يعود زوجها ظهرا كعادته بسلته الممتلئة بصنوف الخضراوات الموسمية: البقدونس يطل من جانبها الأيمن والخرشوف يطل من جابها الأيسر، ورائحة السمك الذي انتظر من يشتريه إلى غاية الثانية عشر. وقد تظهر استدارات مختلفة للبرتقال والتفاح، و لا يتمنى في نفسه إﻻ أن تستقبل زوجته القفة بحفاوة. زوجته اللطيفة والنشيطة الدقيقة الملامح و الخصر التي تحولت بعد أربع سنوات من الزواج إلى سيدة جعل قصر قامتها بدانتها الطفيفة أكثر بروزا و فحشا. لم تعد تستغرق وقتا طويلا أمام المرآة كما كانت أيام الجامعة وبصراحة لم تعد تستغرق زينتها أكثر من ثوان عابرة كل صباح. أن تكون في زواج مغربي ﻻ يهم التزين و ﻻ يهم التعطر، تلك أشياء يراها الزوجان في التلفزة و لكن ليس من الضروري أن تتعدها، فزوجته ﻻتحتاج لشيء أكثر من الخضر و اللحوم. فلا تستقيم أسرة ولا تنهار إﻻ لارتباطها بالقفة ولا يسأل زوجته شيء إﻻ حسن الطبيخ وحفاوة استقبال القفة اليومية. أما الهدايا أو الزينة والإطراء أشياء زائلة زائفة ﻻ يحتاجها في الحصة الأسبوعية من الجنس الليلي وسط الظلام الدامس، وكأن كل منهما يمارس مع شبح. طرف آخر ممتزج بالظلام ﻻ شيء في الموقف إﻻ الإحساس بالموقف نفسه. وعندما تنتهي الحصة الشبه مفروضة يخمد الجسدان يفكران في مهام اليوم الموالي، التي لم تعد تحتاج إلى تفكير وترتيب لأنه من كثرة تشابهها خرجت من قبضة القدر، و من جاذبية الكون نحو الانفلات إلى دائرة ﻻ تتوقف و ﻻ تنتهي ولا تكف عن الدوران، ولكنها فقط تتكرر. كان يريد أن يكون مثقفا، وكانت لديه تطلعات نحو نقد وانتقاد الواقع، الآن اختفت كل آرائه وكأنه وصل الحقيقة أو أن الواقع التهمه.
إن محاولة رفض المثقف للواقع هو صراع سيزيفي غير متوازي القوى، لأن من أهم أساسيات البطولة اختيار العدو المناسب. وكما كل شيء قابل للتطور، حتى مفهوم العدو تطور، وأخطر ما فيه اختفاؤه وتداخله و تماهيه. والآن ارتاح وهنئ بما هو عليه فزاد وزنه وأحب سيارته القديمة، وأحب أن ﻻيغير شيئا بداخله أو حوله. طالما لكل نشرة أخبار يشاهدها حقيقة، و لكل مذهب، و دين، وعرق حقيقة. في إطار تصادم الحقائق اختفى المنطق والأخلاق و الإنسان، فالإنسان المثقف حالة شاذة في بلاد العرب، تكالب عليه الساسة ورجال الدين والجهلاء. لأن بعض الدول صارت آلة حضارية لإنتاج الجهل وتوريثه. وكيف ﻻ والجهلاء هم خدام الأديان والحكام. كل حكومة مستبدة تريد الحفاظ على سيادتها، تزيد من الجهل في رعيتها لأنهم يصوتون على مرشحيها وﻻ يحاسبون زﻻتها و ﻻ يهمهم إﻻ إرضاؤها. وهم المصطفين والمصفقين لتحية الحاكم و الجماعة الهاتفة والناطقة بلسان الحاكم. ثم هم الذين يبيعون إنسانيتهم و يبيعون الوطن بدراهم معدودات، في إطار صفقة دنيئة و أي دولة مستبدة تريد الحفاظ على شرعيتها المزعومة تقبض أنفاس أي فكرة قد تهدد وجودها و مصيرها.
عرفته أنا في أوج الرغبة في التغيير، فتأقلم هو مع الواقع من باب نظرية الحيط أسلم. سماه أبوه "نضال" تيمنا بالحركات الثورية التي كانت عند المغاربة في أوج المد الشيوعي و التفكير في أزمة الطبقية و الفقر خلال سنوات الرصاص. لكنه اليوم ﻻ يناضل إﻻ في السوق و في حمل حاجيات المنزل. ولا يثور إلا داخل حلبة صحون الطعام، يهاجم ما فيها، يتصدى لأكبرها، يهشم ما صعب منها ويلين بلعابه ما عسر، حتى و إن أنهى ما في الصحن التجأ إلى شيء للتحلية، فظفر به كما ظفر بالطبق ثم غسل يده وترك لزوجته أمر المسح والجلي، وأشار لها بطرف عينه كإشارة لرغبة خفية لإنهاء لذة عابرة فتستجيب بدون اعتراض. يمرر بشفتين كالمجسات على كامل جسمها ويطبق على صدرها يشاركها في كل منافذ الأوكسجين، ليس الوقت وقت الأكسجين! إنه وقته هو بدون مقاطع ولا منازع. تشاركه كل شيء إلا التفكير، تشرد في أوج الاتحاد لا سلطة على الفكر، تتذكر أيام الجامعة و زحمة الطلاب وطريق كلية الحقوق والوجوه وصدى الأغان الثورية :
..إني اخترتك يا وطني...
