رسالة المغرب الثقافية
نداء اللعبي والمغرب الممكن
انتهى الاستحقاق الانتخابي في المغرب، محطة السابع من شتنبر/أيلول 2007، بأن أعطى خريطة سياسية جديدة. ووزير أول هذه المرة يعين من الحزب المتوج بأعلى المقاعد. لكن هذا الاستحقاق الانتخابي لم يخف فشل الكثير من نبوءات التوقع بل والانتظارات السياسوية لبعض الخطابات. إذ لم يكتسح حزب العدالة والتنمية «الأصولي» البرلمان وبأغلبية مريحة كما كان ينتظر البعض، «ومنها على الخصوص استطلاعات الرأي الأمريكية، وبعض الدول الأوروربية». بل اكتفى بالرتبة الثانية، خلف حزب الاستقلال، الحزب الذي تبوأ مكانة يرى فيها البعض تتويجا له على حس ترويضه السياسي. كما أفرزت انتخابات 7 شتنبر/أيلول، تراجعا مثيرا لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الحزب الذي دفع ضريبة التزام أخلاقي في دفاعه على حصيلة الحكومة التي كانت تتكون من ألوان متعددة، وما حزب الاتحاد الاشتراكي إلا واحدها. معادلة أخرى تستحق التأمل هي نكسة اليسار في هذا الاستحقاق الانتخابي، النكسة التي أمست تطالب هذا الائتلاف بإعادة النظر في أبجديات رؤية الواقع وإنتاج الخطاب. لكن ما يدفع أكثر للتأمل هو نسبة المشاركة التي لم تتجاوز نسبة 37 في المائة. وهو ما يطرح أكثر من سؤال على هذه الأغلبية الصامتة، والتي حولت الحكومة المقبلة الى حكومة أقلية. لقد أمسى بإمكان المواطنين المغاربة أن يتعرفوا على التركيبة النهائية لانتخابات 7 شتنبر 2007 من خلال موقع الكتروني قدمت من خلاله وزارة الداخلية المغربية النتائج النهائية للانتخابات النيابية في 7 أيلول 2007، تأكيداً وحرصا على "شفافية" وتمكن هذه المباردة المواطن أن يكون أمام حقائق وأرقام، تكشف الوزن الفعلي لكل حزب سياسي، وتقدم جغرافية توزيع الأصوات وبالتفصيل. لكن ما يهمنا نحن بعد انتهاء هذا الاستحقاق الذي كان من المأمول أن يكون عرسا انتخابيا نحتفي فيه بديمقراطيتنا التليدة. هو علاقة المثقف المغربي بالانتخابات وبالمشهد السياسي في المغرب. هذا المشهد الذي يبقى دائما رهين لاعتبارات أبعد ما تكون عن الخطاب السياسي، إذ يتداخل السوسيو-ثقافية مع الاقتصادي مع القبلي والعشائري، مع منظومات أنتروبولوجية قادمة من المغرب العميق. إذ يكفي أن نعود للمعادلة التي أشرنا إليها في البداية: كيف يمكن لحكومة قادمة أن تحكم بتصويت أربعة ملايين و700 ألف، علما أن المسجلين هم 15.5 مليون؟ انتخابات 7 شتنبر 2007 ظلت محكومة برهانات كبرى منها "اعتبارها بمثابة مدخل حقيقي لتعزيز مسلسل الإصلاحات وتعزيز الخيار الديموقراطي.."، أيضا "نتيجة أولية لبنود العهد الجديد". وهذا ما فسر حرص الإدارة على ضمان مرورها في جو من "النزاهة الكفيل بتحقيق نوع من تكافؤ الفرص بين كافة المرشحين"، لكن يبدو أن قطار "مسار انتقال ديموقراطي حقيقي" لا زال معطلا. ولا زالت المصالحة مع الشأن السياسي، بعيدة عن أفق الشعب المغربي. المثقف المغربي ظل على هامش هذه "اللعبة الديمقراطية" محكوما بكيانه المستقل، وهذا المعطى ظل محكوما أيضا بنسق السياسي في المغرب في علاقته مع الثقافي. إذ يحدد دور المثقف ومسؤوليته الوطنية في تحويل الاستحقاق الانتخابي الى "مشروع وطني توحيدي للقوى المعارضة وإرادات التغيير لترسيخ الانتماء الى الهوية الأساسية، ذات الأولوية وهي الهوية الوطنية". انتخابات هذه السنة عرفت مسارا مختلفا جاء من شاعر بميولاته اليسارية المعروفة قديما، الشاعر عبد اللطيف اللعبي. والذي أطلق نداء، رفقة مجموعة من المثقفين، محذرا من الظلامية والتطرف. النداء قوبل بالصمت مما أعيد معه السؤال المطروح ما دور وطبيعة حضور المثقف في المشهد السياسي المغربي؟ "نداء من أجل ميثاق ديمقراطي": دعا الكاتب والشاعر عبداللطيف اللعبي إلى ميثاق ديموقراطي يقف في وجه "الظلامية" في المغرب، النداء صدر في باريس، وحمل توقيع 92 من مثقفين وسياسيين مغاربة، ويؤكد في مستهله أن "ريح الحرية التي هبت على بلادنا، قد رجت العديد من الطابوهات التي عاقت النقاش الوطني لمدة طويلة. كما أنها سمحت بانبثاق وعي مواطن جديد، وتعبيد الطريق بشكل يستدعي الإعجاب لروح المبادرة والإبداع في المجتمع المدني". ويستدرك ليؤكد على أن "هذه الدفعة التحررية الحاملة للتجديد، تصطدم بهبوب رياح معاكسة سائدة منذ عقود، وتتخذ اليوم شكل تيار جارف يهدد الأسس الإنسانية التي يقوم عليها البيت المغربي. وكبديل للاعتباط الكلي الذي قوض في الماضي المشروع الديمقراطي، تتشكل حاليا حركة رجعية ظلامية تريد التحكم في مجتمعنا وفق نمط أكثر تقليدية، مستهدفة كل القيم التي ناضلت من أجلها الحركة التقدمية وقدمت العديد من التضحيات منذ الاستقلال". كما لا يغفل النداء الإشارة إلى أنه "في الوقت نفسه الذي بدأ ينقشع فيه النور من منتهى عتمة السرداب، يشرع مغتالو الأمل في خنق مخرج الانعتاق". ويحسم القول بأنه "قد حان الوقت بالنسبة للديمقراطيين في بلادنا، كي يستشعروا حجم هذا الخطر الداهم، وانعكاساته السلبية التي خلفها ولازال في وسط أوسع شرائح الشعب، ناهيك عن نزعة الشك التي يزرعونها في صفوفهم. وليس في الأمر تهويل أو تقليل من هذا الخطر، ولكنه يتعلق بتحمل مسؤولية انعتاق عمومي، يستند على إيقاظ شعلة النضال الديمقراطي والقيم التي ينبني عليها. نضال في حجم التصدي وإفشال موجات التشاؤم والقدرية والتشكي العقيم التي يغذيها أولئك الذين لهم مصلحة في تقديم المغرب كبلد يتراجع أكثر منه يتقدم، والذين يتهيأون اعتمادا على هذا التشخيص المغلوط لجر البلاد إلى الكارثة". يقوم هذا النداء بالتوعية كذلك بأن "اللحظة تقتضي اليقظة، وتعبئة الطاقات وتجميعها، ليس فقط من أجل الوقوف سدا منيعا أمام المعسكر المحافظ خلال الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، وإنما الهدف أبعد من ذلك، هو جعل المشروع الديمقراطي الواعد بالحرية والتعددية والحداثة والتقدم المادي والمعنوي، هو المشروع الوحيد الذي يمكن أن يعيد لشعبنا كرامته، ويستجيب بوضوح إلى طموحاته في العدالة والمساواة والأمن، وأن يجعله يتذوق من جديد طعم العيش في مستقبل واعد بالازدهار له وللأجيال القادمة". كما أنه لا يتردد في الاعتراف بأن "معركة بهذا الحجم وبهذه الأهمية، لا يتم ربحها إذا ظل الديمقراطيون على حال الشتات. إن المعسكر الديمقراطي مدعو أكثر من أي وقت مضى إلى رص الصفوف وتوحيدها، لوضع حد لمسار التمزق والتجزيء الذاتي. وسيكون النجاح حليفه بكل تأكيد، خاصة إذا انكب بدون تأخر على مهمة إعادة بناء هويته، وإحياء