في الذكرى الثالثة عشرة، لأكبر المآسي العربي في العصر الحديث، مأساة احتلال العراق وتدميره بالعنف والطائفية، وهو الدمار الذي بدأ في العراق واستشرى في بقية أجزاء الجسد العربي، يكشف لنا الباحث العراقي المرموق عن حقيقة ما جرى، وعن التحالف الشرير المشبوه بين الصهيونية وحكام الجزيرة العربية للقضاء على كل نهضة أو وحدة عربية.

الذكرى الثالثة عشرة لاحتلال العراق

شعب يتحدى ومأساة تتفاقم

رمـيـز نظـمي

ضع قهوتك جانباً واشرب شيئاً آخر،

مُصغياً إلى ما يقوله الغزاة      

بتوفيقٍ من السماء

ندير حرباً وقائية،

حاملين ماء الحياة

من ضفاف الهدسون والتايمز

لكي تتدفّق في دجلة والفرات

 

«تحيّة إلى بغداد»، للشاعر أدونيس، 31 آذار/مارس 2003.

 

ثلاث عشرة سنة مرّت على غزو العراق. كانت حرباً عدوانية غير شرعية سحقت البلد وأنزلت بشعبه مآسيَ لا تُحصى. وتداعياتُها الكارثيةُ تفشّت في العالم كلّه شملت حتّى المعتدين. فهل من الغريب أن يعتقد الكثيرون أنّ الذين أشعلوها هم مجرمو حرب؟

بات مجرّد البقاء حيّاً في العراق يعد إنجازاً كبيراً. وعلى حدّ قول أحمد سعداوي مؤلف رواية "فرانكشتاين في بغداد" والحائز على الجائزة العالمية للرواية العربية، "أهمّ شيء حصل لي أنني لا زلت حياً". ويستطرد: "اعتقدَ كثير من الأمريكيين أنهم حرّروا بغداد من الخوف ... لكنّهم فتحوا أبواب الجحيم لأهوال لم تكن معروفة سابقاً". ويواصل حديثه قائلاً: "و منذ البداية ، أخفقت النخبة العراقية (التي سُلمت السلطة عقب الاحتلال) في إقامة نظام سياسي قادر على تجاوز أى اختلافات طائفية وحلّها ضمن إطار ديمقراطي. وأخفقت في تحصين الدولة ومؤسّساتها من الفساد المستشري الذي غدا خاصّية عراقية".

دلّت الحوادث على أنّ الحرب لم تُشَنّ على العراق لحيازته أسلحة دمار شامل مزعومة، ولكن لقدرته على تحدّي الهيمنة الغربية واستغلالها لمنطقة تنعم بأهمّية كبرى. إنها مهد الأديان التوحيدية: اليهودية والمسيحية والإسلام، منطقة تعوم على بحر من النفط، شريان حياة العالم الصناعي، وتقع عند تقاطع القارّات الثلاث أوروبا وآسيا وأفريقيا.

تنقسم الدول العربية عموماً إلى فئتين، دول غنيّة بالنفط فقط، ودول غنية بموارد أخرى. فمثلاً ، تضمّ الفئةُ الأولى دولَ الخليج، بينما تضمّ الثانية مصر والأردن وسوريا والسودان واليمن. العراق هو استثناء من ذلك لانتمائه إلى الفئتين. فهو يمتلك المستلزمات الأساسية للتنمية، مثل القوّة البشرية والثروات المعدنية، والأراضي الخصبة والموارد المائية، يتمتّع كذلك بميراث يدمجه بالأمّة العربية ويربطه بالعالم الإسلامي. الجزيرة العربية هى موطن الإسلام، لكنّ الحضارات الإسلامية، التي انتشلت أوروبا من بربريتها في العصور الوسطى، ازدهرت في مدن خارج الجزيرة مثل بغداد ودمشق والقاهرة والإسكندرية والقيروان. وبالمثل، يتدفّق النفط في الجزيرة العربية القاحلة، لكنّ استغلال عائداته معتمد على مصادر خارجية لعدم توافر متطلبات التنمية الذاتية.

