يتناول الباحث العراقي ظاهرة تبدل الأنساق الإيقاعية وتغير البحور العروضية لدي الشاعر رشدي العامل باعتباره من اكثر الشعراء العراقيين ــــ وربما العرب ـــــ انتقالا من شكل شعري الى اخر، من العمود الشعري وحتى الشعر الحر، ويقترح تسميته «الانتقال الشكلي الثنائي» ساعيا للكشف اسباب التنقلات الموسيقية واثرها على الدلالة.

الانتقال الشكلي الثنائي في شعر رشدي العامل

رعـد البصـري

وبعد أن رصدنا لظاهرة الانتقال الشكلي في دراسة سابقة، وتتبعنا لها ومعرفة ماهيتها صار من الطبيعي ان نتابع نموذجا لورودها عند الشعراء ووقوفنا عند رشدي العامل جاء بسبب حقيقة انه لم يتصرف شاعر بالإيقاع ولم يدخل أكثر التنويعات الإيقاعية في شعره كما فعل الشاعر رشدي العامل الذي أتقن اللعبة الإيقاعية وتنقل بين تفاصيلها على صعيد الشعر الحر أم على صعيد الشعر العمودي أم على صعيدهما معاً. فهو من جهة متمسك بالشعر العمودي وإن كانت كتابته له في أعماله الشعرية كلها كتابهً حرة (أي على طريقة الشعر الحر)، يفلتُ منه هذا التمسك أو بمعنى اصح يفلت هو من الإيقاع بقصدية العارف باللعبة الإيقاعية كما ذكرنا ؛ ذلك إن هذا الأمر يتكرر في أكثر من موضع في نصوص الشاعر. ففي قصيدة " صخور" يبدأ الشاعر بهذا الشطر:

تقولين أين المسير

فأنتِ المطاف وأنت المصيرُ([i])

وهي ثلاث تفعيلات من إيقاع المتقارب في شطرها الأول أو أربع في شطرها الثاني، الاختلاف في سرد التفعيلات جعلنا ننحاز إلى أنهما - أي الشطرين – ينتميان إلى الشعر الحر، بداية الرحلة إذن من الشعر الحر، يلتزم بعد ذلك برتابة الرحلة التي جاءت بعد  ذلك شعرا عمودياً، يقول العامل:

وأنتِ لي الصحو إمّا غفوتُ

وأنت لي الضوء أنّى أسيرُ  

وأنت لي الحلم بين الجفون

وبيتي الكبير وطفلي الصغير

فقلتُ لها: هل يروح الحمامُ

إلى الرمل أما تراءى غديرُ([ii])

تستمر الرحلة الرتيبة في الشعر العمودي لتمُر عبر الرمال والفضاء ويصف فيها مغامرته وفراقه، إلى نهاية الرحلة التي يوحي بها البيت الأخير:

متى ينطفي كوكبٌ حائرُ

إذا ما تدانى المساء الأخير([iii])

فهناك انطفاء وهناك مساءٌ أخير. انتهت الرحلة عند انتهاء الشعر العمودي، يبدأ التناوب الإيقاعي بعد ذلك بأن يغير العامل في الشكل الشعري عبر انتقاله إلى الشعر الحر مرة أخرى، مع تغييره للإيقاع الشعري؛ فبعد أن اعتمد إيقاع المتقارب بشكله الحر في بداية القصيدة والعمودي بعد ذلك، انتقل إلى إيقاع الرجز بشكله الحر وهي انتقالة توحي بعودتهِ من الرحلة، واستقبال محبوبته التي يقول لها بعد عودته:

يا وردةً نائمةً

وجنتها ذابلةٌ، عيونها ساهمةُ

تويجةَ حائمة

تطلقني من هذا الشباك

     *    *    *

أخانت اليدان

كفيك أم هل خانت العينان([iv])

وفي قصيدة (العيون والطين) يحاول رشدي العامل أن يتناغم مع العالم الذي يوازي الإيقاع أو شكل الإيقاع، ففي الشعر العمودي صوّر عالماً قاسياً تستفيق العاصفة فيه يقول على إيقاع السريع:

