يوضح الكاتب أن خطاب الكتاب ينتمي إلى الخطاب النقدي الذي يتهجى التعرف إلى الإشكاليات التي تتضمنها بعض الخطابات السياسية للإسلاميين، وإشكالياتها ضمن اتجاه بدأ بالبروز مؤخراً، داعياً إلى لفت النظر إلى الخصائص الأخلاقية لعدد من معطيات الدولة عند الإسلاميين، مقابل إبراز مشكلات الدولة الحداثية الأوربية وإشكالياتها الأخلاقية.

من ظاهر الجدل السياسي إلى البحث في آفاق المعنى

في «الخيال السياسي للإسلاميين»

أحمد جاسم الحسين

يوحي عنوان الكتاب الذي طبع طبعتين في العام الماضي أن ثمة مقارنة بين تجربتين للإسلام السياسي، ما قبل الفرصة التي أتيحت لهم في الإمساك بالحكم في كل من تونس ومصر، وما بعدها، وكيف اختلف التصور النظري للدولة عن واقعها بعد التجربة. لكن الاطلاع على فصول الكتاب الأربعة ومقدمته وخاتمته يكشف أن الكتاب كله قد أنجز قبل عقد من الزمان، عدا شذرات في الفصل الأخير والخاتمة تحاول تحيينه، ونجحت د.هبة رؤوف عزت (أستاذة العلوم السياسية في جامعة القاهرة) في استثمار الوضع الحالي للإقبال على قراءة الكتب المتعلقة بالإسلام السياسي. بل إن الكتاب قد نشر معظمه في كتب سابقة مشتركة أو مجلات، وعلى الرغم من كون الكتاب قد صدر العام الماضي إلا أن أحدثَ مراجعه تعود إلى أكثر من عقد سابق.

لا إشكال في أن يعيد الكاتب نشر مقالات سابقة وأبحاث في كتاب مستقل، ويمكنه أن يتغلب على ذلك بصنع نسيج لكتابه بحيث تتناسج المقولات وتتواشج لتقديم نص متكامل يحمل أطروحة مركـــزية واطاريح مساعدة له، وهو ما عملت عليه الكاتبة هبة عزت.

تحاول المؤلفة في الفصل الأول المعنون «من ظاهر الجدل السياسي إلى البحث في آفاق المعنى» اقتراح أجوبة لعدد من الأسئلة مثل: لماذا نبحث في المفاهيم ونسعى إلى استكشاف حدود الخيال؟ وملامح التحليل المفاهيمي واستكشاف خرائط الأنساق المفاهيمية والنظر إلى آفاق المعنى وسبر الأغوار واستيعاب الأساطير.

يغلب على الخطاب المستعمل في هذا الفصل الطابع الفلسفي حيث تحاول المؤلفة الحديث عن التصورات المفاهيمية، مسوغة ذلك بالقول إنه «من المهم أن نبدأ بفهم فلسفة السياسة في المشروع السياسي الذي يجمع عليه الإسلاميون الحركيون وإن اختلفت سياساتهم في علاقتهم بالنظام الحاكم والنظام السياسي، وأن نقترب من فكرهم نظرياً». وتنتقد المؤلفة التبسيط الزائد لعدد من المفاهيم أو النظر السريع إليها كونها متولدة ضمن حركة واقع محدد، وتختم بالتساؤل عن إمكانية ولادة تيارات إسلامية ديمقراطية بالقول: إن «قبول التعدد الفكري والشفافية وتداول السلطة وغيرها من ملامح النظم العادلة لا تبدأ بنقطة انطلاق بل هي تعكس منزعاً إنسانياً كامناً في الرؤى الإنسانية»، منبهة إلى أن الأمر لا يتعلق بقرار يفرض من الإسلامي أو الليبرالي بل كوننا أمام عملية مستمرة داخل منظومة فكرية تتراوح بين التجديد والأنسنة من جهة، أو الانغلاق والجمود وتعطيل العقل الاجتهادي من جهة أخرى.

