المرآة في نص القاصة التونسية عفاف الشتيوي تتجلى من خلال حدث القصة وتكوين شخصيتها وطبيعة الحوار بكل أبعادها الرمزية كعمق للذات البشرية، ومساحة قادرة على احتواء أسرار البشر والاستماع إلى شكواهم وهمومهم. وقادرة أيضا على جعل متأملها يعي حجمه أو وهم حجمه.

مرايا مذعورة

عفاف الشـتيـوي

المشهد لا عنوان له، و لا ينتمي إلى فصل من الفصول. هو ليس مشهدا سينمائيا أ و مسرحيا،

 هو مشهد لا عنوان له، لا ينتمي إلا إلى نفسه.

 هنا تبدو الإضاءة بلا أهمية تذكر، و يبدو الأثاث القليل دون قيمة، حتى الشخصيات ليست بذات أهمية.  فشيء واحد قابع في زاوية ما من زوايا المكان يختزل في داخله كلّ الشخوص و يستوعب كلّ الأزمنة و يحاور كلّ الفنون و يجاورها منفلتا في الآن ذاته من التحديد، يقول دون أن يقول، يهمس دون أن يهمس.

هذا الشيء هو ما وقع عليه بصري في تلك اللحظة التي دخلت فيها إلى تلك الغرفة. شيء واحد شدّ بصري لأنه أوّل ما ارتطم به بصري في تلك اللحظة و احتواني بشيء من الفضول و الدهشة والقسوة. هذا الشيء اختزل عينيّ الذاويّتين و شفتيّ المتآكلتين.

 ملامحي هي ملامحي دون شك، لكن لِمَ أراها الآن، فلا أراها؟ أو يبدو لي أنّني أراها للمرّة الأولى أو يبدو لي أنّني أراها للمرّة الأخيرة. لست أدري. انعكست على بلورها المصقول كلّ أنواتي، كلّ احتراقاتي، كلّ اجتراحاتي .

هي مرآة كغيرها من المرايا، موجودة في الغرفة كسائر المرايا، إذ  يندر أن تخلو غرفة من مرآة خاصة في الفنادق . هل يحتاج الإنسان دائما إلى تأمّل ملامحه؟ هل يحتاج إلى تعديل مزاجه اليومي ؟ أقصد ملامحه التي سيصافح بها العالم ؟

ربما لأنّه مهووس بذاته أوجد له هذه المساحات المختلفة الأشكال .  بعضها دائري و بعضها مربع  وبعضها مستطيل. لكن كلّها تشترك في تلك المساحة البرّاقة التي تفضحنا.

 اعتدت أن أنظر إليها دون أن أعيرها انتباها، دون أن ألتفت إلى ملامحي التي ألفتها .

 ما الّذي سيتغير فيها ؟ مازلت شابّا رغم عينيّ الذاويتين و شفتيّ الشاحبتين على حدّ علمي ،فأنا لم أتجاوز الثالثة و الثلاثين حسب الرزنامة التي أتبعها، إذن مازلت شابّا . هذه ملامحي، الملامح التي أصافحها كلّ يوم و تصافحني كلّ يوم. لم يحدث يوما أن تخلفت عن واجهتها البلورية.

 يهمّني أن أنتبه إلى أنّ ملامحي التي سأصافح بها العالم كلّ صباح لا تختلف عن تلك التي يحملها الجميع طوعا أو كرها، وحده الله يعلم . المهمّ أنّهم يحملونها كما يحملون أسماءهم . إذن ما الذي يجعل ملامحي تستوقفني اليوم بالذات ؟

 اليوم على ما أعتقد هو السبت الثامن و العشرون من جانفي لأنّ الغد هو الأحد التاسع و العشرون من هذا الشهر.  و هو الموعد المحدّد للمؤتمر الذي من أجله تنزل في هذا الفندق . سبق أن نزلت بفنادق و سبق أن صافحتك مرايا لكنّها لم تستوقفك . لِمَ تستوقفك هذه المرآة بالذات ؟