فليتنكر لي زمني ...
ما دمت ستذكرني ...
يا وطني الرائع.. يا وطني..
على رصيف حي الطلبة بجامعة ظهر مهراز وجوه يملؤها الأمل والتفاؤل والصداقة والحب، تتذكر وردة مبالغ طولها أهداها إياها وهو يقرأ عليها قصيدة نزار "أحبك أن تثوري"، تقول لنفسها لو لم تقبل الوردة، لو لم تسمع القصيدة، لما كانت هنا مسجونة مسلوبة الحركة تحت الجسد الفارع. ولا تنتظر إلا أن ينتهي عساها تظفر ببعض الراحة أو الإحساس بعودة ملكية جسدها إليها. ثم يرن هاتفه ينط من الفراش نطا ليجيب، يفتح الباب ثم يقفلها يجري مكالمة قصيرة ويعود للغرفة يرتدي ملابسه على عجل، و يخرج قافلا وراءه باب الشقة ولا يبقى منه إلا وقع خطاه الذي يخفت رويدا رويدا. يمر على البقال يشتري علبة سجائر يشعل واحدة في شوق، يرتشفها كمن يدخل أوكسجينا نقيا أو يرشف من ينبوع حياة. ثم ينفثه بهدوء عميق ويمشي في أبهة تشي جيفارا وتألق السي السيد، خلطة بشرية مستحيلة لا يجمعها إلا الرجل العربي الذي تربى على الثورة والعدل ودون أن يشفى من عقدة السلطة و الحريم. وتبقى هي في الغرفة المظلمة نهارا تتأمل الصمت والسواد الذي تركها معه وتمرر يدها على جسدها العاري، ثم تجر الملاءة وتلتف فيها وكأنما تخاف أن يراها الظلام منكشفة. تطرد الملاءة و ترفع الريدو وتفتح النوافذ لتستمتع بأشعة الشمس، وتشعل إحدى أغنيتها المفضلة:
C’est été le temps des fleurs
En ignoré la peur
Où lendemain avait un gout du miel
ترقص حافية القدمين تتحسس برودة الأرض المنعشة، وحيوية الهواء ودفء الشمس وضوئها اللذان يقبلان بشرتها وتتمايل بخصرها، فينسدل بعض من شعرها وقد تدير رأسها بانحناء فيستدير شعرها كله مع النغم. وتغالي في الرقص والتمايل وتبالغ في رفع صوت الموسيقى وتستشعر أنوثتها قبل فوات الأوان، ثم تركض إلى خزانة الملابس تجمع كل تلك الملابس السوداء الكئيبة، وتلقيها من النافذة، كثورة صغيرة لانتصار الأنوثة والحرية. فجأة يعم الظلام والصمت وتختفي الفكرة المشعة وتجد نفسها ما تزال على نفس السرير وسط العتمة. تلبس ملابسها وتجمع شعرها وتتجه نحو الحمام لتغتسل من نجاسة الفعل، ثم تتجه نحو المطبخ تحضر كوب قهوة وتجلس على الأريكة تشغل التلفاز الكئيب والقنوات الكثيرة الفارغة حيث لا تجد إلا تكرار صورتها في كل قناة.
يقبل زوجها على مقهى النور، فيهلل أصدقاؤه، لا تحلو الجمعة إلا بحضوره. في تلك المقهى فقط تحل كل أزمات العصر وتراجع أخطاء التاريخ، يحضر المنطق ويصفق للعقل وتنال النساء كل الحقوق و المساواة فترفرف على الجمع ملائكة الحرية و العدل، سلام وعلم هي حتى نهاية اليوم. تراهم كتلة داخل هالة من دخان السجائر. وعندما يبدأ النادل بمسح الطاولات إيذانا بانتهاء اليوم، يبدأ كل واحد منهم بالخروج من الهالة نحو الطريق المؤدي إلى بيته، يمسح النادل طاولتهم من بقايا السجائر و أعقاب الأفكار. يعيد الفناجين إلى حيث تغتسل في انتظار يوم جديد يدخل يده في جيبه يحرك ما جناه من بقشيش وفير، ثم يحمل مكنسة و يبدأ الكنس.