فكره وممارساته. مما سيوفر له رؤية متجددة لواقعنا، ومقاربة أكثر موضوعية لمجموع القوى الحية القادرة على دفع المجتمع للانخراط والتعبئة في المشروع الديمقراطي". ليخلص بعد ذلك إلى أن " بلورة ميثاق الشرف هذا، تكتسي طابعا استعجاليا. ومع ذلك، فلا قيمة لهذا الميثاق إذا صدر في صيغة نهائية جاهزة عن جهة ما. بل إن الحوار العلني، بمشاركة كل الطاقات، هو الذي يضمن له وزن الحقيقة وقوة الإقناع. وباعتباره ثمرة للفكر الجماعي، سيلزم هذا الميثاق بشكل أكبر كل طرف شريك في المعركة التي سيعتبرها معركته، ويعي تمام الوعي بأن رهانه الحقيقي فيها هو إفشال الأغراض الرجعية و نصرة الإختيارات الديمقراطية". داعيا في الختام إلى "العمل من أجل هذا الميثاق الموحد كي تنهض العائلة الديمقراطية، وترفع عاليا شعلة الأمل، والقيم الإنسانية والتقدم!". يذكر أن الشاعر عبد اللطيف اللعبي يعتبر من الفاعلين في التيار الماركسي اللينيني بالمغرب، نهاية ستينيات القرن الماضي، وتعرض للاعتقال سنة 1972، وحوكم بعشر سنوات سجنا نافذا، قضى منها 8 سنوات، إذ أطلق سراحه سنة 1980، في أعقاب عفو ملكي. واقترن اسمه في الميدان الثقافي والفكري بظهور مجلة"أنفاس" عام 1966 وإشرافه على إدارتها، باللغة الفرنسية ثم بالعربية. وبادرت المجلة إلى طرح أسئلة جريئة في حينها حول الثقافة والفن بارتباط مع الواقع الاجتماعي والسياسي، ومتطلبات المرحلة.كما أولت اهتمام خاصا بالقضية الفلسطينية، التي شكلت آنذاك قضية أساسية على الساحة الوطنية والعربية . وفي سنة 1968 أسس "جمعية البحث الثقافي" رفقة أبراهام سرفاتي، وفي الإنتاج الأدبي، جمع اللعبي بين الشعر والرواية والمسرح، وكان أول من ترجم الشعر الفلسطيني المعاصر، وبالخصوص الشاعر محمود درويش، إلى اللغة الفرنسية. ومن أهم ما صدر له من دواوين شعر "الشمس تحتضر"، و"شجون الدارالبيضاء"، و"الخريف واعد"، وفي المسرح "تمارين في التسامح"، و"رمبو وشهرزاد"، وفي الرواية "تجاعيد الأسد"، و"قعر الجرة"، وحصل الشاعر عبداللطيف اللعبي على جوائز أدبية، مثل جائزة "ألان بوسكيه" الفرنسية للشعر . السياق والأفق: المغرب الممكن الاحتفاء بصدور البيان لم يترجم على مستوى الواقع الى خلق نقاش حقيقي مطلوب، ولو برؤية الأنتروبولوج المغربي <مقيم في أمريكا> عبدالله حمودي، الذي لم يوقع على البيان، بحكم أنه طالب بتحديد بعض المفاهيم، لكنه في المقابل رأى في البادرة أفقا أوليا يمكن من خلال نقاش حقيقي، بين المثقفين المغاربة، حول مغربهم الممكن. كان بالإمكان كما رصدت ذلك المبدعة ربيعة ريحان في أن يتحول النداء الى لحظة تاريخية حقيقة يضطلع فيها المثقف برأسماله الرمزي والمعرفي لإنتاج لحظة فكرية راقية. ولعلها أيضا مناسبة كي يعيد المثقف مكانته المسؤولة القادرة على استيعاب دوره الريادي. الكثيرون رأوا في الصورة التي بناها اللعبي لنفسه، وبتعبير الناقد عبد الحميد عقار، "مثقفا ديناميا لا يتردد في إبداء الرأي والإنتقاد بجرأة ووضوح، مثقفا يستوعب المتغيرات، ويعيد بكفاءة ووعي"، وهي الصورة التي استثمرها بشكل جيد في حرص بالغ على إعادة ترويض النقاش المعرفي والفكري الحقيقي، ليتمكن المثقف من القيام بدوره الوظيفي في النقد والانتقاد. لكن، النقاش