تقع رواية (سارق الجمر) لأحمد أولاد عيسى في ما يربو عن ثلاثمائة صفحة من الحجم المتوسط، وهي أول عمل إبداعي للكاتب. لازمه وعاش بين أحضانه لما يقرب من ثلاثين سنة، يتركه يخبو لسنوات، ثم يعود ليطل عليه من جديد. تتملكه فكرة نشره بقوة ثم تغادره وتعاديه بعد ذلك طويلا، حتى صارت الرواية بذلك أشبه بحلم يظهر في لحظات ويختفي في أخرى، يتوهج كجمرة ثم يخفت كرماد. وحدثَ هذه السنة أن عانق حلمُه صحوَه، وخرجت الرواية من الوجود بالكمون، إلى الوجود بالعيان، وغادرت ذاكرة صاحبها لتعانق ذاكرة القراء، ومعها خرجت أحداث وأوجاع دفينة تشهد على واقع عاشه الكاتب خلال فترة معينة من تاريخ المغرب، وعاشته معه أجيال ممن عاصرته أو سبقته أو جاءت بعده. إنه زمن النضال الذي كانت جامعة ظهر المهراز بفاس مسرحا له خلال ثمانينيات القرن العشرين. يستعرض الكاتب شريط بداياته الأولى مع النضال ومع الحب، كما يستعرض خيباته الكبيرة فيهما معا، وما خلفته من أوجاع ثقيلة وجراح غائرة، بِلغة عذبة كالشهد ومستفزة ككلمة نابية، أجادت اصطياد قرائها، ولم تفلتهم إلا وهم صرعى نشوتها وعبقها الأخاذ، كما لو أن صاحبها كتبها بحبر من وجع، يدل على سنوات عُمْر ذَبُل في الكتاب والكتابة.
خلال ليلة واحدة فاضت به الذاكرة وأخرج ما ترسب في جوفه وما ظل ثاويا لسنوات في أعماق قلبه المنكسر، حكى سعيد بحرارة وبمرارة كأنه كان يريد أن يطهر نفسه من أدران علقت بجلده وروحه، أو كأن ذاته كانت تولد في تزامن مع لحظات الحكي ونزيف الذاكرة.
الكتابة في هذه الرواية بوح واعتراف، أطلق من خلالهما الكاتب العنان لصخب داخلي طالت فترة كمونه، فتحول إلى نزيف، يحكي صور وحكايات العابرين على رصيف جراحه واحدا تلو الآخر، ومن انتهكوا حقه في حياة بسيطة وعادية داخل وطن يحتمي في حضنه الدافئ، ويحلم بمستقبل آمن، وطنٌ بالغ حُماته في القسوة فخلّف ندوبا وشروخا غائرة في الذاكرة، وجراحا ناتئة عجز الزمن عن علاجها، وأنى له ذلك وهي جراح حطمت النفس وكبريائها، وأغارت على الباطن فصيَّرته حطاما وركاما، يحمله جسد متعب أشبه بعظام نخرة. ومن حقنا أن نسأل: لماذا صمت الكاتب على أوجاعه طويلا وتركها حبيسة أوراقه وذاكرته يلوك أحداثها بمفرده؟ ولماذا أغوته الكتابة في هذه اللحظة بالذات ودفعته إلى أن يغمد قلمه في بطن الورقة ليسطر لنا أوجاعا احتضنها وحطَّمَته؟
لم يشأ أولاد عيسى أن تكون روايته سيرة ذاتية تستعيد شريط حياة عاشتها ذات في زمان ومكان محددين، تستعرض فيها انتصاراتها وخيباتها، أفراحها وأتراحها، بل أرادها سيرة بأصوات متعددة، أو لنقُل أنه أرادها لحظة بوح واعتراف تأخذ خلالها كل ذات الكلمة لتسمعنا صوتها/ وجعها داخل الحكاية. تلك الحكاية التي ابتدأت بفرحة الحصول على شهادة البكالوريا، وشوق اللقاء بمدينة العلم والعلماء فاس العتيدة، وانتهت بفقد الدراسة والأب والحبيبة ومعانقة السجون والحياة الخائبة.
أوجاع عديدة تسردها الرواية، عاشت كل شخصية نصيبها منها وقامت بتصريفها بأشكال مختلفة، وحكتها بكلام من وجع؛ حكى عليّ ونزف أوجاعا في ليلة أرَّقته فيها الذكرى، واستعاد شريط الذكريات بحلوها ومرّها، وإن كان حلوها لا يتجاوز إشراقة شمس هاربة في سماء غائمة، مقارنة بمُرّها الذي استقر على صفحات حياته وحياة سعيد وكأنه قد نسج معهما أواصر ألفة وصداقة. حكى سعيد بعده عن آماله وآلامه، عن أحلامه التي غدت كوابيس، وعن وطن صار وجعا يشي بالاغتراب، وعن الخيانة المزدوجة التي تصدى لها بابتسامة ساخرة تختزل عمق الجرح وعفونة الواقع.
