الشديد بالتراث العربي والإسلامي وقراءته العلمية الخاصة لهذا التراث البعيدة عن التعصب والانغلاق، مفنداً الآراء الاستشراقية غير الموضوعية التي تنظر بتعال غير مبرر لمنجز العرب الفلسفي. كان مبدأه يستند إلى مقولة للإمام علي وهو أن "الحجة تقرع بالحجة". كما أنه كان يرى في التراث الفكري الإنساني عبارة عن سلسلة متواصلة من الجهود التي تتواصل مع بعضها البعض والتي تكمل بعضها من دون انقطاعات وقد شارك الجميع فيها. لذلك من غير الموضوعية ولا من الأمانة تجاهل الواحد لجهود الآخر.
لكن الفلسفة لم تكن الميدان الوحيد الذي كان لمحمد مبارك فيه حرية التنزه والتجوال، فهو في حقيقة الأمر، وكما وصفه بيان النعي الذي أصدره اتحاد الأدباء في العراق عنه، عشرة رجال في رجل واحد، إذ ألف في الفكر والأدب وعلم الاجتماع والمسرح والسياسة. ففي نقد الشعر كان مبارك ناقداً بارزاً للشعر وقد ألف في ذلك الدراسات الرصينة الكثيرة عن ظواهر وقامات شعرية كثيرة ضمها في كتابه المهم "في الوعي الشعري" الذي صدر ببغداد عام 2004، وهو يقع في 450 صفحة والذي درس فيه خمسة وعشرين موضوعاً من بينها الأدب والهوية القومية والشعر والسايكولوجيا والفلسفة والنقد وفي النظرية الشعرية وقصيدة النثر ودراسات تطبيقية عن المتنبي والجواهري وعبدالوهاب البياتي والسياب وسعدي يوسف وحسب الشيخ جعفر. غير غافل المنجز الشعري لدي الأجيال الشعرية الجديدة مثل وسام هاشم وعبدالخالق كيطان على سبيل المثال. كان محمد مبارك في نقده الشعري مثال للناقد الواعي لأدواته النقدية ذو الحساسية الدقيقة للإبداع في اللغة الشعرية، منتبه لمزالق الشعراء وسطوعهم. وكان من بين القلائل من النقاد ممن يتذوقون بفنية عالية الإنجاز الحقيقي في بناء القصيدة العربية الكلاسيكية وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر الحديثة في الوقت نفسه. ولذلك قرأنا له دراسات على المستوى نفسه من الدقة النقدية للأنماط الشعرية الثلاثة التي اتسم بها الشعر العراقي والعربي في العصر الحديث وخلال ثلاث حقب متعاقبة. وكان منهج مبارك النقدي أنه يؤمن بالرسالة الاجتماعية للأدب ولذلك من الضرورة أن يحافظ الأدب على هذه الوظيفة ولا يخاطر بها من أجل تكريس النزعات الجمالية البحتة على الرغم من قناعته التامة بقيمة اللعب الحر والجمالي للبنية الشعرية.
إن تصدي مفكر وناقد من مستوى محمد مبارك للشعراء الشباب الذين يكتبون قصيدة النثر لهي دلالة على سعة ذهنيته في اكتشاف كل ما هو خالد وفعال في التجربة الإبداعية وعدم النظر إلى الجديد بأنه بدعة ضالة أو انحراف عن مسار الشعر العربي الذي لم يخرج عن سكة الأوزان والقوافي الخليلية. لكن محمد مبارك شخص حالة الوهم المنفلت والإبهام والانطواء على الذات المستشرية في تجارب كثيرة لقصيدة النثر، إلا أن تجربة عبدالخالق كيطان، كما يراها هو، ترتفع "بطاقة الوهم هذه إلى صعيد الوعي اللغوي وتحررها من أعباء تشكلاتها الكاذبة في الجزئي والاعتباطي من مدركات الحس التي يستوي فيها الانسان وبقية الأحياء مما هو دونه، ولتتفرد طاقة إبداع وخلق في صعيد من الوعي الكلي الباذخ، والذي لا يقف في صياغاته وتشكلاته الجمالية عند رصد المتعين المحدود وانما يجوزه إلى ما ينتظم هذا المتعين من صيرورة لا تني تتقدم به جديداً ليس له أن يستقر على حال ولكن ليتابع صوراً وأوضاعاً مضطردة التشكل والصياغات الجمالية المتجددة أبداً وبذلك تتقدم هذه التجربة الشابة بالقصيدة وعياً في اللغة وباللغة لتحيط بالماحول صيرورة وتستوعبه نبضاً وايقاعاً تتفجر معهما المنطويات والطاقات لغة تثري اللغة ومدركات وحدوساً تصير بالانسان إلى أصعدة عتيدة في الوعي اللغوي والحساسية الجمالية والاستشرافات الذهنية الراقية، محققة بذلك انتقال القصيدة من الغناء- حيث الذات مرهونة بالحواس ووعيها الأولي أدواتها الخلقية- الفسلجية، إلى وعي الآخر وتحصيل اطراداته وقوانينه، التي يتشكل هو بها كينونته وهويته... "، كما نقرأ ذلك في مقالته عن شعر عبدالخالق كيطان.