ظل محصورا في التصورات المطروحة أساسا في البيان المعمم، وظل الأمر، كما العادة، يقف عند حدود ضبط هوامش المصطلحات، والسياق. علما أنه كان بإمكان المثقفين المغاربة أن يحولوا البيان نفسه، الى حلقة موسعة للنقاش، نقاش يستدعي المغرب "المرغوب في استكمال بنائه وتتويجه بدولة المؤسسات". الحرص على انتقاد البيان في وقوفه على المد الظلامي وحصره كسياج للديمقراطية الحقة، حول عمليا كل أمل في أن تتحول لحظة التوقيع الى لحظة جدال حقيقي ومركزي، وهو الجدال الذي بدت ملامحه بعد انتهاء الاستحقاق الانتخابي. عندما تبين بالملموس التحاق المثقف المغربي بأغلبية صامتة، لكنها ليس في شرف الصمت. بل في نكوصها الدائم وجعلها سكة النقاش الديمقراطي الحقيقي الفضاء الأوسع أو الخيمة الواسعة للمثقفين المغاربة تتحول فضاء أقلية تربط النقاش والنقد والانتقاد وتحمل المسؤولية التاريخية والمجازية والرمزية بالحلم المؤجل، تماما كهذا المغرب المؤجل الى حين. إن انخراط المثقفين في الحياة السياسية بمعناه الواسع هو شرط أفق النداء، لكن إقامة صرح عريض للمثقفين وجبهة قوية لكل الديمقراطيين هو أفق ممكن، ولعل السياق السياسي اليوم الذي يمر منه المغرب كفيل بإعطاء هذه الديناميكية الفاعلية المرجوة. المثقف ليس صانع أحلام ولا يحمل "قفة" خيال يتسكع بها في محطات هلامية، المثقف قوة انتقادية أساسية لبناء صرح هذا المغرب الممكن..مغرب الحداثة والديمقراطية. Alkalimah_maroc@yahoo.com
انتهى الاستحقاق الانتخابي في المغرب، محطة السابع من شتنبر/أيلول 2007، بأن أعطى خريطة سياسية جديدة. ووزير أول هذه المرة يعين من الحزب المتوج بأعلى المقاعد. لكن هذا الاستحقاق الانتخابي لم يخف فشل الكثير من نبوءات التوقع بل والانتظارات السياسوية لبعض الخطابات. إذ لم يكتسح حزب العدالة والتنمية «الأصولي» البرلمان وبأغلبية مريحة كما كان ينتظر البعض، «ومنها على الخصوص استطلاعات الرأي الأمريكية، وبعض الدول الأوروربية». بل اكتفى بالرتبة الثانية، خلف حزب الاستقلال، الحزب الذي تبوأ مكانة يرى فيها البعض تتويجا له على حس ترويضه السياسي. كما أفرزت انتخابات 7 شتنبر/أيلول، تراجعا مثيرا لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الحزب الذي دفع ضريبة التزام أخلاقي في دفاعه على حصيلة الحكومة التي كانت تتكون من ألوان متعددة، وما حزب الاتحاد الاشتراكي إلا واحدها. معادلة أخرى تستحق التأمل هي نكسة اليسار في هذا الاستحقاق الانتخابي، النكسة التي أمست تطالب هذا الائتلاف بإعادة النظر في أبجديات رؤية الواقع وإنتاج الخطاب. لكن ما يدفع أكثر للتأمل هو نسبة المشاركة التي لم تتجاوز نسبة 37 في المائة. وهو ما يطرح أكثر من سؤال على هذه الأغلبية الصامتة، والتي حولت الحكومة المقبلة الى حكومة أقلية. لقد أمسى بإمكان المواطنين المغاربة أن يتعرفوا على التركيبة النهائية لانتخابات 7 شتنبر 2007 من خلال موقع الكتروني قدمت من خلاله وزارة الداخلية المغربية النتائج النهائية للانتخابات النيابية في 7 أيلول 2007، تأكيداً وحرصا على "شفافية" وتمكن هذه المباردة المواطن أن يكون أمام حقائق وأرقام، تكشف الوزن الفعلي لكل حزب سياسي، وتقدم جغرافية توزيع الأصوات وبالتفصيل.
