ظهر عبد الرحيم جيران، أوّل مرّة، في الوسط الثقافي بالمغرب، وقبل ما يزيد على ثلاثة عقود من الزمن، باعتباره ناقدا مشدودا إلى التعاطي لماكينات السرد؛ لكن دون أيّ نوع من التخندّق في "الرطان النقدي" الذي لوّى بمقاربات وكتابات كثيرة في تلك الفترة. وأتصوّر أنه، في مجاله النقدي المخصوص، والذي هو مجال النقد الروائي بصفة خاصة، حريص على بلورة وعي أكاديمي غير مفصول عن مشكلات الناس والمجتمع والثقافة والتاريخ. وهو ما لا نعدَمُه في نصه "كرة الثلج" (دار الآداب، 2013) الذي لا علاقة له، ومن ناحية مركزية مفردة "الثلج"، بالمتخيل الروسي أو الأدب المسكوفي ... وإنما له علاقة بمتخيّل آخر بعيد، جغرافيا وثقافيا، هو "متخيّل الشاوية" وعلى نحو ما تجسّـد في "ميكابول" المغرب التي هي الدار البيضاء.
والدار البيضاء عادة ما لا تدرج ضمن ما يعرف بـ"المدن التقليدية" (Villes Impériales)، بالمغرب، مثل فاس ومراكش والرباط وتطوان. وكان الاستعمار الفرنسي هو الذي أبدعها وبخاصّة المهندس المعماري المخلص لليوطي، أو "مهندس الحماية" كما تمّ توصيفه، هنري بروست (Henri Proust) وبمعية فريق بأكمله من مهندسين معماريين لامعين ستوفّـر لهم الدار البيضاء مجالا ــ سخيّا ــ لـ"التجريب المعماري" بطرازاته العالمية (وقتذاك). وهذا لكي يلي هنري بروست، الذي صمّم مركز الدار البيضاء التاريخي، المهندس التعميري الفرنسي العبقري ميشال إيكوشار Michel Ecochard الذي سيقدّم مقاربة تعميرية (جماهيرية وظيفية) مغايرة بالنظر للانفجار المعماري الذي أخذت الدار البيضاء تعرفه بدءًا من أواخر الأربعينيات من القرن المنصرم. وهو الانفجار الذي لا يزال متواصلا، وبوتائر متسارعة حتى الآن، وعلى النحو الذي جعل من الدار البيضاء جهات أو مجالات لا يمكن التعاطي لها إلا في ضوء المقاربات ذات الصلة بالنقد المعماري الموصول بالعلوم الاجتماعية أيضا، وكما في ضوء النصوص الروائية التي تبرع في التقاط مثل هذه المواضيع وعلى النحو الذي يجعل النصوص الأخيرة لا تقـلّ أهمية عن الأبحاث النظرية والميدانية ذات الصلة بالموضوع، ما دام أن الرواية هي ابنة المدينة.
والظاهر أن رواية "كرة الثلج" تمكّـنت من أن تلفت الانتباه إلى "دلالاتها العريضة" داخل المشهد النقدي الروائي بالمغرب شأنها في ذلك شأن روايات معدودة. هذا بالإضافة إلى أن الرواية قابلة لأن تقرأ، في اعتقادنا، وبالنظر لالتباسها بـ"المسألة الاجتماعية"، اعتمادا على منظور متنوّع يفيد من العلوم الاجتماعية ككل بالنظر لطبيعة موضوعها الذي هو قرين فضاء المدينة باعتبارها مجلى لتحوّلات نمط محدّد من التمدّن (Urbanité)، أو بالأحرى "وحش التعمير"، وتجاذبات المخيال الاجتماعي ... وباعتبارها مجلى لارتياد المترامي والمجهول والمنفلت. وكل ذلك في إطار من قالب روائي جمالي كما ينبغي التنصيص على ذلك. وكما أن الرواية تسعف، ومن منظور نقدي ثقافي وحتى ما بعد كولونيالي، على تأطيرها ضمن هذا الإطار النظري/ البحثي والتاريخي؛ لكن في إطار من مفهوم "التمثيل" (Représentation) المنتظم في النوع الروائي باشتراطاته الدلالية والجمالية.
