يعد الفيلسوف الألماني مارتن هايديجر أحد أكثر فلاسفة القرن العشرين تأثيرا، وفي هذه الدراسة الضافية التي تنشرها (الكلمة) على حلقات يفكك المفكر التونسي فلسفته ويحلل ميتافيزيقا الغرب عنده.

تأسيس ميتافيزيقا الغرب عند هايديجر

(1 / 3)

محمد مزوز

1 - مقدمة:

لا يملّ كاتب هذه السطور من تكرار رأيه القائل بأن مَن ينقد فكر الفلاسفة الغربيّين لا يجب أن يُحسب على حساب الرجعية الدينية. ليس هناك تلازم سببي بين النقد الجدّي الحرّ وبين اللاعقل الذي تروّج له الحركات الإسلاموية والقومية الشوفينية. مُنطلق الفيلسوف، هو منطلق كلّي انسانوي، لائكي (علماني)، رافض، من حيث المبدأ، لكلّ التمظهرات اللاعقلية السائدة اليوم في الحياة الثقافية للعالم العربي والغربي على حدّ سواء. وإذا أردنا الدقة فإن هذا المنحى، أعني نقد الفكر اللاعقلي الثاوي في فكر نيتشه وهايدغر والبنيويين الفرنسيّين، ثم التنبيه على مخاطره، نجده أيضا عند زمرة كبيرة من المفكرين الغربيين أنفسهم، ولا يمكن اتّهامهم بأنهم من دعاة التعصب الديني أو من الظلاميّين. ولكن، كما هو الشأن بالنسبة لجلّ انتاجات الفكر يمكن لها أن تُوظّف في السلب أو في الإيجاب. في السلب إذا وقعت في أيدي الإرتكاسيّين من الغربيّين والمسلمين، وفي الإيجاب إذا وقعت في أيدي التقدميين والإنسانويّين. يجب أن أوضّح موقفي هذا: لقد سعد الناشطون الإرتكاسيون في العالم العربي الإسلامي بنقد الغرب لفكره العقلاني ومرتكزاته النظرية التي ابتدأها نيتشه وسار في مسارها هايدغر ثم روّجها فوكو. الغرب نفسه قدّم أسباب نقض ذاته بذاته، بل إنه سئم نفسه وأدان مساره الفكري التنويري، ولذلك فقد آن الأوان للعودة إلى تراثنا ومقومات ديننا. ولا يمكن أن يثنينا عن ذلك حتى العقل لأنه، حسب الفلاسفة الغربيّين ذاتهم، لا سلطة مطلقة للعقل بل هو ليس إلاّ طارئا من طوارئ الوجود، أو بالتحديد العقل جائز ومبادؤه غير مطلقة الصلوحية. هذا ما يمكن أن يستقيه الرجعيون من الفكر الغربي، بل إنهم استوعبوه، دون ذكر مراجعهم، ويردّدونه الآن لضرب العقلانية واحياء اللاعقل بجميع أشكاله.  أما الفكر التقدمي فإنه ينقد هذا المنعرج اللاعقلاني الذي انتهجته تلك الثلة من المفكرين ويُبيّن أن أعمال هؤلاء الرجال، إذا أخذت على حرفيتها، لا تصبّ إلاّ في مصبّ الفكر الرجعي لأن معاداتها للروح الوضعي وتشنيعها على العقل والمنطق ثم اكتفاءها بالفكر الغربي وحصر همومها داخل رقعته الجغرافية، لا تساعد على انشاء ذهنية منفتحة، لأنها النقيض الطبيعي لكل تفكير، يطمح نحو الشمولية والأخوة والتسامح.

إذن مَن يَنقد فِكر نيتشه أو هايدغر أو أيّ فيلسوف غربي آخر، لا يجب ضرورة أن يُصَنَّّف في خانة الإرتكاسيّين الذين يَكِنّون عداء مَرَضيّا للفكر الغربي، أو يرغبون في إقصائه على أساس أنه فكر دخيل لا يتماشى مع ثقافتنا العربية الإسلامية. العالم الإسلامي يَتميّز عن الغرب المسيحي بروحانياته وتديّنه وأخلاقه الإنسانية العالية، في حين يَلهث الغرب نحو المادّة ويتشبّث بالأشياء الزائلة، ناسيا الأهمّ، أي الروح وغير مُعتنٍ بمقوّمات الدين الحقّ والأخلاق السّليمة. هذه التخمينات الرائجة في كثير من أوساط شبه المثقفين الأصوليين، تعكس الوجه الآخر لأطروحات مفكري اليمين الغربي المتطرّف ولمُنظّريه الرجعيّين الذين قَويت شوكتهم الآن وأصبحوا من دعاة صراع الحضارات، وفضل الحضارة الغربية ومبادئها الإنسانية الشاملة على جميع الحضارات الأخرى. إنهم يرون أن الفكر الغربي الديمقراطي بعيد كلّ البعد عن الفكر المتأتي من الشعوب الأخرى وغريب عن تقاليد الشرق، وبالأخصّ الشرق الإسلامي الذي بَقي على علاّته وبطبيعته سجين اللاعقل والدكتاتورية وعبادة الأشخاص. هذه ليست بالأفكار الجديدة، بل إنّها الأرضيّة الإيديولوجية لكلّ هجمة استعمارية سواء غربية مسيحية أو حتى عربية إسلامية.

كاتب هذه السطور يعارض كليهما، ويعتقد، في ما يخصّ عالمنا العربي الإسلامي الذي كثيرا ما كُبتت فيه الروح النقدية، أن الإشكال له استتباعات مستقبليّة مُحدّدة وخطيرة في مجال الإنتاج الثقافي والعلمي: المثقفون العرب المتعاطفون مع هايدغر وأتباعه، والمائلون إلى تبنّي أطروحاتهم الفلسفية وآراءهم حول الحداثة وما بعد الحداثة، قد يشعرون بالإمتعاض من النقد القاسي لِمَعَالمهم وقد يُصيبهم الذّعر معتقدين أن الناقد تحرّكه أغراض إيديولوجية بحتة أو، على الأقلّ، يضرّ بالفلسفة لأنّه يقدّم معطيات وأفكار مضادّة يمكن لأيّ تيّار رجعي إسلاموي قومي أن يستبدّ بها.  كاتب هذه السطور واعِ بهذا الأمر، ولا يستبعد قطّ أن يستغلّ الظلاميّون مكاسب الحداثة لتوجيهها ضدّ الحداثة ذاتها، أو أن يستثمروا النقد الموجّه لأعلام الفلسفة الغربية لصالح تمرير خطابهم الرّجعي. هذا أمر محتمل، بل وارد ومعاين مباشرة من خلال كتاباتهم وتنظيراتهم التي قطفت القشور وتركت لبّ المسائل ومغزاها. إنها عملية تحطّ من الفكر العربي وتُجهض صيرورته التقدّميّة من الأساس. فعلا، أن يستحوذ أحدهم على مكاسب النقد ويستغلّها لصالح تمرير خطابه اللاعقلاني، فهذا أشدّ التّنكيل الذي يمكن أن تخضع إليه الفلسفة والفكر الحرّ. مَن ينتَهج هذا النهج  ومن يَعتمد هذه التقنية في التنظير، فقد أوصد أمامه أبواب الحوار الجدّي وأعرض عن التفكير البناء. الفكر بصفة عامة ومنتوجات الروح والفلسفة بصفة خاصة إمّا أن تكون كلية شاملة أو لا تكون. مَن يتفلسف في نطاقه الضيّق ويكتفي بالتنظير في صلب ثقافة محدّدة فإنه يخاطر بأن يسجن مؤبدا فكره وأن يقدّم الذريعة للشّكّاك المناهضين لرفض أفكاره واعتبارها مُجرّد نزوات فرديّة لا تتقاسم همومها الإنسانية جمعاء. كاتب هذه السطور انطلق من هذا المبدأ وسَحبَه على تفكير هايدغر، دون أن يكون مرجعه ضرورة، ثقافة معيّنة ودينا محدّدا: فيصل التفرقة هو الإنسجام المنطقي مع المبادئ الكلّية والمطابَقة مع شموليّة الفكر المبنية على قاعدة الأخوّة البشرية والنزعة السّلمية اللامشروطة.

أحاول في هذا المقال تسليط الضوء على مقاربة هايدغر للميتافيزيقا وأهمّيتها في منظومته "الفلسفية"، بوضعها منذ البداية في إطارها التاريخي، ثم ربطها ببعض أطروحاته الفكرية وتأويلاته لنصوص فلاسفة اليونان، وصولا إلى النتائج السياسية والإيديولوجية المنجرّة عنها.   