لكن ما يهمنا نحن بعد انتهاء هذا الاستحقاق الذي كان من المأمول أن يكون عرسا انتخابيا نحتفي فيه بديمقراطيتنا التليدة. هو علاقة المثقف المغربي بالانتخابات وبالمشهد السياسي في المغرب. هذا المشهد الذي يبقى دائما رهين لاعتبارات أبعد ما تكون عن الخطاب السياسي، إذ يتداخل السوسيو-ثقافية مع الاقتصادي مع القبلي والعشائري، مع منظومات أنتروبولوجية قادمة من المغرب العميق. إذ يكفي أن نعود للمعادلة التي أشرنا إليها في البداية: كيف يمكن لحكومة قادمة أن تحكم بتصويت أربعة ملايين و700 ألف، علما أن المسجلين هم 15.5 مليون؟
انتخابات 7 شتنبر 2007 ظلت محكومة برهانات كبرى منها "اعتبارها بمثابة مدخل حقيقي لتعزيز مسلسل الإصلاحات وتعزيز الخيار الديموقراطي.."، أيضا "نتيجة أولية لبنود العهد الجديد". وهذا ما فسر حرص الإدارة على ضمان مرورها في جو من "النزاهة الكفيل بتحقيق نوع من تكافؤ الفرص بين كافة المرشحين"، لكن يبدو أن قطار "مسار انتقال ديموقراطي حقيقي" لا زال معطلا. ولا زالت المصالحة مع الشأن السياسي، بعيدة عن أفق الشعب المغربي.
المثقف المغربي ظل على هامش هذه "اللعبة الديمقراطية" محكوما بكيانه المستقل، وهذا المعطى ظل محكوما أيضا بنسق السياسي في المغرب في علاقته مع الثقافي. إذ يحدد دور المثقف ومسؤوليته الوطنية في تحويل الاستحقاق الانتخابي الى "مشروع وطني توحيدي للقوى المعارضة وإرادات التغيير لترسيخ الانتماء الى الهوية الأساسية، ذات الأولوية وهي الهوية الوطنية".
انتخابات هذه السنة عرفت مسارا مختلفا جاء من شاعر بميولاته اليسارية المعروفة قديما، الشاعر عبد اللطيف اللعبي. والذي أطلق نداء، رفقة مجموعة من المثقفين، محذرا من الظلامية والتطرف. النداء قوبل بالصمت مما أعيد معه السؤال المطروح ما دور وطبيعة حضور المثقف في المشهد السياسي المغربي؟
"نداء من أجل ميثاق ديمقراطي": دعا الكاتب والشاعر عبداللطيف اللعبي إلى ميثاق ديموقراطي يقف في وجه "الظلامية" في المغرب، النداء صدر في باريس، وحمل توقيع 92 من مثقفين وسياسيين مغاربة، ويؤكد في مستهله أن "ريح الحرية التي هبت على بلادنا، قد رجت العديد من الطابوهات التي عاقت النقاش الوطني لمدة طويلة. كما أنها سمحت بانبثاق وعي مواطن جديد، وتعبيد الطريق بشكل يستدعي الإعجاب لروح المبادرة والإبداع في المجتمع المدني". ويستدرك ليؤكد على أن "هذه الدفعة التحررية الحاملة للتجديد، تصطدم بهبوب رياح معاكسة سائدة منذ عقود، وتتخذ اليوم شكل تيار جارف يهدد الأسس الإنسانية التي يقوم عليها البيت المغربي. وكبديل للاعتباط الكلي الذي قوض في الماضي المشروع الديمقراطي، تتشكل حاليا حركة رجعية ظلامية تريد التحكم في مجتمعنا وفق نمط أكثر تقليدية، مستهدفة كل القيم التي ناضلت من أجلها الحركة التقدمية وقدمت العديد من التضحيات منذ الاستقلال".