ونحن لا نجد أدنى صعوبة تذكر، في مستهل هذه القراءة، حين نرادف بين الثلج والسيارة ــ بلونها الأزرق الغامق ــ التي أدخلها الصاحب ــ في دلالة على اسم البطل ــ إلى الضاحية الجنوبية للمدينة ... لتكون (أي السيّـارة) وراء تدشين نظرة متوالدة وجارفة وفاصلة في الزمان والمكان معا. فمع أن السيارة مجرد "شيء أخرس" فإنها كانت في أسّـاس تحوّل تجاوز مبالغة الجيران في التقرّب من لالة الغالية أمّ الصاحب، أو من هذا الأخير نفسه وبدافع من الطمع في الزواج، نحو تحوّل في مجرى "التاريخ الاجتماعي المصغّـر" للضاحية ككل. ولقد ساهم في هذا "التغيّـر"، وبالمعنى الذي يعطيه علم الاجتماع للكلمة، وفي تلازم مع نوع محدّد من "التكيّف"، كل من الأفراد والمجموعة. كل "شيء"، في الضاحية، من انتخابات وزواج وميلاد ووفيات ... أو من أتراح وأفراح، "صار يؤرّخ بظهور هذه الحديدة في مجرى حياتنا" (ص37). إجمالا إن الأمر يتعلـق بـ"العصر الحديدي" وبـ"جيل يتباهي بالحديد"، وجيل تمتلئ أجساد أفراده "بالأشياء، لا بالصور" (ص35). والعبد، كما قيل، "شخص وشيء" في الوقت ذاته. "وها زمن الحديد سلب الجميع أرواحهم، وتركهم يجرون وراء سراب لم يروه أبدًا" (ص28).
وإذا كان من ميزة للسيارة، وبالرغم من كل ما أحدثته من ثقوب في "التمثيل"، فإنها عكست ذلك الصنف من تشابك الرمز والخيالات في إطار من "المجال المعيش" (Espace vécu) تبعا لاصطلاح أرموند فريمو (Armand Fremont ). لقد ارتقت إلى مصاف "الفلتر" أو "المصفاة الاجتماعية" التي ارتقت بدورها بالسيارة نفسها من مجال الإدراك إلى مجال التمثّـل ــ سالف الذكر ــ الذي هو مجال "الرمزية المجالية" (Symbolisme Spatial). صارت السيارة "خريطة" تغطّي مجال التمثل وتملأ الرأس وتستحوذ على "الأرشيف". وأعتقد أن القسم الرابع (المدينة: فضاء معيش) من كتاب "الجغرافيا التعميرية" (Géographie Urbaine)، لجان بيير بولي (Jean-Pierre Paulet) (2005)، مفيد في هذا السياق القرائي.
وكان من المفهوم أن تحظى السيارة بهذه المكانة، لأنه لم تكن من قبل وفي تلك الفترة سوى سيارة الشرطة التي تتردّد على الضاحية، ثم سيارة رجال الإسعاف التي كانت نادرا ما تقصد الضاحية، إضافة إلى سيارة الحطّاب التي كانت في ملكية أندري النصراني صاحب معمل البلاستيك. وكانت هذه الأخيرة الوحيدة المألوفة في الحي. وبالرغم من كل ذلك لم تكن جزءًا من الواقع، أو بالأحرى لم ترق إلى أن تكون واقعا بديهيا، ولذلك كان أطفال الضاحية يتعقّبونها في مشهد اثنوغرافي ("ثالثي"، نسبة للعالم الثالث) أخّاذ. يقول السارد: "كانت سيارة السي الحطّاب وحدها التي تُرى على الدوام في الحي نهارا، فترى الأطفال في سراويلهم الفضفاضة التي تكبرهم، ويربطونها إلى بطونهم بأمراس من القنب حتى لا تسقط، يجرون وراءها وهي تنفث في وجوههم الدخان، ولا يتضايقون منه، محاولين أن يلمسوا جانبا منه، وكأنهم يرغبون في التأكّد من أنها ليست مصنوعة من اللحم مثل أجسادهم" (ص29).