جوزي معي، فالفجر يصحو على

أجفاننا والليل والناسِ

وفي دمي تلهث محمومة

عاصفة تكتم أنفاسي

أخشى إذا ما هزها بارقٌ

أن يستفيقَ العالم القاسي([v])

ما يخلفهُ هذا العالم القاسي نجدهُ مبثوثا في الشعر الحر عندما ينتقل إليه فهناك الجوع الدفين، والمقل الخزامى، وألم السنين، وليال خاويات وخطى ضائعة، وآخرون يتعذبون، كل هذه المخلفات وغيرها تضمنها الشعر الحر([vi]) وعندما يعود إلى الشعر العمودي بالإيقاع نفسه تخف نبرة العالم القاسي الذي بدأ به وتخف معها النتائج التي آل إليها الوضع بعد ذلك في الشعر الحر فيختم القصيدة بقوله:

جوزي معي نصنع فجراً لنا

أقوى من العتمة والياسِ

يهز صمت الليل في خافقي

ويحتوي عالمنا القاسي([vii])

وقد ينوع رشدي العامل بالأوزان الشعرية فيتضمن نصّه الواحد سبعة إيقاعات وزنية مختلفة فضلا عن الانتقال الشكلي المرافق لبعض هذه التنقلات كما حدث في قصيدة (أبيات) التي يوحي اسمها بهذا التنقل فهي أبيات متفرقة تشكلت على النحو الآتي:

1- الرجز        حر         سبعة أسطر

2- المتدارك     حر         خمسة أسطر

3- الرجز        حر         تسعة أسطر

4- الخفيف      عمودي    ثلاثة أبيات

5- المتدارك    حر         خمسة أسطر

6- الرمّل       حر         خمسة عشر سطراً

7- الرجز       حر          خمسة أسطر(*)  

وعلى الرغم من اختلافات عدد اشطر الشعر الحر في القصيدة إلا أنَّ الشعر العمودي اخذ موقع المركز الذي تحرّك حوله الشعر الحر

موضوعياً فأَن المرأة حاضرة في النص حضوراً طاغياً ففي بداية النص يقول:

قال لها مرة

وجهك شباكٌ على البستان([viii])

ثم يقول في المقطع الثاني:

اخفي يا سيدتي في قلبي أطفالاً محرومين([ix]) 

وفي الثالث:

أراك في الصباح

أنام في عينيكِ([x])

وعندما يأتي دور الشعر العمودي تغيب المرأة تماما عن المشهد ويتلاشى دورها الذي يبدو انه ملازم لإيقاع الشعر الحر، وتجدر الإشارة إلى أن نبرة الحزن التي واكبت أبيات الشعر العمودي سببها المرأة في الاشطر السابقة:

كلّما آن أن تغيب تشكــــّت          مقلهٌ غضهٌ وناح وريدُ

أيها المبضع المراهق رفقاً          بجراح دماؤهن صديدُ

أيظلُّ العمرُ الشقيُّ سهــاداً          وعيوناً طعامها التسهيدُ([xi])

ودليلنا على ما توصلنا إليه أن المرأة نفسها - أو غيرها لا فرق – تعاود الظهور في اشطر الشعر الحر، يقول في المقطع الخامس:

وتغني امرأةٌ شاحبة الوجه

على ثغر الوسادة([xii])

ويقول في السادس:

أنا لا اعرف حتى طعم حزني

خبزي اليومي

يا سيدة الحزن

وازهارك لوني([xiii])

تحضر في المقطع الأخير في  صورة الحاضرة الغائبة:

هل تخطرين هذه الليلة

في المساء([xiv])

حضور المرأة في الشعر الحر إذن وغيابها في الشعر العمودي، جعل منها معادلاً إيقاعيا إذا جاز لنا التعبير في هذا النص، كما أننا نلاحظ إن هذا الحضور يتناوب هو الآخر مع حضورها الرمزي ونعني بالأخير الدلالة عليها بضمير الغائبة .