2 - هايدغر بين اللاهوت المسيحي والفلسفة اليونانية:
الميتافيزيقا عند أرسطو هي "عِلم" غير محدّد المعالم، وهي مشروع - إن كان كذلك - غير مُكتمل ولا تمّ إنجازه بحرفيته حسب الطرح الذي قدّمه أرسطو ذاته. يكفي تعدّد تسمياته واختلاف مواضيعه ونهج المعضلات الذي طغى عليه حتى نخلص إلى الشّك في أن أرسطو قدّم مفهوما كاملا وحقّق مشروعا نهائيا في ذاك المجال. لقد تفطّن الشراح منذ القديم إلى التوتّر الذي يخترق اشكالية الميتافيزيقا برمّتها: فأرسطو يبتدئ من الوجود بما هو وجود وينتهي بمفهوم اللاهوت الذي يُعنى بدراسة جنس واحد من الوجود. الإعتراض المبدئي هنا هو هل يَتماهى العلمان، أعني علم الوجود بما هو وجود وعلم اللاهوت؟ وهل نَجح أرسطو في الجمع بينهما؟ الملفت للنظر هو أن أرسطو نفسه يطرح هذه الإشكالية، بل ويقدّم الإعتراض بكلّ نزاهة قائلا : «قد يتساءل أحدهم هل أن الفلسفة الأولى كلّيّة أم أنها تُعنى بجنس محدّد وبموجود خاصّ؟». (1026 أ 23 - 24).

كيف يُجيب أرسطو عن هذه الشكوك التي أثارها هو نفسه؟ لقد أدخل صدفة في الجيم من "الميتافيزيقا"، بكلّ اعتداد ودون سابق تفصيل، عِلمه الجديد الذي يُعنى بالوجود بما هو وجود، ثمّ إثر ذلك، في الياء، أظهر نوعا من التريّث والحيطة في تقريره وجود الجواهر الخالدة والمفارقة. ومن هذا المنطلق جاءت تعابيره في كيفية التوفيق بين صنفين من الوجود، وتوحيدهما تحت راية علم واحد، دائما حسب منطق القضايا الشرطيّة: لو لم تكن هناك جواهر إلاّ الجواهر الطبيعية لكانت الفيزياء هي العلم الأسمى والأوّل، «ولو كان هناك جوهر غير متحرّك، لكان العلم به هو الأسبق وسيكون هو ذاته الفلسفة الأولى، ولأجل ذلك، أي بما هي أولى، فستصبح كلّيّة، وإليها تعود المهمة في دراسة الوجود بما هو وجود» (1026أ 29 - 31).

وكما قد يحدس القارئ بنفسه، يبدو أن البرهنة على تماهي العلمين غير مُقنع والنتيجة ليست مُعلّلة بوضوح: هناك انطباع بأن الوجود بما هو وجود أولِج من خارج، ووُضع في غير محلّه ولا يمتّ بصلة وثيقة بعلم الجواهر المفارقة. ولذلك فإن اشكالية التوفيق بين المطلبين إشكالية جدّية وخطيرة، ويبدو أن أرسطو لم يُفّق في الجمع بينهما ولا في تذليل العقبات، أو على الأقلّ لم يوضّح بما فيه الكفاية السبيل للخروج من تلك المعضلة.

وقد يكون هذا التضارب بين الموضوعين المختلفين للفلسفة الأولى، أي بين شمولية الموضوع وسُموّه، هو الذي دفع بالسكولاستيكية إلى إحداث ذاك التمييز بين قطاعين من الفلسفة الأولى: الميتافيزيقا العامة (Metaphysica generalis) والميتافيزيقا الخاصّة (Metaphysica specialis)، أو ما أسماه المحدثين ب- "أنطولوجيا" و"لاهوت" (ثيولوجيا). لكن هذا التقسيم لا يَملك أي أساس صريح في النصّ الأرسطي وقد يكون مخالفا لأغراضه النظرية. وحتى إن سلّمنا بأن أرسطو استطاع بِكَدّ وبشيء من الغموض التوفيق بين المطلبين فإن الجزء التركيبي من مشروعه ذاك لم يتسنّ له التحقيق، وقد يختلجنا الشكّ في امكانية تحيقيقه طبقا لمقدمات المنظومة الأرسطية.

فعلا هذا، حسب الدّارس الإيطالي دونيني (Donini)، هو المأزق الحرج الذي يجابه تنظير أرسطو بخصوص الميتافيزيقا. فلو أنّ الرجل بقي وفيّا لبرنامج البحث الذي أرساه في الجيم و الياء، يعني برنامجا تكون فيه الفلسفة الأولى كلّيّة لأنها أولى (الياء)، وكما في الجيم حيث افتَرَض أن العِلم بما هو أوّلي يؤسّس للعلم بالأشياء الأخرى، أعني أولوية الموضوع تشرّع لكلّيته، لكان قد أقدم مباشرة بعد الجيم و الياء على البرهنة على وجود الجواهر المفارقة ومن خلالها على كيفيّة المرور إلى العلم الكلّي بالوجود: مِن ذروة الوجود، أي الجوهر الأوّل نزولا إلى الموجودات السفلية. الجواهر المحسوسة، في نظام معرفي من هذا القبيل، من المفترض أن تُستنبط،، تُشتقّ من عالم اللاّمحسوس: لو أنّ أرسطو تمسّك بنهجه هذا وحقّق برنامجه بتمامه لكانت لدينا ميتافيزيقا على شكل نسق الأفلاطونية المُحدثة، نسق هرمي "اشتقاقي"، حيث يفيض فيه المبدأ الأوّل على كلّ الكائنات العلوية والسفلية ويمنحها وجودها(1) .

لكن يبدو أن أرسطو لم يُقدِم على هذا الفعل لأنه مقتنع بتنوّع الموجودات وبثرائها، وبأن فكرا من هذا القبيل يُرجعه إلى تعاليم الأفلاطونية التي عارضها بشدّة بحكم حساسيته التجريبية وذهنيته الوضعية. فالحلّ الأفلاطوني الذي على غراره أرجع كل عناصر الموجودات إلى مبدأين، لا يمكن أن يفي بتنوّع الموجودات واختلاف تمظهراتها ولا يقدر على تفسير الطبيعة تفسيرا ماديا سببيا واستنباط قوانينها. هذا المانع المبدئي مُدعّم أيضا بما توصّل إليه أرسطو في نظريته العلمية التي بسطها في "التحليلات الثانية" وهي جهاز مفهومي خوّل له تجاوز إشكاليات الأفلاطونية وأطروحاتها. لقد برهن أن كل علم يُنَظّم حول جنس خاصّ من الكائنات وبراهينه أيضا تنبع من مبادئ خاصة به. وحتى إن اعترف أرسطو بوجود نزر قليل من المبادئ الموحّدة التي تشترك فيها كلّ العلوم، مثل مبدأ عدم التناقض أو مبدأ الثالث المرفوع، فقد بيّن أيضا أن تلك المبادئ لا تنطبق، في أي من تلك العلوم الخاصة، بكلّ امتدادها الماصدقي ولكنها تبقى محدودة بذاك الجنس الذي ينوي دراسته علم ما. وهذا الدفاع عن استقلال العلوم وعن مبادئها الخاصة وعن عدم إمكانية اختزالها في علم واحد هو ما يعتبره الدارسون المحدثون من بين الميزات التاريخية التي خصت الأرسطية.

المعضلة هي أن انطلاقا من نفس هذه الأطروحة فإن ابستيمولوجيا أرسطو لن تسمح له ببناء القسم التركيبي لعلمه "المبحوث عنه" وتقديمه بديلا يعوّض العلم الأسمى الذي استحدثته الأفلاطونية: حتى مفهوم الحكمة الأرسطية، أو الفلسفة الأولى أو اللاهوت، كان عليه أن ينصاع إلى القوانين الصارمة لإبستيمولوجيا التحليلات الثانية: لكلّ علم جنس محدّد من الوجود.

لكن أرسطو لم يتسنّ له التضحية بصفة الشمولية التي بدت له ضرورية في ذاك العلم، ولم يتخلّ عن فكرته بإمكانية الحكيم أن يعرف كلّ شيء، لأنه لو خطا تلك الخطوة، أي لو عرض له وضحّى بمقولة الشمولية لترك الأفلاطونية وإشكالاتها إلى الوراء. ولكنه لم يُقدم على تلك الخطوة، وقد يكون ذلك راجعا إلى ذكرياته الأكاديمية وإلى  بقائه متشبّثا بمطلب الوحدة النسقية حيث تنضوي تحتها العلوم المختلفة التي وقع تفريقها واختصاصها منذ زمان. العلم المبحوث عنه في (آ) والمعضلات المطروحة في (بآ) هي محاولة لإعادة بناء وحدة للعلم غير تلك التي دافع عن استقلالها هو نفسه. وبإمكاننا أن نعي المأزق الذي وجد فيه نفسه والمعضلات التي تركها لأتباعه وشرّاحه فيما بعد.