إلا أن النظرة، إلى سيارة الصاحب، كانت لا تخلو من شك وارتياب وحذر ومتاعب ... على مستوى الوعي من قبل الأم (لالة عين الناس) التي هي محور القسم الأوّل من الرواية. ولذلك، وبعد أن كانت السيارة في أساس استدعاء ابنها الصادق إلى المحكمة بـ"تهمة" صدم امرأة نتيجة السرعة ليقف جنبا إلى جنب مع المنحرفين والجانحين واللصوص والنشّالين والنصّابين، ستقول الأم: "كيف ظلت السيارة في ذهني على الدوام شبيهة بكرة الثلج، والتي تكون في بداية أمرها ضئيلة الحجم، ثم لا تلبث، حين تتدحرج نحو الأسفل، أن تتضخم ضامة إلى كتلها الصغيرة كل البلّورات المفتتة التي تصادفها في الطريق" (صص71 ــ 72).
ولعل في هذا التحوّل ما يشير إلى ذلك النوع من التلازم بين المدنية والقلق. وكما يقول السوسيولوجي العراقي الأشهر علي الوردي في كتابه "مهزلة العقل البشري" (1954): "فالبشر كانوا قبل ظهور المدنية في نعيم مقيم. لا يقلقون ولا يسألون: "لماذا؟". كل شيء جاهز بين أيديهم قد أعدّه لهم الآباء والأجداد، فهم يسيرون عليه ولسان حالهم يقول: "إنا وجدنا آباءنا على ملّة، وإنا على آثارهم مهتدون". فالسيارة غيّـرت من سلوك الأفراد ومن العلاقات الاجتماعية ... إلخ. بكلام آخر: صارت السيارة "القضية المعيار" أو صارت المصفّـاة الاجتماعية في دلالة على ذلك الصنف من الإدراك الذي تتحدّث عنه دراسات جغرافيا التعمير. وعلى ذكر الدراسات الأخيرة لا بأس من أن نشير إلى دراسات أكثر ارتباطا بالموضوع، والمقصود ما يعرف بـ"دراسات سلوكيات البيئة" ( Environment Behavioral Studies) (EBS). وتفيد هذه الأخيرة على مستوى قياس تحوّلات التمدين في المجتمعات طالما أنها تمكّن المخطّطين من توقّع الأزمات التي تنشأ من الظواهر الاجتماعية المرتبطة بالفراغ العمراني. وهذا ما يجعل القضية، هنا، موصولة بما يعرف بـ"المحددّات الثقافية الحاسمة" التي تتأكّـد من خلال الرموز والخيالات ذات الصلة بآليات التغيّر والتكيف والمقاومة (الثقافية)... في البيئة السكانية. فالسيارة، وبعد أن ارتقت إلى مصاف الرمز الجارف، تمكّـنت من أن تمسّ "المخيال الاجتماعي" وكما تمكّنت من أن تركن بهذا المخيال في صنف محدّد من "الاستكانة الثقافية".
وحتى نعود إلى الرواية فمركزية السيارة، وعلى مستوى "النص الظاهر" وفي مجموعه، سرعان ما ستتأكد في القسم الثاني الذي سيتسلم فيه الصادق مشعل السرد وعلى النحو الذي سيجعله ينقلب على جميع ما حكته الأم محتفظا لها بصدقية حكاية واحدة تتعلق بأحداث 23 مارس 1965 الدامية ــ ربما ــ في دلالة على ساطور السياسة الذي يجعل "خشبة الذاكرة" تعمل وسواء في أدغال التعقّـل أو في أدغال الخرف التي اتهم بها الصادق أمه وعلى النحو الذي جعلها لا تميّز ــ وفي دلالة على ذروة الخرف ــ بين الأحياء والأموات ... وعلى ما يستتبع آلية ذهنية من هذا النوع من قلب للعلاقات الاجتماعية ومن خلط بين الأفعال والأدوار والوظائف والمصائر.
