إن الاغتراب الجمالي من أهم أشكال الاغترابات الإبداعية، وبالتحديد من أهم أشكال الاغترابات الفنية؛ لأن الحساسية الجمالية، والفكر الجمالي لا يخلقه إلا الإبداع الحقيقي؛ والفكر الجمالي المنفتح الذي ينبع من نفس عذبة متشوفة إلى الجمال والإبداع، وباحثة عن الجمال في كل شيء، وللأسف أقول: إن كل من بحث في موضوع الاغتراب لم يتناول هذا الشكل الاغترابي المهم في تحفيز الشعرية، وأغلبهم لم يشر إليه مجرد إشارة، وهذا ربما يعد مأخذاً عليهم، لأن الاغتراب الجمالي هو من ثمار الشعرية، إن لم يكن المنتج الحقيقي لها؛ وبتقديرنا: إن المبدع الجمالي هو أكثر اغتراباً في شكل إبداعه عن غيره من المبدعين، وبمقدار انفتاح المبدع في تطوير رؤيته الجمالية، والبحث عن التميز، والانفراد في هذه الرؤية بمقدار ما تحقق تجربته تفردها الإبداعي، واغترابها الفني الشاعري المؤثر.
ومن هنا، يمكن القول: إن الجمال شعور اغترابي كما هو الاغتراب الوجودي، والنفسي، والشعوري، فكل المبدعين الجماليين أو المؤثرين يملكون طقوسهم الإبداعية الخاصة التي تصطدم مع غيرهم في ميلوهم، ورغباتهم، واستعداداتهم الشعورية ومحفزاتهم الجمالية، وحسهم الجمالي وشعورهم، وأحاسيسهم وأفكارهم، وأعتقد أن المبدع الجمالي هو أكثر اغتراباً من غيره من المبدعين، وغالباً ما يمتلك المبدع الجمالي رؤية جمالية خاصة، غاية في التكثيف، والإيحاء، والشعرية؛ ومن هنا، يمكن القول: إن جل النصوص الإبداعية المؤثرة تملك درجتها القصوى من الحس الجمالي، أو الاغتراب الجمالي في تشكيلها، وهذا يعني أن البحث في هذا النوع من الاغتراب هو بحث بكل مثيرات الجمالية عند المبدع في مضمار النص الإبداعي الذي استحوذ على قيمه الجمالية الخاصة به، وانفرد بها عما سواه. ولا يمكن للنص الإبداعي أن يسمو بمعزل عن ماهيته الجمالية، وقيمه الجمالية، ومن هنا يتخذ هذا الشكل الاغترابي مشروعيته وأهميته في التجارب الإبداعية المؤثرة التي تؤثر، وتغير، وتباغت، وتحرك، وتحفز النص الشعري، ولولا القيم الجمالية المتولدة على الدوام التي تثيرها النصوص الشعرية المغتربة في شكلها الاغترابي الجمالي الخاص، لاضمحل الشعر، واضمحلت الشعرية؛ ولا نبالغ في قولنا:لكانت القصائد متناسخة في قيمها الجمالية، لدرجة تبدو هذه القيم سكونية لامحالة ستفقد خصوبتها وطيفها الجمالي مع الأيام.
ووفق هذا التصور، يمكن القول: إن الاغتراب الجمالي يتأسس على المحفزات الجمالية، التي ترتقي بالنسق الشعري جمالياً، و تثيره إبداعياً، وهي التي ترتقي بفضاءات الرؤية، ولذلك؛ يخطئ من يظن أن بذور الشعرية ومثيراتها بمنأى عن الاغتراب الجمالي؛ ولذلك؛ نعد الاغتراب الجمالي هو الرافد لكل القيم الجمالية النصية الأخرى، لاسيما بارتباطه بالرؤية، ومن أجل أن يحقق الاغتراب الجمالي ثماره اليانعة في النصوص الشعرية لابد من تضافر جميع القيم الجمالية في تفعيل الشعرية، بما في ذلك تفعيل الرؤى والدلالات، إذ يقول: «في كل جملة شعرية يجب أن تتلامس الحروف مع بعضها برقة، وتناغم، كتلامس الأجراس، لتصدر دقات الموسيقا العذبة. يجب أن تلعب الحروف مع بعضها كما تلعب الأسماك في بركة الماء الصغيرة, يجب أن ترقص النافورة في صحن الدار. يجب أن تكون رشيقة في انتقالها بين السطور. فالكلمات الحية توشوش، وتزقزق، وتسقسق، وتهدهد خصوصاً إذا كان موضعها جميلاً في الجملة الشعرية. والكلمات الحية تتعانق، وتتعارف، وترقص، وتهزج، وتهدأ، وتغفو، وتأمر روح السامع بالاسترخاء والإغفاء بعد انفعال جميل لذيذ.. وبهذا المعنى، أحاول اكتشاف الانسجام بين الجمال الموسيقي (الصوتي) والجمال التعبيري، والذي ينتج من التلاقح الصحيح بين الحروف، والكلمات، واكتشاف المخزون الانفعالي والإيقاعي، خصوصاً حين يسيطر حرف ما على النص، ويتكرر في دوامة الأحاسيس المستيقظة والمنسابة في سهولة، ويسر، حين تترقرق في الجملة دون نشاز، يسيطر إحساس متناغم على اللغة، ويجعلها طيعة تماماً كما يترقرق الماء في المجرى، خالقاً عالماً من التناغمات والسقسقات.»(1)
وبهذا الحس الجمالي الشاعري تتشكل النصوص الشعرية معلنة اغترابها الجمالي؛ هذا الاغتراب الذي يميز النصوص الإبداعية من سواها، والشعراء الجماليين من غيرهم من الشعراء الكلاسيكيين الذين يسيرون على أشكال أسلوبية مكرورة، ورؤى مستعادة متحجرة لا قيمة لها في ميزان الإبداع الجمالي المتجدد. وبتقديرنا: إن شعرية الاغتراب الجمالي -عند حميد- تتأسس على مغريات اللغة الجمالية المحملة بالرؤى والدلالات المفتوحة، فالشاعر يؤمن بأن الشعرية انفتاح جمالي؛ يستثير الرؤى، ويحفز المداليل الشعرية، بما يضمن شعرية الإثارة والتكثيف، ومن هذا المنطلق، فإن جمالية الاغتراب في قصائده يتأسس على قيم جمالية مكثفة؛ على مستوى مغرياتها الفنية، وبتقديرنا: إن الاغتراب الجمالي تأسس –في شعر حميد سعيد- على أشكال عدة، ومثيرات مختلفة، يمكن أن نوجزها بهذه الأشكال، وهي:
1. الاغتراب الجمالي بالقيمة الجمالية أو الفاعلية الجمالية
ونقصد بهذا الشكل الاغترابي الجمالي (بالقيمة الجمالية أو الفاعلية الجمالية): كل شكل فني جمالي محفز للشعرية أو مفرز للقيم الجمالية في النص الشعري من قريب أو بعيد، فالنص الشعري هو حصيلة بنى، ورؤى متضافرة، وهذه البنى ترتد بتفاعلها، وتضافرها إلى مجموعة قيم تظهر في شكل النسق اللغوي الفني الذي يتشكل ضمن النص، ولهذا، فإن النص الشعري المحفز هو النص المغري بقيمه الجمالية، وهو النص المحرك للشعرية بكل طاقاته، ومحركاته الإبداعية؛ ومن هنا، لا يعد النص الفاعل جمالياً نصاً توثيقياً، أو نصاً مشاعرياً صاخباً، إنه حراك جمالي ببناه، وقيمه الجمالية، وهذا ما يجعل من بعض النصوص الإبداعية أرقى في جمالياتها من بعضها البعض، ووفق هذا التصور، فإن كل ما يولد قيمة جمالية في هذا الشكل الفني أو ذاك يقع ضمن دائرة الاغتراب الجمالي الذي يحاول الشاعر من خلاله تأكيد اختلافه، وبصمته الإبداعية الفارقة، ولهذا، تتفاوت قيمة المنتج الفني جمالياً بحسب مهارته الإبداعية، وفاعليته الرؤيوية، وإفرازاته جمالياً.
وبتقديرنا: إن حميد سعيد اشتغل جمالياً على بنى ومحفزات جمالية مفتوحة، تحفز القارئ، وتستثيره جمالياً؛ فالقصيدة – لديه مغتربة- في منحاها، ورؤاها المحفزة، وهذا يعني أن كل مقوم جمالي، أو محفز جمالي يخلقه في نصوصه يملك معنىً، ورؤية، ودوراً مهماً في تشكيل رؤيته النصية، ومن أجل ذلك، فإن شعريته تتضمن أكثر من رؤية جمالية، ومدلول نصي، غاية في التنامي، والكثافة، والشعرية، والإيحاء والتنوع والتفريع، .ويعرف (فاليري) الفاعلية الجمالية بقوله: (تعني الفاعلية الجمالية المقدرة على معالجة الموضوع الفني بشكل جمالي)(2)، ويقول أيضاً:" أنا أكون مبدعاً بما أنا قادرٌ أن أفعل"(3)
ويعد الاغتراب الجمالي بالقيمة الجمالية، أو الفاعلية الجمالية من مؤسسات خصوبة الشعرية، وتفعيلها جمالياً، خاصة إذا أدركنا: أن الاغتراب الجمالي هو المحك الفني في الحكم على فاعلية الرؤية الجمالية، والمضمون الجمالي، وبما أن الاغتراب الجمالي قيمة جمالية متغايرة من تجربة إلى أخرى، فإن الفاعلية الفنية متنوعة كذلك في النصوص الشعرية، تبعاً لمهارة الشاعر في تفعيل الرؤية، وتحريكها فنياً؛ وفق معطيات ومحرضات ودوافع جمالية تثير هذا المنتج، وترتقي به إبداعياً.
ومن يطلع على تجربة الشاعر حميد سعيد –على المستوى الجمالي- يلحظ غنى هذه التجربة بقيم اغترابية جمالية تؤكد خصوصيتها، وبلاغتها في الاستثارة والتأثير، ف (لقصائد حميد سعيد) فاعليتها الجمالية المؤثرة وقيمها الجمالية المتنوعة، ورؤاها الشعرية المبتكرة، إنها ذات ألق دائم وحراك جمالي مستمر على مستوى أنساقها، وفاعليتها في إثارة القيم الجمالية وتحويلها من قصيدة لأخرى، مما يؤكد تفرد نصوصه، وغناها بالمثيرات، والمحفزات الجمالية الكثيرة، كما في قوله:
شَجَنٌ يُباركُ لي فضاءاتي .. يُعَلِمُني مسرات البكاء
وكدتُ أنسى..
أَوجَدتِ في قاموس أفراحي .. سلالات الذين ترحلوا ؟!
أبقيتِ لي لغةً تُناوئ ذلك الماضي .. وتنأى
أَهدَيتِني أُفُقاً.. وقد طارت حماماتٌ محنَطَةٌ..
فما ضلَ الحمامُ طريقَ عودته .. وإن ضلَ الحنوطْ
ليسَ القنوطْ..
ما كان يأخذني إلى طاووس ليلي .. كان يأخذني إلى الليل القنوطْ
ولقد وجدتُكِ.. حيثُ أودعتُ الشذى في اللون.
ودَعتُ الهوامشَ والمتونْ"(4).
بادئ ذي بدء، نشير إلى أن الاغتراب الجمالي بالقيمة الجمالية، أو الفاعلية الجمالية- في شعر حميد سعيد- يتأسس على مغريات الرؤية، وسلاسة اللغة في إصابة جوهر الرؤية الصوفية، ومضمونها الجمالي، وهنا، استطاع الشاعر أن يخلق من المفردة الصوفية قيمة جمالية اغترابية مثيرة (قاموس أفراحي- ضل الحنوط- أودعت الشذى في المتون)، فكل مفردة تشكل في نسقها قيمة جمالية اغترابية تشي ببعد الرؤية الصوفية، فالشاعر يوظف المفردة الصوفية بحس شاعري جمالي اغترابي، وهذا ما صرح به قائلاً:" لقد حاولت باستمرار أن أفيد من لغة الصوفيين، فهي لغة شعرية بامتياز، حتى حين لا نجد شعراً صوفياً في الشعر العربي، بمستوى شعرية هذه اللغة، بينما نجد في الشعر الفارسي أو الأذري– نسبة إلى أذربيجان – كما اطلعنا عليه مترجماً، نماذج شعرية عالية.