لقد ظلّت إشكالية الميتافيزيقا التي طرحها أرسطو متواصلة عبر التاريخ، أما المعضلات والمآزق التي أثارتها فهي قائمة إلى حدّ الآن وتركت للشرّاح العديد من المنافذ لاستنباط شتّى الحلول. لكن، من وجهة نظر تاريخية، مبحث الميتافيزيقا عند أرسطو، وبالأخصّ كتاب اللام، هو المَعين الذي استقت منه الحضارة الإسلامية والمسيحية أفكارها العالمة حول الألوهية والتعالي، الشيء الذي جعل من الميتافيزيقا تُعَدّ أشرف العلوم وأقربها إلى ضرورات الإيمان في الأديان التوحيدية. فمحاولة أرسطو تأسيس علم أسمى، ثم ربطه باللاهوت لها استتباعات فلسفية وتاريخية جمّة، وليس من المبالغة القول بأنها حكمت المسار الفكري لأجيال كاملة من الفلاسفة العرب في العصور الإسلامية وتَعدّى تأثيرهم ذاك رُقعة جغرافيا العالم الإسلامي لكي تَخترق حتى الفكر المسيحي في القرون الوسطى بل لتشرّط نوعا ما حتى الفكر الفلسفي الحديث. ليس هذا إعلاء من الشأن، وكاتب هذه السطور واع بأن كثيرا من الشوفينيّين والقوميّين ومجمل مثقفي التيارات الإسلامية يُوظفون بعض هذه المعطيات التاريخية ليؤسسوا عليها المقولة العنصرية في فضل العالم الإسلامي على الغرب واستباقه للحداثة وانتاج العلوم. ويبدو أن جميع هؤلاء "المفكرين"، وعلى أساس توجّه فكري من هذا القبيل، توجه فكري تغلب عليه شحنة وجدانية ارتكاسية يَلتَقون، في نهاية المطاف، مع المنظرين الغربيّين الذين لا همّ لهم سوى إقصاء الشعوب الأخرى من أيّ مساهمة علمية أو تقنية في مسار الحضارة الإنسانية. إنهم يلتقون مع هايدغر وتنظيره الغربي وميتافيزيقاه الغربية وعقلانيته الغربية، طبعا مع كلّ الفوارق والتمييزات اللازمة.

                                 *  *  *

لكي نقيّم فلسفة هايدغر ونضع فكره بجدّيّة على محكّ العقل يجب العودة إلى الوراء والتفتيش عن الأرضية النظرية التي انطلق منها، أعني تكوينه العلمي وطبيعة التأثيرات التي تلقاها من المحيط الأكاديمي الذي تعلّم فيه. هذه المقدمات ضرورية لادراك الصيغة التي باشر بها أعمال أرسطو والدوافع التي قادته للدخول معه في نقاش حول اشكالية الوجود وموضع الميتافيزيقا.

«لقد بدأتُ دراستي الجامعية في شتاء 1909/ 1910 بكلّيّة اللاهوت في جامعة فرايبورغ. معظم الدروس كانت مُركّزة على اللاهوت؛ لكن كان هناك مجال واسع لتعاطي الفلسفة وهي أيضا داخلة في برامج الدراسة. هكذا منذ السُّداسي الأول، كان يوجد على مكتبي، في قسم اللاهوت مجلّدا "البحوث المنطقية" لهوسرل [....] ومن خلال بعض الإشارات الواردة في مجلاّت فلسفية عَلمتُ بأنّ نهج تفكير هوسرل كان متأثرا ب- فرانس برنتانو(Franz Brentano). رسالة برنتانو بعنوان "في تعدّد معاني الوجود عند أرسطو" (Von der Mannigfachen Bedeutung des Seienden nach Aristoteles) الذي صدر سنة 1802، كانت، في نظري، الركيزة الوحيدة المتاحة لي في محاولاتي المتعثرة الولوج في الفلسفة. حتى وإن كانت محاولات غير واثقة فقد كانت تحرّكني الفكرة التالية: إذا كان الوجود يقال على أنحاء عديدة، ما هو المعنى الموجّه والأساسي؟ ماذا يعني الوجود؟(2) ».

هذه إحدى اعترافات هايدغر المتأخرة والتي، بمعنى ما، قد تكون صادقة وإن كانت كذلك فهي تصوّر لنا الكيفية التي باشر بها إشكاليات الفلسفة القديمة وبالأخصّ منها فلسفة أرسطو. فمعرفته كانت أساسا معرفة لاهوتية، انضمت إليها الفلسفة من خارج، ثمّ إن اطلاعه على الإشكالات الفلسفية مرّ عن طريق المفكر السكولاستي المسيحي برنتانو الذي أوحى له بمركزية إشكالية الوجود عند أرسطو وبضرورة البحث عن معنى موجّه وقارّ لحلّ معضلة تعدّد معاني الوجود.

لكن لا يجب أن تغيب على أذهاننا أن التكوين اللاهوتي الذي تلقاه في الجامعات الكاثوليكية، يعتمد بالدرجة الأولى على تعاليم توماس الأكويني وأتباعه. نسق توماس الأكويني هو محاولة كلامية للتوفيق بين "اللاهوت الأرسطي" والعقيدة المسيحية. ومن سُخرية القدر أن أرسطو - بعد أن اعتُبر في لحظة تاريخية ما، من بين الهراطقة المعادين للمسيحية، وبعد أن مُنعت كتبه وكتب شراحه العرب من المؤسسات التعليمية الغربية - أصبح في فترة ما ركنا من أركان الفكر المسيحي. لقد مثّل التراث اللاهوتي المستمد من الأكويني المعين الروحي والإيديولوجي عند الكاثوليك لتجاوز الأزمات الروحية والفكرية المتتالية، وما قيام التوماوية الجديدة (Néothomisme)، في القرن التاسع عشر إلاّ إعادة إحياء لذاك التراث اللاهوتي الكلامي، لغرض التصدّي للمادية والإلحاد الذي أخذ يكتسح أوروبا بأكملها.

إذن التحدّث عن ميتافيزيقا ما، وإيلائها أهمية كبرى في المؤسسات التعليمية الكاثوليكية هي من بين الثوابت في نظامها التعليمي وتُمثل عماد التربية الدينية. وكما ذكر كتّاب سيرته، هايدغر كاثوليكي الديانة وقد تعلّم اللاهوت، واستوعب الفلسفة اليونانية من خلال الفكر السكولاستيكي والخلاصة التي قدمها توماس الأكويني التي أرادت التوفيق بين العقيدة المسيحة والعقلانية اليونانية. وليس هنا الموضع للحكم على مدى نجاح تلك الخلاصة أو فشلها، ما يهمّنا في هذا الصدد هو النظرة اللاهوتية التي سيّرت وحكمت ذهنيته لمدّة طويلة. لقد اعترف هايدغر بدَينه لللاهوت الكاثوليكي، وبأنه اشتغل في خدمة الفلسفة المسيحية السكولاستيكية والتزم بالنظرة الكاثوليكية للعالم. في إحدى رسائله لسنة 1915 قال بأنه نذر حياته « لنشر التراث السكولاستيكي، لأجل الصراع الروحي المستقبل باسم قيمة الحياة المسيحية الكاثوليكية (3)». هذا الإعتراف، بما يحمله من قصدية عملية مباشرة، ينسجم مع انتاجاته الفكرية الأولى، وقد يظهر ذلك جليا من خلال أطروحته بعنوان "نظرية المقولات والمعنى عند دون سكوتس" (Die Kategorien und Bedeutungslehre des Duns Scotus)، حيث اتّبع هناك نفس مسار السكولاستية وأشاد بمقولاتها مثل مقولة التناسب (Analogie) التي تُمثّل المِحور الحامل لنسق الفلسفة السكولاستية. فالتناسب، حسب هايدغر، يستجيب لنظرة إنسان القرون الوسطى، وهي ليست في ذاتها أنقص قيمة من نظرة الإنسان المعاصر: «العالم الطبيعي المحيط (Die natürliche Umwelt) عند إنسان القرون الوسطي هو في نفس الوقت أيضا ... عالم ما وراء الحسي (übersinnliche Welt). العالم الحسي والعالم ماوراء الحسّي، مُندمِجان في نظام ما ... وهذا النظام هو التناسب(4) ». ولكي لا يبدو العالم مُشتتا إلى وحدات لا يجمعها جامع، ثم لكي تُقام مشروعية وجود عالم مفارق وامكانية معرفته فإن التناسب هو المفهوم الوحيد الذي يُمكّن من الإبقاء على الإختلاف والوحدة دون التفريق بينهما بالكامل، ويمكّن أيضا من تعقل المتعالي والإقتراب من الخالق.

