الآن،
لم تعد القصيدة هي العنوان الوحيد أو النهائي للشعر.
القصيدة هي أحد العناوين، أو الأشكال أو الأنواع، التي لا تُحصى للشعر كرؤية ورؤيا. الشعر، يوماً بعد يوم، يتحرّر من تخومِه التقليدية، خارجاً عن القصيدة إلى هواء الحياة، متمثلاً في أشياء الإنسان والعالم. لقد أصبح الشعر هو شرط الجمال في كل أنواع التعبير الفني، كما في شتى أشكال الحياة.
فيما يتحرّر الشعرُ من وظيفته الدعائية، مما يحيط به، ومما يُفرض عليه، من غايات وواجبات قسرية، يذهبُ بأحلامه الى أقصى الآفاق، متجاوزاً الانهيارات الشاملة التي تطال البشر وهم يتدافعون بالمناكب نحو بوابات مستقبلهم المخطوف. الشعر لا يخدم أحداً، خصوصاً في اللحظة التي ترزح فيه البشرية تحت حوافر القتل والفقر والاستغلال. الشعر هو ما يحرّرنا من المكائد والشِراك الشاخصة نحو مواضع أقدامنا المذعورة.
الشعر الآن، هو الحب الوحيد الذي ربما ينقذ الانسان مما يتهدّده من محوٍ أبديٍ في هذا الكوكب. إذ حين يتقهقر العالم حتى الأسلاف، يقدر الشعر على التشبث بالضوء النادر المتصل بالخطوة الكونية التالية، بعد أن يتخذ الإنسان وضعيةالكتابة ..ويقرأ.
الآن،
تجربة المجتمع الإنساني، على صِلَتِها التكوينية بالشعر، يتوجب أن تعترف بعجز الشعر عن المجابهاتومكافحة الحروب ومتابعة مجريات الحياة اليومية، وبأن ما يقصر الشعرُ عن تغييره، هو بالضبط ما يمنحه ديمومته القادرة على المقاومة وعدم الارتهان لليومي والسياسي والايديولوجي، ليبقى شاهداً على كل تلك الانهيارات دون أن ينهار معها، فليس أقل للشعر بأن لا يتغير.
في الشعر نحن نفهم الصنيع القاتل الذي تتعرّضُ له البشرية قاطبة، وبشتى الوسائط التقليدية والحديثة، لكن هذا كله ليس مدعاة لقبول هذا الصنيع ووسائطه.
مهما بلغ العنف الذي تتسلح به الأنظمة والسلطات بشتى أشكالهما من أجل سحق البشر، فليس من شأن الشعر أن يرى في العنف جواباً لأسئلة الحياة وأسلحتها.
في حركة التاريخ عليهم أن يدركوا، أولئك الذين يحكموننا بالعنف، أن الشعر هو ما يمدّنا بالطاقة الغامضة للحب، لأجل أن نجعل ما يفنى فينا لا يموت.
الشعر الذي نذهب إليه ولا ندركه، الكلام الإنساني الأسمى، سوف يظل يرأف بنا في لحظة الخوف، ويشفق علينا لحظة الضياع، ويمسح بلسَمه على جراحنا ساعة المقتلة.
الشعر، جمالنا الذي لا يُضاهى عندما لا يكون زينةً في أحذية الطغاة، ومجدناحين لا يصبح كلمة في دفتر الرياء والتملّق.
هذا هو الشعر الذي نصغي إليه أكثر مما نكتبه،
ونحبه من دون أن نصلّي إليه.
الشعر الذي نجده في كل نص جديد، مثل حياةٍ جديدة.
كتب هذه الكلمة الشاعر البحريني قاسم حداد، بطلب من بيت الشعر في المغرب. وقد ترجم هذه الكلمة إلى اللغة الفرنسية الشاعر منير السرحاني، وترجمها إلى الإسبانية الشاعر خالد الريسوني، وترجمها إلى الإنجليزية الشاعر نور الدين الزويتني.