 شكلها يشبه كل ّالمرايا، ملامحك هي ذاتها الملامح التي تركتها في مدينتك أو تلك التي حملتها معك من مدينتك . مزاجك لم يتغيّر كثيرا. كان الطريق عاديا و الرحلة كذلك.. إذن لم تستوقفك هذه المرآة؟

ترى كم رجلا استوقفتْ من قبل؟ كم امرأة استوقفتْ. أعتقد أنّ امرأة حسناء نزلت بهذا الفندق الليلة الفارطة. مازالت ملامحها تقبع في زوايا المرآة . مؤكدّ، إننّي لأرى شفتيها المكتنزتين و عينيها الواسعتين اللتين تختزلان كل الإناث بنظرتهما المهادنة المتوترة الوديعة الحالمة . أجل إنيّ لأشعر بتلك النظرة تهادنني حينا، تراودني حينا آخر، بل إنّي لأرى في الزاوية الأخرى عينين دامعتين، عينين ذرفتا ما شاء لهما و هما تعترفان لهذه المرآة. كم للمرآة من أسرار. تراها تحفظ سرّي الليلة؟

 المرايا مخادعة تعبث بنا. ما الذي يثبت لي أنّ هذه الملامح ملامحي ؟؟ ههه..  هل هي محايدة إلى هذه الدرجة كي تنقل ملامحي بكلّ هذه الدقة و الموضوعية ؟؟؟ثم ما الذي يجبرني على أن أشاركها ملامحي ؟  ملامحي ملك لي وحدي، فَلِمَ تتقاطع كل يوم على واجهة مرآة من المرايا ؟ لو عددتُ عدد المرايا التي فضحتني و بعثرتْ ملامحي.. إنهّا أكثر من عدد أيامي كلّها.

 معقول ...لم تستعبديننا أيّتها الواجهة البرّاقة الخادعة؟  لِمَ تستوقفينني الآن ؟؟ هل تحفظين سرّي لو بحت به إليك أم أنّك سوف تفشينه لأوّل نزيل ؟ كم أنت مخادعة أيتّها الواجهة البلورية البراقة.

أ هذه ملامحي أم ملامحكِ ؟ كيف تختزنين كلّ هذه الملامح و كيف تختزلينها في ثوان؟

إنّ قدراتك لعجيبة و مدهشة. إنّك لأعظم الاختراعات ، تعبثين بكلّ الأزمنة و بكلّ الأمكنة، تتشفين من كلّ الوجوه و تخدعين الجميع .أنتِ الّتي لا لون لك. لونك هو لوننا و مزاجك هو مزاجنا و رائحتك هي رائحتنا، فهل أنتِ أنا أم أنا أنتِ ؟؟

كانت مرآة بين زواياها تقعرت عينان أحداهما تنحرف إلى الحياة و الأخرى إلى الموت، شفتان أحداهما تمتهن الابتسام و الأخرى تمتهن الألم .  زواياها تستخفّ بي،  تستخف بهذه الملامح التي أحمل منذ ثلاثة و ثلاثين عاما معتقدا أنهّا تشبهني.

 ها قد تبيّن أنّها ليست كذلك، إنّها لا تشبهني .إنّني أحمل قناعا بل أكثر من قناع، أجوب به المدن.

  نعم، المرآة و هي تقعر شفتيّ اليابستين و هي تسّطح نظراتي المتصلبة، قالت لي إننّي لا أشبهني. لكنّها قالت لي أيضا إنهّا سوف تحفظ سرّي و لن تفشيه لأوّل نزيل.

أنتِ التي لا تقوين على تثبيت ملامحنا، أنتِ التي لا تقوين على تأبيد لحظاتنا تهزميننا و تفضحيننا.

مرآة تختزل أكثر من وجه و أكثر من ذاكرة تستوقفني. مرآة تستخف بملامحي التي أحمل منذ ثلاث  وثلاثين سنة معتقدا أنهّا ملامحي.. أ أصدق أنّ هذه الملامح المتواطئة على البلور هي ملامحي؟.