بينما، نجد في النثر الصوفي العربي، غنى، في قاموسه، وبنياته، وإشراقاته، كانت وستظل مصدراً مهماً من مصادر إغناء الشعرية، وهذا ما حاولت الاشتغال عليه في قصيدتي.
أما الأمر الثاني، إن في مكوناتي ما يشبه النزعة الصوفية، تقترب بي من التقشف، والبذل، والحرية والمحبة والتواضع، من دون أن أدخل مدخل الفكر الصوفي وشطحاته وتطرفه وعجائبية طقوسه وانحرافاتها ".(5) وبهذا الاشتغال الإبداعي، يحقق حميد سعيد شعرية الرؤية الصوفية، ومدلولها النصي الاغترابي في قصائده، وهذا الاشتغال يرفع وتيرة الرؤية، ومحفزاتها الجمالية المؤثرة، كما في قوله:
لي ملاذٌ
سَيُخرجُني من ملاذ نعاسي
ويُدْخِلُني جَنَةَ النوم .. والنومَ
مازلتُ منهمكاً بتقاويم بيض..
وما زلتُ أُخرِجُ من حجب الذاكرةْ
لغةً ماكرةْ
ثم يَخرجُ موتى كثيرون .. يَغوونني ببياضٍ بعيدْ
أكادُ أُرافقهمْ..
نجمةٌ ستسد الطريقْ..
وتأخُذُني موجةٌ من ضياءٍ إلى ما تريدْ"(6).
لابد من الإشارة بداية إلى أن الاغتراب الجمالي بالفاعلية الجمالية أو المحرضات الجمالية في قصائد حميد سعيد يتأسس على الرؤية الشعرية التي يبثها في نسق الصور، والأنساق التشكيلية المراوغة التي ترفع سوية القصيدة جمالياً، وقد قلنا في دراسة قيمة عن هذا الاغتراب:" إن حساسية المبدع الجمالية هي وراء أية مماحكة أسلوبية ناجعة في السياق، وهي التي تتحكم في تحفيز القدرة الإبداعية لدى المبدع على البناء الفني المثير"(7).وهنا، نلحظ قيمة الاغتراب الجمالي في إبراز فاعلية الأنساق، وإكسابها قيمة إيحائية مكثفة، كما في الأنساق الشعرية التالية:( لغة ماكرة= بياض بعيد= تقاويم بيض)، وهذا الاغتراب الجمالي ما هو في المحصلة إلا نتيجة حساسية جمالية، ورؤية تشكيلية فاعلة في إثارة الموقف الصوفي، وإبراز توق الحالة الكاشفة، لتصل على أرقى مستويات الإثارة التشكيلية، وفاعليتها النسقية، وهذا ما يضمن تفاعل الأنساق بفاعلية نسقية محفزة للصور، وكاشفة عن رؤاها العميقة. ومن الملاحظ أن شعرية الأنساق الجمالية في قصائده، تأتي ركيزتها نزعته الصوفية وأنساقه التشكيلية المراوغة كما في هذا الحس الجمالي المراوغ التالي في التشكيل (موجة من ضياء) الذي يؤذن بتحليق رؤيوي ينم على فاعلية جمالية غاية في الإثارة، والكشف، والشاعرية، وهذا ما يضمن إثارتها، ودهشتها الجمالية.
وصفوة القول الذي نرومه: إن الاغتراب الجمالي بالفاعلية الجمالية، أو القيمة الجمالية من محرضات الرؤية النصية – في قصائده- وهذا يعني أن إيقاع اغترابها ليس دلالياً أو وجودياً، وإنما هو اغتراب جمالي ركيزته الحساسية الجمالية، والخبرة التشكيلية التي تثير قصائده في شكلها وأسلوبها، وتكامل بناها، من سرد، ووصف، ودراما، ورموز فاعلة محركة للدلالات والباعثة على فواعلها الجمالية، ونواتجها الدلالية المؤثرة.
2. الاغتراب الجمالي بالحنكة الجمالية، والدافع الجمالي:
ونقصد ب( الاغتراب الجمالي بالحنكة الجمالية، والدافع الجمالي): الاغتراب الجمالي الذي يثيره الشاعر بالمهارة الجمالية، أو التشكيلية المبدعة، ولن يرتقي النص الإبداعي -بمنظورنا- إلا بتنوع أساليبه، ومفرزاته الجمالية، وكم من النصوص المبدعة المؤثرة جمالياً لا تبرز جماليتها إلا من خلال الحنكة الجمالية التي تملكها في كل جزئية من جزئياتها، وهذا يعني أن النص الإبداعي المثير هو الذي يغترب في شكله الإبداعي؛ وفي مضمونه، ورؤاه، ودليلنا أن أغلب النصوص الإبداعية جمالياً هي المغتربة في رؤاها، ومدلولاتها، ومحفزاتها النصية، وبهذا المقترب أو المعنى المخصوص يقول (سترندبرج) في طريقة النشوء الفني في فن الرسم موضحاً قيمة الدافع الفني، أو الدافع الجمالي في تشكيل لوحته، وتخليقها فنياً ما يلي:" يجب عليَّ أن ألاحظ أن علينا أن ننظر إلى اللوحات المرسومة في فضاءات نصف معتمة لا تحتمل ضوءً كاملاً، إلا بواساطة علامة نارية قوية، أو فضاء نصف معتم، وما ينتج عن ذلك، متروك نصفه للصدفة، والنصف الآخر لكامل الدافع الجمالي أيضاً"(8)، ولهذا، فإن الدافع الفني هو المحرك للشعرية، وهو وراء دافع اغتراب الشاعر في منتجه الفني، بعيداً جمالياً عما سواه.
وبما أن الدوافع الفنية تشكل محفزات شعورية ضاغطة على الذات في لحظة التكثيف الجمالي أو الفني، فإن ما يُعَضِّد شعرية الدوافع قوة الذات على توجيه الرؤية نحو جوهر العمل الفني، وقد كان الناقد الجمالي(فرانسيس مارك) محقاً عندما قال:"إن الفنان وحتى عندما يرسم قبل تأثير الدافع الفني، لا يحطم الحالة الانفعالية للوحته إلا بمقدرته على انتزاع الجواهر الكامنة في تجمع أنواع عديدة من العناصر النموذجية، ليعيد إنتاج البناء الكامل للعمل الفني، انطلاقاَ من نقاط ارتكاز عارية مدهشة"(9) وبهذا المعنى، يبقى الفن الجمالي المؤثر رهين دوافعه، ومؤثراته الجمالية، و رهين مثيراته العاطفية، وذبذباته الشعورية، وهذا ما يجعل الفن رهين اغتراباته الجمالية، ورهين شعرية دوافعه ومقاصده، وقيمه الجمالية التي تمظهرت في داخل بنية العمل الفني.
وبهذا التصور، فإن الاغتراب الجمالي بالحنكة الجمالية هو من مغريات بنية القصيدة عند حميد سعيد، ومن أجل ذلك فهو يثير القارئ دائما بالانتقال في رؤية القصيدة، من رؤية إلى أخرى، ومن مدلول نصي إلى آخر، ومن محفز جمالي إلى آخر؛ مما يضمن لها التميز، والتفرد، والأصالة الاغترابية، وتأكيدا على هذا، فإن جل أشكال الاغتراب الجمالي في قصائد حميد سعيد تكشف عن عمق محفزاته الشعرية، وفكره الجمالي، وألق الصور المكثفة التي يثيرها في قصائده.
ووفق هذا التصور، نقول: إن الاغتراب الجمالي بالحنكة الجمالية والدافع الجمالي من مغريات قصائد ديوانه( من أوراق الموريسكي) التي ترتقي أكثر من مستوى، وأكثر من مدلول، وهذا ما يجعل دوافعها الجمالية متنوعة تبعاً لتنوع الدلالات، وتناميها على المستوى الدلالي والفني، كما في قوله:
"ما عادَ للغجريِّ..
من يحكي لهُ ما كانَ..فاعتزَلَ الغِناءْ
وتفرَّق الركبُ الجميلُ
لا واحةٌ بيضاءُ في هذا البياض.. ولا قَـبيلُ
كنّا غَدونا ذاتَ منعطفٍ.. كباراً..
أيّـها الولدُ الكسولُ
الخيميائيُّ المبجَّلُ..
يَمنحُ المدنَ الكئيبةَ سِحرَهـا الليليَّ
يأتي حيث كانَ.. البحرُ
كيف يكونُ..
وقد نأت بيروتُ.. بعدَ تباعدِ النُـدمانْ
مَـن ماتوا.. ومَـن قُـتِلوا.."(10)
بادئ ذي البدء، نشير إلى أن الاغتراب الجمالي بالحنكة الجمالية والدافع الجمالي- من مؤثرات الصورة، ومحركات السرد، في قصائد حميد سعيد؛ وهذا يعني أن الاغتراب الجمالي في قصائده ليس من مقتضيات الصورة، والأنساق اللغوية المماحكة فنياً فحسب، وإنما من مؤسسات الحركة السردية ووحدة الرؤية، وتكامل المعنى، وحراك الدلالات في النسق الشعري، وهذا ما يجعل مدها التأملي وحراكها الجمالي مفتوح الرؤى، والدلالات، والمؤشرات الإيحائية. وبالنظر في فاعلية الاغتراب الجمالي بالحنكة الجمالية والدافع الجمالي - في المقطع السابق- نلحظ غنى الدوافع الجمالية التي تتمظهر في هذا الاتساق الرؤيوية التي تسير على نبض دافق وتكامل إيحائي، مؤسس على وعي جمالي في إبراز المشهد العاطفي بكل حرارته، ودفقه الشعوري، وكأن الشاعر يهندس رؤاه، واغتراباته الشعورية بحنكة جمالية، وإحساس جمالي، وهذا يقودنا إلى القول: إن الاغتراب الجمالي بالحنكة الجمالية والدافع الجمالي يحقق لقصائده دوافعها النفسية المثييرة، واحتداماتها الشعورية المأزومة التي تسير على خيط شعوري موحد؛ يشي بالتكامل، والتفاعل، والتضافر النصي الفاعل على المستويات كلها.
وهذا الأسلوب الاغترابي سمة قصائده التي تشتغل على الدوافع، والمؤشرات، والبنى الرؤيوية الفاعلة في الإثارة والتحفيز، كما في قوله:
"المرجئونَ الوردَ في أكمامهِ..غَـفَلوا
فكانتْ..
مُـذ تَعلَّمتَ الكلامَ وأنتَ تُـرهِـقَـها.. بِصمتِكَ
هل ستدعونا إليها ذات ليلً.
أم تعبتَ؟
تَعبتُ..
لا أحدٌ يُشاركُـني خُـطايْ
لا دارُ مَيَّـةَ.. حيث تَنفَتِحُ السهوبْ
وتُعيرُ مِعطفِهَا لميَّةَ.. في الغروب
يتذكَّرُ الغَجريُّ من كانوا.. ويَنسى أن يكونْ
حَجَلٌ على أوتارِ قيثاري.. يقولُ لها..
وينسى أن يكونْ"(11).
لا بد من الإشارة بداية إلى الاغتراب الجمالي بالحنكة الجمالية والدافع الجمالي من مؤشرات الفاعلية الجمالية المحرضة في تحقيق الشعرية في قصائد حميد سعيد التي تشتغل على وحدة الشعور، وتفاعل الدوافع الجمالية مع الحركة الشعرية المموسقة، بإيقاعها الشعوري، وهذا يؤكد أن شعرية الدوافع ترتقي بالحركة الجمالية لبناه اللغوية، وكأن البنية اللغوية مؤسسة على دافع جمالي، أو إحساس جمالي يرومه من هذا الشكل الجمالي أو ذاك، وبتقديرنا، فإن شعرية الدوافع ترتقي بحركة الأنساق، وتثير فاعلية الرؤية المبثوثة في قصائده.
وبتدقيقنا- في المقطع الشعري- نلحظ تفاعل الرؤى، والمثيرات الاغترابية التي رافقت شخصية الموريسكي في غربته الوجودية والمكانية، وإحساسه بعالمه الوجودي، وذكرياته الماضية بعدما ارتحل عن مدينته ودياره، وفقد مملكته الضائعة، وهذا يعني أن غربة الشاعر المكانية أو الشعورية انعكست على غربته الفنية، ولا عجب في ذلك فهو يقول:" لعل الاغتراب المكاني، هو أكثر الاغترابات شيوعاً وأكثرها تأثيراً وحضوراً في النص الثقافي، أما الاغتراب الزماني، فهو ينتج عن خلل ثقافي وتربوي، إذ يعيش الإنسان في زمن آخر غير زمنه الواقعي، وهذا ما يقوده إلى حالة صدام مع البيئة، والمجتمع، وهو من أخطر أسباب عزلة الأصوليين، وكل الذين يستبدلون الماضي بالحاضر، فيرون في كل جديد انحرافاً.ولقد استطعت دائماً أن أتواءم مع اغتراب المكان، بالإقبال على مستجداته حيناً، وبإيجاد بديل إبداعي حيناً آخر، وهذا ما ظهر آثاره في شعري في جميع تجاربي مع الغربة المكانية، منذ قصيدتي الأولى" الجليد" التي كتبتها وأنا شاب يافع، وجد نفسه في محيط غريب عنه، حيث عشت في تلك المرحلة بعيداً عن الأسرة والبيت، عن مدينتي وأصدقائي.
