بعد سنوات من رحيل إدوارد سعيد، يقدم الناقدان الأمريكيان بيل أشكروفت وبال أهلواليا، كتابهما «إدوارد سعيد.. سيرة فكرية» في محاولة منهما للوقوف على أهم المعالم التي أتم بها فكر سعيد وحياته معاً. الكتاب قسمه الباحثان إلى عدة فصول، درسا فيها الأسباب التي أدت بهما لإعادة قراءة سعيد، ومن ثمَّ مفارقة الهوية لديه، وتحليلهما لعدد من كتب سعيد.
ومن وجهة نظر الباحثان، فسعيد يعد واحداً من المفكرين الأكثر شهرة الذين يثار حولهم الجدل في العالم اليوم. إنه من ذلك النوع النادر من النقاد الأكاديميين الذين هم في الوقت نفسه، مفكرين اجتماعيين فاعلين، إذ عمل أكثر من أي شخص آخر ليضـع القضية الفلسطينية أمام الجمهور العالمي. وقد كمنت أهميته بوصفه منظراً ثقافياً على أرضـيتين: الأولى مــوقـعه الأساسي فـــي المــدرسة المــتنامية للـــدراسات مـا بــعد الكولونيالية، وخصوصاً عبــر كــتابه «الاستشـراق»، وإصراره علــى «الدنــيوية» worldliness أو الســياقات المادية للنص والناقد. وقد وضعه هذا الإصرار، لوقت ما، خارج التيار الرئيـسي للنظرية المعــاصرة، لكنــه بــرر بقــوة عـــلى عــودة الثبــات إلى الوظــائف السيـــاسيــة والثقــافية للكتابــة.
ومن الموضوعات المهمة التي وقف عليها الباحثان، موضوع مفارقة الهوية لدى سعيد، إذ يشيران إلى أنه سواء أكان إدوارد سعيد ناقداً أو مُعلقاً سياسياً أو منظراً أدبياً وثقافياً أو مواطناً نيويوركياً، فإنه يمثل طبيعة الهوية القائمة على المفارقة، في الأغلب في دنيا متعولمة مهاجرة. نجد فيه شخصاً وضع في تشابك تناقضات نظرية وثقافية: تناقضات بين شخصيته المغتربة وعلاقته السياسية بوطنه الفلسطيني وتناقضات بين صوته السياسي الموقع المهني وتناقضات بين الطرق المختلفة التي قرأ فيها، وتناقضات في الطريقة التي وضع فيها في الأكاديمية. لقد كان الترابط الحميم بين هوية سعيد ونظريته الثقافية، وكذلك المفارقات التي يكشفها، يبين لنا شيئاً عن تركيبية وتعقد الهوية الثقافية نفسها. فهو عربي وفلسطيني، وبالتأكيد، فلسطيني مسيحي، هذه المسيحية؛ إن لم تكن مفارقة في عالم إسلامي شرق أوسطي متزايد، فهي بالتأكيد تمثل مفارقة للمثقف من جهة كونه أبرز ناقد للتمثيل الغربي المعاصر للإسلام على أنه تتلبسه الشياطين.
ومن وجهة نظرهما، فإن مفارقة هوية إدوارد سعيد هي الميزة الإستراتيجية لـ«دنيويته»، الميزة التي تقدم مفتاحاً لاهتمامات وقناعات نظريته الثقافية. هذه الهوية هي نفسها نص يدرس وتعاد كتابته باستمرار من سعيد متقاطعاً ومترابطاً بكل النصوص الأخرى التي يكتبها. وفي بحث الناقدين عن أهم أسس الخطاب ونظرية الخطاب الكولونيالي ونظرية ما بعد الكولونيالية لدى سعيد، يبينان أن هذه المفاهيم تتقصى نظرية ما بعد الكولونيالية، وتطور اقتراحات حول الأثر الثقافي للغزو الأوروبي على المجتمعات المستعمرة، وطبيـعـة استجابات تلك المجتمعات. وتشير كلمة «ما بعد» في المصطلح إلى «ما بعد بدء الكولونيالية» لا إلى «ما بعد نهاية الكولونيالية»، ذلك لأن الصراع الثقافي بين الامبريالية والمجتمعات التي تعاني الهيمنة لا يزال مستمراً إلى الوقت الحاضر. وتتعلق نظرية ما بعد الكولونيالية بمدى واسع من الانشغالات الثقافية: منها أثر اللغات الامبريالية على المجتمعات المستعمرة وتأثيرات «الخطابات الكبرى» الأوروبية كالتاريخ والفلسفة وطبيعة وسياقات التعليم الكولونيالي والروابط بين المعرفة الغربية والسلطة الكولونيالية. إنها تتعلق، بالتحديد، باستجابات المستعمرَين والصراع للتحكم بالتمثيل الذاتي، من خلال تخصيص اللغات المهيمنة والخطابات وأشكال السرد؛ وبالصراع على مزاعم المكان والتاريخ والجنس والعرق؛ وبالصراع لتقديم واقع محلي لجمهور العالم. على الرغم من أنها توجهت بكثافة نحو النظرية الأدبية لأنها تم تحفيزها من خلال ازدهار الآداب المكتوبة من الشعوب المستعمرَة بلغات كولونيالية (الانكليزية على الأخص) فقد أصبحت تستعمل على نحو واسع في التحليلات التاريخية والسياسية والاجتماعية كلما تتطور وثاقة صلتها بهذه الفروع المعرفية.