ومن ناحية السيارة، التي كانت في أساس التحوّل في تاريخ الضاحية الجنوبية ككل وكما أسلفنا، يقول: "وأنا لست ضد أن تتحدّث عن الضاحية الجنوبية نيابة فمّن عاشوا بها، فتذكر تفاصيلها ورجالها ونساءها وشبابها، وتوغل في تصوير المآسي التي ألمّت بأهلها، ولا ضد أن تنقل العالم إليكم وتراه من خلال امتعاضها السيارة، لكني لم أستسغ مبالغتها في الشكوى منها، فهي تركبها، ولم نلحظ يوما تبرمها منها" (ص90). وهذا بالرغم من أن السيارة ستكون هي سبب وفاتها نتيجة سكتة قلبية ناجمة عن الصدمة المترتّبة عن الحادثة التي بموجبها سيرقد الصاحب في المستشفى فاقدا للحسّ ومتأرجّحا ما بين الموت والحياة.
ليس هدفنا، هنا، أن نعرض لتفاصيل الرواية ولا لأنها تعجّ فقط بالتفاصيل الجزئية والحكايات المتداخلة والمتناسلة وببعض المصائر المتشابكة والمتشابهة، وإنما لأن التلخيص يقع خارج مدار "عمل الناقد" أيضا. هذا بالإضافة إلى أن "كرة الثلج" يحركّها نص آخر تحتي وخفي (Subtexte). وعلى هذا المستوى أتصوّر أن مفهوم "الدحرجة" ذاتَـه، أخذا بعنوان القسم الأوّل (الدحرجة الأولى) وعنوان القسم الثاني (الدحرجة الثانية)، مفهوم "ميتا نقدي" من ناحية، ومفهوم "ثقافي" من ناحية موازية. ومن ثم منشأ النسق الثقافي الاجتماعي، وكجميع الأنساق المضمرة والمفترسة، الذي تسعى رواية "كرة الثلج" إلى "الردّ الكتابي" عليه إذا جاز لنا أن نحيل على مفهوم من المفاهيم القاعدية في جبهة النقد الثقافي. والجزآن، اللذان يشكِّـلان بنيان الرواية، ليسا متوحِّدين من ناحية نمط السرد الذي يستقر عليه الراويان فقط، السرد في خيطيته المغوِّية وفي اندفاقه الأخَّاذ للمناسبة، بل إنهما متوحِّـدان من ناحية النظرة ذاتها التي يسعى النص ــ في مجموعه ــ إلى تسريبها أيضا.
وعلى الرغم من تساوق الثقافي والجمالي، في "كرة الثلج"، فإنه يصعب تأطير الرواية من أوّلها إلى آخرها ضمن "روايات سياق ما بعد الاستعمار" بخواصّها النصّية المتداولة وباستراتيجيات الكتابة ذات الصلة بالخواص نفسها، ودون أن يكون في نيتنا هنا أن نجعل من الالتباس بهذا السياق علامة على أهمية روايات مقارنة مع روايات أخرى. إلا أن ذلك لا يحول دون التذكير بإشارات كثيرة، وبعضها متكرّر، إلى الأوروبي في فضاء الدار البيضاء (ص29، 54، 68، 94، 100، 137)؛ ومعنى ذلك على امتداد وقائع الرواية في جزأيها معا. وبما انه يصعب استعادة مضامين هذه الإحالات فإنه من الضروري التأكيد على أن الرواية لا تقدّم الأوروبي باعتباره "غازيا" كما في الآداب ما بعد الكولونيالية التي تصرّ على تقديم "تمثيل مضاد" لتمثيلات الخطاب الاستشراقي الكولونيالي في ارتكازه على دعوى "المهمة التحضيرية" للشعوب المستعمَـرة.