وظهر ذلك أيضاً في "ديوان الأغاني الغجرية" الذي كتبته خلال إقامتي في إسبانيا، وكذلك في ديوان" من أوراق الموريسكي" حيث كانت القصيدة هي المكان المتخيل والبديل عن المكان الذي صار بعيداً".(12)
وهذا يدلنا على أن الاغتراب الجمالي بالحنكة الجمالية والدوافع الجمالية من محركات القصيدة الشعرية في تفردها الإبداعي، وحراكها الفني عند حميد سعيد، لأنها ترتبط بالباطن الشعوري والاحتراق الباطني، ذلك أن الاغتراب الفني لا ينفصل عن أشكال الاغترابات الأخرى في تحفيز الشعرية، وتخليق الرؤية الجمالية أو الإبداعية من الصميم، ولهذا؛ تبدو القصيدة -عند حميد سعيد- مرتكزة على دفق الأحاسيس الاغترابية التي تتوالد باستمرار، دون توقف في إفرازاتها الجمالية، وحراكها الشعوري الذي يستمر، ويتتابع تبعاً لحركة الدوافع الجمالية، التي تزيد من جاذبية الرؤية، ومحركاتها في قصائده على المستويات كلها..
3. الاغتراب الجمالي بالمهارة الجمالية، والفاعلية التصويرية:
ونقصد بـ(الاغتراب الجمالي بالمهارة الجمالية والفاعلية التصويرية):الاغتراب الذي يظهره النص الشعري في توجيه دلائله، عبر دلائل مرجعية، فاعلة في التكثيف، والإيحاء، وبتقديرنا: إن الشاعر المبدع هو الذي يمتاز بمهارته الجمالية، بالانتقال من مثير اغترابي جمالي في هذا الشكل اللغوي، إلى مثير جمالي آخر في الشكل اللغوي الآخر؛ مما يدلنا على أن قيمة المحفزات الجمالية التي تثيرها النصوص الإبداعية متغايرة ومتنوعة على الدوام بحسب الأسلوب الجمالي، وطريقة التشكيل الإبداعي، وبتقديرنا: إن شعرية حميد سعيد الجمالية تبدت في مهارته اللغوية، والحياكة الجمالية التي ترتقي بالنسق الشعري إلى آفاق رؤيوية خصية من الإيحاء، والفاعلية، والتأثير؛ وهذا ما يضمن لها، المزيد من التألق، والتميز، والإبداع؛ولا نبالغ في قولنا: إن الاغتراب الجمالي بالمهارة الجمالية هو من أبرز محفزات الشعرية التي تتضمن كل مظاهر الإثارة باللغة الشعرية، بالانتقال من مثير إلى آخر، ومن دلالة إلى أخرى؛ ولا نذهب بعيداً في قولنا: إن الفن الجمالي هو القادر دوماً على خلق الجمال، ولا نبالغ في قولنا: هو الفن القادر دوماً على تحويل القبح إلى قيم عليا في الجمال، وهذا ما أشارت إليه بشرى البستاني في قولها:" إن جدوى الفن أنه يعبر عن القبح بما يحوله إلى جمال في التشكيل".(13)
واستناداً إلى هذا، يمكن القول: إن جدوى الفن يكمن في جدواه الفنية، ومفرزاته الإبداعية، ومتغيراته الإيحائية، وشكله الجمالي الخصب، ومتغيراته الفنية، وقيمه الأسلوبية الجديدة المتحركة على أكثر من اتجاه؛ وهذا يدلنا أن الاغتراب الجمالي بالمهارة الجمالية، والفاعلية التصويرية يكمن في القدرة التصويرية التي تنبع من مخيلة الفنان، لاسيما حين يثمر هذا الاغتراب بصور مكثفة الرؤى، والقيم الجمالية، والدلالية بما تتضمنه من إفرازات جمالية تشي بالكثير من مداليل الاغتراب، والحرقة، والإحساس الجمالي، والفاعلية الفنية، ذلك أن جدوى الفن يحرك الأشياء، ويكسبها صيرورة جديدة في الممانعة، والمفاعلة في الرؤية، والدلالة؛لأنه عن طريق الصورة تتحرك انفعالات عدة، ورؤى جمة وأحاسيس محتدمة، كانت راكدة في النفس، أو أنها فوضوية في باطن النفس، والشعور يأتي الفن ليكسبها هذا الانتظام، والفاعلية، وقوة التأثير؛ ولا يبالغ الشاعر السوري فؤاد كحل في قوله" من خلال الصورة تتعمق دلالات النص وإيحاءاته، وتتجلى القوة الإبداعية التي يمتلكها الشاعر، فإذا كان الإيقاع يحتسب عناصر اللغة كلها، فإن إيقاع الصورة يتجلى من خلال صلة الصورة بفاعلية اللغة، ونشاط التركيب، وقوة الشاعرية".(14)
ومن هذا المنظور، يمكن أن نعد الاغتراب الجمالي بالمهارة الجمالية والفاعلية التصويرية من فاعلية الرؤية الشعرية، وخصوبة مردودها الجمالي، وهي التي تحدد درجة الشعرية في بنية النص الشعري، وبتقديرنا: إن الفاعلية التصويرية من مؤثرات الاغتراب الجمالي في القول الشعري، ونقطة تمفصل الرؤية الشعرية، ومركز خصوبتها الجمالية في الكثير من الأحيان. ولذلك، ذهب بعض المبدعين، وفي مقدمتهم الشاعر فؤاد كحل إلى القول:" الصورة أساسية في بناء الشعر على أن تكون جزءاً من تكوين الصورة الكلية للقصيدة، والتي- بدورها- توحي بتصور شامل للحالة الإبداعية التي انبجست عنها القصيدة، وإلا فقد تكون أقرب للمجانية"(15). وبتقديرنا: إن الاغتراب الجمالي بالمهارة الجمالية والفاعلية التصويرية- في قصائد حميد سعيد- يحقق لقصائده متعة في الدلالة، وتكثيف الفواعل الدلالية والإيحائية عبر الاغتراب الجمالي الذي تثيره الصور، وتحلق في فضاءاته التشكيلية، وهذا ما يثير الفضاءات الجمالية لقصائده، مولدة فيه إيقاعات، ودلالات ورؤى مفتوحة، كما في قوله:
رابَني .."
أنْ أراكِ كما كنتِ.. قبلَ الغناءْ
أنْ لا أرى في معلقة الريح .. عاصفتي
لا أرى في كتابكِ..
ما كنت أودعته من شجىً وحرائق بيضْ
رابني .. أنْ تلمَ الحدائقُ أورادَها
وتلمين وردَكِ.. في نقطةٍ عوذتها الحروف ْ
هل أُشبه وردك بالوردِ .. أم بالتهاليلِ ؟!
ما زلتُ أخشى عليكِ من شائك الضوءِ..
من لحظةِ.. تتقلَب فيها القلوبْ"(16).
بادئ ذي البدء، نشير إلى أن الاغتراب الجمالي- بالمهارة الجمالية والفاعلية التصويرية في قصائد حميد سعيد - يرتقي بحركة الأنساق التشكيلية، وهذا يعني أن غربته الجمالية غربة شعورية ورؤيوية في هذا الشكل اللغوي أو ذاك، ومن هنا، فإن المهارة الجمالية- لديه- مهارة فنية، رؤيوية، تبث مثيرها من شعرية النسق الوصفي، إلى النسق الدرامي، إلى النسق السردي؛ وهذا ما يضمن لها شعرية التشكيل، وسحر الإيحاء، ووفق هذا التصور، يمكن القول: إن الاغتراب الجمالي هو من مثيرات الفاعلية الجمالية التي تنمي في أنساقه الشعرية حركة فنية كاشفة تشي بكثير من الرؤى، والدلالات المفتوحة التي يبث فيها شجنه العاطفي، وشعوره الصوفي المتقد، وهذا ما نلحظه في الأنساق التشكيلية التصويرية الكاشفة، كما في الأنساق التالية:( حرائق بيض= شائك الضوء= تلمين وردك)؛وهذه الاستعارات تكمن فاعليتها في إشعاعاتها الصوفية في النسق، وهو ما يضمن لها توثبها الفني، وحراكها الجمالي الأخاذ، وهذا يدلنا أن شعرية الاغتراب الجمالي تتبدى من شعرية الاستعارات، وتوهجها إبداعياً، ولهذا، تأتي جل المقاطع الصوفية شعلة في الاتقاد والتحفيز الجمالي، وهذا ما يضمن جمالية الشكل النسقي الذي يتواشج مع الفواعل الدلالية في تعميق الرؤية، وتكثيف التجربة الشعرية. وهذا الأسلوب الاغترابي يثيره في معظم صوره، وأنساقه التصويرية الكاشفة عن حنكة، وممارسة جمالية في الشكل اللغوي مؤثرة في الاستثارة والتأثير، كما في قوله:
مُذْ تخيَلها .. وهي تعبرُ حقلَ القرنفلِ..
تدخلُ في شجرِ الخَزَفِ الأزرق العراقي..
في القباب ِ
وتمد أصابعها في خيوط الحرير المُذهَب ..
في مترف الثيابِ..
مُذْ تخيَلها .. وهي واقفةُ بين ما بي .. وما بي
لكِ هذا الحَمامُ الفراتي ُ .. علمته البكاءَ أُمي ..
وعلمتني الغناءْ
ووجدُتكِ في برزخ الوجع الجميل ..
بين البكاء .. وبين الغناء ْ"(17).
إن القارئ لهذه الأسطر يدرك فاعلية الاغتراب الجمالي في تشكيل النسق الوصفي الذي يميل الشاعر إلى بث المشاهد الصوفية بكل دقة، ومفاعلة رؤيوية كاشفة عن حالة الوله، والتوق، والهيام التي يعيشها، وكأن ذاته المغتربة تعبر عن إيقاعها الاغترابي المصطهج بالتوق والرغبة للوصال، ( ووجدتك في برزخ الوجع الجميل بين البكاء.. وبين الغناء)؛ والملاحظ جمالياً، رغبة الشاعر في إبراز الحراك الشعوري الدافق، وفق مسار نصي يميل فيه الشاعر إلى الشجن الاغترابي، بكل دفق الحالة، واحتراقها النفسي الشعوري، ( تمد أصابعها في مترف الثياب)؛ إن هذا الحس الجمالي في إبراز النسق الفاعل يفعل الرؤية ويزيد مدلولها، وشعورها الفاعل.
ووفق هذا التصور، يمكن القول: إن شعرية الاغتراب الجمالي تتحدد بالمهارة التصويرية والفاعلية الرؤيوية، والقدرة التشكيلية المراوغة؛ وهذه التي تكسب الاغتراب قيمته الجمالية، ومحركاته النسقية التي تباغت القارئ، بهذا الشكل اللغوي أو ذاك، وهذا ما يضمن لها سحر الإيحاء، وعمق التأثير.
4. الاغتراب الجمالي بالبراعة النسقية والمماحكات اللغوية المثيرة:
ونقصد بـ(الاغتراب الجمالي بالبراعة النسقية): ذلك الشكل الاغترابي الجمالي الذي يتأسس على براعة نسقية في تحفيز الأنساق، وتناميها جمالياً؛وبمقدار حنكة الشاعر بتلوين أنساقه بقيم، ومفرزات جمالية مؤثرة أو محرضة للشعرية بمقدار ما يرتقي النص الشعري إلى آفاق روحانية محلقة في الرؤية، ومكثفة بالدلالات الشعرية، والمؤثرات الفنية، ووفق هذا التصور، فإن الاغتراب الجمالي بالبراعة النسقية، والمماحكات اللغوية يرتقي بشعرية القصيدة عند حميد سعيد، لاسيما إذا أدركنا أن الاغتراب بالأنساق اللغوية المحتدمة يرفع درجة سموق القصيدة إلى آفاق رؤيوية خصبة من الإيحاء، والفاعلية، والتأثير.