كما لا يغفل النداء الإشارة إلى أنه "في الوقت نفسه الذي بدأ ينقشع فيه النور من منتهى عتمة السرداب، يشرع مغتالو الأمل في خنق مخرج الانعتاق". ويحسم القول بأنه "قد حان الوقت بالنسبة للديمقراطيين في بلادنا، كي يستشعروا حجم هذا الخطر الداهم، وانعكاساته السلبية التي خلفها ولازال في وسط أوسع شرائح الشعب، ناهيك عن نزعة الشك التي يزرعونها في صفوفهم. وليس في الأمر تهويل أو تقليل من هذا الخطر، ولكنه يتعلق بتحمل مسؤولية انعتاق عمومي، يستند على إيقاظ شعلة النضال الديمقراطي والقيم التي ينبني عليها. نضال في حجم التصدي وإفشال موجات التشاؤم والقدرية والتشكي العقيم التي يغذيها أولئك الذين لهم مصلحة في تقديم المغرب كبلد يتراجع أكثر منه يتقدم، والذين يتهيأون اعتمادا على هذا التشخيص المغلوط لجر البلاد إلى الكارثة".
يقوم هذا النداء بالتوعية كذلك بأن "اللحظة تقتضي اليقظة، وتعبئة الطاقات وتجميعها، ليس فقط من أجل الوقوف سدا منيعا أمام المعسكر المحافظ خلال الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، وإنما الهدف أبعد من ذلك، هو جعل المشروع الديمقراطي الواعد بالحرية والتعددية والحداثة والتقدم المادي والمعنوي، هو المشروع الوحيد الذي يمكن أن يعيد لشعبنا كرامته، ويستجيب بوضوح إلى طموحاته في العدالة والمساواة والأمن، وأن يجعله يتذوق من جديد طعم العيش في مستقبل واعد بالازدهار له وللأجيال القادمة". كما أنه لا يتردد في الاعتراف بأن "معركة بهذا الحجم وبهذه الأهمية، لا يتم ربحها إذا ظل الديمقراطيون على حال الشتات. إن المعسكر الديمقراطي مدعو أكثر من أي وقت مضى إلى رص الصفوف وتوحيدها، لوضع حد لمسار التمزق والتجزيء الذاتي. وسيكون النجاح حليفه بكل تأكيد، خاصة إذا انكب بدون تأخر على مهمة إعادة بناء هويته، وإحياء فكره وممارساته. مما سيوفر له رؤية متجددة لواقعنا، ومقاربة أكثر موضوعية لمجموع القوى الحية القادرة على دفع المجتمع للانخراط والتعبئة في المشروع الديمقراطي".
ليخلص بعد ذلك إلى أن " بلورة ميثاق الشرف هذا، تكتسي طابعا استعجاليا. ومع ذلك، فلا قيمة لهذا الميثاق إذا صدر في صيغة نهائية جاهزة عن جهة ما. بل إن الحوار العلني، بمشاركة كل الطاقات، هو الذي يضمن له وزن الحقيقة وقوة الإقناع. وباعتباره ثمرة للفكر الجماعي، سيلزم هذا الميثاق بشكل أكبر كل طرف شريك في المعركة التي سيعتبرها معركته، ويعي تمام الوعي بأن رهانه الحقيقي فيها هو إفشال الأغراض الرجعية و نصرة الإختيارات الديمقراطية". داعيا في الختام إلى "العمل من أجل هذا الميثاق الموحد كي تنهض العائلة الديمقراطية، وترفع عاليا شعلة الأمل، والقيم الإنسانية والتقدم!".
يذكر أن الشاعر عبد اللطيف اللعبي يعتبر من الفاعلين في التيار الماركسي اللينيني بالمغرب، نهاية ستينيات القرن الماضي، وتعرض للاعتقال سنة 1972، وحوكم بعشر سنوات سجنا نافذا، قضى منها 8 سنوات، إذ أطلق سراحه سنة 1980، في أعقاب عفو ملكي. واقترن اسمه في الميدان الثقافي والفكري بظهور مجلة"أنفاس" عام 1966 وإشرافه على إدارتها، باللغة الفرنسية ثم بالعربية. وبادرت المجلة إلى طرح أسئلة جريئة في حينها حول الثقافة والفن بارتباط مع الواقع الاجتماعي والسياسي، ومتطلبات المرحلة.كما أولت اهتمام خاصا بالقضية الفلسطينية، التي شكلت آنذاك قضية أساسية على الساحة الوطنية والعربية . وفي سنة 1968 أسس "جمعية البحث الثقافي" رفقة أبراهام سرفاتي، وفي الإنتاج الأدبي، جمع اللعبي بين الشعر والرواية والمسرح، وكان أول من ترجم الشعر الفلسطيني المعاصر، وبالخصوص الشاعر محمود درويش، إلى اللغة الفرنسية. ومن أهم ما صدر له من دواوين شعر "الشمس تحتضر"، و"شجون الدارالبيضاء"، و"الخريف واعد"، وفي المسرح "تمارين في التسامح"، و"رمبو وشهرزاد"، وفي الرواية "تجاعيد الأسد"، و"قعر الجرة"، وحصل الشاعر عبداللطيف اللعبي على جوائز أدبية، مثل جائزة "ألان بوسكيه" الفرنسية للشعر .