وبالعودة لمفهوم الدنيوية في قراءة النص، يؤكد الباحثان أن سعيد استعمل هذا المفهوم لوصف الطريقة التي ترتبط فيها شبكة التبني بالمجتمعات المستعمَرة إلى الثقافة الامبريالية. فالكيانات الثقافية تفهم على أنها «أطقم طباقية» وأن التبنيات المخفية للثقافات الامبريالية والكولونيالية معاً من السهل أن تكون عرضة للقراءة الطباقية. من الواضح، أن مفهوم التبني مفيد في وصف الطرق التي تبدل فيها المجتمعات المستعمَرة ارتباطات البنوة إلى موروثات ثقافية وطنية لها علاقة تبنّي مع المؤسسات الاجتماعية والسياسية والثقافية الامبريالية. إن التبني يشير إلى «تلك الشبكة الضمنية ذات الترابطات الثقافية المميزة بين الأشكال والتعبيرات والتفصيلات الجمالية الأخرى من ناحية، ومن الناحية الأخرى، إلى مؤسسات ووكالات وأصناف وقوة اجتماعية غير متبلورة». يربط سعيد المفهوم بفكرة انتونيو غرامشي عن الهيمنة الدولية من خلال الإشارة إلى أن شبكة التبني نفسها هي مجال عمل الهيمنة الدولية، وقد يكون هذا دليلاً خاصة في مسألة هيمنة الثقافة الامبريالية.
أما المشكلة الحقيقية التي يرى سعيد من خلالها عجز النقاد عن خلق أي اختلاف في العالم تكمن في فخ التخصص «عبادة الخبرة الاحترافية» التي جعلت نشاطهم هامشياً بشأن الاهتمامات السياسية في المجتمعات المعاصرة. مقابل ذلك، يقترح نوعاً من النقد سمي بالنقد العلماني، الذي يستغني عن «الكهنوتية» والتخصص المبهم من أجل رحابة في الاهتمام وما يسميه نضوجاً في المقترب، متجنباً تراجع عمل المثقف عن المجتمع الحقيقي الذي يحدث فيه. ليس من المهم عدد المثقفين الذين يؤمنون أن اهتماماتهم هي «أشياء عالية أو قيم مطلقة». إن أخلاقية ممارسة المثقف تبدأ بموقعه في العالم الحياتي، وهي تتأثر بـ«أين تحدث، وتخدم اهتمامات مَن، وكيف تتوافق مع الأخلاقية الشمولية والمبدئية، وكيف تميز بين القوة والعدالة، وما الذي تكشفه من اختيارات الشخص وأولوياته».
إن الثالوث العلماني الذي يناصره ـ العالم والنص والناقد ـ هو في الضد المباشر لـ«كهنوتيات» المقتربات النظرية المعاصرة من مثل ما بعد البنيوية التي تقود إلى ممارسة نقدية احترافية ذات انعطاف داخلي مستمر. انه يقول لقد وصلنا إلى مرحلة «رفع فيها التخصص والاحتراف، بالتحالف مع الجمود الثقافي، من شأن المركزية العرقية والقومية على نحو هزيل، علاوة على ذلك نقلت الصوفية شبه الدينية المتشددة والمباغتة، الناقد الأدبي المحترف والأكاديمي ـ المركزي جداً والمتدرب بكثافة والمؤول للنصوص المنتجة من الثقافة ـ إلى عالم آخر تماماً. في ذلك العالم الأمين والمنعزل نسبياً يبدو أن ليس ثمة علاقة بعالم الأحداث والمجتمعات، التي بناها التاريخ الحديث والمثقفون والنقاد».