وكان هذا الأوروبي، الفرنسي في الأغلب الأعم، هو الذي شيّد وسط الدار البيضاء وجعل منه مركزا تاريخيا دونما اكتراث بالانفجار المعماري الذي سيكون قرين ــ حتى نتكلم بلغة المعماريين (Urbanistes) ــ الضواحي (Périphéries) التي ستأخذ في الظهور بدءًا من الخمسينيات الصاعدة لتبلغ حد التوالد السرطاني حتى لحظة كتابة الرواية. والظاهر أن مناط تشكّـل الحكي، المرتكز على قاعدة الخطاب، في القسم الأوّل من الرواية، هو هذا المكان الأخير. والخطاب، هنا، على نحو ما هو مصاغ ومبلور في النقد الثقافي الذي أسلفنا الإشارة إليه، أي الخطاب الذي يجعل من الناس والمجتمع بؤرا لتأثيراته ومجالا لتشكيلاته وتنميطاته. إن دور المجال لا ينحصر في تسيير المجتمع فقط، وإنما يتجاوز ذلك نحو التحكّـم في هذا الأخير.
إن "الكذب"، وبغير معناه الأخلاقي، وعلى نحو ما حرص الصادق من خلاله على تبرير تسلّمه مِقْـوَد السرد، ليس من الضروري أن ننصاع لظاهره، وقبل ذلك فهو لا يعدو أن يكون ــ وحتى في إطار من "القراءة الأولى" للرواية، ومن منظورنا طبعا ــ إلا شرارة من بين تلك الشرارات التي تؤجّج الحكي كما نألف في روايات عديدة. الخلاف، والذي لا تأثير كبير له على مستوى النص التحتي، هو في التخفيف من حدّة التوابل الاتنوغرافية على نحو ما كانت تتأكّـد من خلال دلالات الوقائع ومن خلال دلالات الأسماء ــ ابتداءً ــ في الجزء الأوّل. أسماء ذات شحنة ضاربة في الجغرافيا السرية وذات صلة بـ"ثقل الأرض" و"رائحة التراب". أسماء من مثل لالة عين الناس ورحّال وعباس وحادّة وصغير والعوني والسعدية وفطوم وولد عايشة ... إلخ.
لقد أفسح الجزء الثاني لدلالة سوسيولوجية حضرية، مغايرة بعض الشيء، بالنظر لطبيعة المكان الذي يمكن النظر إليه كبطل جديد سيستوعب الصادق. والمقصود، هنا، "حي المعاريف" الذي بناه الأوروبيون (وضمنهن الإيطاليون أيضا) لتأخذ الطبقة المتوسّطة في تعميره بعد أن أخذت أفواج من الأوروبيين في مغادرته بعد الاستقلال تاركة وراءها الأسماء التي أطلقتها على الأزقة والمطاعم والحانات. ولا يبدو غريبا أن يكون أب الصادق، الذي سيظفر بدوره بمحل في هذا الحي، رجل تعليم. وكان هذا الأخير "قد غادر الدراسة، وهو ما زال في السنة الثانية من الثانوي، والتحق بمدرسة المعلّمين، ولما تخرّج منها عيّـن معلّما بمدرسة موسى بن نصير الابتدائية الكائنة على يسار "بيرو عرَب" تلك المعلمة التي ما زالت تشهد على مجد فرنسا العظيم، حين كانت تلقّـن العالم المتوحّـش أبجدية الحضارة" (ص54).