حكت بعدهما ليلى عن كائن حُرم من نعمة الإطمئنان الوجودي، عن كائن كُتب عليه أن يكون في الليل غيره في النهار، عن كائن تمنى لو فقد ذاكرته ليتخلص من ثقل الحقارة التي تجثم على نفسه ودفعته ليعامل الآخرين بحقارة. حكت آمنة عن أخيها وعن هول ما حاق به حين غادر عالمه ودخل عالما آخر أُجبر عليه، عن أسرتها وما جنته عليها تقلبات حياة سعيد وبطش المخزن، حكت عن آمالها وهي تراها تتحطم بوجع الفاجعة ووجع الحب المستحيل. خيبات كثيرة وأوجاع عديدة حفلت بها الرواية توزعت على خمسة فصول كل منها يستعيد شريط الذكرى ويسلط الضوء على فواجع مشتركة وأخرى اكتوى بنارها البعض وعاشها البعض الآخر كشهود واقع، نسلط الضوء على بعضها باقتضاب في ما يلي:
خيبة النضال:
في فاس بدأت الحكاية ومنها طفقت الخيبة تجر أذيالها، خالف سعيد وصاحبه عليّ الموعد مع العلم وربطاه مع النضال حتى صارا زعيمين للفصيل القاعدي الراديكالي، نضال يحكي عنه كل منهما بغُصّة حانقة، لا توْقا لأيامه بل ندما على اقترافه، فهُما اليوم يريانه بأعين مختلفة، يقدحان فيه وفي طرق ممارسته، يعدّانه مجرد فنطازيا وحماس مورس في ساحات جامعة، نُظر إليها كجزيرة منقطعة عن العالم يعيش فيها الطلبة بوهيميتهم على طريقتهم الخاصة؛ يعانقون الرفيقات كيف شاءوا في هدأة الليل وفي واضحة النهار، يساندون من شاءوا من دعاة التحرر في العالم، يقاطعون الدروس متى عنّ لهم ذلك، بدعوى رجعيتها، فانصرفوا عن العلم بحجة النضال، فقادهم ذلك إلى مهاوي لم تخطر لهم على بال. وكأننا بسعيد وعليّ يريدان بهذا الاعتراف أن يثوبا من ذنب اقترفاه، يجثم على أنفاسهما ولم تستطع سنوات التوقيف ولا سنوات السجن أن تخلصهما منه. تكررت في الرواية عبارات الحسرة والندم والتبرؤ من فترات النضال في رحاب جامعة ظهر المهراز، كما ترددت عبارات القدح والتقريع في حق الرفاق.
ولسنا نجد تفسيرا لهذا المنقلب الذي اتخذه الرفيقان السابقان، ولا كيف يمكن للمرء أن يتحول عن أفكاره بنفس القوة التي كان يؤمن بها، اللهم إلا بعض افتراضات نسوقها من باب التخمين فقط؛ خمَّنا أن يكون الأمر له صلة بالقسوة التي تعامل بها النظام معهما والتي تراوحت بين الطرد القسري من رحاب الجامعة وبين صنوف التعذيب والتنكيل التي أذاقهما إياها في فترة الاعتقال الأخيرة، وما ترتب عن ذلك من مآسي انعكست عليهما وعلى أسرتيهما. وقلنا ربما للأمر علاقة بخيانة الرفاق المُرَّة وتنكرهم للتضحيات الجسام التي قدمها سعيد وعلي، حتى ينعم الطلبة بالحرية والكرامة. ثم بدا لنا الأمر راجعا لتأثرهما الكبير بالشيخ سيدي امحمد الغريب وتعاليمه التي قلبت كيانهما وزلزلت حياتهما بشكل عنيف. ولئن عجزنا عن وضع اليد على سبب هذا الانقلاب المفاجئ، فإن الأكيد أن ندمهما على فترة نضالهما وعلى الأساليب والطرق التي مورس بها هذا النضال أيامئذ كان كبيرا وقويا، جسدته عبارات من قبيل: "كم كنا حمقى وجهلة! ينتابني إحساس بالتقزز والقرف من كل الذي ساهمتُ فيه يا علي!" ويرد عليه هذا الأخير: "لكن الآن، الآن فقط أدرك كم كان حماسنا فنطازيا مليئا بفقاعات البارود البارد".