وبهذا التصور، نقول: إن الاغتراب الجمالي بالبراعة النسقية والمماحكات اللغوية المثيرة هو من أبرز المؤثرات الجمالية الفاعلة في شعر الحداثة، هذا الشعر الذي اعتمد مختلف أشكال الاغتراب الفنية والجمالية والأسلوبية، منها: الاغتراب الأسلوبي، والفني، والجمالي، والفكري، والثقافي، وما ينبغي ملاحظته أن قيمة الاغتراب الجمالي تتحدد بحجم المبتكرات الجمالية في التحليق بالرؤية إلى آفاق نصية مراوغة في التكثيف، والعمق، والفاعلية، والإيحاء, ولهذا يمكن القول: إن الاغتراب الجمالي باللغة والمماحكات اللغوية المؤثرة من فواعل التجربة الشعرية الإبداعية الخلاقة، ولأهمية اللغة في الشعر والشعرية يقول الشاعر حميد سعيد في الدور المهم المنوط بها:"
اللغة، لغتان، الأولى أدائية وهي لغة التواصل، سواء كانت محكية أو مكتوبة، وهي وإن كانت ذات طابع ودور وظيفيين يمكن تحديدهما، بالتواصل، بين القائل والمتلقي أوبين الكاتب والقارئ، وهي تتجدد بفعل المتغيرات الثقافية والاجتماعية، فتتراجع مفردات وتتقدم أخرى، وتضعف بنى لتظهر أخرى. وهي ليست ذات طابع واحد، حتى في اللغة الواحدة، إذ تميزها الأساليب كما يميزها تأثرها بالمحيط وباللهجة القريبة منها، كما تتأثر بمصادرها التراثية والتعليمية والشفهية. والثانية، هي اللغة الشعرية، التي كانت وما زالت المحيط الحيوي للتجديد، ليس في المفردة بل في استعمالها إلى حد تجديد المعنى بالتجاوز والجوازات.
ويبدو لي إن القصيدة الحديثة أو لنقل إن شاعرها أكثر جرأة في اقتحام مختبر الجوازات اللغوية وأكثر تجاوزاً في تظليل المعنى، وهو بقدر ما يوسع أفق المعنى، يوسع معجمه أيضاً.
لذلك إن قراءة محض لغوية في القصيدة الحديثة، تكشف لنا متغيرات كبيرة وجريئة على صعيد تجديد اللغة."(18).
ومن هذا المنطلق، يمكن القول: إن الاغتراب الجمالي – باللغة- من مبتكرات شعرية القصيدة عند حميد سعيد خاصة بالبراعة النسقية والمماحكات اللغوية المؤثرة، ولهذا يؤكد على أهمية البناء اللغوي المثير أكثر من مبدع وأكثر من ناقد، إذ يقول أحدهم:" النص بناء هندسي فني معماري، ونبض شعوري؛ولأنني أؤمن بهذا، فقد أوليت مادة هذا البناء- اللغة، الاهتمام الكبير على اعتبار أن اللغة هي الإناء لمادة المعنى والمداليل التي تتشكل من النفثات الشعورية لحظة المخاض الشعري القابلة للتمدد، بمعنى أنني في كثير من الأحيان أكتب القصيدة على مرحلتين، الأولى كتابتها كشاعر، والثانية كتابتها كناقد، فأحذف أو أضيف، أو أعيد صياغة بعض الجمل الشعرية كي يكون البناء الهندسي أكثر استكمالاَ لشروط الفن الشعري"(19)
وقد أدرك أثر هذا الاغتراب الجمالي في اللغة من خلال فاعلية الرؤية، وعمق التشكيل، أدونيس في قوله:" فجمال اللغة في الشعر إنما يعود إلى نظام المفردات وعلاقاتها، بعضها بالبعض الآخر، وهذا نظام لا يتحكم فيه النحو، بل الانفعال والتجربة"(20)
وهذا يعني أن شعرية الاغتراب الجمالي تتحرك في قصائد حميد سعيد على هذا المحرق الجمالي، ألا وهو اللغة؛ فشعرية الاغتراب الجمالي في اللغة تتحقق من فاعلية المباغتات التصويرية التي تثير النسق، وتفعل سيرورة الدلالات الكاشفة عن محرك الرؤية النصية في القصيدة، ذات البعد التصويري المؤثر، والحراك المشهدي المكثف أو المتتابع، كما في قوله:
"موتٌ صاخِبٌ هذا.. وفجُّ.. خَشنٌ.. يغتصبُ الغِناءَ والربابْ
موتٌ طائشٌ هذا. بذيءٌ .. من خنادقِ الخواء.. جاءْ
إمبراطور السُعارِ.. يتخفّى خلفَ لُغَةٍ صفراءْ
يغتالُ أناشيدَ الصفاءِ في كتابنا...
يقولُ:
فعلُ الأُخوة الأعداءْ
إمبراطور السعار...
ليسَ غير السُمِّ في جرابهِ.. وليسَ غير الحمقِ في أهابهِ
ما يُشبه الخراب... بل هو الخرابْ..
يَعتزلُ المنشدُ.. من يسمعهُ؟!
عواصفٌ سودٌ ووهمٌ شرسُ.. ليلٌ خرافيّ وظلٌ فاجرٌ... "(21).
بادئ ذي البدء، نقول: إن الاغتراب الجمالي بالبراعة النسقية والمماحكات اللغوية- في قصائد حميد سعيد- يزيد فاعلية الكثافة الدلالية لأنساقه اللغوية المماحكة في شكلها اللغوي الاغترابي، وحراكها الشعوري المحتدم، ولعل أبرز ما يحرك هذه اللغة البنى التصويرية المؤسسة لجمالية المشهد، وبؤرة الرؤية من الصميم، كما في البنى اللغوية المماحكة في نسقها الشعري:( يغتال أناشيد الصفا في كتابنا- يتخفى خلف لغة صفراء- موت صاخب يغتال الغناء والرباب)؛ وهذه الرؤى الجمالية تزيد فاعلية اللغة الاغترابية المحركة للنسق، مما يكسب المشهد الشعري قوة المداومة الجمالية في تنويع الرؤى، وتكثيف الدلالات، بإيقاع مشهدي مكثف غنين بالإيحاء والشعرية.
ومن المؤثرات الاغترابية التي يثيرها حميد سعيد في بنى قصائده أنها تملك متحولها الاستعاري المؤثر، ومتحولها المشهدي المكثف، ومتحولها الصوتي الحركي، ومتحولها البصري الفاعل، لتشتغل هذه الإيقاعات ضمن مبتكرات لغوية، مشتعلة جمالياً في نسقها، كما في قوله:
"أَرَقُ أبيضٌ .. يَتلاعَبُ بالعَتمَةِ التي كان فيها..
وبالضوءِ..
إذْ ظلَّ شبّاكُها المُضاءُ يَخطُفُ سحرَ المَساءْ
أنْ تكون بعيداً..
فَمن أَيِّ منفى..يَجيءُ القطارُ في آخر الليلِ
منْ أَيِّ منفى.. تُطِلُّ..
لمْ يرَها أَحَدٌ..
فَتَخَيَّلها شاعرٌ.. يموتُ إذا أطفأَتْ نورَ شُبّاكِها
أَرَقٌ أَبيضٌ.. يفتَحُ أَسوارَ عُزلتِهِ للبلادْ
ويمسحُ عن مفردات قصيدتهِ..
ما تَجَمَّعَ في وردة المُتداركِ.. بعدَ رَحيلِ أمطار فتنتِها..
منْ رَمادْ"(22)
لابد من الإشارة إلى أن الاغتراب الجمالي- بالبراعة النسقية والمماحكات اللغوية- في شعر حميد سعيد – من مغرياتها الفنية ومحفزاتها الشعورية، التي ترتقي بالنسق المماحك إلى أوج حراكها الفني، وتفاعلها النسقي، وهذا يعني أن ثمة تفاعلاً نصياً يرتقي بحيوية النسق إلى آفاق رؤيوية مراوغة، من خلال بداعة التعبير اللغوي، وشعرية المحرض النصي، وهذا يدلنا على أن شعرية الاغتراب الجمالي باللغة من محركات الرؤية النصية، ومن بواعث نواتجها الدلالية، وهذا ما يثبته الشاعر في النص من خلال دهشة الرؤية في المقطع السابق؛ودليلنا الأنساق المماحكة التالية: (أرقٌ أبيضٌ يفتح أسوار عزلته-فَمن أَيِّ منفى .. يَجيءُ القطارُ في آخر الليلِ"؛ وهذا يعني قدرة الرؤية وتمثلها فنياُ من خلال بداعة النسق، واكتنازه بالبنى اللغوية المحرضة للشعرية.
وخلاصة القول: إن الاغتراب الجمالي بالمماحكات اللغوية – من مغريات القصيدة عند حميد سعيد التي تشتغل على تلوين الأنساق الاستعارية، والمسندات اللغوية، مما يحقق لها التأثير، وعمق الإيحاء، ووفق هذا التصور، فإن كل ما يثير الجمالية في قصائد حميد سعيد يرتد إلى اللغة، وفاعلية الرؤية، ومحفزاتها من خلال الشكل اللغوي المبتكر، والرؤية الوهاجة بالتأمل، والتفاعل، والحراك الجمالي.وهذا يؤكد لنا أن كل المحفزات اللغوية في قصائد حميد سعيد ترتد إلى شعرية الاغتراب اللغوي، وشعرية ما تبثه هذه اللغة من فواعل نصية لغوية محرضة للشعرية والكاشفة عن نواتجها الجمالية التي تبقى في توالد دائم وحراك مستمر.
5 الاغتراب الجمالي بالمشاهد، أو الرؤى الجمالية:
ونقصد بـ(الاغتراب الجمالي بالمشاهد أو الرؤى الجمالية): الاغتراب الجمالي في حركة المشاهد والرؤى، التي تبثها القصيدة في عوالمها، ورؤاها، ومحفزاتها الشعرية؛ وبمقدار التفاعل بين المشاهد، والرؤى، والدلالات بمقدار ما يزداد الاغتراب الجمالي في حركة المشاهد إثارة وشعرية وفاعلية في التحريض النصي الجمالي؛ وبتقديرنا: إن الاغتراب الجمالي بالمشاهد، أو الرؤى الجمالية هو الذي يزيد فاعلية الرؤيا، ويزيد فواعلها الجمالية، ولاسيما الاغتراب الجمالي الذي يلجأ فيه الشاعر إلى تكثيف المشاهد الصوفية، آو المشاهد الوصفية، ويعد هذا الاغتراب من مؤثرات الحركة الجمالية أو القيم الجمالية في لغة الحداثة الشعرية عموماً، خاصة عندما تأتي فاعلة في التحفيز النصي، وهذا يعني أن لجوء شعراء الحداثة إلى تكثيف اللقطات، والمشاهد، والرؤى هو لإكساب قصائدهم حركة مضاعفة في الحراك الرؤيوي، والشعوري، والبصري في كثير من الأحيان، مما يكسب القصيدة إيقاع الممازجة الفنية بين الحراك البصري، والحراك الرؤيوي للمخيلة الشعرية، فالشعر هو امتزاج تفاعلي بين الحسي والمعنوي، وبين الواقعي والخيالي، وبين المجسد والمجرد، ولهذا، لا تظهر البنى الشعرية فاعلة على أشدها إلا بتناغم كل هذه المؤثرات والمحركات النصية الفاعلة على مستوى البنى والرؤى والمحركات النصية التي تغتني بهذا التكامل والتفعيل النصي الخلاق، وقد كان رأي الشاعر حميد سعيد مصيباً حينما قال:" "النص كما الشجرة، فهي تنمو موحدة بكل مكوناتها، ولا تنمو مجزأة، الجذع والأوراق والثمار، وكذلك هي القصيدة في مكوناتها.أي أنها، ليست تجميع للموضوع والصورة والإيقاع واللغة، بل هي وحدة جميع مكوناتها، مهما كانت هذه المكونات، وتكمن عبقرية الإبداع، بل عبقرية المبدع أيضاً، في هذه الوحدة التي تجتهد القراءات النقدية في اكتشافها، وتحديدها، واكتشاف الفعل الجمالي فيها واقتراح حدوده."(23).