ثم ينتقل إلى الشعر الحر بين إيقاعات الرجز والمتقارب والمتدارك والرجز مرة أخرى ثم المتدارك أخيراً وفي نهاية القصيدة يعود إلى الشعر العمودي بإيقاع الخفيف:

أينع الكرمُ فأستفق يا وريدي          أنت والكأس في الليالي السود(*)

أما قصيدة (فاجعة؟ كلا انه الحزن) فيبدؤها بإيقاع المتدارك وهو انسب الإيقاعات لصوت العربات والخيول التي تجرّها وعلى الرغم من القافية التي التزم بها ألاّ ان الأسطر تنتمي إلى الشعر الحر:

عربات المنفى

تجتاز النهار

في الخارج

أمطار

يرنو جلاد الخيل

في الأسوار

يقتحم المرفأ

والكائن والدودة والعتمة في الأطمار

جوعاناً

وينام على الأسوار([xv])

ينتقل بعد ذلك إلى جوٍّ آخر ومشهد آخر إذا جاز لنا القول، مما يقتضي أن يكون لهذه الأجواء وهذه المشاهد الجديدة إيقاعاتها الجديدة أيضا فقد انتقل إلى الشعر العمودي بوساطة وزن البسيط .

يـــا ساقييّ ولـم يبـرح على شفـتـــــــــــي     ملحٌ وبين جراحي يسقط الخدرُ

فـي أي مخلب وحشٍ ظـل ملتصقاً     دمي تبـــعثره الأنياب والضفـــــرُ

مــا آن أن يرقـد الموتى أمـا قــــــــدَرٌ     يوسّد اللحم والأشلاء يا قــــــــــدرُ([xvi])

يستمر الشاعر في هذا الإيقاع لأحد عشر بيتاً ينهيها بقوله:

لو تورق الأرض ما قد نزَّ من دمنا          إذن لأينع حتى الطين والحجرُ([xvii])

بهذه النهاية المأساوية التي توحي بالموت وبالدّماء التي تنشر الأرض ختم الشاعر القصيدة لكن هذا الإيحاء لم تكتمل صورتهُ بعد فالعربات التي تجتاز الأنهار وتحمل المنفيين، عادت للظهور على مشهد القصيدة في نهايتها، وبالإيقاع نفسه الذي بدأ به -المتدارك- وكأن هذه العربات قدرُنا الذي نبدأ به ويلاحقنا إلى النهاية:

عربات المنفى

تنتظر الحفار

تبني كّفاهُ البيتا

تحت الأمطار

أطعمنا الموتى

سلةُ أثمار

باقة أشعار([xviii])

فكان الانتقال الشكلــي الثنائي  سبيلاً للإيحاء بملاحقة المنفى الإنسان، ولو انه بنى قصيدته على إيقاع واحد وإن كان المتدارك لأصاب هذا الإيحاء الملل والرتابة .

يعود بعد ذلك إلى العمود وبإيقاع البسيط أيضا لتكون هذه المفاجأة التي تلي الموت في ثلاثة أبيات:

وجاء من يسأل الموتى ضريبتهم     من الحياة فلم يشعر بها العفنُ

ماذا نرد وارض الله واســــــــــــــــــعةٌ      تضيقُ في كل شبرٍ ضيقٍ ثمنُ

نمْ لحظةً فجبين الله مرتـعشٌ        على محياك واهجع أيها الكفنُ([xix])

أما في قصيدة «إلى إحدى الأمهات» فيعرض لنا العامل نموذجاً صامتاً في بداية القصيدة التي كانت من الشعر الحر:

كانت رياح الليل

تسقط في عباءتها الطويلة

ظل النجوم بمقلتيها

والمذابح والحرائق

ما بين هدبيها

وأخماص البنادق

ترتج فوق جبينها المضني وجبهتها النبيلة([xx]).

يبدأ هذا النفس بالتصاعد تدريجياً مع بقاء إيقاعه الكامل بشكله الحر:

اماهُ .... في العتمات كان الأصدقاء

يتململون، جراح صدرك في مضاجعهم  تغنى([xxi])

بعد مدة الصمت السابقة بدأ الأصدقاء يتململون، بدأت الجراح تغنّي وهي الدلالة الصوتية الأولى التي ترافق الشعر الحر .