لكن، من وجهة نظر معرفية، هناك مفارقة كبيرة تبرز في الوقت الذي نفعّل فيه هذا المبدأ: فعلا، عندما نُطبّق مفهوم التناسب على الإله كوحدة تُمثّل المعيار الأتمّ للوجود، فإنه لا مفرّ من التساؤل عن علاقة الموجودات بتلك الوحدة. التناسب قد يؤدي إلى تَبنّي نوعا من وحدة الوجود أو السقوط في نظرية الفيض. وهذا ما وقع فيه هايدغر دون أن يتفطّن لذلك. يقول بأنّ «هناك وحدة (monas) تَحوي بالقوّة في ذاتها التعدّد الذي يَنبثق منها، فهي، بمعنى ما، نقطة الإنطلاق (der Ansatzpunkt)(5)». وهذه الفكرة موجودة عند فلاسفة السكولاستيكية المؤمنين، ومن المحتمل جدّا أنهم استمدّوها من التراث الفلسفي العربي، من ابن سينا خصوصا، طبقا للمبدإ القائل بأن من الوحدة صدرت كلّ الأشياء. ثم يضيف هايدغر، مُوضّحا الضروب التي تكون فيها تلك الوحدة منبع التكثّر، قائلا: «إن هذه الوحدة يمكن أن تكون مَصدر تكثّر الأشياء من حيث ذواتها، بمعنيين. أوّلهما كمبدإ فاعل خالق (als tatiges schopferisches Prinzip). هذا هو صنف الوحدة الإلهية (unitas Dei)، ومنها تصدر كثرة المخلوقات، وليس ذلك بالقسمة إلى أجزاء لأنه في هذه الحال، ستتفسّخ كوحدة مطلقة. إن تعدد الأشياء المخلوقة وانبعاثها إلى الوجود يتمّ عن طريق ما يُمَرّره إليهم الإله من وجوده (per sui communicabilitatem). المعنى الثاني: هو أن الوحدة يمكن أن تتضمّن في ذاتها،  بصورة سلبية (passive)، التعدّد (الكثرة). وهذه هي الوحدة في الجنس الميتافيزيقي (genus metaphysicum). الكثرة تنبثق منها [من تلك الوحدة] ليس بطريق القسمة إلى أجزاء متجانسة ولكنها قسمة بحسب الموضوع (in partes subjectivas)(6 )».

هذه التحديدات والتقسيمات أفضت بهايدغر إلى نتيجة لا تخرج تماما عن أيّ خطاب لاهوتي سكولاستي « بالمعنى الدقيق والمطلق، الله فقط هو الواقعي، هو المطلق، الذي هو وجود في ذاته، ويُمظهر وجوده في الموجود. أمّا الواقع الطبيعي، الواقع المحسوس فإنه يوجد فقط كمخلوق؛ ليس هو موجودا مثل المطلق، ولكن يحوز على وجوده بفضل المشاركة (communicabilitas). الخالق والمخلوق (Schopfer und Geschopf)، على الرغم من أن كليهما واقعيّان، فإنهما يختلفان في ضربي وجودهما [...] الإختلاف يكمن في درجة الواقعية [التي تخصّ كلّ منهما]. الواحد اللامتناهي (Unum infinitum) كواقع متمركز في ذاته، واقع مطلق، هو ما يملك أكبر قيمة، هو المعيار بامتياز لكلّ [موجود] عيني. والواقع المخلوق، بدوره، ليس في جوهره كائنا بنفس الدرجة(7)». هايدغر يدعّم هذا المنحى اللاهوتي بمقولات المنطق الأرسطي: الجوهر، في نسق المقولات العشر لأرسطو، يمتلك الوجود الواقعي الأوّل والذاتي، أما الأعراض فإنها تحوز على الوجود فقط إذا حُملت على الجوهر وشاركت في واقعيّته. الأعراض هي موجودات لأنها تُحمل على موضوع ما (entia per attributionem ad subjectum). الجوهر إذن، كما هو الحال بالنسبة للمطلق (analog wie die Absolut)، هو جنس ميتافيزيقي (genus metaphysicum). هناك درجات متفاوتة في الوجود، وطبقا لهذا المبدأ المعياري فإن « صفة التناسب تدخل في هيكلة مجال الواقع العيني. كلّ شيء فردي في عالم الطبيعة له درجة محدّدة القيمة (eine bestimmte Wertigkeit)، ومطابِقة لدرجة وجوده الواقعي. وهذه الدرجة تتنامى كلّما شارك الشيء (الموضوع) في الكائن المطلق(8)». النتيجة هي أن التناسب، يمتدّ ليشمل حتى العالم الواقعي، الذي هو مجال اختصاص رجل العلم: « في العالم الواقعي، إذن، لا يُهيمن مفهوم المقياس(MaBbegriff)، الذي يُحدِّد الكمَّ في الرياضيات [...] الخاصيّة المميزة للواقع هي "مقياس درجة الكمال" (mensura perfectionis)، أي تَقيِيم الأشياء بحسب درجة واقعيتها(9) ».

وهذه الفكرة، أعني تفاضل الوجود وتدرّجه من الموجود الأعلى، الله، إلى الكائنات السّفلى نجدها عند فلاسفة الإسلام (استمدوها هم بدورهم من الافلاطونية المحدثة)، وقد تكون قد مُرّرت على حرفيتها إلى توماس الأكويني والتيار السكولاستيكي الذي ينتسب إليه. في شرحه على كتاب اللام لأرسطو يقول ابن سينا: «كلّ شيء يَنال مِن فضل وجوده بحسب طاقته ويكون لِكلّ نَيلٍ نسبةَ شَبَهِ ما به، ابتداء من الوجود وانتهاء إلى أكمل ما يكون في امكانه أن يَقبلَه من كمالات الوجود حتى يَبلغ القُدرة والعلم. وهذه أظلال لكمالات ذاته وصفاته [ و ] حتى يَبلغ أن يَنال بالوجه العقليّ حقيقته، فتَنتَقِش في جوهر القابل الهيئةُ، ثمّ يتفاضل هذا الإنتقاش بحسب درجات النائلين [...] والسبب الذي لأجله وقعت الكثرة في المتكونات أن السبب الموجب: منها ما هو الأول بذاته سببُه، ومنها ما ليس هو بذاته سببا له، بل بتوسيط. وكأنه يقول: إنّ الكثرة وقعت لأن الأشياء بعضها منها بلا توسيط، وبعضها من غيره بلا توسيط وإن كانت تَرتَقي إليه(10)». لقد عارض هايدغر النزعة السّيكُولوجية في المنطق، إسوة بهوسرل، لكن معارضته كانت مأطّرة في نطاق الفلسفة السكولاستيكية، حيث يقول بأنه « أمام تصوّر الإشكالات المنطقية في اتجاه سيكولوجي وحلّها - تَوَجُّهٌ وَجَد نفسه في وقت قصير في حالة تراجع - فإن الفكر السكولاستي، مع أنه غالبا ما يقتصر على إشارات عامّة، يُظهر نظرة ناضجة، لا يجب اغفالها والإستهانة بها في إدراك الخاصية المميزة والقيمة العالية الخاصة بمجال المنطق(11) ». وضدّ أولئك الذين يُنكرون مفهوم التناسب، هايدغر يُدافع عن هذا المبدأ السكولاستيكي بشدّة، متّبعا في ذلك نهج اللاهوتيين الكاثوليك.

ولكن هذا الدفاع له مغزى راهني بالنسبة لالتزامات هايدغر في ذاك الوقت، أعني الدفاع عن التعالي القروسطي ضدّ المجتمع المادي الحديث: « مفهوم التناسب قد يبدو لأوّل وهلة مفهوما سكولاستيكيّا باهتا، وخالٍ من أيّ اشعاع دللالي. لكنه، على العكس من ذلك، يحتوي كمبدإ، ضمن حقل مقولات الواقع الحسي وما وراء الحسي، على التعبير عن العالم المفهومي للتجربة الحياتية لإنسان القرون الوسطى. فهو عالَم ثريّ من جهة الكيف، مملوء قِيما، ومُوجّه نحو التعالي. إنه التعبير المفهومي عن شكل معيّن من أشكال الوجود الداخلي المغروس في العلاقة الأوّلية المتعالية بين النفس والله، كما كانت مُعاشة في القرون الوسطى بشدّة وتماسك نادرتا الوجود(12) ». إن تجربة إنسان القرون الوسطى ونظرته للعالم المتجذّرة والمنقادة نحو غائية متعالية، تتميّز عن تجربة الإنسان المعاصر الخالية من التعالي بسبب انحصارها في أفق الحياة الراهنة بحيث أن إمكانيات اللاأمان تصبح لامتناهية وفقدان الوِجهة يغدو مُحقّقا. هايدغر يعمّق الهوة بين نمطي حياة الإنسان المعاصر والإنسان القروسطي بحيث أنه لا يخفي تفضيله وانحيازه إلى هذه الأخيرة. فعلا، بخلاف العيش المحفوف بالمخاطر والضياع الذي ينتاب إنسان العصر الحديث فإن البنية الأساسية لتجربة حياة إنسان القرون الوسطى هي ماقبليّا غير قابلة للضلال في رحابة العالم المحسوس ولا إلى التيه فيه، لأن ذلك العالم الخارجي غير مُكتفٍ بذاته وهو في حاجة بالتالي إلى دعامة تأتيه من خارج وإلى علاقة تربطه بضرورة غائية متعالية.