ولا يبدو غريبا أن ينساق الصادق وراء مسلكيات وعلاقات مغايرة ... حيث تكسير التواصل بلغة فرنسية مهّجنة، وحيث مشاهدة أفلام السينما، وحيث السباحة في المسابح ذات الطراز الهندسي الأوروبي الفاتن، وحيث الاستمتاع بمشروب البيرة ... وحيث ممارسة الجنس الذي سيهتدي إليه في سياق التعرّف إلى أسرة التبراني الثرية. فالسياق، هنا، هو سياق "الحداثة الوليدة، الخليطة والهجينة". وهو ما يفرض على الفرد، أو بالأحرى الكائن المديني، أن يتكوّر مثل قنفذ ماكر في أحيان وأحيان كثيرة. ولعل هذا ما جعل الصاحب يمقت مهنة أبيه، لأنها تربط في ذاكرته بينه وبين "سي عمر" الأصلع الذي كان يدرّسه التاريخ (ص114). وشخص، من هذه الطينة، يسهل عليه أن ينتحل صفة طبيب مرة وصفة ابنة عامل مرة أخرى ... وإن كان، في جميع مثل هذه الوضعيات، يكتشف أمره. وقد تجاوز جميع هذه المقالب حين باشر فيلم "الولادة الحقيقية"، لمخرجه جايرو أنينو (Jairro Aneno)، الذي يعرض لطبيب كان يغيّـر أطفال الولادة لقياس مدى ذكاء الأطفال وما إذا كان مصدر الذكاء التربية أم الوراثة. هذا وإن كانت نهاية الفيلم مفتوحة بعد أن اكتشف أمر الطبيب. وقد أجّج الفيلم من شكوك الصاحب خصوصا وأنه كان على علم بأن مولّدته كانت فرنسية في إحدى المصحات، هذا وإن كان لـ"الحشيش" تأثيره في حومة هذه الشكوك.
إجمالا لقد كان للبطل ما أراده، من غنائم وفتوحات، لكن على النحو الذي أفضى به إلى نهاية مأساوية جعلته لا يـفيق إلا بعد شهر من الغيبوبة بالمطلق ليجد نفسه في شلل تام نتيجة حادث سيارة غير السيارة التي سردتها الأم. وحصل ذلك في إثر التعرّف إلى خالدة التي دخلت عالم الدعارة من أبوابه الواسعة وهي في سن السابعة عشر من عمرها. وحصل ذلك بعد أن كان موزّعا ما بين الذهاب إلى ضفتين دون أن يدري كيف أنه سيجد نفسه مرغما على الانكماش على نفسه ليترك السيارة تصطدم بشجرة.
ومثلما كانت الأم مجلى للمكان الأوّل كان الابن، من ناحية موازية، مجلى للمكان الثاني. هذا على الرغم من الهوة المجالية (Spatial)، الجارفة، والحاصدة للمكان. وفي كلتا الحالين كان هناك وعي يتحرّك، وعي مشروط بشرايين المكان وغير آبه بمآلاته المفتوحة. وعلى الرغم من كل ما كشف عنه الصادق من احتيال وتقمّص للشخصية ... فإن وعيه، هذا، كان نابعا من الدار البيضاء أو بالأدق كانت هذه الأخيرة تفرضه. فالإنسان لا يعيش على المكان فقط، وإنما هو يحمل المكان في ذاته؛ مما يجعل هذا الأخير يعتصره ويوجِّهه على صعيد الوعي والواقع معا. وميزة الدار البيضاء أنها تتيح هذا النوع من "المكان المتوخّـى"، وبخاصة في حال إذا ما كان المرء يتوفّـر على قدر من الذكاء الفطري. والرواية تؤكد ذلك من خلال تداخل إواليات التحقيق والتخييل.