والفعل الجمالي- عند حميد سعيد هو كل ما يخلق الجمالية، أو يصنعها أو يمهد لها في نصوصه، ولا نبالغ في قولنا: إن الاغتراب الجمالي بالمشاهد والرؤى الجمالية من أبرز المحركات الجمالية التي تثيرها على مستوى الصور، وكثافة الرؤى، وحركة المشاهد المحتدمة، إنه ينوع في صوره ومشاهده بمونتاج فني يخلق الإثارة، ويرفع وتيرة التعبير خاصة في المواقف الدرامية المحتدمة، مما يجعلها بغاية التفاعل، والاندماج، والتفعيل المشهدي.
ومن القصائد الدالة على شعرية هذا الاغتراب قول حميد سعيد:
"في هذه الفلواتِ..
تَنْفَتِحُ المتاهاتُ..
القِراءاتُ المُضيئةُ.. أطفأتْ سُرُجَ الكلامْ
ومضتْ إلى الممحوِّ من صفحاتها..
لِتَلُمَّ..
ما أتمنتهُ يوماً في مُدَوَّنةِ المرايا..
قبل.. أن يدنو من المَمْحّو من صفحاتها البيض..
الظلامْ
ماذا سيقرأُ .. إن هذا المحْوَ ما أبقى..
على رُقُمِ البلادْ
من شمس حِكْمَتِها..
وأسلَمَها .. إلى المُدُنِ الرمادِ"(24)
لابد من الإشارة بداية إلى أن الاغتراب الجمالي بالمشاهد والرؤى الجمالية من محفزات القصيدة- عند حميد سعيد – التي ترتقي بالأنساق الشعرية إلى آفاق رؤيوية بحتة، مما يجعلها بغاية العمق، والتكثيف، والإيحاء، وهذا يعني أن الاغتراب الجمالي محمل بمداليل، ورؤى مخصبة، غاية بالتكثيف، والإيحاء، والشاعرية، وهنا، تبدو الأنساق متفاعلة في حراكها المشهدي، تبعاً للرؤى المخصبة التي تبثها القصيدة في حركتها النصية، كما في الأنساق، والرؤى الجمالية التالية (القِراءاتُ المُضيئةُ.. أطفأتْ سُرُجَ الكلامْ - ومضتْ إلى الممحوِّ من صفحاتها .. لِتَلُمَّ.. ما أتمنتهُ يوماً في مُدَوَّنةِ المرايا)؛ ووفق هذا التصور، فإن ما يحرك النسق جمالياً الاغتراب الجمالي الذي يتمظهر في كثافة الرؤى، والمشاهد، اللقطات الشعرية، في تصوير حال البلاد، ومولداتها النفسية، ومن هذا المنطلق، تعد البؤر الاغترابية الجمالية بؤراً تصويرية مشهدية، تباغت القارئ، وتثيره على مستوى المشاهد، والرؤى الجمالية المجسدة؛ ولهذا؛ ترتقي شعرية حميد سعيد بالارتكاز على موضوعة الاغتراب، ودلائلها، سواء أكان ذلك في الشكل الفني، أم بالشكل الرؤيوي، أم بالنبض الشعوري الذي يؤسسه على الاغتراب الدرامي في حركة الأنساق، وتكثيف الدلالات، وهو ما يجعلها مفتوحة الرؤى، والمداليل، كما في قوله:
"البساتين ُ والطرقات ُ ..
واجهات ُ البنايات والشرفات ُ ..
الأناشيد ُ..
ما كتب الشعراء ُ من غزل ٍ..
في حداد ْ
رمدٌ ورماد
النجوم ُ رماديـَّةٌ
وخيوط ُ الضياء التي تتدلي النجوم منها ..
رماديـَّة ٌ
دارة ُ شمس ِ الصباح ِ .. رماديـَّة ٌ
والظلال ُ رماديـَّة
والخيول ُ رماديـَّة ٌ
والصهيل ُ رماد ْ
رمدٌ..
ورمادْ..
هو حال البلادْ"(25).
بادئ بدء البدء، نشير إلى أن الاغتراب الجمالي بالمشاهد أو الرؤى الجمالية- في قصائد حميد سعيد- ينبني على كثافة الرؤى المتخيلة، ومثيراتها الشعورية المحتدمة؛ وهذا ما يدلنا إلى أن مغريات الاغتراب الجمالي في جل قصائده ومن ضمنها هذه القصيدة تتبدى في التفرد الرؤيوي، وكثافة المشاهد التصويرية، لتمنح قصائده بكارة في التكثيف الدلالي، وبكارة في التفعيل النسقي، وهذا ما يضمن لها القوة في التعبير، والقوة في التطريز، والبلاغة في إصابة الرؤى العميقة، والمدلولات البعيدة، من خلال الضغط على بعض المشاهد، والرؤى المجسدة، بوعي وإتقان فني عجيب.
وأول ما يلحظه القارئ- في المقطع السابق - كثافة المشاهد المحتدمة، وإيقاعها الاغترابي المتوتر إزاء المشاهد الدموية التي تحدث في بلده العراق؛وكأن كل جزئية من جزئيات المشهد تنم على اغتراب شعوري محتدم، إزاء الجرائم الكثيرة، والانتهاكات المستمرة، بحق الأبرياء في العراق، التي يمارسها المحتل بوساطة آلة التدمير والخراب الشرشة التي تدمر كل شيء يقف أمامها، وهنا أراد الشاعر أن يصور هذه المشاهد والانتهاكات الوحشية بعدسة مونتاجية تنقل ما يجري بعمق وبكامل التفاصيل؛ وهذا دليل أن الاغتراب الجمالي- في قصائد حميد سعيد - اغتراب بؤري، غايته تكثيف الرؤى الاغترابية المحتدمة التي تشي بإيقاع مشهدي مكثف يضج بالرؤى الاغترابية المتوترة، تبعاً لجزئيات المشهد والحراك النفسي الصاخب الذي تبثه الذات الشاعرة بأسى وحرقة وألم مرير.
وصفوة القول:إن الاغتراب الجمالي- بالرؤى والمشاهد الجمالية –في قصائد حميد سعيد- يكثف اللقطات التصويرية بكل صخبها البصري، وحراكها الشعوري المتوتر، وهذا ما يضمن جمال إيقاعها النفسي، وحراكها الشعوري المحتدم، لدرجة تبدو المشاهد متحركة، والرؤى مكثفة جمالياً في محرقها الجمالي النصي المركَّز. وهذا بالتأكيد يظهر أثره الواضح من خلال دينامية المشاهد الشعرية التي تتنامى بوساطة اللقطات المكثفة التي ترصد المشهد الشعري بتمامه بتتابع نسقي جمالي عجيب،
6. الاغتراب الجمالي بالرؤيا الجمالية، والمنظور الجمالي:
ونقصد بـ(الاغتراب الجمالي بالرؤيا الجمالية، والمنظور الجمالي): الاغتراب الجمالي الذي ينبني على رؤيا جمالية، ومنظور جمالي، في توجيه رؤية القصيدة، وهو شكل اغترابي جمالي يؤسسه على رؤى محفزة للقيم الجمالية الأخرى، وباعثة لنواتجها وفواعلها الإيحائية والجمالية كلها، وهنا، تظهر مهارة المبدع وقيمه الجمالية، بمقدار ما يحقق لتجربته التمايز والاختلاف، ونشير إلى أن الاغتراب الجمالي بالفاعلية الرؤيوية يتجلى بفاعلية الكشف التي تولد الرؤية الجمالية، والمغزى الجمالي؛وبتصورنا: إن الرؤيا الجمالية هي إفراز من إفرازات الاغتراب الجمالي المولد للشعرية، والباعث لنواتجها، وفواعلها الإيحائية كافة، لاسيما إذا أدركنا أن:( الرؤيا تكشف، إنها ضربة تزيح كل حاجز، أو هي نظرة تخترق الواقع إلى ما ورائه، والغموض، هنا، ملازم للكشف إلا أنه غموض شفاف لا يتجلى لمنطق التحليل العلمي، وإنما بنوع آخر من الكشف، وذلك باستسلام القارئ فيما يشبه الرؤيا، فنحن لا ندرك الرؤيا إلا بالرؤيا)(26).
والرؤيا الاغترابية الجمالية ليست موقفاً معزولاً، وإنما هي موقف جمالي ورؤية لكل منتجات الشعرية الإبداعية المؤثرة، وقد كان الشاعر خليل حاوي محقاً في تعريف الشعر، من هذه الزاوية تحديداً "الشعر رؤيا تنير تجربة، وفن قادر على تجسيدهما"(27). وبما أن الاغتراب الجمالي حالة فردية تتغذى من المواهب، والخبرات، والمنتوجات الوجودية الضاغطة، لحظة التكثيف، والإيحاء فإن ما يحفز هذا الاغتراب حساسية المبدع الجمالية وخبرته الفنية، وبهذا المقترب يقول نذير العظمة:" الرؤيا ليست أمراً مجانياً متاحاً للجميع، وإنما للخاصة الخاصة. إن فحول الشعراء مثلاً هم الذين يتمتعون بالقدرة على الرؤيا التي تتضمن الفكر الجديد، والصورة الجديدة"(28)
ووفق هذا التصور، فإن ما يميز الاغتراب الجمالي أنه اغتراب لا يملكه إلا الخاصة من المبدعين الذين يحلقون في فضاء جمالي، وإفراز تقني يثير منتجاتهم الشعرية إلى أرقى مراتب الفن، والإثارة الشعرية؛ وهذا ما يميز الشاعر المبدع عما سواه على مستوى الرؤيا، و حداثوية التجربة، والمنظور الرؤيوي الإبداعي المتجدد، ولهذا، فإن الرؤيا الاغترابية الجمالية الخلاقة ليست رهينة بالحداثة، وليست مقتصرة على عصر دون آخر، ودليلنا أن الكثير من شعراء العصر الجاهلي يملكون الرؤيا، وعمق المنظور حتى بقيت نصوصهم الإبداعية تثيرنا إلى الآن، نظراً لاغترابها الفكري والجمالي اللذين منحاها التأثير، وطاقة الاستمرار الفني التأثيري التوالدي حتى زمننا الذي نعيشه، وهذا ما أكده نذير العظمة قائلاً:" الرؤيا ليست حكراً على شعراء الرواد والحداثة، وإنما الرؤيا ممكنة لأغلب الشعراء في معظم العصور، لنأخذ على سبيل المثال (طرفة، أو لبيد، أو امرئ القيس .. شعراء المعلقات مثلاً قامت معلقاتهم على تجربة حياتية ورؤيا.. بهذا المعنى الحداثة ليست حكراً على عصر واحد، وإنما يمكن أن نكتشفها في كل العصور، وهي جوهر الشعر... من لم يضف على موروثه الشعري يعش عالة على الذاكرة، ومن لم تستبعده الذاكرة يقفز على النهضة"(29).
وبهذا التصور، يمكن أن نعد الاغتراب الجمالي بالفاعلية الجمالية الرؤيوية ذروة الوعي الفني الإبداعي الذي يميز الفنان المبدع عما سواه، ولا نبالغ في قولنا: إن الاغتراب الجمالي بالفاعلية الرؤيوية طاقة إبداعية كشفية تكشف نوازع الشاعر الإبداعية، وطاقته الجمالية في الخلق الفني؛ وهذه الطاقة لاشك في أنها تتنامى بفاعلية الاغتراب الجمالي، وتميز الشاعر في التحليق بهذا الجانب فنياً وجمالياً في قصائده. وبتقديرنا: إن الاغتراب الجمالي- بالرؤيا الجمالية والمنظور الجمالي- في قصائد حميد سعيد- من محفزاتها الجمالية، ومبتكراتها الفنية، التي تثيرها على المستويات كلها، كما في قوله:
"غاب الرسامُ عن المشهد .. وارتبك المشهدُ ..
لم يبق على اللوحة ..
غير ضجيج الألوان ..
وغابت عنها الألوان
فرّ من الحقل البيبون وشاخ الريحان ..
ما كان بلاداً أصبح في اللوحة ظلاً .. مزّقه الأ قنان
تتعثر دجلة ُ في الليل .. كشيخ هرمٍ .. أوقفها الجندي الأمريكي على الحاجزِ ..
ماذا سيقول لها هذا الغِرُّ القادم من وهم .. لا تاريخ له ..
من كذبٍ عطنٍ .. من لغة خرقاءْ
بين الجندي الغِرّ ودجلة .. أزمنة ومشاهدُ
أسفارٌ وقصائدُ ..
ماذا سيقول لها؟!
ماذا سيقول؟! "(30).