وفي الفصل الثاني المعنون «مساحة المنار الجديد: خرائط التفكير ولغة التعبير» تقف الكاتبة على أنماط من الخطاب المنشور في المجلة ـ المتوقفة عن الصدور حالياً ـ راثية حالة الإسلاميين (يلحظ هاهنا أن هذا الخطاب بات ذا طبيعة تاريخية توثيقية بوصفه معبراً عن زمن مضى) الذين لا يجدون منابر النشر الملائمة، والتضييق عليهم، ثم تتحدث عن ظروف نشأة المجلة والخطاب الذي تتبناه، راصدة أهم سماته المتمثلة في كونه يتحدث عن شؤون داخلية لتنظيم الأخوان في مصر ومراجعات لمسيرة العمل السياسي وعلاقتهم بالدولة (بدأت المجلة بالصدور عام 1998) وتصوراتهم للسياسة ولوضع الشركاء في الوطن (الأقباط هاهنا) ومواقفهم من قضايا المرأة، وكذلك علاقتهم بالعالم بالمفهوم الواسع، وإدراك مستجداته. وتوقفت في هذا السياق عند نصوص لكل من كمال السعيد وصلاح هاشم وأبو العلا ماضي وعصام العريان وجمال سلطان ومحمد عمارة ووحيد عبد المجيد وطارق البشري وعبدالله النفيسي… راصدة التنوع في مواقفهم وأنهم ليسوا كتلة واحدة متراصة، ليس بينها اختلافات أو وجهات نظر.

ولا تغادر الكاتبة في الفصل الثالث مساحة «المنار الجديد»، غير أنها تنحو نحو تحليل النصوص عبر عنوان «ما وراء الخطاب: خريطة النسق وفضاء المرجعيات وحدود الخيال» حيث تحاول مقاربة الخطاب عبر مداخل رئيسية أبرزها تلمس ملامح النسق المفاهيمي الذي تعكسه النصوص، وفهم هذا النسق وخصائصه باعتباره انعكاساً لفضاء نصوص أكبر على نصوص مرجعية حاكمة ومهيمنة تحكم الذهنية والخيال وتؤطرهما، وقياس فضاءات الخطاب المنشور في المجلة على فضاءات أخرى وعلى الواقع المتغير من أجل تقييم أمثل لتلك النصوص في لحظتها التاريخية، حيث تصل الكاتبة إلى أن هذا الخطاب اتسم بسمات رئيسة أبرزها اعتقاده بمركزية أسطورة الدولة الإسلامية، وغلبة الخطاب السياسي التشاوري على التصور الاجتهادي الجدلي، وكلية النظرة إلى الآخر/ الغرب وتعميمها وغياب النظر إلى الآخر الجنوب والشرق، وغلبة المركزية العربية وغياب المتابعة للحركات أو المجتمعات أو الأفكار الإسلامية غير العربية، وغياب النظرة المقارنة وعدم الاطلاع على الفكر الغربي في أدبياته الأصلية أو التعرف إلى خطابات المراجعة النقدية داخل الليبرالية. وتصل الكاتبة إلى ما تدعوه الحاجة إلى إعادة بناء مفهوم السياسة الشرعية بتحري الديمقراطية ونماذجها من الليبرالية ثم إعادة النظر في الليبرالية بفك ارتباطها مع الرأسمالية، وضرورة إعادة ترسيم الحدود بين الشريعة والدولة والخروج بأفق المعنى من أسر العقلية السجالية، لتختم الفصل بالقول: «لقد اتُهِمَ الإسلاميون بأنهم يقدمون الأخلاق على التنظير السياسي للمصالح، والحق أن الخطاب السياسي لا يقدم الأخلاق على المستوى السياسي بل يقدم الدولة، ويقرن بين الشريعة والنظام القانوني… في حين يغيب بُعد الأخلاق المدنية تماماً كسياق لازم وأساس ركين من أسس الشريعة الإسلامية، فضلاً عن الخلط بين الأخلاق الاجتماعية وحدود توظيفها في المساحات المدنية وخلط الخاص بالعام الذي يبرز في جدل المرأة والسياسة».

وتعنون الفصل الرابع بـ»ماذا لو..» أي لو أن كذا لكان كذا/ مستقبل الخيال وتخيل المستقبل، حيث تتوقف الكاتبة عند منهجية «التحليل المخالف للوقائع» للربط بين مساحات ذهنية ومفاهيم، لم يكن الجمع بينها ممكناً بالعودة إلى الواقع وحده وتحكيمه، أي أنها تستخدم الخيال في تفكيك الأبنية المفاهيمية وتركيبها بشكل تجريبي.