ويتصاعد الأداء الصوتي بعد الانتهاء من اشطر الشعر الحر ودخوله في إيقاع الشعر العمودي:

النور في الابهاء يرقص والرجال يثرثرون

ونساؤهم يصغين والرغبات تلهث في العيون

كانوا يقصون الحكاية عن نساء في المدينة

للمرة العشرين يرفعن الشعارات الخضيبة([xxii])

ويستمر هذا التصاعد بالصوت أكثر من ثرثرة الرجال ومن قصّتهم والحكايات، وإن انتقل إلى الشعر الحر في نهاية القصيدة، فقد أصبحت الثرثرة والقص غناءً عالياً قطعاً إذ تغنيه البنادق:

أُماه لو تهوي على شفة الحرائق

كل الصدور

ولو تغني ملء دنيانا البنادق([xxiii])

وفي قصيدة «مذكرات عاشقة» يوزع رشدي العامل القصيدة على شكل مذكرات بتواريخ معينة: 1 نيسان 1961، 6 نيسان، 8 نيسان، 9 نيسان، 12 نيسان، 13 نيسان، 20 تموز كتب التاريخ الأول 1 نيسان بالشعر الحر على إيقاع مجزوء الكامل وكتب الثاني عموديا على إيقاع مجزوء الكامل أيضاً وكتب التواريخ الخمس الباقية بالشعر الحر ملتزماً بالإيقاع نفسه فكان 1 نيسان ممّهداً طبيعياً لبقية المذكرّات:

عيناك في عينيّ

طول الليل تحلم بالرحيل

تومي لجوعي

لا تنام

يكاد ينحب فيَّ جوعي

وحدي أجئ 

سأدفع الأسوار

يخطو في ضلوعي([xxiv])

تبدأ الأحداث تحديداً عند انتقاله الى الشعر العمودي في التاريخ الثاني إذ تخلّى عن الممهدات وبدأت الأحداث المهمة بصوره مباشرة:

قالوا جبينك في هزيــــ                     ـع الليـــــــل شُجّ ببندقـــيـةْ

ملقى على الإسفلت تنـ                  ـهش صبح عينك بندقيةْ

متناثــر الخصلات تمـــ                  سح نبع جبهتك الأبية   ([xxv])

يعود بعدها لسرد أحداث مصاحبة للحدث الأساسي في 6 نيسان ولذا فهو يعود إلى الشعر الحر إلى نهاية القصيدة على الرغم من التزامه كما قلنا بإيقاع الكامل المجزوء، كما انه يبقي المذكرات مفتوحة حتى بعد نهايتها واحسب انه رأى الشعر الحر مناسباً لهذه النهايات المفتوحة أكثر من الشعر العمودي:

أرسل لنا شيئاً

قميصك إن قدرت َ

مع الرسالة

وشمٌ لصيق الصدر، قيل لنا

على الثوب المطّرزْ

في حيث شد القيد أوردةً

وحيث السوط يفرزْ

طيباً جنوبياً

وقداحاً

وشمّة برتقاله

سأظل انتظر الرسالة...... ([xxvi])

وقد تأخذ الشاعر بعض الانفعالات التي تخرج الشاعر عن نظامه الإيقاعي الذي يبني عليها إيقاع القصيدة بأكملها، فتدخله في ظاهره الانتقال الشكلي بصورة سريعة ففي قصيدة «صلاة» التي ينظمها على إيقاع الرمّل المجزوء بنظام رباعي القافية:

زحف الليل يلف الكون في صمتٍ رهيبِ

فادنُ من قلبي مع الليل لنشدو يا حبــيبي

قد رشفت الراح لم يبقَ سوى الكأس النضيبِ

فأعطني ثغرك كأساً واللمى فيك نصيبي([xxvii])

إلى أن يقطع هذا النسق العمودي بأن ينظم شطرين يخرج بهما على مجزوء الرمّل ذي التفعيلات الأربع، ويجعلها خمساً فيقول:

أعطنيها منية حملتها روحي وأحلامي ونفسي

قبلة ذوبت في اعصارها حبي وآمالي وحسي([xxviii])