بادئ ذي بدء، نشير إلى أن الاغتراب الجمالي- بالرؤية الجمالية، والمنظور الجمالي في قصائد حميد سعيد- من مستجداتها البؤرية المحلقة بالشعرية، نظراً إلى ما تتركه المخيلة الشعرية من بنى، ودلالات، ورؤى، وهذه البنى من محفزات الرؤية، ومستجداتها الشعرية، وكأن الشاعر يرسم لوحة تشكيلية، متداخلة الخطوط، والألوان، والظلال، والرؤى، والمؤثرات، والبنى، بحراك مشهدي درامي، ينم على ممارسات الجيش الأمريكي المحتل في العراق؛ وهذا يعني أن الاغتراب الجمالي يتعلق بالرؤية والدلالة، و دقة ترسيمها في مسار رؤيوي دقيق، يشي بالقوة، والحراك، والفاعلية الجمالية.
ووفق هذا التصور، فإن كل ما يثير الشعرية في قصائد حميد سعيد يرتبط بإيقاعها الاغترابي الجمالي، وهذا الاغتراب هو الذي يتبدى في مؤشراتها الجمالية، وبناها التشكيلية وفق ما يظهره لنا المقطع الشعري التالي:
لي في فضاءات الكتابةِ..ما كَتبنا قبلَ أن ننسى."
ولي في صفحة النسيان .. آخرُ ما كتبتُ إليكِ..
كلُ كتابةٍ كانت إليكِ
كتبتُ ي الوهم السَري .. وفي مسرات المعاني
لا تسألي..
عما أخبئُ في أناشيدي..
فذلك طيلساني..
ما كان قبلك ِ.. محض ثرثرةٍ .. فَكُنْتِ..
الثلجُ يرحَلُ عن لساني..
وعناكبٌ سودٌ تغادرُ، ليس من شبحٍ يزاحمني.. يشاركني مكاني"(31).
لابد من الإشارة بداية أن الاغتراب الجمالي بالرؤيا الجمالية، والمنظور الجمالي من محفزات الشعرية في قصائد حميد سعيد، هذه المحفزات التي تظهر من خلال تفاعل البنى اللغوية الجزئية، وصولاً إلى عمق البنى الدالة عن تصوفه، ورؤاه الدالة، وكأن البنية اللغوية بنية تصويرية- رؤيوية محضة تشي ببداعة ما تدل إليه، وبداعة ما تعبر عنه من مؤولات، ورؤى فاعلة محرضة للشعرية وفواعلها النصية المثيرة، كما في الأنساق التالية: [الوهم السري- مسرات المعاني]؛ ومن هذا المنطلق، نعد الرؤية الجمالية هي المحرضة لكل ما يثير الشعرية، ويرفع قيمتها الجمالية، وهذا ما نلحظه في الانسجام الحاصل في تفاعل البنى الإيقاعية والدلالية كلها، كما في قوله: (في مسرات المعاني- الثلج يرحل عن لساني- يشاركني مكاني)، وهذا يدلنا أن الشعرية في عمقها ودلالاتها من مثيرات الرؤية ومحفزاتها النصية، وقد أشعل الشاعر النسق الشعري جمالياً بالارتكاز إلى هذه الاستعارات المحفزة للشعرية والكاشفة عن مدلولها ومكنونها النصي.
وصفوة القول: إن الاغتراب الجمالي- بالرؤيا الجمالية والمنظور الجمالي- في قصائد حميد سعيد – من مغرياتها النصية، لاسيما إذا أدركنا أن مثيراتها تشع بالإيحاءات والدلالات المتنوعة التي تفرزها على المستويات كافة؛ ودليلنا أن الاغتراب الجمالي بالرؤية الجمالية، والمنظور الجمالي من البنى الجمالية التي تضمرها قصائده على مستوى دوافعها النصية المحرضة للشعرية في كل بنية من بنياتها، وإشراقة ومضية شعرية من إشراقاتها، وهذا ما يضمن لها شعريتها الخاصة، ومدلولها النصي الجمالي المحفز للشعرية على الدوام.
7. الاغتراب الجمالي بالدافع الفني أو الجمالي:
ونقصد بـ(بالاغتراب الجمالي بالدافع الجمالي): الاغتراب الجمالي الذي يدفع المبدع إلى الخلق الفني، تبعاً للمحرضات الوجودية، والمثيرات الفنية، وهذا ما يجعل القيم الجمالية مختلفة، والمحرضات الجمالية متنوعة بتنوع الرؤى، واختلاف الأساليب، يقول( سترندبرج) في طريقة النشوء الفني في الرسم، موضحاً قيمة الدافع الفني في تأكيد فرادة الفنان، وبصمته الإبداعية في التشكيل:" يجب علي أن ألاحظ أن علينا أن ننظر إلى اللوحات المرسومة في فضاءات نصف معتمة لا تحتمل ضوءاً إلا بواسطة علامات نارية قوية أو فضاء نصف معتم، وما ينتج عن ذلك، متروك للصدفة، كما أيضاً لكامل الدافع الفني".(32) وهذا يعني أن الفن من مظهره الاحتفاء الدلالي، في دوافعه، ومثيراته، وإضاءاته، وموحياته الفنية، فالفن لا يهب نفسه بيسر للقارئ أو المستقبل، وإنما يترك مساحة من الغموض أو الغلاف الشفيف الذي يدفع المرء إلى التأمل والاكتشاف، وهذا ما يمنح الفن خصوصيته الجمالية بوصفه فناً مؤثراً ممتعاً.
وبتقديرنا: إن الاغتراب الجمالي هو إشباع لشعور داخلي، أو دافع جمالي يفيض بالنفس، ويظهر في هذا الشكل الاغترابي أو ذاك، وبما أن الدوافع الفنية تشكل محفزات شعورية ضاغطة على الذات في لحظة التكثيف الجمالي، أو الفني، فإن ما يعضد شعرية الدوافع قوة الذات على توجيه الرؤية نحو جوهر العمل الفني، وقد كان الناقد الجمالي( فرانسيس مارك) محقاً في قوله:"إن الفنان وحتى عندما يرسم قبل تأثير الدافع الفني، لا يحطم الحالة الانفعالية للوحته إلا بمقدرته على انتزاع الجواهر الكامنة في تجمع أنواع عديدة من العناصر النموذجية، ليعيد إنتاج البناء الكامل للعمل الفني، انطلاقاً من نقاط ارتكاز عارية مدهشة".(33)
ووفق هذا التصور، فإن الدوافع الجمالية دوافع اغترابية تحفيزية تنشأ من حاجة شعورية داخلية إلى التميز، والتفرد، ولذلك، يبقى الفن الجمالي رهين دوافعه، ومؤثراته الجمالية، ورهين مؤثراته العاطفية، وذبذباته الشعورية، وهذا ما يجعل الفن رهين شعرية الدوافع ومقاصدها، وقيمها الجمالية التي تمظهرت في داخل بنية العمل الفني. وتعد قصائد حميد سعيد رهينة دوافعها الجمالية سواء أكان ذلك في بنيتها وحراكها الجمالي، أم في رؤاها، وفواعلها وبناها التحفيزية، وهذا ما يضمن شعرية دلالاتها، وشعرية ما تبثه من رؤى، ودلالات مراوغة، كما في قوله:"
على حدود مدُنٍ مُباحَةٍ.. ل ....
كانَ موقوفاً.. مُحاصَراً.. مشْتَبَهاً به..
كأنّهُ الطاعونْ
يسألُ الموظَّفُ المجبولُ من طينِ محاكم التفتيشِ..
مَنْ هذا الذي يحملُ في إهابهِ.. أندلساً أخرى..
المُكًلِّبُ الأزرقُ.. مثلُ باذنجانةٍ عتيقةٍ
يشمُّ ما تبقى من قصائد العشقِ..
كما الأفيونْ
يغيبُ ما انتهى إليه العاشقون .. منْ مَواسمٍ
يغيبُ عنها.. الشَبَتُ البريُّ والسَذابُ والآسُ..
ويحضرُ الرمادْ"(34)
لابد من الإشارة إلى أن الاغتراب الجمالي بالدافع الجمالي أو الفني – من محركات بنية القصيدة-، وهذا الدافع إما رؤيوياً، أو بنيوياً، أو أسلوبياً، أو فنياً، تبعاً للمحرضات، والدوافع الجمالية، وهنا، يبدو لنا أن الدافع الجمالي - في هذا المقطع- دافع رؤيوي، مؤسس على قيم جمالية بؤرية، محرضة للشعرية، وكأن (الموريسكي ) المطارد، أو المعذب يحكي معاناته الاغترابية من فساد الواقع، وضحالته، وهشاشته، فقد شوه مدينته الفاضلة (المزورون، والمكلب الأزوق- والطاعون)، فبعدما كانت مدينته تحفل بألوان الجمال أصبحت الآن موبوءة بالطاعون، والفساد، والتفسخ، والضياع؛ وما عاد من بريق هذه المدينة إلا بقايا متفسخة لا تنم عليها وعلى مواطن جمالها المشرقة كما كانت من سابق عهدها.
وهذا يقودنا إلى القول: إن الاغتراب الجمالي – بالدوافع الجمالية – هو من محفزات الرؤية الجمالية في بنية القصيدة عند حميد سعيد- سواء أكانت هذه الرؤية باطنية (نفسية)، أو دلالية (بؤرية) مفتوحة الدلالات والمحفزات الجمالية. وهذا ما يحسب لهذه القيمة الجمالية التي تحفز قصائده باغترابها وحراكها الشعوري المفتوح. وبتصورنا: إن غنى الدوافع الجمالية- في قصائد حميد سعيد- نتيجة إفراز رؤيوي عميق في شكلها ورؤيتها، ومنحاها الإبداعي المميز، وهذا ما يشفع لقصائده، ويمنحها خصوبتها، ومضمارها الشعوري العميق، عبر القيم الجمالية التي يثيرها الاغتراب الجمالي في فضاء الرؤية الجمالية، وحراكها الرؤيوي العميق، كما في قوله:
عاصفةً من كذبٍ أسود.. أو كالكذب الأسود..
في قيامةٍ عجفاءْ
تغدو الأراجيفُ بلاداً..
ويكون المُرجِفونَ من أولي الأمرِ.. القضاةَ والشهودْ
بينَ رواقينِ من الشوكِ.. مضى
لا أحَدٌ في هذه المفازة الملحيَّةِ البلهاءْ
أوقفَهُ الرثاءْ
شارَكَهُ كتابَهُ المخبوءَ.. بين السينِ والسورَةِ..
بينَ السرِّ والسُرى..
شاركهُ القراءةَ البيضاءْ"(35).
لابد من الإشارة بداية إلى أن الدوافع الجمالية هي المحرك الأساس في تشكيل القصيدة- لدى الشاعر حميد سعيد، ورغم أن الدافع الجمالي لا يتحدد إلا من خلال تكامل الرؤى، وتفاعلها في السياق النصي، فإن أثر هذه الدوافع نلحظه ماثلاً حتى في نطاق المفردة قبل التركيب، وهذا يعني أن حميد سعيد يختار المفردة التي تحقق قيمة جمالية حتى في ظل متاهة الرؤية، وتشعبها في القصيدة؛ وهذا رد على كل من يقول: إن قصائده تفتقد إلى خيطها الدلالي الرابط، لنؤكد أن اغتراب قصائده ليس بالتشظي، وبعثرة الرؤى، والدلالات، وإنما بالوعي الفني والقدرة على الإحاطة بالرؤية من عمومها وشمولها المطلق المخصوص بدقة وعناية، وهذا ما يحسب لها لا عليها على مستوى الاغتراب الجمالي وتفاعل بناها وعلائقها الجزئية، وصولاً إلى رؤيتها الكلية؛ وهذا سر جمالية دوافعها ومحرضاتها الإبداعية.
وبتدقيقنا – في قيمة الدوافع الجمالية التي يثيرها الاغتراب الجمالي في المقطع الشعري- نلحظ أن فواعل الرؤية عديدة ترجع جلها إلى كشف مفاسد مدينة الموريسكي التي فقدت قدسيتها، وأصبحت موطناً للفساد، والتفسخ، والضياع، ولو دقق القارئ في الدوال البؤرية المحركة للحدث الشعري، لأدرك أن كل مفردة دالة – بعمق – عن مظاهر فساد مدينته التي سكن فيها:( الكذب والغش والفساد، والمفازة الملحية)، وهذا دليل انهيار جميع معالمها الجمالية، في مشهد بانورامي متصدع، ومتفسخ، يشي بالحرقة، والاغتراب الوجودي، والشعوري المأزوم.