لو أنّ حلفاً متيناً أقيم بين الدول المنتمية إلى الفئتين، تتكامل إحداهما بالأخرى، لأصبح كياناً منيعاً ومكتفياً ذاتياً. الواضح أنّ الغرب رأى في هذه الوحدة تهديداً وجودياً لمطامعه الاستعمارية. لذلك، تآمر من أجل تفتيت المنطقة العربية عملاً بمبدئه التقليدى ’فرِّق تسدْ‘، فرسم حدوداً مصطنَعة ونصّب نظماً مُطيعة، وزرعَ دولة الاستيطان الصهيوني لتكون خنجراً في قلب الأراضي العربية.

دعا اللورد بالميرسْتون البريطانى حين كان وزيراً للخارجية في سنة 1840، أي قبل سبع وخمسين سنة من تأسيس المنظمة الصهيونية العالمية، إلى توطين اليهود الأوروبيين في فلسطين لوضع "مانع لأي مخطّط مستقبلي شرّير يضعه محمّد علي أو خليفته". كان ذلك "المخطّط الشرّير" هو تحديث مصر وتوحيدها مع بلاد الشام (سوريا الكبرى ومنها فلسطين) والذي حققه محمّد علي حاكم مصر في سنة 1831. وحدة أغاظت الإمبراطورية البريطانية، وحملتها على استخدام جبروتها العسكرى للقضاء عليها. ثمّ كرّر التاريخ نفسه حين نزلت قوات بريطانية فى الأردن ومشاة البحرية الأمريكية في لبنان في سنة 1958 لوقف المد الوحدوى العربى المجيد الذى غمر المنطقة، وتجلّى في إقامة الجمهورية العربية المتّحدة التي ضمّت مصر وسوريا.

كتب الاستراتيجي العسكري البريطاني ريتشارد مِنيرتزْهاغِن في أثناء الحرب العالمية الأولى في مذكّرة بالغة الأثر بحسب المؤرّخ بيرز بريندون، "عوضاً عن الاتّكال على العرب الخونة الذين لا يجيدون غير النهب والتخريب والقتل، على بريطانيا أن تحمي الأرض المقدَّسة بيهود محلّيين". عقب هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية الأولى شغل مِنيرتزْهاغِن في مؤتمر السلام الذي انعقد بباريس في سنة 1919 منصبَ كبير المسؤولين السياسيين لدى المارشال إدموند ألِّنبي، القائد البريطاني الذي احتلّت قواته فلسطين وسوريا علاوة على مصر. نتج عن المؤتمرُ انتداب فلسطين بإدارة بريطانية وهو ما أدّى آخر الأمر إلى تقسيم فلسطين وقيام دولة الاستيطان الصهيوني بها في سنة 1948. وبعد أربعة أيام على التقسيم، بعث رئيس إسرائيل المعيَّن حديثاً ببرقية إلى مِنيرتزْهاغِن قال له فيها "نحن ندين لصديقنا الحميم بالكثير إلى حدّ أنّ كلّ ما يسعني قوله هذه الكلمات البسيطة: بارك الله فيكم".

جمع بين الغرب وإسرائيل منذ إقامتها هدفهُما الجوهري المتمثّل في الهيمنة على المنطقة العربية. وقد أدّى الطرفان، بالإضافة إلى النظم الرجعية المحلّية مثل النظام الملكي السعودي، دوراً فاعلاً في محاربة أيّ حركة تقدّمية وحدوية متنوّرة في العالم العربي. وكما أشار البروفسور نعوم تشومسْكي، "كانت المملكة العربية السعودية تؤدّي وظيفتها. وكان العدوُّ ... القوميةَ العلمانية. وعلى سبيل المثال، توثّقت عُرى العلاقات الأمريكية الإسرائيلية بحقّ في سنة 1967 حين أدّت «إسرائيل» خدمة حقيقية للولايات المتّحدة وللمملكة العربية السعودية، وتحديداً عندما سحقت المركزَ الرئيسي للقومية العلمانية، مصر الناصرية التي اعتُبرت تهديداً وفي حرب بشكل أو بآخر مع المملكة وقتذاك. كانت القومية العلمانية تهدّد باستخدام الموارد الضخمة التي تزخر بها المنطقة بما ينفع سكّان دولها، عوضاً عن ملء جيوب بعض الطغاة الأثرياء فيما تصبّ الأرباح الضخمة في صناديق الشركات الغربية".