وبالمثل فإن الفصل الذي تناول فيه هايدغر موضوعا يبدو أبعد ما يكون عن اللاهوت، أعني منطق المقولات والمعنى، فإنه يُدمج ، كما فعل كلّ المفكرين السكولاستيكيّين، أفكاره اللاهوتية المسيحية، حيث يقول بأن المنطق وإشكالاته لا يمكن أن نُدركها في جوهرها، إن لم يتمّ الخروج، في تأويلاتنا، من السياق المنطقي البحت، وبالتالي فإن « الفلسفة لا تستطيع مع مرور الزمن أن تتجاهل زاوية نظرها، أي الميتافيزيقا (13) ».  النتيجة هي أن هايدغر لم يتخلّ عن إرثه الميتافيزيقي - اللاهوتي هذا حتى بعد وُلوجه في فنومينولوجيا هوسرل، وما طرْحُه المُستمرّ لإشكالية الميتافيزيقا إلاّ دليلا بيّنا على تمسّكه بنهجه، أما ارتداده في فترة لاحقة فهو لا يمثل إلاّ فاصلا قصيرا من حياته الفكرية. 

3 - ما الميتافيزيقا؟:
إذن هموم هايدغر الميتافيزيقية لم تنتَه عند تَبَنّيه خطّ فينمينولوجيا هوسرل، ولم تستنفذ إمكاناتها حتى بِتَخلّيه عن الكاثوليكية. لقد واصل في هذا المسار مُغيّرا معطيات القضية وأدخل مصطلحات اللاهوت البروتستانتي المستمدّ من كيركيغارد (العدم، القلق، الرعب) دون المساس من جوهرها. والدليل على ذلك عناوين محاضراته واستخدامه المكثف لمقولة الميتافيزيقا التي اخترقت مجمل كتاباته. في سنة 1929 ألقى درسه الإفتتاحي في جامعة فرايبورغ، بعنوان "ما الميتافيزيقا؟" (Was ist Metaphysik?). ومن خلال عنوان الدرس كان من المفترض أن يتكلّم المحاضر مباشرة في موضوع الميتافيزيقا وأن يَستعرض، ولو بِعُجالة، تطورها التاريخي وإشكالاتها الراهنة والمعضلات التي جابهتها قديما وحديثا. لكن المحاضر، منذ البداية، يُبَدّد هذا الإنتظار مُنبّها مستمعيه على أنه سوف لن يتكلّم مباشرة في الموضوع المُزمع البحث فيه، أعني ماهية الميتافيزيقا، بل إنه سيتطرّق لمناقشة مسألة ميتافيزيقية محدَّدة(14). لأنه بهكذا عمل، حسب زعم هايدغر، نلِجُ مُباشرة في عمق الميتافيزيقا، وفقط بهذه العملية نتركها تُعرب عن نفسها.

المساءلة الميتافيزيقية هي مساءلة شاملة تَعمّ كلّ شيء بما في ذلك الطرف الذي يطرح تلك المساءلة، أي الدازاين: « إننا نحن الذين نتساءل هنا والآن، لأنفسنا(15)» فالإنسان هو الوحيد من بين الكائنات الأخرى الذي ينبهر أمام الوجود ويضع موضع تساؤل ذاته والعالم الذي يُحيط به. حسنا هذه مقدّمة واضحة ولا تستدعي كثير تمعّن لأنها تُعيد وتكرّر أطروحة هايدغر المركزية التي عرضها في "الوجود والزمان"، ولا تضيف شيئا جديدا لتحديد ماهية الميتافيزيقا. لكنّها غير واضحة ولا مفهومة أقواله الموالية التي زعم فيها بأن «وجودنا - كمجموعة باحثين وأساتذة وطلبة - مُحدَّد من طرف العلم (durch die Wissenschaft bestimmt)(16) ». لنتابع بصبر أقوال هايدغر ونحاول بكلّ موضوعية وتجرّد تقصّي مسار تحاليله إن أردنا المسك بلبّ أفكاره وادراك ما يرغب في إيصاله إلى قرائه.

في البداية يتساءل هايدغر: ما الشيء الذي أصاب عُمق كينونتنا الذاتية كي يُصبح العِلم موضوع شغفنا؟ (unsere Leidenschaft). فمجالات العلوم بعيدة الواحدة عن الأخرى، إنها قطاعات متعدّدة الإختصاص ومشتتة لا يربطها الآن إلاّ التنظيم التقني في الجامعات وهي تحوز على معنى فقط من حيث غايتها العَمَلية المباشرة، «لكن تجذّر العلوم في أساسها الجوهري قد قُضِيَ عليه (abgestorben)(17)». النشاط العلمي الذي اكتسح الساحة الثقافية في العالم المعاصر وأصبح المعيار الأوحد للفصل بين الحقّ والباطل، هو، في نهاية المطاف - حسب رأي هايدغر - ليس إلاّ طريقة خاصة في التعامل مع الكائن. كلّ العلوم، بما هي كذلك، محكومة بمرجعيتها للعالم الخارجي، وغرضها الأساسي يقف عند حدّ البحث في مكوّناته الجوهريّة(18). هذه الطريقة في الإقتراب من العالَم نابعة من اختيار حرّ للكائن الإنساني. لكن هناك بالطبع تصرفات وحالات ومواقف إنسانية سابقة أو خارجة عن ميدان العلم، تتعلّق هي أيضا بالكينونة. الفكر السائد يرى أنّ العلم هو مجال الموضوعية المطلقة، لأن العلم يَرفض تدخّل الذات في بناء موضوعها، بل إنّه يُعطي « الكلمة الأولى والأخيرة صراحة للشيء ذاته (des Seiende selbst) وحسب(19) ».

هذه الموضوعية العلمية التي تُمثّل أعظم المكاسب الإنسانية، من المفروض أن تُحظى بتقدير هايدغر وأن يشيد بها كمثال لما يمكن أن يكون عليه عمل الفيلسوف أو المؤرخ أو أي مُنظّر، لكن الموضوعية العلمية بالنسبة لهايدغر تمثل نقصا كبيرا لأنها خنوع و"انبطاح" (Unterwerfung) أمام الموجود العيني الذي يتمنّى العالِم الكشف عن حقيقته. ما هو جوهر النشاط العلمي إذن؟ هايدغر ينبئنا بذلك، دائما حسب طريقته الخاصّة في التعبير: الإنسان ككائن من بين الكائنات الأخرى، يشتغل بالعلم، وفي نشاطه هذا فإن ذاك الكائن المسمّى إنسان يُداهم، (يَقتحم) (Einbruch) الموجودات كلّها، يُكسّر من طوقها ويَلِج في أسرارها العميقة. لكن عملية المداهمة تلك لن تصل أبدا إلى هدفها المَرجُوّ، لأنّ، حسب هايدغر، ما يفحص عنه العلم هو الموجود فقط، ولا شيء خارجه. ماذا عسانا أن نقول عن ذاك اللاشيء؟ وكيف يتعامل العلم مع انعدام الوجود؟ العلم يرفض اللاشيء (العدم) ويتركه معدوما: مِن مَسألة العدم، العلم لا يريد أن يعرف شيئا إلاّ أنه عدم. لكن، على الرغم من ذلك، حتى عندما يرفض العِلمُ الخوض في العدم فإنه في حاجة إلى العدم: ما يرفضه العلم هو في نفس الوقت ما يَطلبه.

هذه مجرد عموميات وخطابة، وميزات هايدغر الرديئة هي تطويل الطريق للوصول إلى جوهر الموضوع. نريد أن نلج في لبّ الإشكالية، أعني ما الميتافيزيقا؟ مناهجها أهدافها معضلاتها ومستقبلها، لكن هايدغر يحيلنا إلى مثال إجرائيّ، أعني ميتافيزيقا العدم أو بالأحرى عدم الميتافيزيقا. ما العدم؟ وما علاقته بموضوع الميتافيزيقا وبالعلم؟ العدم ليس هو بِسَلب لصفة ما أو لمَحمُول معيّن، ليس هو حرمان المادة من الصورة، كما في مصطلحات أرسطو. العدم، يقول هايدغر، يختلف عن ذلك مطلقا. فطِبقا لنسق المنطق العقلي كلّ سؤال وكلّ جواب هما من باب القضايا الحملية (آ هي بآ)، لكن إن كان العدم عدما مطلقا فإن السؤال والجواب الحمليّين لا معنى لهما. العقل البشري لا يمكن أن يفكّر وينتج معرفة ويوصلها إلى الآخرين إلاّ إذا عبّر عنها من خلال قضايا حمليّة، وبالتالي فإن الحديث عن عدم مطلق، غير خاضع لقوانين المنطق وخارج عن تقنين القضايا طبقا لمبادئ منطقية ثابتة، هو عبث نظري وخلف.

لكن فكر هايدغر يكمن تحديدا في هذا الخلف بالذات، لقد لعِب الرجل على الإستثارة والعبث بالفلسفة طوال حياته. وإن تتبّع القارئ صفحات مقالنا هذا فسيرى أنّ الكاتب لم يجحف أبدا في حكمه على هايدغر. أعود إلى ما كنتُ فيه: إلى مَن سنُوكِل المهمّة في سبر العدم؟ أإلى العلم؟ لا بالتأكيد، لأن العلم يبحث في الموجودات العينية ولا يتعدّاها إلى مناطق أخرى، والعالِمُ في نشاطه النظري، يخضع لهيمنة الواقع المطلقة. إلى المنطق إذن؟ كلاّ، لأن المنطق يختزل كلّ شيء في قضايا حَمليّة على شكل موضوع ومحمول، أمّا الفكر ذاته فلا سلطة له أيضا على العدم لأن الفكر هو فكر شيء ما، والعدم ليس هو بشيء حتى يوصف ويُحكم عليه، «العدم هو أكثر أصالة من لام النفي ومن السّلب(20)». كيف يمكن للعقل والمنطق أن يحسما الموقف بخصوص العدم؟ ألا يكون التناقض الظاهر الكامن في السؤال والجواب بخصوص العدم «يرتكز في النهاية فقط على عماء العقل في تشرُّدِه(21) ؟». هكذا يتساءل هايدغر بفائض من الخطابة التي يعجّ بها هذا النصّ.