وصفوة القول: إن الاغتراب الجمالي بالدوافع الجمالية من محفزات قصائد حميد سعيد جمالياً، وهذا ما يحسب لها على الصعيد الإبداعي، ولاغرو أن يجد القارئ في قصائده شيئاً ما جديداً كلما يطالعها لأنها تفيض برؤاها ومحرضاتها الجمالية، سواء في مظهرها اللغوي، أم بكثافة رؤاها، ودلالاتها المتشعبة في الباطن النصي.
8. الاغتراب الجمالي بالتخييل الفني أو الجمالي:
ونقصد بهذا الاغتراب: الاغتراب الجمالي الذي يثيره الشاعر أو الفنان بوساطة التخييل الجمالي الذي نعني به: القوة الجمالية التي تظهرها المتخيلات الشعرية في شكلها الفني، وبناء على هذا، تتحدد القيمة الجمالية للمتخيلات بمقدار بكارة الصور المتخيلة وجديتها، واستحواذها على الطيف الجمالي المثير الذي يحرك المتلقي، ويدفعه إلى تلقي النص الشعري تلقياً جمالياً. وتأسيساً على هذا، تتحدد فاعلية الاغتراب الجمالي بالتخييل الفني أو الجمالي، بمقدار إثارة هذه المتخيلات، وعمقها في إصابة الشعرية، أو تحريض الشعرية هذا من جهة، ومن جهة ثانية بالمهارة الجمالية التي تظهرها القوى الجمالية الخلاقة في الفنون الإبداعية من إثارة وفاعلية في صورها الجمالية، والموقف الجمالي الذي جسدته في مظهرها الفني، وهذا يعني "أن قوى التخيل لا يمكن لها أن تتدفق إلا من خلال قوة الحدث، وشدة تأثيره على وجدان الفنان المبدع" (36)
والاغتراب الجمالي في شكل الإبداع يرتد جمالياً إلى قوى التخييل الجمالي، وطريقة إحساس المبدع جمالياً في تشكيل الكلمات، لتتخذ شكلاً جمالياً دون آخر، ورؤية جمالية دون أخرى، وهذا يعني أن طاقة التخييل الجمالي تثمر جمالياً بمقدار خصوبة الاغتراب الجمالي، وحساسية المبدع في نقل أشكال هذا الاغتراب بمهارة، وجدة، وابتكار؛ وحيازة جمالية لأنساق لغوية بغاية المتعة، والإثارة الجمالية.
ووفق هذا التصور، يمكن القول: إن الاغتراب الجمالي بالتخييل الجمالي أو الفني – من مغريات الرؤية في قصائد حميد سعيد التي ترتقي بمتخيلاتها الجمالية، وهذا ما يضمن شعريتها، أو مثيرها الفني المؤثر، كما في قوله:
تُطَوِقُني الجدرانُ البيضُ .. وتنغَلِقُ "
لا أرضٌ في هذي المقبرة البيضاء .. ولا أُفُقُ
في الخاطر شيءٌ مما كانَ ومما سيكون ُ.. كواكبُ تهوي..
أنهارٌ تحترِقُ..
رملٌ يزحفُ.. كل عروسٍ شاركها الرملُ فراشَ العرسِ..
وأولَها قحْطاً وسَرابْ
من نافذةٍ في المشفى الموحش .. صرتُ أراكَ بعيداً
ماعُدتُ أراكَ..
وما عُدتُ أرى ..
كيف أقول لمن يسألني .. هذا وطني ؟!"(37).
بادئ ذي البدء، نقول: إن الاغتراب الجمالي – بالتخييل الفني أو الجمالي من محفزات بنية القصيدة – عند حميد سعيد التي ترتكز إلى عمق الرؤية، وشعرية المشهد وطزاجته وحيويته الفنية، وحيوية الصورة، وبمقدار، سموق هذه المتخيلات جمالياً بمقدار ما ترتفع سوية الاغتراب الجمالي في التحليق بالقصيدة إلى آفاق رؤيوية ودلالية خصبة في الإيحاء، والتأثير؛ وبمقدار ما يحلق المبدع في تشكيل قصيدته، بمقدار ما ترتقي التجربة ويتنامى شكلها الجمالي المؤثر. وهنا، في ظل الاحتدامات الشعورية، والرؤى الهذيانية التي يحس بها الشاعر، وهو مريض في المشفى تترامى أمامه الرؤى والمتخيلات، لترتسم صورة الوطن أمام عينيه، وتتبدد أشباح الموت التي تحيط به من كل الجوانب، وهذا ما يضمن حراكها الرؤيوي الفاعل ومكنونها الرؤيوي العميق، وكأن الشاعر من خلال تفاعل المشاهد وحراكها الفني يكسب قصائده فاعلية في الرؤية والتعبير. وهذا يقودنا إلى القول: إن الاغتراب الجمالي بالتخييل الفني أو الجمالي من مغريات القصيدة وشعريتها، وخاصة بارتباطها في صلب الرؤية ومحفزها الجمالي المثير، كما في قوله:
" أَرَقُ أبيضٌ .. يَتلاعَبُ بالعَتمَةِ التي كان فيها..
وبالضوءِ..
إذْ ظلَّ شبّاكُها المُضاءُ يَخطُفُ سحرَ المَساءْ
أنْ تكون بعيداً..
فَمن أَيِّ منفى..يَجيءُ القطارُ في آخر الليلِ
منْ أَيِّ منفى.. تُطِلُّ..
لمْ يرَها أَحَدٌ..
فَتَخَيَّلها شاعرٌ.. يموتُ إذا أطفأَتْ نورَ شُبّاكِها
أَرَقٌ أَبيضٌ.. يفتَحُ أَسوارَ عُزلتِهِ للبلادْ
ويمسحُ عن مفردات قصيدتهِ..
ما تَجَمَّعَ في وردة المُتداركِ.. بعدَ رَحيلِ أمطار فتنتِها..
منْ رَمادْ"(38).
إن فواعل الاغتراب الجمالي بالتخييل الجمالي في المقطع الشعري السابق تبدو في حراك الرؤية، وابتعاث مداليلها العميقة؛ وهذا ما يلحظه القارئ من خلال سيرورة الاستعارات، والصور المبئرة لحيز الرؤية، بتفاصيلها الجزئية، وفواعلها النصية المؤثرة؛ كما في الأنساق التصويرية الفاعلة:( أرقٌ أبيضٌ يتلاعبُ بالعتمة- ظل شباكها المضاء يخطف سحر المساء- أرقٌ أبيضُ يفتح أسوار عزلته للبلاد)، وهذا يعني أن تحليق الاستعارات جمالياً مشفوعاً بمتغيراتها التخييلية، وشاعرية ما تبثه من محركات نصية؛ تتبطن حيز الرؤية من الأعماق، وتبعاً لهذا نقول: إن الاغتراب الجمالي بالتخييل الفني أو الجمالي من مؤثرات الحنكة الجمالية في قصائده، ومغرياتها الكاشفة عن عمق ما تبثه من أإيحاءات، ورؤى عميقة على مستوى شمولها للتجربة، وحراكها الجمالي؛ وهذا يدعونا أخيراً إلى اعتبار: أن الاغتراب الجمالي من البنى المؤثرة بشكل مباشر في تشكيل القصيدة عند حميد سعيد، فالقصيدة –لديه ليست حالة انفعالية يتم تفريغها بهذا الشكل الكتابي أو ذاك؛ إنها إحساس وجودي جمالي، ينبث عبر الرؤى الجمالية، ومثيراتها في عالم الوجود، حتى وإن كشفت قصائده عن الفوضى والبشاعة الوجودية فإنها تؤسس جمالياتها على تحويل إيقاع البشاعة إلى فضاء من فضاءات الجمال في الرؤية والتشكيل النصي، وهذا ما يضمن تأثيرها وفاعليتها في اغترابها الجمالي، وحراكها الوجودي التأملي المفتوح، وهذا سر من أسرار إبداعها وتجذيرها الفني إبداعياً.
نتائج أخيرة:
- أن الاغتراب الجمالي – في قصائد حميد سعيد – يرتقي بفنية القصيدة، ويحلق بفضاءات الرؤية الشعرية من جوانبها كلها، خاصة في استخدام الرموز الشعرية كطاقة خلاقة في تبئير الرؤية وتكثيفها فنياً.
وهذا يعني أن حميد سعيد لا يصطنع الجمالية النصية اصطناعاً؛ وإنما يخلق الجمالية كضرورة منتجة للشعرية؛ وليست كوشي، أو زينة، أو حلة تزينية، وبمعنى أكثر دقة: إن اغترابه الجمالي هو اغتراب فني رؤيوي ينبني على فهم عميق لدور المحفزات الجمالية الفاعلة في تفعيل المشاهد، والارتقاء بها جمالياً، ولن يرتقي النص الشعري دون فاعلية القيم الجمالية، وإفرازاتها الرؤيوية العميقة التي تبدو في هذا الشكل الفني المثير، أو النص الإيحائي المركز.
- إن الاغتراب الجمالي – في قصائد حميد سعيد- اغتراب مؤسس على فاعلية الرؤية، وهذا يعني أن إفرازات جميع القيم الجمالية التي تثيرها القصيدة، منطلقة من رؤية واعية منظمة للأحداث، والرؤى، والمشاهد، والبنى الداخلية المختزنة في القصيدة؛ وكم من المحفزات والمنظورات الإبداعية، لا تكتسب قيمتها إلا من جمالية الرؤية، وقوة مثيرها، أو محرضها الجمالي الذي يتنامى ويتطور على الدوام.
- إن الاغتراب الجمالي – في قصائد حميد سعيد – ينبني على مغريات نصية جلها يصب في أتون الرؤية واللغة، والحساسية الشعرية أو الجمالية الشعرية، ولعل أكثر ما يظهر لنا ذلك في تفعيل الحس الجمالي، أو الفكر الجمالي في طرح الرؤية، بما يضمن لها قوة الفاعلية وشدة التأثير، وبمعنى أدق: إن القيم الجمالية التي تنطوي عليها قصائده متحولة في إفرازاتها، وقيمها الجمالية، وهذا ما يضمن لها العمق، والشاعرية، والانفتاح الجمالي، ولا نبالغ في قولنا: إن جمالية الشعرية –لديه- مشتقة من جمالية المنظور الشعري، وقوة المحرك أو الوتر الشعري الذي يشتغل على كل المكونات الإبداعية، ومرجعياتها الجمالية المختلفة، ولهذا نقول: إن قيم نصوصه الجمالية متوالدة على الدوام، ولا تثبت على محك واحد، أو رؤية ظاهرة تتكرر؛ إن كل قيمة جمالية محفزة للقيمة الجمالية الأخرى، ومحركة لكامل الأنساق.
- إن شعرية الاغتراب الجمالي- في قصائد حميد سعيد- تتعدى الحاجز اللغوي، ليدخل صميم الرؤية، وعمق التجربة من الداخل، وهذا ما يضمن لقصائده متعة في إفرازاتها الجمالية وقيمها الجمالية المتوالدة على الدوام ؛ إنها تغتني بآفاق من المدلولات المراوغة التي تنقتح على أكثر من دلالة، وعلى أكثر من مكثف فني، أو محفز جمالي، وهذا هو سر نجاح قصائده في تحليقها فنياً، إلى آفاق رؤيوية خصبة من الإيحاء، والتأثير.
- إن الاغتراب الجمالي – في قصائد حميد سعيد- بالقلقلة النسقية، والاستعارات الصادمة لا يحقق شعرية القصيدة، إن لم ترتبط برؤية نصية محرضة أو منشطة لباقي القيم الجمالية في القصيدة، وهذا يعني توالد أية قيمة فنية، أو جمالية مثيرة لا يتم بمعزل عن باقي القيم، وهذا ما يجعل قصائده شعلة في تنامي القيم الجمالية وتوليدها المتتابع في ثنايا القصيدة.
- أن الدهشة الجمالية التي تحققها قصائده بالاغتراب الفني والجمالي يؤكده وعي الشاعر الجمالي وتخليقه لسلسلة القيم الجمالية التي ترتقي إلى آفاق رحبة من العمق، والإيحاء، والشاعرية.
- إن الاغتراب الفني بالرؤية الجمالية والموقف الجمالي في شعر حميد سعيد يرتقي بفاعلية النسق، إلى آفاق خصبة، ومن هنا، يمكن القول: إن شعرية الاغتراب الجمالي
تتأتى في قصائده من كثافة الرؤى الجدلية، والحركة الدرامية في بناه التعبيرية، وليس ذلك فحسب، بل من المخزون الاغترابي الداخلي الضاغط على آفاق رؤيته، إذ يقول:"
«لنبدأ بالتفريق بين مصطلحي الغربة والاغتراب، فالغربة مكانية، أي الابتعاد عن مكان، نشأت فيه وارتبطت به بعلاقات عاطفية واجتماعية وفكرية، ثم يجد المرء نفسه، بعيداً عن كل ما أشرنا إليه، في مكان آخر وعلاقات أخرى وأناس آخرين .والإحساس بالغربة لا يكون بالانتقال من بلاد إلى بلاد أخرى فقط، فقد تعاش الغربة بانتقال الإنسان من الريف إلى المدينة أو من مدينة صغيرة هادئة إلى مدينة كبيرة صاخبة ومعقدة في تكوينها الاجتماعي.