وواضحٌ ان الشاعر جرى وراء انفعالاته الذاتية لحظة الكتابة أكثر من جريه وراء التزامه بنظام العمود الشعري، فالشطران يحملان تركيزاً انفعالياً واضحاً من خلال هذه المعطوفات الذاتية (روحي، أحلامي، نفسي، حبي، آمالي، حسّي) وواضح انه لو تخلى عن معطوفي (أحلامي)  في الشطر الأول و (آمالي) في الشطر الثاني لاستقام له الوزن بتفعيلاته الأربع، لكن عاطفته كما ذكرنا غلبت التزامه بالإيقاع، ودليلنا الآخر على تصاعد العاطفة في هذين الشطرين بأنه عاد بعد أن هدأتْ نفسه الى مجزوء الرمل ليكمل به الرباعيات القافوية التي بنى عليها القصيدة بأكملها ليقول بعد ذلك:

ها أنا اليوم بصمتي قابعاً في وسط بأسي

وغدا في القفر آمالي وتحت الأرض رمسي([xxix])

وقد أسهمت كتابة القصيدة العمودية هذه على طريقة كتابة الشعر الحر بخروجه عن نظام الأولى ووصوله إلى الشعر الحر وعودته بعد ذلك إلى العمود، ويمارس رشدي العامل اللعبة الإيقاعية نفسها نوعاً ما في قصيدة «الوهم» إذ يبدأ عمودياً بمجزوء الكامل فيقول:

هذا هو الليل الجديد

وينقضي ويلوح ثاني

وأراك اسمع همسة العينين

توميء للثواني ماذا ستكتب

إي جوع في يديك إلى الحفيف؟

في صمتك الليلي،

في جرحٍ يكف عن النزيف

حتى كأن يديك تنطرحان  في طين الخريف

لازهر في البستان لا ثمراً يجتمع(*) في الأواني([xxx])

ينتقل في المقطع الثالث إلى إيقاع البسيط لكنه يستمر في عموده الذي يكتبه دائماً بشكله الحر - إلا ما ندر -، ومع هذا الانتقال ينتقل مكانيا أيضا فبعد أن ضمَّن إيقاع الكامل الخشية، والضياع، والموت، يقول في العمودي البسيط:

جزيرةٌ بارك الربّان خضرتها

واحتزّ أثمارها في الليل قرصانُ

يتمتم الفجر في الغابات لهفته

وتستفيق على الناعور شطانُ

جزيرةٌ يعرف الربّان مسراها

من حيثما حيثما تمتد أغصانْ([xxxi])

ولم يمارس الشاعر لعبته الإيقاعية التي كشفنا عنها، إذ تبدأ هذه اللعبة. بانتقاله إلى الشعر الحر وبإيقاع البسيط نفسه فيحذف تفعيلتين هما (مستفعلن فاعلن) من إيقاعه بصورته العمودية:

السيف والخنجر الدامي على غصن

يستحلب الآها

جزيرة يجهل الربّان عتمتها

ما كان أقصاها

ما كان أبعدها، عنا، وأدناها

تحتزها الجزر([xxxii])

ويبدو أَن (الجزيرة التي بارك الربّان خضرتها) في الشعر العمودي، أصبحت جزيرة ما كان أقصاها في الشعر الحر، والجزيرة التي (يعرف الربان مسراها) في الشعر العمودي أصبحت جزيرة (يجهل الربّان عتمتها) في الشعر الحر وهكذا كان الانتقال مكانيا أولاً ثم انفعاليا بحكم تعامله مع الجزيرة نفسها في المكانين العمودي والحر، ثم إيقاعيا بانتقال بين الشكلين الشعريين يستمر هذا النفس الموازي بعد ذلك إذ ينتقل إلى إيقاع البسيط بشكله العمودي، وعندما يعود إلى الإيقاع نفسه بشكله الحر، تعود نبرة التشاؤم التي لازمت هذا الشكل عبر انتقالات العامل الإيقاعية:

غدا تتمتم

والأجفان مطبقةٌ

 ما كان أشقاها

جزيرةٌ تشربُ الأوراق والشجر من دمع موتاها([xxxiii])