يمكننا أن نحدس مبكرا بأن كلّ المؤشرات تدلّ على أن التجربة اليومية (بكلّ ما تحمله من ذاتوية و لاعقل) ستحلّ محلّ الفراغ الذي تركه كلّ من العلم والمنطق والعقل. هذا هو الخطاب الذي يمرّره هايدغر والفكرة المركزية التي يريد أن يوصلها قرّاءه ومستمعيه. فعلا، حتى وإن كان محظور علينا معرفة الوجود والمسك به، كما هو في ذاته عن طريق ملكات العقل النظري، فإن الحياة اليومية، على الرغم من تجزّئها، تسمح بالإبقاء على الوجود في وحدة الكلّ (in einer Einheit des Ganzen)(22)، وحتى عندما لا نكون منشغلين بالأشياء وبأنفسنا « يُداهمنا هذا " الكلّ " مثلا في القلق الأصيل (in der eigentlichen Langweile)(23)».  ما معنى القلق الأصيل؟ وهل هناك قلق أصيل وآخر غير أصيل؟ وما دخل هذه الحالات الوجدانية الشخصية في ماهية الميتافيزيقا؟  القلق الأصيل، يُعرّفه هايدغر بأنه « القلق العميق الذي يَغدُو ويَرُوح في باطن الإنسان مِثل الضَّباب الصّامت الذي يجمع كلّ الأشياء، كلّ الناس بمن فيهم نحن، في واقع لامُبالاة غريبة(24)».  هذا القلق ليس بالشيء السلبي والمكروه، كما هو الأمر عند الإنسان السويّ، بل إنه، حسب هايدغر: « يكشف عن الوجود في جملته»، ولا ينبغي أن يُنظرَ إليه من جهة أنه أمر عرضيّ وعابر، بل هو على العكس من ذلك « الواقع الأساسي لوجودنا (das Grundgeschehen unseres Da-seins)(25)».

لكن، في خضم هذه التجارب الحياتية، هناك حالة نفسية خاصة ومتميزة تضع الإنسان أمام العدم ذاته. ما هي هذه الحالة؟ يجيب هايدغر بأنها الرّعب (Die Angst). فعلا، مصطلح الرُّعب عنده يختلف جذريا عن مفهوم الخوف، لأن هذا الأخير يتحدّد طبقا لواقع مباشر ولشيء معيّن يهدّدنا من خارج، لكنّ الرعب، حتى وإن كان رعبا من شيء ما، فهو لا يُحدَّدُ بهذا الشيء أو ذاك. فالأشياء تبتعِد عنّا وفي ابتعادها تتوجّه نحونا، واضمحلال الأشياء لن يُبقيَ أمامنا إلاّ هذا اللاأحد، وعلى كلّ حال « الرعب يكشف العدم ». نحن مُعلّقون في الرّعب، أو بالأحرى الرعب هو الذي يتركنا معلّقين لأنه يُذوّب الوجود في جملته، ونحن بالتالي نشعر بالذوَبَان معه وفيه. الرعب يُفقِدُنا الكلام لأن العدم يُهاجمنا، يَنقَضّ علينا، وتَصمُت أمامه كلّ محاولة لقول "هو": هذا هو الدليل على حضور العدم: الرعب، في نهاية المطاف، يَكشف الوجود، ذلك لأن الإنسان حتى عندما تنقضي حالة الرعب العابرة فهي تَبقَى عالقة به وتَحضره دائما في ذاكرته.

أخيرا ماذا عن العدم؟ العدم يتمظهر في الرعب لا كموجود أو كموضوع(26)، بل إنه يُصاحب (يلازم) الكائن الإنساني في جُملته، والمصاحبة هي الإضمحلال معا(27). ماهية العدم هي الإعدام (Nichtung) « إنها ليست إعداما للموجود، ولا تنبثق من سَلبٍ ما... العدم ذاته هو الذي يُعدِم (Das Nichts selbst nichtet)(28)»). وهذه العدمية لها فضائلها، لأنها، حسب هايدغر « تضع الموجود هناك (الدازاين) أمام الوجود كما هو(29)»، وفقط عن طريق هذا العدم يمكن للإنسان أن يتوجّه نحو الموجود وأن يَنشغل به. ولكن بما أن الإنسان بماهيته يتعلّق بالموجود، أي الموجود الذي هو ليس هو، والموجود الذي هو هو، فإنه، بما هو كائن هناك « يأتي دائما من العدم(30)» والكينونة هناك تعني أساسا « أن يبقى [الإنسان] مُنغمسا في العدم(Dasein hei?t: Hineingehaltenheit in das Nichts)(31 )»، يعني أن الإنسان (الكائن هناك) هو دائما خارج الوجود في جملته، وهذا ما يسميه هايدغر ب-التعالي: دون الولوج المسبّق في العدم، فإن الدازاين لا يَستطيع أن يُحقّق التعالي.

ها نحن أخيرا حصلنا على الإجابة عن سؤال العدم: « العدم ليس هو بموضوع ما و لا هو، عموما، بشيء ما. العدم هو ما يجعل ممكنا تَمظهريّة الوجود بما هو كذلك أمام الإنسان (الدازاين)؛ العدم هو مبدأ السلب وليس العكس»، فقوّة العقل تتحطّم أمام مساءلة العدم والوجود، وهنا أصلا يُقرَّر مصير المنطق وهيمنته داخل الفلسفة: « فكرة المنطق ذاتها تنحلّ في دوّامة (Wirbel) المساءلة الأكثر أصالة(32)». أعمق من مطابقة السلب المنطقي تبقى « صلابة الفعل الحاقد وحدّة الكُره. أكثر مسؤولية هما ألم الفشل وعناد [أو تصلّب أو قلّة رحمة] المنع. أكثر وقعا هي مرارة التخلّي(33)». الرعب، على الرغم من أننا نبغي كَبته وإخفاءه، فهو حاضر وكالعدم  هامد و« نائم فقط (schlaft nur)» ذلك لأن « تنفّسه  كالرّجفة يخترق وجود الإنسان بأكمله»؛ رعب الإنسان الشجاع الجريء الذي « لا يقبل أيّ تعارض مع الفرح أو حتى مع لذّة العيش الرّفيه». حالة الإنسان هذه تجعل منه «الخليفة الساهر على العدم(34) ».

إلى حدّ الآن لم يَلج هايدغر في جوهر الموضوع ولم يُجب عن سؤال "ما الميتافيزيقا؟" لكنه في الصفحات الأخيرة قدّم هذا التعريف: « الميتافيزيقا هي مساءلة ما وراء الموجود، للعودة إلى فَهمه كما هو وفي كلّيته(35) ».

وفي مساءلة العدم يحصل هذا الذهاب إلى ما وراء الموجود؛ ولكن ما علاقة الميتافيزيقا بالعدم؟ يُجيب هايدغر بأن الميتافيزيقا تشبّثت بأطروحة ملتبسة مفادها أن "لا شيء يحدث من لاشيء" (ex nihil nihil fit). فعلا، الميتافيزيقا القديمة تتصوّر العدم ك-"لاوجود"، أي كمادة غير مصوّرة وغير قادرة من ذاتها على اكتساب صورة وشكل محدّدين «الماهية هي الكائن الذي يتشكّل ويتمظهر كما هو كذلك في الهيئة (في المنظر)». لكن تعاليم العقيدة المسيحية ترفض حقيقة أن «لاشيء من لاشيء»، مُضْفية على العدم معنى آخر، أي الغياب الكلي للموجود خارج الإله، وبالتالي فإن الموجودات حدثت من العدم طبقا لمبدأ (ex nihil fit ens creatum) " من العدم حدث الموجود المخلوق". هكذا فالعدم أصبح المفهوم النقيض للكائن الحقّ، أي "الكائن الأسمى" (summum ens)، الله، أو خالق الكون. المسألة الأساسية بخصوص العدم وقع تعتيمها، والدليل على ذلك أن اللاهوت [المسيحي] لا يُعِير أية أهمية للصعوبة التالية: « إذا كان الله يخلق من لاشيء، يجب أن يدخل في علاقة مع العدم، لكن إن كان الله هو الله، فهو لا يستطيع أن يَعرف العدم، نظرا لأن "المطلق" يُقصي من ذاته كلّ عدمية(36)». وعلى هذا الأساس فإنّ أطروحة هيجل التي تذهب إلى أنّ « الوجود الخالص والعدم الخالص هما نفس الشيء»، هي أطروحة مشروعة نظرا لأن الوجود ذاته في ماهيته متناه « ولا يتمظهر إلاّ في تعالي الدازاين الذي يُبقيه العدمُ في الخارج(37) ».