وكان المسرح من الميادين الرحبة التي جال فيها عقل محمد مبارك بكل حرية. وربما كان ميله للجدل والحوار هما من قرباه إلى هذا الفن فكتب فيه الكثير من المسرحيات التي كانت جلها من المسرحيات الفكرية التي جرب كتابتها أكثر من الأنماط المسرحية الأخرى. لقد حاول مبارك في تجاربه المسرحية ترسيخ نماذج عربية خاصة مثلما ترسخ نموذج هاملت والملك لير وفاوست على سبيل المثال، ولذلك لجأ إلى التاريخ. والحقيقة أن النقد لم يكشف لنا مستوى نجاح محمد مبارك في هذا المسعى.
وبعد التغيير الدرامي الذي حدث في العراق بعد 9/4/2003 ولثقة مبارك بالدور القيادي الذي حري بالمثقف أن يقوم به في وقت الأزمات التي تمر بها بلاده فقد انخرط في العمل الإعلامي والسياسي المباشر والحر وعمل رئيسا لتجرير الجريدة السياسية اليسارية "القاسم المشترك"، لكن الواقع العراقي أبى إلا أن يكون صادماً وقاهراً مما أصاب محمد مبارك بخيبة الأمل وربما الذهول وهي الحالة التي شوهد عليها مبارك في الفترة الأخيرة جدا من حياته من خلال زياراته لأصدقائه ، كما بين ذلك الفنان عزيز خيون وهو يدلي بشهادته عن مبارك، ومن خلال حضوره الدائب لندوات اتحاد الأدباء، إذ كان من الواضح عليه الانشداه وتشتت الذهن حتى وافاه الأجل يوم 29/8/2007.
مدني صالح منذ أن عرف طريقه من مدينته الريفية هيت إلى ثانوية الرمادي ليدرس اللغة العربية والأدب على يدي أهم شاعرين معاصرين هما السياب والبياتي، كان مدني صالح متمرداً له الثقة العالية بنفسه وعقله. وقد منحته هذه الثقة العالية بالنفس حصانة ضد الخضوع لإملاءات الآخرين وغطرستهم. وقد ضحى من أجل ذلك بأشياء باهضة الثمن مثل شهادة الدكتوراه من جامعة كامبردج التي سافر من أجل نيلها والتي لم يتوان عن رفضها مادامت لا تمنح له إلا بالتنازل والخضوع لقوانين هذه الأكاديمية الصارمة التي لم تكن تتماشى مع قوانين العقل والمنطق عند مدني صالح. حين وجد مدني أن استاذه يقف موقف المتعصب ضد الفلسفة الإسلامية ولم يرض برأي مدني صالح أن لرواية حي بن يقظان التأثير الواضح في رواية "روبنسن كروزو" لدانيال ديفو وطالبه بإجراء تغييرات كثيرة، ووقفت اللجنة المشرفة مع هذا الاستاذ رفض الانصياع لما طالبوه به من تغييرات، لاعتقاده الجازم بعدم عدالة ذلك الموقف والانحياز الفاضح للمشرف على الرسالة واللجنة المشرفة لما يفترضونه بالمركزية الغربية التي يناهضها مدني بكل ما أوتي من معرفة. المفارقة هنا أن هذه الأكاديمية نفسها عادت بعد زمن لتقر لمدني صالح بالتميز الذهني والعقلي.
جاء مدني صالح إلى الأدب عن طريق الفلسفة، إذ سجل عبر كتابه (الوجود) ريادته الفلسفية الاولى، كما هو حال زميله محمد مبارك. وقد قسمت أعماله الفكرية إلى مراحل ثلاث مهمة: هي أولا المرحلة الأدبية التي كتب فيها النقد الأدبي في كتبه "هذا هو السياب" و"هذا هو البياتي" و"مقامات مدني صالح". وعندما اصدر كتابه: (مقامات مدني صالح- 1989) صنف الناس إلى ثلاثة:
عابث مدفوع إلي الحياة بغرائزه. ومتشكك بقدرة المعرفي علي اجتراح معجزة الإنماء. ومخلوق على آبائه يتسول علي الطارئ.
وقال مدني صالح لكل هؤلاء: اخرسوا فأنتم بكم صم منذ ولدتكم أمهاتكم، ثم يضحك مدني على حياة أولئك. وقد تميزت هذه المرحلة باسلوب مدني المتفرد في الكتابة الساخرة والجديدة الذي لا أحد يكتب به إلا مدني صالح.
والمرحلة الثانية هي المرحلة التي تداخلت فيها أعماله الفلسفية والأدبية فكانت كتبه، (ابن طفيل - قضايا ومواقف) و(الغزالي وفلسفة النشوء والارتقاء) و(رسالة التربيع والتدوير للجاحظ) وكتابات أخرى بين بحث ومقالة.