ولكي تضمن دولة الاستيطان الصهيوني بقاءها وتفوّقها في المنطقة، سعت باستمرار لإضعاف دول الطوق العربي وتفتيتها إلى بانتوستانات إثنية طائفية. لذلك، شكّل تقسيمُ العراق أولويةً استراتيجية لإسرائيل التي اعتبرته خطراً جسيماً يهدّد هيمنتها. لخّصت هذه الذهنيةَ مقالةٌ لعوديد ينون الاستراتيجي والدبلوماسي الإسرائيلي الذى كتب في سنة 1982، "إنها القوّة العراقية التي تشكّل أعظم تهديد لإسرائيل ... كلّ صراع بين العرب في أيّ صورة كان سيُعيننا ... على بلوغ الهدف الأهمّ وهو تقسيم العراق ... إلى أقاليم على أسس إثنية/ دينية".

 

التأثير الصهيوني في غزو العراق في سنة 2003 واضح وضوح الشمس. ووفقاً لما قاله توماس فريدمان الصحافي لدى نيويورك تايمز والداعم للحرب، لصحيفة هآرتز الإسرائيلية في أيار/مايو 2003، "كان العراقُ الحربَ التي أرادها المحافظون الجدد... والحرب التي سوّق لها المحافظون الجدد... وفي وسعي إعطاؤك أسماء 25 شخصاً (في واشنطن) لو كانوا منفيّين في جزيرة قاحلة قبل سنة ونصف، ما كانت حرب العراق ستندلع".

يُشتهَر المحافظون الجدد، من أمثال بول وولفويتز وسكوتِر ليبي وإليوت إبرامز وإليوت كوهين وريتشار بيرل ودوغلاس هيث ودافيد ورمْسِر، بانتمائهم الصهيوني، وجميعهم احتلوا مناصب رفيعة فى وزارتي الخارجية والدفاع في عهد بوش الابن. كان اندفاعهم فى دعم إسرائيل مطلقاً وإلى حدٍ جعل البعض يتساءل إن كان ولاء بعضهم الأوّل "لبلاده أم لإسرائيل".

أشار بيرل وفيث وورمْسِر في وثيقة أصدروها في سنة 1996 بعنوان "كسر قاطع" إلى أنّ إزاحة النظام العراقي عن السلطة "هدف استراتيجي إسرائيلي مهمّ" وكتب ورمْسِر وثيقة في سنة 1997 للمؤسّسة الإسرائيلية عينها التي أعدّت وثيقة "كسر قاطع" أنّ العراق عقب هذا التغيير القسري للنظام "سيتمزَّق أشلاءً بسياسات أمراء الحرب والقبائل والعشائر والطوائف والأُسر الكبيرة". إنّ الوضع الذي أوجده الغزو في العراق، هو ما خطّط له المحافظون الجدد بالضبط.