وبما أن المساءلة بشأن العدم تخترق الميتافيزيقا بأكملها، فهي تَضعُنا أمام القرار حول مشروعية مجال المنطق في الميتافيزيقا، وبالتالي تسمح لنا بإعطاء معنى آخر للفكرة القديمة التي تقول بأن "لا شيء من لاشيء". هذه القضية يعيد طرحها هايدغر على الشكل التالي: « من العدم أُحدِث كلّ موجود بما هو موجود" (ex nihilo omne ens qua ens fit). فِعْل الإحداث هنا مَبنيّ للمجهول، ومَن هو ذاك المجهول يا ترى؟ ألا يكون الله، الوجود الأسمى؟ كلاّ، بل هو الإنسان، لأن، حسب هايدغر، في عدمية الموجود الإنساني فقط، يَصل الوجود في جملته إلى اكتماله الذاتي، طبقا لإمكانيته الخاصة، أعني حسب نهائية الدازاين. وهنا يَبرز جليّا خطأ العلم، لأنه لم يُعِر الأهمية الكافية للعدم، ولذلك فإن ادّعاءه بالعلوّ والسموّ على جميع أشكال إنتاج المعنى هو أمر مثير للضحك (L?cherlichkeit). والعِلم، إن أراد الحيازة على مكانته التي يَستحقّ، فعليه أن يعتنيَ بالميتافيزيقا وبإشكالية العدم: مُهمّة العلم لا تكمن فقط في جمع وتنظيم معارف متفرّقة، بل في فتح المجال الكلي لحقيقة الطبيعة (Natur) والتاريخ (Geschichte)(38). فتجاوز حقل الموجودات العينية هو من جوهر الإنسان، هذا التجاوز هو الميتافيزيقا ذاتها، إذن « الميتافيزيقا تَنتمي إلى طبيعة الكائن الإنساني (Die Metaphysik geh?rt zur »Natur des Menschen«) (39)»، وبالتالي لا يمكن أن تُختَزل في قطاع من قطاعات الفلسفة الجامعية ولا هي محكومة بمجال الفكر الإعتباطي: « الميتافيزيقا هي الحدث الأساسي في الدازاين. هي الدازاين ذاته(40)». ثمّ، نحن لا نأتي من خارج إلى الميتافيزيقا بل، بما أننا مَوجودون، فنحن كنّا ولازلنا دائما فيها(41) .

الميتافيزيقا، في إطار هذه الذاتوية المركزية، ليست هي بالعلم المُجرّد، بل سيرورة الوجود الإنساني ذاته، وبالتالي فإن تحليليّة الدازاين ليست مجرّد تهيئة لعلم أشمل بل هي الميتافيزيقا ذاتها: إنها تتماهى مع ما نحن عليه في أوضاعنا الوجودية وحالات معاشنا. لقد تمسّك هايدغر برأيه هذا وردّده في كتابه عن كانط واشكالية الميتافيزيقا، حيث أكد هناك أن: «الميتافيزيقا ليست أبدا ما "يخلقه" الإنسان في أنساق وتعاليم؛ إن فَهمَ الوجود يَحدث في الدازاين بما هو كذلك: في الدازاين يكمن مشروعها وتمظهرها. الميتافيزيقا هي الحدث الأساسي في مداهمة الوجود، مداهمة تتحقق عن طريق الوجود الفعلي لموجود هو الإنسان عامّة(42)». الميزة الأساسية للدازاين هي النهائية: «أكثر أصالة في الإنسان هي نهائية الدازاين فيه(43)». لكن، هايدغر يُنبّه على أن هذه النهائية التي تُمَكّن من فهم الوجود، قد طواها النسيان «جاثية في النسيان (liegt in der Vergessenheit)(44)». على كلّ حال هذا النسيان ليس هو بحدّ ذاته أمرا عرضيّا وعابرا، بل إنه يَنتُج باستمرار وثبوت، ولذلك فإن إنشاء انطولوجيا - أساسية، لغرض الكشف عن الوجود، يُحتّم تخليص تلك النهائية من النسيان. وبالتالي فإن الفعل الأساسي لأنطولوجيا الدازاين « بما هي تأسيس للميتافيزيقا، إنما هو استذكار (Wiedererinnerung)(45) ». استذكار لما نملكه من حياة أصيلة، والذي وقع إخماده، الآن، تحت الوجود اليومي، وجنون التنظيم (Narren der Organisation). الميتافيزيقا هي إذن بالضرورة علم متناهٍ، وكلّ ميتافيزيقا لا بدّ أن تكون محدودة نظرا لأن الكائن الذي يفحص فيها هو كائن محدود، سائر من الوجود النسبي إلى العدم المقرّر والحتمي.

لكن الإنسان، من جهة أخرى، مُضطرّ أن يكون كائنا ميتافيزيقيا، نظرا لأنه يعيش في شواش عالم مجهول، ومن الضروري عليه أن يُنظّمه و يُضفي عليه معنى ما. (مَن الذي يضطلع بهذه المهمّة، هل هو العلم أم الشعر، أم الفنّ؟ أظنّ أن هايدغر يقصي العلم ويترك المجال فقط للشعر في الكشف عن الوجود). إنّ عدم تمكّن الإنسان من معرفة الأشياء التي هي حوله واستحالة إدراكه النشأة الأولى هو دليل على نهائية معرفته وبالتالي على محدودية الميتافيزيقا. طبقا لهذا الطرح، لا يمكن للميتافيزيقا، أن تكون علما مطلقا، نتائجه حتمية وضرورية، بل هي ظرفية تعكس الجواز (contingence) الذي يطبع وجود الإنسان الفعلي. لقد استثارت هذه النظرة التحديدية للميتافيزيقا، وزحزحة معاييرها المتعارف عليها منذ القديم، استثارت الكثير من مؤرخي الفلسفة، وقد علّق عليها ألفونس دي فايلهانس قائلا بأن خلل الأنطولوجيا على مدى تاريخيا، والذي غالبا ما كان برهانا ضدّها، يُصبح الآن دليل أصالتها(46) .

وبخصوص الادعاء بأن النهائية تمنعنا من معرفة الوجود، يعترض دي فايلهانس، قائلا بأن هذا تناقض واضح، بل هو نوع من السفسطة، لأن أيّ تكلّم عن الوجود، حتى ولو كان مَوسُوما بالنهائية، يدلّ على معرفة ما، على معقولية ما، تكمن على الأقلّ في ذاك التمييز بين الوجود والموجود. تفسير الدازاين بمقولة الإنشغال (Sorge)، هو اعتراف ضمني بأن هناك معقولية ما، وبأن الدازاين غير مسجون في محدوديته « أحببنا ذلك أم كرهنا، الفلسفة مجبورة أن تأكد المعقولية المبدئيّة لكلّ ما تمسّه(47) ».

وطبيعة المعقولية عند هايدغر، لا تخلو هي ذاتها، من التباسات وإشكالات مبدئية: معلوم أن الفهم، والتأويل، هما ملكتان لتخطيط الإمكانات، فمبدأ كلّ معقولية هو مشروع الإمكانية الإنسانية. إذن، ليس هناك معقولية، إلاّ بالنسبة للإنسان، بحيث يغدو مقياسا لمعقولية الوجود. كلّ المسائل التي تمسّ أسرار النشأة والنهاية هي غير معقولة لأنها ليست إمكانات في متناولنا. الإشكالية هي إذن: هل يمكن مُجاراة هايدغر في قوله بأن المعرفة والفهم والمعقولية هي ليست إلاّ مشاريع لإمكانات؟ ألا تكمن المعقولية في المسك بجوهر الأشياء العينية؟ ومن يملك الأولوية: الممكن أم الواقع المتعيّن؟ هايدغر اختار الإمكان، كسابق ومؤسس للوجود العيني. إلاّ أنه وفقا لهذا الخيار ولنهج الفنومينولوجيا لا يمكن تفادي المثالية المطلقة، فكلّ ما نخططه ونزمع الشروع بتحقيقه يتماهى مع الذات. دي فايلهانس مُحِقّ في القول بأن هناك تراثا نظريا كاملا، يرى أن المعقولية تبدأ من الواقع المتحقّق، ثم منه إلى الممكن المشتق ثانويا؛ وإذا كان ذلك كذلك، فالمعقولية ليست تخطيطا مستقبليّا، بل إدراكا لما يقبع هناك وبالتالي فهي ليست من مجال المستقبل (المشروع)، بل من مجال الماضي (المتحَقّق). في هذه الحال، الإنسان لا يغدو المقياس الأوحد لمعقولية الوجود لأن هناك مبادئ عامة وقيم كلية تتعالى على الذات، تشترك فيها كل الموجودات الإنسانية وتتيح التواصل بينهم.   