أما في قصيدة «الضحية» فيستعمل رشدي العامل الشعر العمودي بشكله ذي الشطرين للمرة الأولى ولكنه سرعان ما يتخلى عنه وعن إيقاعه بعد أربعة أبيات، إذ تبدأ القصيدة بإيقاع السريع:

مررت بي واغرورقتْ عبرةٌ                 ها أنت في دوّامة الآخــــــرينْ

في وجهك الهارب عني أرى               وجهي الذي خلّفته من سنينْ

جبينك السائر في نومـــهِ                   وشعرك النائم فوق الجـــــــــبينْ

وفي الفم الجرحِ رماد الهوى                وبين عينيك بقايا حنــــــــــــــــينْ    ([xxxiv])    

ينتقل بين هذه المقدمة العمودية إلى الشعر الحر وبإيقاع الهزج:

وراء الصمت ألقى وجهك المتعبْ

أرى عينيك تسترخي

أرى أطيافها تلعبْ ([xxxv])

 الشعر الحر يعود إلى الشعر العمودي وبالإيقاع نفسه (الهزج) لينتقل إلى الرؤيا القلبية، أي الإحساس بالأشياء التي يصرّح بها في الشعر العمودي ولم يفعل ذلك في الشعر الحر:

احسُّ الملح والبحّار و الغرباء و المرفــــــأْ

وابكي عبر عينيك الليالي السود في الملجأ

وراء الصمت ها أنت التي في وجهها ترفأْ

عروق الثلج في قلبي وبشمس(*) وجهي المطفأ([xxxvi])

فهو(يحّس) بكل ذلك ولا يراه، ويبكي عبر عينيها، فضلا عن دلالة (وراء الصمت) التي توحي بمكان معنوي وليس مادياً، وهي حالة شعورية رافقت إيقاع  الشعر العمودي، وحينما ينتقل مرة أخرى إلى الشعر الحر تعود الصور المرئية رأي العين إلى الظهور بوساطة حاسة أقوى من الرؤيا البصرية المتمثلة بحاسة اللمس:

تعالي نلمس الأزهار في الشوكِ

ونزرع في رحال الساحل المقفر بستاناً من الشوكِ

ونستلقي بلا حلمٍ ونسترخي بلا مركبْ([xxxvii])

وهكذا يكون شاعرنا العامل اكثر الشعراء العراقيين ــــ وربما العرب ـــــ انتقالا من شكل شعري الى اخر وقد تكون تسميته (الانتقال الشكلي الثنائي) انسب المصطلحات التي نطلقها على هذه الظاهرة وعلى الرغم من كثرتها لدى الشاعر رشدي العامل الا انه سُبق اليها من قبل شعراء كثيرين يتقدمهم بدر شاكر السياب، لكن الكثرة سبقت الريادة في هذا البحث الذي وقفنا فيه على اسباب العامل في تنقلاته الموسيقية واثر ذلك على الدلالة.

 

([i])      الأعمال الشعرية الكاملة: رشدي العامل، دار المدى للثقافة والنشر2010 بغداد :25، يفعل الشاعر العكس في قصيدة "حوار" ببيت من مجزوء الوافر ثم يكمل القصيدة بالشعر الحر إلى ما قبل نهاية القصيدة ببيتين و يعود إلى مجزوء الوافر نفسهُ بشكله  العمودي. ينظر م.ن :49-50 وينظر قصيدة (جموح) إذ يبدأ الشاعر بتفعيلة واحدة حرة ثم يكمل ببيتين عموديين، يعود بعدها فيورد تفعيلة حرة ويكمل عموديا بعد ذلك وهكذا ..  ينظر           م . ن : 191

([ii])      الأعمال الشعرية الكاملة ، رشدي العامل : 25 .

([iii])     م . ن : 26 .

([iv])      الأعمال الشعرية الكاملة ، رشدي العامل ، ص 26.

([v])      م . ن : 460 .

([vi])      م . ن : 460 ـ 461 كما انه انتقل من إيقاع السريع إلى إيقاع الكامل بشكله الحر .

([vii])     الأعمال الشعرية الكاملة ، رشدي العامل ، ص 461.