لحظات اعتراف قاسية تشي بعمق المنقلب ومرارة الندم الذي اختلجت به نفس أدركت في النهاية أنها آمنت عن وهم وقصر نظر بأن بإمكان صوت يطن داخل جدران الجامعة، أن يرفع الهم الذي يجثم على أنفاس الدراويش المقهورين، فتبرأت من النضال ولامت نفسها على لوعة الغواية الثورية.
الانتقام من النظام .. انتقام من الذات:
سعيد وعلي الصديقان المتلازمان، وحَّدهما النضال وفرقتهما صروف الحياة بعده، ظلا وفيين للثورة داخل الجامعة وخارجها؛ في الجامعة ثورة على المقاس تستنكر الخروقات وتقف في وجه التعسفات وتساند بالشعارات والحلقيات الأشكال النضالية التحررية أينما تأججت؛ وفي معترك الحياة، بعد قرار فصلهما من الجامعة، عرفت الثورة عندهما تمظهرات أخرى؛ حيث أقنع عليّ نفسه بأن الثورة هي الثورة، وأن الفكر الثوري يلزمنا اتباعه أينما وجد، وبأي شكل تجلى، فانضم لثورة مرجعيتها إسلامية شيعية، لا تقف عند حدود الانتصار للفصيل، بل تتجاوزه نحو الانتصار للوطن وللعقيدة. ومارس سعيد ثورته بالقلم والقِرطاس، وأفرغ نضاله في مقالات مجنونة اتخذت شكل قنابل موقوتة طافحة بالدعوة الصريحة إلى الكفاح المسلح لنزع سلطان الطغيان، وإعادة الحقوق للفقراء وللأمة الغائبة عن وعيها.
وحين امتزجت الثورتان ونشَر الشيعي (علي) ما كتبه الشيوعي (سعيد) تطايرت شظايا الانتقام من النظام، فأصابهما رذاذها بخمس سنوات سجن نافذة، ذاقا خلالها صنوفا أخرى من الأوجاع جعلت نفسيهما تعيفان من وطن يقتل في أبنائه كل شيء جميل، وترتعش أوصال حكامه وتتهيب قلوبهم من الكلمة.
خيبات الحب:
تحضر تيمة الحب في الرواية بشكل لافت، وقد شكلت مع النضال وجهين لخيبة واحدة بسطت رداءها على شخوص الرواية جميعهم. بدأ الحب في الرواية نورا يضيء قتام واقع متشنج يطفح غلا وحقدا، نضالا، وانقلب نارا تحرق كل من تدفأ بها أو دنا من لهبها؛ صار الحب وجعا وأنينا تحكم الكاتب بإبداع في حجم صوته، فجعله مرتفعا وصاخبا في حالة سعيد وليلى وعلي، وتركه خافتا يعاش كصخب داخلي في حالة أمينة.
أحب سعيد ليلى حبا جنونيا، وخذلته ليلى بأن رمت في وجهه سهم الخيانة انتقاما من مجتمع خانها حين لفظها على درج باب مهجورة عارية من حنان الأم ودفئ الأسرة. وأحب علي خديجة (الشيماء) بالقسوة ذاتها التي أبداها في النضال واستغرب كيف أن قلبه لا يزال فيه متسع للحب، رغم الجروح الغائرة والضربات الهائلة التي انهالت عليه في زنانين الوطن ودهاليزه الباردة، وعبثا خفق قلبه حين داهمته ذكرى خديجة الغالية، فقد حالت بينهما صروف الحياة وشق كل منهما لنفسه مسلكا خاصا، فكان حبا من طرف واحد وكانت خيبة الذكرى موجعة. لم تسلم أمينة بدورها من وجع الحب ولوعته، أحبت عليًّا في صمت وتألمت حين رأته يهيم عشقا بغيرها، فاستعاضت عن الواقع بالاستيهام وعاشت خيبتها على طريقتها.