تابع القسم الثاني من هذه الدراسة في العدد القادم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- بخصوص هذه المعضلات استفدتُ من تحليلات الأستاذ بيار لويدجي دونيني. من كتابه "مدخل إلى قراءة ميتافيزيقا أرسطو". انظر،
P. DONINI, Introduzione alla lettura della Metafisica di Arsitotele, La Nuova Italia Editrice, Roma 1995, pp. 92 102.
2- M. HEIDEGGER, Mein Weg in die Ph?nomenologie, in Id., Zur Sache des Denkens, Tübingen, pp. 81-90; trad., it., E. Mazzarella in M. Heidegger, Tempo ed essere, Guida. Napoli 1980, pp. 183-90.
3- رسالة هايدغر إلى الأسقف المساعد يوستس كناخت (Justus Knecht) 13 ديسمبر 1915. أوردها هوغو أوت:
H. OTT, Martin Heidegger Unterwegs zu seiner Biographie. Verlag Campus, Frankfurt 1988 (trad., it, Martin Heidegger: sentieri biografici. a cura di Flavio Cassinari, SugarCo, Milano 1990, p. 73.)
4- M. HEIDEGGER, Die Kategorien und Bedeutungslehre des Duns Scotus, in M. HEIDEGGER, Frühe Schriften, Band 1, Vittorio Klostermann, Frankfurt am Main 1978, p. 255.
5- M. HEIDEGGER, Ibid, p. 258. Die monas enth?lt potentiell die Vielheit, aus ihr geht sie irgendwie hervo r, sie ist irgend einer Weise der Ansatzpunkt .
6- M. HEIDEGGER, Ibidem. Die monas kann wiederum in zweifachen Weise Quelle der Vielheit der Gegenst?nde nach ihrer Wesenheit sein. Fürs erste als t?tiges sch?pferisches Prinzip. Solcher Art ist die unitas Dei . Aus ihr geht die Vielheit des Geschaffenen nicht durch Teilung hervor. Denn dadurch würde sie selbst als absolute Einheit zerst?rt werden. Die Zahl der geschaffenen Realit?ten entsteht per sui communicabilitatem . Für zweite kann die Einheit die Vielheit gleichsam passive in sich enthalten. Derart ist die Einheit des genus metaphysicum . Die Vielheiten entspringen aus ihr nicht durch Teilung in homogene Stücke, sondern durch Teilung in partes subjectivas .  
7- Ibid, p. 260. Im strengsten, absoluten Sinne wirlich ist nur Gott. Er ist das Absolute, das Existenz ist, die im Wesen existiert und in der Existenz west . Die Naturwirklichkeit, die sinnlich reale, existiert nur als geschaffene; sie ist nicht Existenz wie das Absolute, sondern hat Existenz durch die communicabilitas . Sch?pfer und Gesch?pf, obwohl beide real, sind es doch in verschiedener Weise. Damit treffen wir aus das Moment der Heterogeneit?t in der Analogie. Die Verschiedenheit liegt im Grade der Wirklichkeit. Das unum infinitum als in sich zentrierende, absolute Wirklichkeit ist das H?chstwerdige, der schlechthinnige Mas?tab für alle Wirklichkeit .
8- Ibid, pp. 260-61.
9- Ibid, p. 262.
10- ابن سينا، شرح كتاب حرف اللام. تحقيق عبد الرحمان بدوي، ضمن: أرسطو عند العرب، ط2، وكالة المطبوعات. الكويت 1978، ص. 25.
11- M. HEIDEGGER, ibid, p. 97.
12- Ibid, pp. 408-9. Der in dieser Untersuchung bei dem Problem der metaphysischen Wirklichkeit besprochene Begriff der Analogie z. B. Scheint zun?chst ein recht verbla?ter und nicht weiter bedeutungsvoller Schulbegriff zu sein. Er enth?lt aber herrschendes Prinzip in der Kategoriensph?re der sinnlichen und übersinnlichen Realit?t den begrifflichen Ausdruck der qualitativ erfüllten, wertbehafteten, auf die Transzendenten Urverh?ltnis der Seele zu Gott verankerten Form inneren Dasein, wie es im Mittelalter in seltener Geschlossenheit lebendig war .
13- Ibid, pp. 405-6. Man vermag die Logik und ihre Probleme überhaupt nicht im wahren Lichte zu sehen, wenn nicht der Zusammenhang, aus dem heraus sie gedeutet werden, ein translogischer wird. Die Philosophie kann ihre eigentliche Optik, die Metaphysik, auf die Dauer nicht entbehren .
14- M. HEIDEGGER, Was ist Metaphysik?, in Id, Wegmarken, Vittorio Klostermann, Frankfurt am Main, 1996, p. 103. " Die Frage weckt die Erwartung, es werde über die Metaphysik geredet. Wir verzichten darauf. Statt dessen er?rtung wir eine bestimmte metaphysische Frage". 
15- " Wir fragen, hier und jetzt, für uns". Ibidem.
16- Ibidem.
17- Ibid, p. 104.
18- الفقرات التالية هي تلخيص لنصّ هايدغر المذكور أعلاه.
19- Ibidem.
20- Wir behaupten: das Nichts ist ursprünglicher als das Nicht und die Verneinung . Ibid, p. 108.
21- Beruht am Ende die scheinbare Widersinnigkeit von Frage und Antwort hinsichtlich des Nichts lediglich auf einer blinden Eigensinnigkeit des schweifenden Verstandes? . M. HEIDEGGER, Was  ist Metaphysik?, op., cit, p. 108.
22- م. هايدغر، ما الميتافيزيقا؟، نفس المصدر (ن. م)، ص، 110.
23- ن. م. نفس الصفحة (ن. ص).
24- ن. م، ن. ص.
25- ن. م، ن. ص.
26- Das Nichts enthüllt sich in der Angst aber nicht als Seiendes. Es wird ebenso wenig als Gegenstand gegeben . Ibid, p. 113.
27- Wir sagten, es begegne " in eins mit" dem entgleitenden Seienden im Ganzen , ibid, p. 114.
28- Ibidem.
29- es bringt das Da-sein allererst vor das Seiendes als ein Solches . Ibidem.
30- Ibidem.
31- Ibid, p. 115.
32- Die Idee der Logik selbst l?st sich auf im Wirbel eines ursprünglicheren Fragens . Ibid, p. 117
33- Abgründiger als die blo?e Angemessenheit der denkenden Verneinung ist die H?rte des Entgegenhandelns und die Sch?rfe des Verabscheuens. Verantwortlicher ist der Schmerz des Versagens und die Schonungslosigkeit des Verbietens. Lastender ist die Herbe des Entbehrens . Ibidem.
34- Die Angst ist da. Sie schl?ft nur. Ihr Atem zittert st?ndig durch das Dasein . Die Angst des Verwegenen duldet keine Gegenstellung zur Freude oder gar zum behaglichen Vergnügen des beruhigten Dahintreibens
35- Metaphysik ist das Hinausfragen über das Seiende, um es als ein solches und im Ganzen für das Begreifen zurückzuerhalten . Ibid, p. 118.
36- Daher bekümmert auch gar nicht die Schwierigkeit, dass, wenn Gott aus dem Nichts schafft, gerade er sich zum Nichts mu? verhalten k?nnen. Wenn aber Gott Gott ist, kann er das Nichts nicht kennen, wenn anders das Absolute alle Nichtigkeit von sich ausschlie?t . Ibid, p. 119.
37- das Sein selbst im Wesen endlich ist und sich nur in der Transzendenz des in das Nichts hinausgehaltenen Daseins offenbart . Ibid, p. 120.
38- Ibid, p. 121.
39- Ibidem.
40- Die Metaphysik ist das Grundgeschehen im Dasein. Sie ist das Dasein selbst . Ibid, p. 122.
41- Wir k?nnen uns gar nicht in sie versetzen, weil wir sofern wie existieren schon immer in ihr stehen . Ibidem.
42- M. HEIDEGGER, Kant und das problem der Metaphysik, 6. Auflage,Vittorio Klostermann, Frankfurt am Main, 1998 p. 242. " Metaphysikist nichts, was von Menschen nur "geschaffen" wird in Systemen und Lehren, sondern das Seinsverst?ndnis, sein Entwurf und seine Verwerfung, geschieht im Dasein als solchem. Die "Metaphysik" ist das Grundgeschehen beim Einbruch in das Seinde, der mit der faktischen Existenz von so etwas wie Mensch überhaupt geschieht". 
43- " Ursprünglischer als der Mensch ist die Endlichkeit des Daseins in ihm". Ibid, p. 229.
44- Ibid, p. 233.
45- Ibidem.
46- A. de WAELHENS, La philosophie de Martin Heidegger, Publications universitaires de Louvain, Louvain, 4° ed. 1955. p. 314. « Par un étrange retour des choses, les vicissitudes de l'ontologie au cours de l'histoire dont on a fait si souvent un argument contre elle deviennent à présent la preuve de son authenticité ».
47- A. de WAELHENS, op. cit, p. 316. " Qu'elle le veuile ou non, la philosophie est contrainte d'affirmer l'intelligibilité principielle de tout ce à quoi elle touche