أما الاغتراب فهو معاناة نفسية وفكرية وإحساس بعدم الانسجام مع محيط اجتماعي يضطر المرء إلى أن يعيش في فضائه، وقد يكون الاغتراب ثقافياً، أو أخلاقياً أو طبقياً، وليس من الوهم القول: إن الإحساس بالاغتراب، قد يكون داخل الوطن أو المدينة، حيث نشأ الإنسان وعاش. وقد يكون الإحساس به داخل المجتمع وأحياناً في المحيط الأسري، وهذا الإحساس هو الأكثر مرارة في ما يحس به المرء من اغتراب.
إن مواجهة المتغيرات بين مجتمع وآخر يتطلب قوة ذاتية ووعياً فاعلاً، ومن دونهما يتحول الاغتراب إلى مصدر للاكتئاب وسبب للانفصام. وقد يلجأ الإنسان إلى الذاكرة، ذاكرته الاجتماعية والثقافية والمكانية لمواجهة الاغتراب، وهذه المواجهة تكون لدى المفكرين والفنانين والكتاب، مصدر غنى للفكر والفن والكتابة، بينما تكون لدى البعض ما يشبه التراجيديا السوداء وتتحول بمرور الوقت إلى مرض نفسي قريب من التوحد.
وهؤلاء يعيشون انفصاماً حاداً، حيث يعيشون الحياة الجديدة بكل معطياتها ويلعنونها في السر أو في حدود حياتية ضيقة وما يكرس هذا الانفصام إن جيل الأبناء يعيش هذه الحياة الجديدة ويقبل عليها بشراهة وعنفوان، فيكون الاغتراب حتى داخل الأسرة الواحدة والبيت الواحد "(39).
- إن الاغتراب الجمالي بالدافع الجمالي- عند حميد سعيد- هو الذي يحفز شعرية القصيدة، ويكسبها فاعلية قصوى من التركيز، والفاعلية، والإيحاء، لاسيما بارتباطه بالصورة، وعمق الإيحاء، ويرى حميد سعيد أن الاغتراب متنوع في تجربته، بل في معظم التجارب الوجودية، خاصة الاغتراب المكاني، والزماني، إذ يقول"" لعل الاغتراب المكاني، هو أكثر الاغترابات شيوعاً، وأكثرها تأثيراً وحضوراً في النص الثقافي، أما الاغتراب الزماني، فهو ينتج عن خلل ثقافي وتربوي، إذ يعيش الإنسان في زمن آخر غير زمنه الواقعي، وهذا ما يقوده إلى حالة صدام مع البيئة والمجتمع، وهو من أخطر أسباب عزلة الأصوليين وكل الذين يستبدلون الماضي بالحاضر، فيرون في كل جديد انحرافاً. لقد استطعت دائماً أن أتواءم مع اغتراب المكان، بالإقبال على مستجداته حيناً، وبإيجاد بديل إبداعي حيناً آخر، وهذا ما ظهر آثاره في شعري في جميع تجاربي مع الغربة المكانية، منذ قصيدتي الأولى" الجليد" التي كتبتها وأنا شاب يافع، وجد نفسه في محيط غريب عنه، حيث عشت في تلك المرحلة بعيداً عن الأسرة والبيت، عن مدينتي وأصدقائي.
وظهر ذلك أيضاً في " ديوان الأغاني الغجرية" الذي كتبته خلال إقامتي في إسبانيا، وكذلك في ديوان" من أوراق الموريسكي" حيث كانت القصيدة هي المكان المتخيل والبديل عن المكان الذي صار بعيداً"(40).
- إن الاغتراب الجمالي بالدوافع الشعورية والجمالية – عند حميد سعيد- من محفزاته قصائده إبداعياً؛ ولهذا، تشتغل لديه البنى اللغوية والتصويرية والرؤيوية في تكريس مظاهر هذا الاغتراب الذي يرقى بجمالية الرؤية، والقيم الجمالية في قصائده:" إن الجمال ليس في جمع مفردات، يمكن وصفها بأنها جميلة، بل في ما تخلق هذه المفردات، جميلة كانت أو غير ذلك من وحدة جمالية، ونحن نعلم إن الجمال نسبي فيها.وعلى سبيل المثال، نحن نرى هذه الوحدة الجمالية في المرأة وفي الطبيعة واللوحة التشكيلية وفي الموسيقى، وكل منها يتشكل من عدد من المكونات يتحقق الجمال فيها بفعل وحدة جمالية في تكامل هذه المكونات"(41)، ووفق هذا المنظور الجمالي في الحساسية، والإدراك المعرفي يتبدى الجمال في شكل الإبداع، وفاعلية اللغة في تكريس القيم الجمالية؛ وهذا يعني أن ارتقاء شعرية حميد سعيد تتمثل في هذا الاغتراب التشكيلي البارز في بنيتها، وتكامل هذه المكونات، وتفاعلها في حيز نصي متفاعل، ومتماسك.
- إن الاغتراب الجمالي بالمشاهد والرؤى الجمالية – في قصائد حميد سعيد- من مغرياتها الجمالية وقيمها الإبداعية، وهذه الأشكال الاغترابية لا تنفصل عن الاغتراب الفكري، والنفسي، ويرى حميد سعيد أن الاغتراب النفسي له أثره على التكوينات الإبداعية لقصائده الشعرية، إذ يقول: «يبدو لي إن الاغتراب النفسي في كثير من حالاته، ناتج عن الاغتراب الفكري، وحين يتفاقم الاغتراب الفكري يؤدي إلى نتائج وخيمة، على صعيدي الفرد والجماعة. إذ يؤدي إلى العدمية والتطرف والعدوانية، فكراً وممارسة، وقد يؤدي إلى الاختلال العاطفي الذي يصل أحياناً إلى حد الإقدام على الانتحار. قد يتمكن الإنسان فرداً أو جماعة، الخروج من حصار الاغتراب الفكري ويتحرر من كثير من آثاره السلبية وذلك بتجاوز العزلة والانغلاق وممارسة الحوار والانفتاح الاجتماعي. إن حالات الاغتراب الفكري اقترنت باستمرار بالانغلاق على ما يعرفه المرء حيث يجد في كل ما لا يعرفه خطأً، أو خطيئة تصل إلى حد الكفر. ومعظم أحداث الدمار العام كالعدوانية والصراعات الدموية مصدرها الاغتراب الفكري وهي بعض نتائجه.»(42).
11- إن الاغتراب الجمالي – في شعر حميد سعيد – تثيره مجموعة قيم جمالية متنوعة في فضاءات قصائده، ومداميكها الفنية، وهذا يعني أن كل ما يحرك فيها قيمة فنية، أو جمالية يقع ضمن دائرة اغترابها الجمالي، وحراكها الاغترابي الفكري، وملمحها الوجودي.ولهذا يري حميد سعيد أنه"ليس من شعرية ناضجة من دون خبرة جمالية"(43).وهذا يعني مقدار وعي الشاعر بأهمية الخبرة الجمالية في تأكيد تفرد الشاعر إبداعياً في اغترابه وحسه الجمالي، وهذا ما يجعل بصمته الإبداعية مؤثرة ومميزة.
وصفوة القول: إن مثيرات الاغتراب الجمالي -في قصائد حميد سعيد- لا تنفصل عن مثيرات الاغتراب اللغوي، والاغتراب الفني لتصل إلى الذروة في هذا الاغتراب الذي جاء تدليلاً مباشراً على غنى قصائد حميد سعيد، وارتقائها جمالياً في نسقها، وهذا ما يضمن شعريتها، وفاعليتها النصية القصوى في المبالغة والتأثير. وهذا ما يحقق لقصائد حميد سعيد التفاعل، والإثارة، والشعرية. ووفق هذا التصور، نعد شعرية حميد سعيد وفق مؤشرات الاغتراب الجمالي من أرقى الشعريات العربية في هذا المجال؛ لأنها تبحث عن مستجداتها التشكيلية المثيرة، وحراكها الفني؛ وبصمتها الإبداعية الخاصة، ومنظورها الموارب، وهذه كلها جوانب مهمة من جوانب الاغتراب الجمالي، التي تتنوع بتنوع معطياتها الجمالية، ومؤثراتها الإبداعية على المستويات كلها.
الحواشي:
- شرتح، عصام، 2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية(حداثة السؤال أم سؤال الحداثة؟)، ص216.
- حيدر، صفوان، 1998- تاريخ الفن التجريدي، مجلة الفكر العربي، بيروت، لبنان، ع92، ص232.
- المرجع نفسه، ص 232.
- سعيد، حميد، 2005- من وردة الكتابة إلى غابة الرماد، دار أزمنة، ص13.
- شرتح، عصام، 2016- حوار مع حميد سعيد، مجلة بصريانا الإلكترونية، حوار منشور على موقع بصريانا الرابط(
- سعيد، حميد، 2005- من وردة الكتابة إلى غابة الرماد، ص14.
- شرتح، عصام، 2016- إثارة المستوى الأسلوبي عند شعراء الحداثة المعاصرين، مجلة الكلمة الإلكترونية مقال على النت.
- حيدر، صفوان، 1998- تاريخ الفن التجريدي، ص225.
- المرجع نفسه، ص232.
- سعيد، حميد، 2012- من أوراق الموريسكي، ص 19-20.
- المصدر نفسه، ص21.
- شرتح، عصام، 2016- حوار مع حميد سعيد، مجلة بصريانا، على النت
- شرتح، عصام، 2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية(حداثة السؤال أم سؤال الحداثة؟!!)، دار الأمل الجديدة، دمشق، ط1، ص367.
- المصدر نفسه، ص177.
- المصدر نفسه، ص177.
- سعيد، حميد، 2005- من وردة الكتابة إلى غابة الرماد، ص24.
- المصدر نفسه، ص25.
- شرتح، عصام، 2016- حوار مع حميد سعيد، مجلة بصريانا الإلكترونية.
- شرتح، عصام، 2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية، ص328.
- نقلاًمن:خير بك، كمال، 1986- حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر، دار الفكر، بيروت، ط2، ص148.
- سعيد، حميد، 2007- مشهد مختلف، ص15.
- سعيد، حميد، 2012- من أوراق الموريسكي، ص96.
- شرتح، عصام، 2016-حوار مع حميد سعيد، مجلة بصريانا الإلكترونية، على الانترنيت،
- سعيد، حميد، 2012- من أوراق الموريسكي، ص73.
- سعيد، حميد، 2007- مشهد مختلف، ص96.
- العبدو، زكوان، 2007- مفهوم الرؤيا في النقد العربي المعاصر، مجلة جامعة تشرين للدراسات والبحوث العلمية، سلسلة الآداب والعلوم الإنسانية مج29، ع2، ص37.
- حيدر، صفوان، 1998- تاريخ الفن التجريدي في الأصول الثقافية للرسم التجريدي، ص 232.
- المرجع نفسه، ص231.
- شرتح، عصام، 2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية، ص76.
- شرتح، عصام، 2012- مشهد مختلف، ص23.
- سعيد، حميد، 2005- من وردة الكتابة إلى غابة الرماد، ص28.
- حيدر، صفوان، 1998- تاريخ الفن التجريدي، ص225.
- عوض، ريتا، 1993- مقدمة ديوان خليل حاوي، بيروت، ص105.
- سعيد، حميد، 2012- من أوراق الموريسكي، ص 49.
- المصدر نفسه، ص51
- حسين، قصي، 1998- تشظي السكون في العمل الفني، مجلة الفكر العربي، بيروت، لبنان، ع92، ص211.
- سعيد، حميد، 2005- من وردة الكتابة إلى غابة الرماد، ص67.
- سعيد، حميد، 2012- من أوراق الموريسكي، ص97.
- شرتح، عصام، 2016- حوار مع حميد سعيد، مجلة بصريانا الإلكترونية، موقع على النت.
- المرجع نفسه، الموقع نفسه.
- المرجع نفسه الموقع نفسه.
- المرجع نفسه، الموقع نفسه.
- المرجع نفسه، الموقع نفسه.