مزيدا من الخيبات .. مزيدا من الأوجاع:
إلى جانب تيمتي النضال والحب اللتين جعلهما الكاتب بؤرة روايته، تطرق أولاد عيسى كذلك إلى مواضيع أخرى كالوطن والحرية والظلم والاستبداد والفقر والتهميش والعنف وغيرها، بلغة هادئة أحيانا وثائرة أحيانا أخرى. ففي حديثه عن العنف يجعل الحكمة تجري على لسان بّاعلي المستخدم في مقصف الجامعة، يقول: "ليس من الضروري أن يكون العنف السبيل الأوحد في التغيير. وأنا لا أفهم لمَ يحمل الإنسان السلاح في وجه أخيه بمجرد أن يختلف معه في الفكر والاعتقاد." بعدها يتسلح بلغة صادمة في حديثه عن أوجاع الفقراء حيث يقول مخاطبا أباه: "كيف تريدني أن أصمت على الظلم وأنا أراك قد بلغت من الكبر عتيا، ولا تزال مضطرا للعمل من أجل إعالتنا؟"؛ عالج أيضا وبمرارة الفكر الانتهازي الوصولي، وجعل عليا يندم على كل لحظة صرفها في التحصيل والدراسة والنضال قائلا: "الناس ركبت السهل فنالوا مبتغاهم وزيادة .. ونحن؟ ركبنا المطايا الوعرة والمليئة بالمطبات، فما حصدنا غير الشوك." وعرج على علاقة الأبناء الفقراء بآبائهم قائلا: "نحن فقراء هذا الوطن لا نملك وقتا ثالثا، يستثمر فينا آباؤنا قليلا من رؤوس أموالهم، حتى نغدو لهم مشاريع مثمرة. لذا يجب أن نحرق المراحل وذواتنا، حتى نرد الديْن". كل هذه المواضيع شكلت رسائل صريحة مررها الكاتب على لسان شخصيات روايته تشي بمرارة الضيم وهول الفاجعة التي ألمت به وبأصدقائه وأسرته، رسائل أراد من خلالها أن يذكي جذوة النضال والثورة في نفوس المستضعفين علّهم يبرحون حياة الذل والاستكانة ويقفون في وجه ولاة للأمر ما همّهم غير توسيع نفوذهم ومراكمة ثرواتهم ولو على حساب إفقار غيرهم.
عود على بدء:
تكشف لنا رواية الكاتب أحمد أولاد عيسى عن جملة إضاءات؛ أولاها، أنها سلطت الضوء على فئة مهمة من النسيج المجتمعي المغربي هي فئة الطلبة الجامعيين، وعلى مؤسسة، هي مؤسسة الجامعة، قلما التُفِت كتابة إلى ما يعتمل بداخلها من نضال، يأخذ شكل صراع يكون دمويا أحيانا، بأسلوب شائق وماتع، هادئ أحيانا صادم أحيانا أخرى. ثانيتها، تمكنها الذكي، أو بالأحرى تمكن صاحبها، من العبور من مجتمع الجامعة الصغير إلى المجتمع المغربي عامة، ومن نضال يطال قضايا الطلبة ومشاكلهم الدراسية، إلى نضال يهم قضايا الشعب المغربي ككل، يجهر بالظلم والتهميش علنا، ويطالب بالعدالة والمساواة والإنصاف. ثالثتها، التعبير الموفق عن جدلية المأمول والمحصول أو عن صراع المثال والواقع، مثالٌ يتجسد في الطالب الحالم بعالم قدَّه على مقاس آماله، وواقع يجلوه المصير الذي زلزل توازنه الوجودي، ودفعه إلى التصدي له بأساليب دفاعية متكاملة في تعارضها، اتخذت أشكالا تراوحت بين الفتور والاستكانة والانسحاب من جهة، والنشاط والمجابهة والتصدي من جهة ثانية، مثلت في مجملها الاستجابات الممكنة للضغوط التي يمارسها واقع يخالف المنتظر والمأمول.
وآخرها، أن الرواية سلطت الضوء على أنواع متعددة من التسلط تبدأ من تسلط إيديولوجيا الفصيل الذي ينتمي إليه الطالب وخضوعه وخنوعه له دون قيد أو شرط، وهو ما يكشف عنه حجم العبارات الطافحة بالشعور بالندم داخل الرواية، مرورا بتسلط النظام وأياديه الباطشة على الطلبة، وعلى المجتمع ككل والذي من بين صوره في الرواية طريقة المداهمة التي قام بها البوليس في جنح الظلام لمنزلي سعيد وعلي، وحجم الإساءات والكلمات النابية التي نفثها في وجه أفراد الأسرة، وصولا إلى تسلط الحب، فحتى هذا الأخير عاشته المجموعة كتسلط معلن أو مضمر، مارسه المحبوب ورضخ له الحبيب.
لا يسعنا في ختام هذا التحليل المقتضب لمضمون رواية (سارق الجمر) لصاحبها أحمد أولاد عيسى إلا أن نقول بأن الكاتب نجح في سرقة بعض الجمرات من لهيب ذاكرته ووضعها أمام أنظارنا متقدة متأججة، ولست أدري إن كان بذلك يطلب منا أن نتعاون معه في إخمادها وتحويلها إلى رماد تذروه رياح النسيان من ذاكرته، وتحررها من لسعاتها الحارقة، أم أنه يطلب منا بالمقابل أن ننفخ فيها ليستعر لهيبها ويزداد وهجها عسى أن تدفئ ذواكر أخرى فتبوح بما اختزن فيها وتكدس.