يمزج الكاتب والقاص السوداني في هذا المقال الشيق مراجعة كتاب سيد البحراوي الذي سجل فيه ألمه في نوع من المقاومة له، بتأملاته حول زيارته الأخيرة للقاهرة، وأخبار أصدقائه فيها من المثقفين السودانيين والمصريين تحت وقع ضربات زحف الزمن والألم معا، ومقاومة هذا كله بالكتابة.

سيد البحراوي ومديح الألم

حامد فضل الله

                                          إلى حيدر إبراهيم وكمال الجزولي

 

صدر مؤخرا (2016م) عن دار الثقافة الجديدة-القاهرة، كتاب بعنوان "في مديح الألم"، للأستاذ الجامعي المميز والناقد الأدبي العميق سيد البحراوي، أستاذ اللغة العربية بجامعة القاهرة. والكتاب يعكس تجربة الكاتب وهو يصارع المرض اللعين الذي تمركز في رئته اليمنى. في أثناء فترة العلاج الرهيبة، بين التحاليل وكشوفات الأشعة، بين الغيبوبة واليقظة، بين الألم والمُسكِّن، بين الجرعات الكيماوية، بين الغثيان والوهن، ما كان لهذا الأكاديمي الملتزم، الذي خاض المعارك، ان يستسلم بسهولة وان تبقى أنامله الرقيقة بعيداً عن قلم الحبر والورق الأبيض أمامه من دون أن يسوده كتابة. فكان هذا الكتاب، هذه التأملات، هذه الخواطر في التعامل مع الآلام الناتجة عن المرض.

يكتب البحراوي في المقدمة "مثل كل البشر، عانيت في حياتي مختلف أنواع الألم، لكني لم أنتبه لأهميته على المستوى الذهني. كنت أشعر به وأعيشه حتى ينتهي، أو يتزاوج مع غيره من المشاعر، أو يأتي ألم جديد ... انشغلت بموضوع الألم، وشغفت به نحو عام قبل أن أبدأ علاج السرطان، ثم توقفت إجبارياً .. وبعد انتهاء العلاج المؤلم أعود إليه. أريد أن أمجده، باعتباره قرين الحياة".

عندما يقول البحراوي، بان الألم قرين الحياة، بمعنى أنه أصبح جزءاً من حياتنا. "سعي البشر – إذن – إلى الراحة هو مجابهة الألم. ولولا الألم لما سعوا ولما أبدعوا علماً وفناً". هذه الجملة دفعته الى التأمل والتفكير العميق وبذلك جاء عنوان كتابه "في مديح الألم" منسجما ومنطقيا. جاءت لغة الكتاب، بأسلوب "الومضات المكثفة" بعيداً عن الاسترسال، فالأفكار والملاحظات أقرب الى التشتت منها الى الترتيب. والكاتب يشرح ذلك بنفسه في مكان أخر، بأن الكتاب نتيجة مباشرة للمعاناة التي كان يعيشها في تلك اللحظات ويجسد الشكل طبيعة المعاناة وحالة الألم.

ويكتب في ص 20 "أصبح البيت خلية من الأهل والتلاميذ (فلم يعد لدينا أصدقاء). حرصت على بث روح التفاؤل؛ فطلبت من زينب أن تغني، فغنت أجمل غناء لمحمد قنديل وأم كلثوم. وطلبت من الشيخ محمد (والد طاهر زوج ابنة أختي حنان) أن يبارك البيت ويقرأ من الآيات". ربما يتساءل القارئ المتسرع، كيف يصدر ذلك من كاتب ماركسي الفكر، ولكن هنا تتجلى نظرة الناقد الأدبي، علاقة الكلام الجميل بالكلام المعجز، الموازنة والمقارنة الجمالية. ويكتب في ص 23 "بعض القلقين، والراغبين في الميراث، يضعون الموت احتمالاً قوياً. أنا، لا. وحتى إذا مت الآن، فلن أكون نادماً؛ لأن ما أردته – علمياً وإنسانياً – قد تحقق بالفعل". هذا الشعور بالرضا بما انجزه في مسيرته والراحة النفسية، تجعل قضية الموت لا تشغل فكره، وراغباً ايضا في الحياة لمواصلة المزيد من العطاء.