السياق والأفق: المغرب الممكن الاحتفاء بصدور البيان لم يترجم على مستوى الواقع الى خلق نقاش حقيقي مطلوب، ولو برؤية الأنتروبولوج المغربي <مقيم في أمريكا> عبدالله حمودي، الذي لم يوقع على البيان، بحكم أنه طالب بتحديد بعض المفاهيم، لكنه في المقابل رأى في البادرة أفقا أوليا يمكن من خلال نقاش حقيقي، بين المثقفين المغاربة، حول مغربهم الممكن. كان بالإمكان كما رصدت ذلك المبدعة ربيعة ريحان في أن يتحول النداء الى لحظة تاريخية حقيقة يضطلع فيها المثقف برأسماله الرمزي والمعرفي لإنتاج لحظة فكرية راقية. ولعلها أيضا مناسبة كي يعيد المثقف مكانته المسؤولة القادرة على استيعاب دوره الريادي. الكثيرون رأوا في الصورة التي بناها اللعبي لنفسه، وبتعبير الناقد عبد الحميد عقار، "مثقفا ديناميا لا يتردد في إبداء الرأي والإنتقاد بجرأة ووضوح، مثقفا يستوعب المتغيرات، ويعيد بكفاءة ووعي"، وهي الصورة التي استثمرها بشكل جيد في حرص بالغ على إعادة ترويض النقاش المعرفي والفكري الحقيقي، ليتمكن المثقف من القيام بدوره الوظيفي في النقد والانتقاد. لكن، النقاش ظل محصورا في التصورات المطروحة أساسا في البيان المعمم، وظل الأمر، كما العادة، يقف عند حدود ضبط هوامش المصطلحات، والسياق. علما أنه كان بإمكان المثقفين المغاربة أن يحولوا البيان نفسه، الى حلقة موسعة للنقاش، نقاش يستدعي المغرب "المرغوب في استكمال بنائه وتتويجه بدولة المؤسسات".
الحرص على انتقاد البيان في وقوفه على المد الظلامي وحصره كسياج للديمقراطية الحقة، حول عمليا كل أمل في أن تتحول لحظة التوقيع الى لحظة جدال حقيقي ومركزي، وهو الجدال الذي بدت ملامحه بعد انتهاء الاستحقاق الانتخابي. عندما تبين بالملموس التحاق المثقف المغربي بأغلبية صامتة، لكنها ليس في شرف الصمت. بل في نكوصها الدائم وجعلها سكة النقاش الديمقراطي الحقيقي الفضاء الأوسع أو الخيمة الواسعة للمثقفين المغاربة تتحول فضاء أقلية تربط النقاش والنقد والانتقاد وتحمل المسؤولية التاريخية والمجازية والرمزية بالحلم المؤجل، تماما كهذا المغرب المؤجل الى حين.
إن انخراط المثقفين في الحياة السياسية بمعناه الواسع هو شرط أفق النداء، لكن إقامة صرح عريض للمثقفين وجبهة قوية لكل الديمقراطيين هو أفق ممكن، ولعل السياق السياسي اليوم الذي يمر منه المغرب كفيل بإعطاء هذه الديناميكية الفاعلية المرجوة. المثقف ليس صانع أحلام ولا يحمل "قفة" خيال يتسكع بها في محطات هلامية، المثقف قوة انتقادية أساسية لبناء صرح هذا المغرب الممكن..مغرب الحداثة والديمقراطية.
Alkalimah_maroc@yahoo.com