في ضوء ما سبق يبدو جليا أننا نرغب في تصنيف "كرة الثلج" ضمن الروايات التي تجعل من المكان، وكما من "جندرة المكان"، منطلقا لدفقها السردي ... وكل ذلك في إطار من التباس "التحقيق" بـ"التخييل"، وفي إطار من إيديولوجيا الكاتب أيضا. هذا وإن كانت الرواية لا تجعل من المكان بطلا لها على نحو ما يمكن استخلاصه من رواية "باريو مالقة" لمحمد أنقار مثلا؛ ودون أن يكون في نيتنا، هنا، أن نجعل من المكان معيارا تقويميا للنوع الروائي. وفي سياق النظرة التراتبية للعناصر التكوينية لـ"كرة الثلج" تبدو الإيديولوجيا سالفة الذكر بارزة، وعلى النحو الذي اقتضى منها استدراج رمزية السيارة لقياس علاقات المجتمع ولاستخلاص منظومة القيم القابلة للتفتّت والذوبان. وعلى النحو الذي يذكّرنا برمزية الذهب في "مائة عام من العزلة" في دلالة على الرأسمالية الزاحفة، الساحقة والجارفة. إن السيارة، في "كرة الثلج"، جاءت في سياق ما بعد الاستعمار بدلا من سياق مواكبة الاستعمار على نحو ما يمكن أن نقرأ في "نادي السيارات" للروائي علاء الأسواني. إجمالا إن المكان، في "كرة الثلج"، عام وهوياتي وإن كان غير تفصيليّ. إنه تعلة لإيديولوجيا معيّنة حرص الكاتب على ألا يدعمها بتوابل حرّاقة كما في غالبية نصوص الرواية الفرانكفونية.
وفي سياق الوعي الإيديولوجي، الخفي/ الظاهر، وعلى النحو الذي يجعل من الشخصيات أشبه ما تكون بالمقصورات التي تقودها القاطرة ــ التقليدية ــ إلى الوجهة المعلومة، وفي سياق الوعي ذاته وبعد أن جعل السارد الثالث من البطلين ... شخصيتين بدون أبعاد معقّدة ومستويات متعددة وفي إطار من "واحدية" السرد كذلك، فإن قدر "محطة السكة الحديد" قضى بانحياز السارد نفسه إلى موقف غير الموقف الذي ارتضاه الصادق. وحصل ذلك حين جعل هذا السارد من السيارة شيئا لا يرقى إلى أن يكون "معادلا" للشخصية في حجمها الاجتماعي القاعدي والطبيعي. فهي، ومن خلال مجموع المراكز الدلالية للرواية، ومن دوران المراكز نفسها، لا ترقى إلى أن تكون أداة لتحقيق الحلم في سياق "التملّك" المحموم والمهزوز في "مدينة الإنتاج والأرقام" كما اصطلح عليها الباحث والمهندس المعماري رشيد الأندلسي في "الدار البيضاء ... الهوية والمعمار" تبعا لعنوان الكتاب الذي تمّ إنجازه بالاشتراك مع كاتب هذه السطور.
والرواية، وعلى مستوى الأنوية السردية، ومن منظور "التحليل البنيوي" للسرد، محكومة بـ"التناوب" (Alternance) ... غير أنها، من ناحية القراءة، قابلة لأن تقرأ من اليمين أو اليسار؛ فلا حكاية تعلو على الأخرى. هذا بالإضافة إلى أنه كان بالإمكان الاستغناء عن القسم الثاني، وكان سيكون ذلك ــ في تصوّرنا ــ أفيد وغير مضّر بتأويل منسجم ومتكامل للنص. إجمالا لقد تمّ توريط الأم، وبشكل مقصود، في كذبة جعلتها، وفي دنيا الخرف، تخرج الأب من القبر حتى يشاركها زفافها، إلا أن ذلك لا يمكنه أن يجعلنا نميل إلى الصادق على حسابها كما تقتضي بذلك "مقصلة التأويل". إن الواقع الذي نعيشه "أكثر روائية من الخيال" إذا جازت عبارة كارلوس فيونتيس. ومن ثم ارتقاء "كرة الثلج" إلى "زمن الحديد" الذي لا يتساوى فيه الجميع من ناحية المصائر المفتوحة وإن دون اقتلاع للبشر من مسرح الوجود. ولذلك تخلّت الرواية، بدورها، عن النهايات المقفلة، الفولاذية تعيينا، حين أبقت على هامش من "الأمل" وتعيينا حين أقفلت صفحاتها بهذه النهاية (المقترحة): "أنتظر .. أنتظر .. أنتظر". وحصل ذلك في حال صفحات الأم وفي حال صفحات ابنها الصاحب على حدّ سواء.