يناقش هذا الفصل كذلك ثلاثية الأمة واللامؤسسي وما بعد العلمانية، حيث تتوقف عزت عند تصورات الأمة والدولة وتقترح أربعة مفاهيم للبدء بإعادة بناء مفهوم الأمة هي: مفهوم الفطرة، ومفهوم العالمين ومفهم المجتمع المدني العالمي ومفهوم المجال العام.

وتنبه في إطار حديثها عن الذات الفاعلة من المجال العام إلى الشارع السياسي إلى عدد من التحولات في مجال الفاعلين الجدد في المجال العام هي: الحركات الاجتماعية متمثلة بحراك الشارع، وكذلك التكثيف الزماني للحظة الإنسانية حيث يستحضر المجال العام وفقاً لـ هابرماس معنى تراكمياً للزمن فيُحدِث التغيير عبر الفعل السياسي في المجال العام أثراً تاريخياً، أما ثالث وجوه التحولات فيتجلى بكون الحركة الفردية في المجال العام متسمة بالهروب من الرسمي نحو ظهر الأفعال الاحتجاجية التلقائية موازنة مع الحركات الاجتماعية القديمة المنظمة.

وفي خاتمة الكتاب تتوقف الكاتبة عند عدد من العناوين منها «الثقب الأسود للحداثة وما ابتلعه»، ومحاولة لقلب نظام التفكير في الحكم، والدين والتدين وما بينهما.

ثمة نافذتان أطلت من خلالهما الكاتبة على تفاصيل قضاياها، النافذة الأولى هي النظر إليها من خلال تفاصيل الواقع والممارسة، والثانية هي قراءة الرؤى الفلسفية الناظمة لتلك الخطابات. وقد اتجهت فصول الكتاب لمساءلة أبرز القضايا التي عادة ما يتم استحضارها، أو المجادلة فيها إبان قراءة الخطاب الإسلامي، وهي مفهومهم للدولة، والممارسة، ونظرتهم للواقع والشركاء في الوطن.

بناء على ذلك فإن الاستراتيجية الموقفية للكاتبة تغدو موضع مساءلة. ذلك أن إحالات العنوان/ العتبة الإشكالية تحمل ما يشير إلى قراءة تتحدث عن خيال، أقرب ما يكون إلى الوهم الذي يتكسر على معطيات الواقع وإفرازاته.

ينتمي خطاب الكتاب إلى الخطاب النقدي الذي يتهجى التعرف إلى الإشكاليات التي تتضمنها بعض الخطابات السياسية للإسلاميين، وإشكالياتها ضمن اتجاه بدأ بالبروز مؤخراً، داعياً إلى لفت النظر إلى الخصائص الأخلاقية لعدد من معطيات الدولة عند الإسلاميين، مقابل إبراز مشكلات الدولة الحداثية الأوربية وإشكالياتها الأخلاقية. ولعله يُستذكر في هذا المجال كتاب وائل حلاق «الدولة المستحيلة» الذي بدا أقرب إلى البحث في فلسفة الدولة في الخطاب الأخلاقي للإسلام موازنة مع مفرزات الدولة المعاصرة بمفهومها الأوربي. أما المؤلفة في هذا الكتاب فقد حاولت مجادلة الكثير مما طرحه الإسلاميون بخاصة المنتمين إلى الأخوان المسلمين، موجهة الكثير من الملاحظات لخطابهم حول مفهوم الدولة، لافتة النظر في الوقت نفسه إلى إشكاليات الخطاب المقابل المتمثل في ما يمكن تسميته «الأصولية العلمانية» التي ترى في كل ما يقدمه الخطاب الإسلامي أصولية لا أمل منها، كما يرى علي حرب في كتابه الأخير «الإرهاب وصُنَّاعه».

يذكر أنه صدر للكاتبة عدة كتب منها «نحو عمران جديد» إضافة إلى تقديمها وترجمتها لعدد من الكتب الأخرى، ومشاركتها في عدد من الكتب الجماعية والندوات.

 

هبة رؤوف عزت: «الخيال السياسي للإسلاميين/ ما قبل الدولة وما بعدها».

الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2015.

144 صفحة

 

عن جريدة القدس