أما المرحلة الثالثة التي تعد أهم مراحل الحياة الفكرية عنده، والتي يمكن تسميتها بالمرحلة الاستشرافية، تؤرخ بدايتها مع عام 1997، والتي توجها بكتابين هما (ما بعد الطوفان) و(خراب الفلسفة) وكتاباته حول فلسفة التاريخ والحضارة. في كتابيه "ما بعد الطوفان" و"خراب الفلسفة" سعى مدني صالح إلى أن يوصل للقارئ لب فلسفته وخبرته في هضم الفلسفة لتأسيس موقف فكري يمكن أن يشخص حالة العلاقة المتوترة بين "كروزو" و"فرايدي" (شخصيتا رواية دانيل ديفو) كونهما يمثلان طرفي معادلة مختلة دائما بين الكولونيالي والمواطن الخاضع له، بين المحتكر والمستهلك، بين المالك لوسيلة الإنتاج والآلة والأجير، وأخيرا بين السيد والعبد. لقد نبهنا صالح هنا أن من الوهم الاعتقاد أن ثمة صراعاً بين الشرق والغرب فلم يعد الصراع بين غرب وشرق كما يحاول (كروزو) أن يوهمنا بذلك بقصد إدخالنا في صراعات وهمية، بل هو صراع بين التاجر المحتكر الذي يدور حول محور: (التجارة.. الحرب.. الاحتكار) ضد آل فرايدي وهم شعوب العالم أجمع الخاضعة لسطوة وسيطرة آل كروزو المحتكرين.
لقد استطاع مدني صالح بشهادات زملائه وطلابه أن يقرب الفلسفة إلى القارئ من دون أن يخل بعمق ما يكتبه. كما سعى من خلال دراساته الأخيرة خصوصاً لتأسيس فكر عربي يستوعب الفكر العالمي ويضع يده على الجرح في أسباب التدهور السياسي والاجتماعي والاقتصادي التي تعيشها الأمم الفقيرة، والتي من أهمها حسب وجهة نظر مدني صالح الحالة لدى (فرايدي) في استمراء التبعية والتخاذل للمستعمر الكولونيالي الجديد، أو ما يسمى أيضاً بالسوبر كولونيالي، وعدم احترام النفس. وقد اقترح الحل لهذه العلاقة الشاذة بالنهضة الحقيقية في احترام الأنا لذاتها، والانفتاح على الآخر المختلف، فليس أمام فرايدي العربي سوى هذا الخيار الواحد للتحرر من سطوة السيد كروزو وآلته. وعليه عدم التفريط بحقه والتأسيس على جذر ثقافي ثابت.
كان هاجسه الاساس هو كيفية أن يجعل من الفلسفة رؤية عقلية وموقفا نقديا للواقع، يؤمن بالمنهج الأستقرائي عبر الانتقال من الجزئيات الى الكليات. لقد هاجم مدني صالح النزعة الأستشراقية القائمة على القول بمركزية الغرب وهامشية الشرق، على الرغم من أنه يستوعب الكثير من إيجابيتها، ولكنه في الوقت نفسه يجد في الأستشراق نزعة تميل الى تأكيد القول بأفضلية الغرب على الشرق، المنسجمة مع ما ذهب اليه كل من (رينان) و(مونك) وغيرهما من القائلين بأرجحية العقل الآري (الغربي) على العقل السامي (الشرقي). إنها نزعة مبنية اساسا على تجهيل الاخر، قادمة مع الغرب الكولنيالي المحتكر المستعمر وهذا الموقف لا ينطوي على نزعة تشكيكية اتجاه الاخر تؤمن بنظرية المؤامرة بقدر ما هي اتجاه تشخيصي علمي لكثير من النزعات الاستشراقية.
لقد شغلت فكرة العدل بمعناها السياسي والفلسفي والوضعي على الدوام في أعماله، وفي علاقاته، وفي حروف كتاباته. عرف عن مدني صالح زهده بالمناصب والسعي إليها بل كان يحيد عنها حتى حين تعرض عليه. كما عرف عنه عزوفه عن المهرجانات وموائد السلطات الرسمية التي كان يراها بعيدة عن الاهتمام الفعلي بالثقافة. مما جعله يؤثر العزلة والانكفاء في بيته.
"بصمت شبيه بإعتكافه ، رحل أستاذ الفلسفة المفكر والناقد والأديب اللامع مدني صالح بعد حياة أكاديمية وإبداعية ثرة كان خلالها سيداً لكثير من النقاشات والحوارات على صفحات الجرائد والدوريات كافة، وكانت حجته دالة، وموقفه وطنياً تقدمياً ، محبا لشعبه وعراقه ورموزهما الثقافية، وتربى الكثير بهديه في رحلة الدراسة والكتابة والحياة". هكذا نعاه بيان اتحاد الأدباء.