أ أصدق أنّني وقعت بين  فكي هذا البلور الصقيل الذي لا ذاكرة له. اليوم تبيّن لي أنهّا لا تشبهني  وأنّني أحمل قناعا من طراز خاصّ أجوب به المدن و الزوايا و أتهالك به على صممي اليومي .

المرآة، و هي تقلّص ملامحي بمنتهى الدقة و الموضوعية، و هي تقعر شفتي اليابستين، و هي تسّطح نظراتي المتصلبة، قالت... عينان إحداهما تنحرف إلى الحياة و الأخرى تشتاف الى الموت، إحداهما تمتهن الابتسام و الأخرى يشتهيها الألم .. قالت... إنّني لا أشبهني بل أشبه هذا المرّكب الذي يتهاوى أمام بلورها البراق ...قالت لي إنّها ستحفظ سرّي اللحظة، لتذيعه لأوّل نزيل يطرق بلورها، ستبوح له بكذبة أخرى.

تقول المرآة المربكة إنّني لا أشبهني. امتدت يدي تلقائية تتحسّس هذه الملامح الضبابية.

لَمْ تبد مألوفة، تداخلت تفاصيلها، تضاءلت العلاقات بينها، لم أعد أميّزني.

  أدقق النظر فيها فلا أراني، أقترب منها فتزداد صورتي وضوحا. تكاد تفترسني هذه الملامح الآسنة. لا أصدّق أنّني هذا المتداعي بين ثنايا البلور الصقيل .أزداد منها اقترابا، فتزداد ملامحي وضوحا، فغموضا، فضبابية. لا أكاد أميّز شيئا. لا أكاد أمّيز شيئا. أنهال على هذا البلور، ما عدت أحتمل لونه الذي لا لون له، شكله الذي يحتويني بشراسة. تباغتني الصور. وجهي و قد تداعى، وجهي و قد أفل، وجهي و قد تقعّر، وجهي و قد تسطح، وجهي و قد ذوى، وجهي و قد اضمحل. لم أعد أراني. لم أعد أرى شيئا. كانت شفتاي اليابستان ملقاتين عند طرفي السّرير، فيما انحنت عيني اليسرى قرب محفظتي، أمّا عيني اليمنى فقد استلقت بلا حياء حذو رجلي اليسرى . بدا لي أنّ كلّ شيء يسخر مني، صورتي الممزقة، ملامحي  التي أنفقت السنين في ترتيبها تتبعثر في ثانية، تبعثرها المرآة، تبعثر لحظاتي كلّها، تعبث بأنواتي كلّها . بدت صورتي المبعثرة مفزعة. أردت أن أجمع البلور المتناثر.

لم أجد ترتيبا لهذه الملامح المبعثرة . باتت أكثر تبعثرا، أكثر دكنة. باتت  صامتة مخيفة. أردت أن أصرخ، فلم أقدر. أردت جمع البلور المتناثر. كانت عيني اليسرى تراقبني باشمئزاز، لم أقو عليها. أردت أن أفرّ منها. لم أجد لي مكانا. وقفت أمامها. كانت مفزعة شديدة مخيفة . لا أصدق أنّ هذه الملامح ملامحي. لا أصدق أنّها مخيفة و مفزعة إلى هذا الحدّ.

أنحني لأجمع القطعة البلورية. لا أحتمل وجهي الممزّق و ملامحي المتهاوية. أضغط بقوّة على البلور. أرى دماء تغمر الأرضيّة و تغمر القطعة البلوريّة الثانية . بدت ملامحي أكثر شراسة. لا لا يعقل.

 ألقي القطعة الأولى، أضغط على القطعة الثانية، تنفجر الدماء قانية تغمر القطعة البلورية. لا أرى إلا الدماء تغمرني و تغطي الأرضيّة بلونها الداكن .

تتسّع رقعة الدماء .أهرع إلى صنبور المياه. تباغتني مرآة أخرى، فأفرّ منها، فأجدني أمام شظايا البلور. ملامحي متشظية. الدماء تغمر الأرضية و قطع من بلور ملقاة هنا و هناك، لكنّني لا أراني .