ومن المهم أن يذكر بأنّه كان لـ"المُخبرَين المحلّيَّين" العراقيَّين اللذَين برزا في تسويق الحرب على العراق على ما يبدو ارتباط صهيوني. الأوّل مصرفيّ محتال مدان قضائياً احتضنه صهاينة أقحاح من أمثال بول وولفويتز وريتشارد بيرل ودوغلاس فايث وجوديث ميلِر. وصفته صحيفة نيويورك تايمز لاحقاً بـ"المخادع الجديد" الذي "أصبح تجسيداً لكلّ ما سار على نحو خاطئ في العراق: الأكاذيب، العجرفة، الاحتلال بصفته كارثة". والثاني وظّفته جامعة يراعها يهود، وتكفّل بتمويل منصبه متبرع "لديه أدوار قيادية في ... منظمة النداء الإسرائيلي الموحَّد، ومنظمة الوكالة اليهودية لأجل إسرائيل". إنّ اختيار المحافظين الجدد للمصرفيّ المحتال ليكون "منقذ العراق" يجسّد ولاءهم لإسرائيل وازدراءهم السافر للشعب العراقي. كان مؤهّل المحتال الأهم استعداده لموالاة إسرائيل الذي تجلّى في مشاركته، بحسب مراسل الفايننشال تايمز جون ديزارد، في وثيقة "كسر قاطع" السيّئة الذكر. يُسهب ديزارد في شرح ذلك "لماذا أعطى المحافظون الجدد هذه الثقةَ الكبيرة لـ... منفيّ ماضيه مشبوه وليس له شأن لدى العراقيين؟ كلمة واحدة: إسرائيل. رأوا أنّ غزو العراق هو الشرط المسبق لإعادة ترتيب الشرق الأوسط على نحو يحلّ المشكلات الاستراتيجية التي تواجهها إسرائيل، من دون الحاجة إلى تسوية مع الفلسطينيين أو مع الدول العربية القائمة. طمأنهم بأنّ الديمقراطية العراقية التي سيبْنيها ستقيم روابط دبلوماسية وتجارية مع إسرائيل وتتبرّأ من القومية العربية".

يؤكّد البروفسور ستيفن زيونز أنّ "العراق حافظ على تاريخ علماني وعلى هُوية وطنية قوية لشعبه العربى إلى حين غزو الولايات المتّحدة له واحتلالها أراضيه في سنة 2003". ويضيف ""يمكن عزو أغلب الانقسامات التي يشهدها العراق حالياً إلى القرار الذي اتّخذته سلطات الاحتلال فور وقوع الغزو لحل الجيش العراقى وتطهير الجهاز الإداري الحكومي- وكلاهما كان حصناً للعلمانية والهُوية الوطنية- وهو ما خلّف فراغاً سرعان ما ملأته الأحزاب والميليشيات الطائفية. وبالإضافة إلى ذلك، شجّعت سلطات الاحتلال الأمريكية على الطائفية بتوزيع مناصب حكومية على أساس الإثنية والهُوية الدينية، وليس على أساس المهارات التقنية أو الانتماءات الإيديولوجية. نتج عن ذلك مناقشة كل مسألة سياسية فعلياً بناءً على ما ستجلبه من منافع وأضرار محتملة لطائفة ما وليس على حسناته. أدّى ذلك إلى عدم استقرار واسع النطاق، حيث تنقسم الأحزابُ السياسية والكتل البرلمانية والوزارات الحكومية تبعاً لمحاور طائفية".

أحد أول الأعمال التي قامت بها سلطة الاحتلال كان تشكيل مجلس حكم انتقالي. عُيّن جميع أعضائه الخمسة والعشرين على أساس طائفي/ اثني صِرف وليس على أساس الجدارة أو الكفاءة. المضحك المبكى أنّ أحد هؤلاء المعيَّنين، وهو مسؤول في الحزب الشيوعي العراقي، اختير بسبب انتمائه الطائفي الديني المزعوم لا بسبب انتسابه السياسي! هكذا تم ترسيخ الأسس الإجرائية للتفسّخ الطائفي. تلك كانت أوّل حكومة تشكلت على أساس محاصصة طائفية/ اثنية في تاريخ العراق. وكما كتب البرفسور زيونز "الاتجاه فى الولايات المتحدة بإيقاع اللوم على 'الخلاف الطائفى' و'الكراهية  المتأصلة' للعنف الذى أوجدته هو عملياً تحميل المجنى عليه مسؤولية ما اقترفته ضده الولايات المتحدة ومحاولتها للتهرب من المأساة التى خلقتها". زد على ذلك أنّ سلطة الاحتلال الأمريكي انتهكت قوانينها الخاصّة بتشكيلها مجلس الحكم الانتقالي على أساس اثني/ ديني طائفي. فالدستور الأمريكي يحظر أيّ اختبار ديني للمواطنين الذين يتقدّمون لشغل مناصب عامّة. أي أنه يُحظَر على الحكومة الأمريكية مثلاً تحديد أيّ ديانة معيّنة (كاثوليكية، بروتستانتية، إسلامية، يهودية، وغير ذلك) لشَغْل منصب عام.