أشكروفت وأهلواليا يقولان إنه حين نخرج النقد من المجال الاحترافي للناقد الأدبي، نكتشف إمكانياته التحولية. وجوهرياً، يكون النقد مهماً لسعيد لأن النقد هو مفتاح التشغيل للمثقف المهتم. فالنقد يضع المثقف في العالم. إذ إن العمل الجوهري لمثل هذا الشخص هو ليس أن يقدم «لاهوتيات» اختصاصية معقدة، بل أن «يتحدث بالحقيقة عن السلطة». وهو عنوان مقالة في «تمثيلات المثقف»: «كيف يتحدث الشخص الحقيقة؟ وأي حقيقة؟ من أين؟ والى أين؟»، ليس ثمة سبيل لتكوين جواب كوني، لكن على المثقف أن يناضل من أجل حرية التفكير والتعبير. إن قوة المقاومة تأتي من قابلية المؤلف في أن «يرد» على الامبريالية، أن يتحدث بـ«الحقيقة» عن الظلم. فالبشر لا يؤسسون حقائقهم فقط، ولكن يؤسسون «ما يسمى الحقيقة الموضوعية لتفوق الرجل الأبيض التي بنتها ورسختها الإمبراطوريات الكولونيالية الكلاسيكية الأوروبية التي تأسست أيضاً على الاخضاع العنيف للشعوب الافريقية والآسيوية».
وعلى الرغم من تكاثر الرطانة الليبرالية عن المساواة والعدالة، فإن الظلم مستمر في مختلف إرجاء العالم. تكمن مهمة المثقف في أن يطبق تلك الأفكار ويؤدي بها إلى أن تكون «مثمرة في مواقف حقيقية». وهذا يعني أن يتخذ موقفاً ضد حكومته، كما فعل سعيد في حرب الخليج، أو ضد شعبه، كما قد يبدو وهو يتحدث ضد اتفاقية أوسلو في الوقت الذي كان هناك نشاط محموم يشير إلى أنها ربما تنهي الحرب الطويلة بين إسرائيل والفلسطينيين. وبتأمل الأحداث التي جرت فإن موقف سعيد له ما يبرره كما يظهر (1994). إن مسألة الحديث بالحقيقة عن السلطة في المجتمعات المعاصرة هي في سبيل إنجاز شروط أفضل لنيل السلام بين الوفاق والعدالة. ويتخذ المثقف مثل هذا الطريق ليس من أجل مجد شخصي، بل من أجل تغيير المناخ الأخلاقي. يقول سعيد «إن تتحدث بالحقيقة عن السلطة ليس معناه المثالية المتعالية: إنه الفحص الدقيق للبدائل واختيار الصحيح منها ثم تمثيله بذكاء في المكان الذي يمكنه فيه عمل الأفضل ويسبب التغيير الصحيح».
على أي حال، فإن دور مثقف ما بعد الكولونيالية هو في أن يتصرف بكونه مذكراً بالكولونيالية وتأثيراتها المستمرة بالإضافة إلى التوضيح والى توسيع المسافة التي كان بإمكان مجتمعات ما بعد الكولونيالية نحتها لأنفسها. وهذا بالتحديد ما يسعى لتحقيقه مثقفون مثل سلمان رشدي والروائي الكيني نغوغي واثنغو والباحث والناشط الباكستاني إقبال احمد (1933 ـ 1999). إن بين الكولونيالية وذريتها ثمة ما يصطلح عليه سعيد بـ»الاحتجاز والعبور». فالكثير من كتاب ما بعد الكولونيالية يحملون ماضيهم معهم.
بيل أشكروفت وبال أهلواليا: «إدوارد سعيد: سيرة فكرية»
ترجمة سهيل نجم
دار وراقون ـ البصرة، والرافدين ـ بيروت، 2016
224 صفحة
عن جريدة القدس