(*)     يمارس العامل اللعبة الإيقاعية ذاتها تقريبا في قصيدة (تذكارات) إذ يوزعها على الشكل الآتي:

1- مجزوء الرجز / عمودي  2- الرجز/ حر  3- المتقارب / حر 4- المتدارك /حر           5- الرجز /حر  6- المتدارك/ حر  7- الرمّل / عمودي   ونحن نلحظ انه يبدأ عمودياً وينتهي عمودياً ينظر: م.ن :601-602-603 .

([viii])    الأعمال الشعرية الكاملة ، رشدي العامل : 590 .

([ix])      المكان نفسه .

([x])      الأعمال الشعرية الكاملة ، رشدي العامل: 591 .

([xi])      المكان نفسه  .

([xii])     م . ن : 592 .

([xiii])    المكان نفسه  ، وتنظر قصيدة (تذكارات) إذ تبدأ عمودية بمجزوء الرجز :

يحكون لي عن شاعر كانت له قصيدة

شاحبة مترفة حزينة أنيقة

ماتت فأخفى ظلها الـراحل في الحديقة

([xiv])     الأعمال الشعرية الكاملة ، رشدي العامل ، ص 592 .

(*)     م . ن : 601 , 603 وتنظر قصيدة(القناع) إذ يبدأ بالشعر الحر على إيقاع  المتدارك, ثم السريع وينتقل إلى الشعر العمودي بوزن مجزوء الكامل ثم  الكامل بشكله الحر, فالسريع حراً ثم المتدارك من جديد يختم هذه التنقلات بأن يعود إلى الشعر العمودي بإيقاع السريع أيضاً. م . ن 392 .

([xv])     الأعمال الشعرية الكاملة ، رشدي العامل : 45 .

([xvi])     م . ن : 45 ـ 46 .

([xvii])    م . ن : ص 47 .

([xviii])   الأعمال الشعرية الكاملة ، رشدي العامل ، ص  47 .

([xix])     م . ن : 48 .

([xx])     الأعمال الشعرية الكاملة ، رشدي العامل : 54 .

([xxi])     المكان نفسه .

([xxii])    م . ن : 55 .

([xxiii])   الأعمال الشعرية الكاملة ، رشدي العامل، ص 55، وتنظر قصيدة (بطاقات لم ترسل) إذ يوزع البطاقات على شكل مقطعات شعرية, تبدأ القصيدة ببيتين من الشعر العمودي ثم ينتقل إلى الشعر الحر ويعود إلى العمود بحسب البطاقات التي يعنونها على الشكل الآتي:إلى مارد, إلى امرأة  (لا اسم لها) إلى متزوجة حديثاً, إلى شاعر محاصر, إلى علي, الأطفال.... يبدو أنهم يعرفون أكثر مما ينبغي. تنظر القصيدة : 340- 343.

([xxiv])    الأعمال الشعرية الكاملة ، رشدي العامل ، ص 60 .

([xxv])    الأعمال الشعرية الكاملة ، رشدي العامل ، ص: 61 .

([xxvi])    الأعمال الشعرية الكاملة ، رشدي العامل: 65  .

([xxvii])   م . ن : 180 .

([xxviii])  م . ن : 182 .

([xxix])    الأعمال الشعرية الكاملة ، رشدي العامل: 182 .

(*)      هكذا وردت والصحيح (يُجمَّع)

([xxx])    الأعمال الشعرية الكاملة ، رشدي العامل ، ص 315 ، هكذا كتبت في المصدر وهي من مجزوء الكامل المذيّل إذا قُطّعت عمودياً.

([xxxi])    الأعمال الشعرية الكاملة ، رشدي العامل : 316  .

([xxxii])   م . ن : 316 ـ 317 .

([xxxiii])  الأعمال الشعرية الكاملة ، رشدي العامل : 317 .

([xxxiv])   م . ن : 379 .

([xxxv])   المكان نفسه .

(*)      هكذا وردت وأظن أنها (وشمس) فزيدت الباء خطأً احسبه طباعياً .

([xxxvi])  الأعمال الشعرية الكاملة، رشدي العامل، 380 .

([xxxvii])  م . ن : 381 .