وكما ذكر بول يِنغْلينغ، وهو عقيد متقاعد في الجيش الأمريكي وبروفسور في الدراسات الأمنية، في سنة 2007، "بالنسبة إلى المواطنين العراقيين، كلّ سنة بدءاً بالعام 2003 كانت أشدّ دموية من التي قبلها". وأضاف "فرّت الولايات المتّحدة من جمهورية فييتنام في أبريل/ نيسان 1975. وفي سنة 2007 أدت الأوضاعُ المأساوية والمتردّية في العراق إلى تلاشى الأمل بنصر أمريكي وآذنت بخطر نشوب حرب إقليمية أكثر اتّساعاً ودماراً ".

امتدت شرور الطائفية والفوضى والإرهاب التى سبّبها الاحتلال وسياساته السامّة إلى أجزاء أخرى في العالمَين العربي والإسلامي. فالمملكة العربية السعودية في حالة حرب غير معلَنة مع إيران، فيما تحتدم صراعات دموية في سوريا وليبيا والبحرين واليمن ومصر. إذا كان في استطاعة عقيد التنبّؤ بحلول الفوضى، لماذا عجز عن ذلك صانعو القرار في واشنطن؟ الراجح أنّ المحافظين الجدد تنبّؤوا بها وأنّ إشعال مزيد من الحروب خدمةً لإسرائيل جزء من خطّتهم. وليس هناك شك في كون إسرائيل المستفيدَ الرئيس، إن لم يكن الوحيد، من الخراب السائد.

عاجلاً أو لاحقاً سيدرك العراقيون وأشقّاؤهم العرب والمسلمون أن أى احتراب داخلى هو اقتتال عقيم وعبثى واستنزاف إجرامى لموارد  طاقات الوطن ولا جدوى منه سوى منفعة أعداء الأمة الحقيقيين وإن دام فإن نتيجته الوحيدة هو الدمار الحتمى المتبادل. وقد لخّص كيسنجر هذه الرؤية عندما أشار في تشرين الأول/ أكتوبر 1980 إلى أنّ "استمرار الاقتتال بين إيران والعراق يخدم المصلحة الأمريكية"، وأنّه ينبغي للولايات المتّحدة "استغلال استمرار الأعمال العدائية". لا ريب أنّ للعراقيين استياء مبرَّراً ضدّ جيرانهم سواء في الرياض أم في طهران، ولكن يتعيّن معالجته بطريقة بنّاءة. إن "رأس الأفعى" يقبع في تل أبيب وليس في أيّ عاصمة عربية أو إسلامية. لا شك أن للنصر تضحياته لكنه سيكون نصراً مزيفاً فارغاً إن تحقق على حساب أى شريكٍ أصيلٍ فى هذه الأمة . إن الكفاح الحازم ضد الصهيونية، عدو الأمة القاتل واللدود، هو اللقاح المانع لأى وباء طائفى أو شعوبى، إذ يتطلب وحدة الأمة وتضامن مكوناتها.

إضافة إلى فقدان الصدقية وإلهاب المنطقة، سبّبت الحرب على العراق للشعب الأمريكي خسائر بشرية ومادّية جسيمة. ووفقاً لما قاله برايان مايكل جينكينز من مؤسّسة راند، تكبّدت الولاياتُ المتّحدة خسائر بشرية بلغت 39808 (7880 قتيلاً و31928 جريحاً) بينما قد تصل التكاليف المالية إلى 6 ترليون دولار، أي نحو 19000 دولار لكل رجل وامرأة وطفل في الولايات المتّحدة. نُهبت الأموال وأُهدرت على نحو إجرامي في التدمير، عوضاً عن صرفها على الاستثمارات الملحّة، مثل انتشال نحو 16 مليون طفل أمريكي وأسرهم من الفقر الذي يعيشون فيه حالياً.

بعبارة "كارثة"، وصف المراسل جورج باركِر، أحد داعمي الحرب ومؤلف كتاب "بوابة القتلة - أمريكا فى العراق". إذا كانت الحرب كارثة بالنسبة إلى المعتدى، لا ريب أنّها كانت أشدّ مأساوية على الضحية. فقَدَ ملايين العراقيين أرواحهم ونُهبت مليارات الدولارات. أضحى العراق، مهد الحضارة، دولةً طائفية فاسدة وفاشلة وملاذاً للإرهاب. هذا ما آلت إليه "عملية حرّية العراق" المزعومة. يوجد بصيص أمل مُلهم على الرغم من هذه الفوضى، فالعديد من العراقيين يتحدّون ببطولة أوبئة  الطائفية والفساد والإرهاب. فالمظاهرات الوطنية الحاشدة تسير مندّدة بهذه الشرور، والصلوات المشتركة تقام باستمرار في مساجد وكنائس في شتّى أنحاء العراق. بل إنّ الزيجات المختلطة تبدو وكأنها تزداد.

يوجد في الإسلام خمسة مذاهب فقهية رئيسة، هي الحنفي، والمالكي والشافعي والحنبلي والجعفري. يزعُم البعض أنّ هناك خصومة دائمة بين أتباع المذاهب الأربع الأولى وبين أتباع المذهب الخامس. لكنّ العراقيين فضحوا بأفعالهم كذبَ هذا الزعم.

وقعت في بغداد حادثة تجسّد ذلك. تحتضن العاصمة العراقية ضريحي إمامَين عظيمَين، موسى الكاظم، سابع الأئمة في المذهب الجعفري، وأبي حنيفة النعمان مؤسس المذهب الحنفي. حصل تدافع في أثناء موكب ديني لمليون حاجّ في الكاظمية حيث ضريح الإمام موسى الكاظم. نتج عنه سقوط المئات في نهر دجلة من فوق جسر الأئمة الذى يربط الكاظمية بالأعظمية حيث ضريح الإمام أبي حنيفة. أُطلقت مناشدات عاجلة لإنقاذ حجّاج الكاظمية عبر مكبّرات الصوت في مساجد الأعظمية. قفز كثير من سكّان الأعظمية في النهر لإنقاذ مئات الحجّاج الذين أوشكوا على الغرق، ونقلوهم إلى المشافي مستخدمين بطّانيات الأسرة كنقّالات. كان أحد المُنقِذين صبى يُدعى عثمان عبد الحافظ العُبَيدي، أنقذ سبعة حجّاج أوشكوا على الغرق. وعلى الرغم من التعب الذي حلّ به، عاد سباحةً لإنقاذ غريق آخر. لكنّ الإعياء تغلّب عليه. استسلم عثمان ذو التسعة عشر ربيعاً للإنهاك وغرق.

لم يكن عثمان يُنقذ أشقّاءه العراقيين في الضفة الأخرى من النهر وحسب، بل كان يفند، بطريقته البطولية الخاصّة، خرافةً روّج لها الغزاة وفحواها أنّ العراقيين ليسوا سوى فصائل طائفية متحاربة. بشهادته الرائعة ، دافع عثمان عن شرف العراق وكرامته ووحدته وعروبته، وهي الخِصال التي سعى الغزاة لتشويهها. الشهادة، بعكس الحرب، هي أن تُنقذ لا أن تقتل.

تمضي الحكاية فتقول إنّه كان لعثمان صديق طفولة حميم اسمه عبّاس من الكاظمية. تمزق فؤاد عبّاس لموت صديقه حتى إنّه قرّر الهجرة. أخبر أسرته وأصدقاءه ، الذين كانوا يحاولون جاهدين بإقناعه بالبقاء، بأنه سيعدل عن قراره فقط إن هم وعدوا بإعانته على بناء مشفى في الكاظمية يحمل اسم بطله وصديقه ، عثمان.

هذا هو العراق، كلّنا عثمان، كلّنا عبّاس.