"أما عون أهلي وتلاميذي وأصدقائي في تحمل الآلام، فقد فاق كل توقعاتي عن مدى حبهم لي، بل عن تلك القدرات الغريبة التي يمتلكها البشر، ولا تظهر إلا في الملمات ". هذه الفقرة التي يكتبها البحراوي، يرد بها على نفسه، حول شكوكه في علاقاته مع الأخرين. فقد كتب في فقرة سابقة "حتى الآن أنت تقاوم المرض لدوافع شخصية، لكن يوماً بعد يوم تتأكد أهميتك لدى الآخرين، واحتياجهم إليك كما يقولون (ولم تكن تصدقها من قبل)". "في هذه الأيام، الحياة والموت متساويان". هل هذه إشارة الى حالة البلدان العربية والأفريقية، وما تمر به شعوبهم، من محن وكوارث وفقدان الأمل في حياة انسانية كريمة؟ ولعل الفقرة التالية تكملة للسابقة " تسمح لي أحوالي أن أتفرج على الدنيا من حولي بملاهيها ومآسيها فكلاهما وجهان لعملة واحدة".

جاء في صفحة 18 " كنت حزيناً حزناً تعودت عليه منذ سنوات، مصدره (اعمل الخير وارميه في البحر). في الليلة نفسها، فاض بحر الخير من تلاميذي. في تلك الليلة بالذات زارني طلاب لم أكن أعرفهم، واتصل بي آخرون مرددون جملة "ما لناش حد غيرك". كانت قاسية بالنسبة لي". ويشير الى "رسالة إلكترونية من طالبة تخرجت منذ ثماني سنوات، تعبر عما تركته فيها من قيم. أعطتني دافعاً للاستمرار في الحياة". أليست هذه قمة الوفاء من تلاميذه وطلابه، يفهمون ويقدرون أستاذهم، وأليست هذه ايضا منتهى السعادة له، وان حرثه لم يرمه في البحر.

يكتب البحراوي في صفحة 103 "أحد الأطباء حين سألته: عما إذا كان يمكن أن أشفى، قال: هل يخلق الله الداء دون دواء؟! هل يريد الخالق امتحان مخلوقاته بابتلاءات وقدرة تحملها؟ منطق الطبيب معوج، ولعل كلمات  صلاح عبد الصبور أكثر تعبيراً ومنطقاً: "أن الله لا يعذبنا بالحياة ولكن يعطينا ما نستحقه؛ لأنه قد أسلمنا الكون بريئا مادة عمياء نحن عقلها" (في كتابه حياتي والشعر).

تمعن في رد البحراوي " قالت الصديقة إنها لا تحب الألم وتخاف منه ولا تحب الحديث حوله. قلت لها هذا أيضاً نوع من الألم". وايضا في الفقرتين التاليتين: " أكتب كأنني أنزف دماً. أحاول أن أستخرج أقصى ما بي، كي يمكن للآخرين (القراء) أن يعيشوا ألمهم بصدق". "التأمل هو الصحبة الأفضل في حالة المرض".

في ص 120 " ألاحظ في الفترة الأخيرة اختلافاً في لغتي، حين أكتب. لغة أقرب إلى التراث ... التصوف ... هي بداية جديدة، أم بداية النهاية؟!" أنها ليست بداية ولا نهاية، أنها التواصل وتوسيع النظر والرؤيا عن طريق الحدس والاِلهام وربط العقل بالقلب. يقول البحراوي " جاءتني كل المناصب التي شغلتها منقادا: أمين منظمة الشباب في القرية، عضو الاتحاد الاشتراكي عن الشباب، رئاسة القسم وعمادة الكلية"، وفي فقرة أخرى يقول، "لم يكن الوقت كله ضائعاً بين العلاج والألم. ناقشت رسالة ماجستير، وأديت بعض المحاضرات، وصححت أوراق امتحانات، لكني كنت بنصف جهد. هذا هو البحراوي لا يجري وراء المناصب، ويلتزم بواجباته، حتى في أقسى ظروفه الصحيحة، فهو الأستاذ والمعلم وصاحب الموقف والصدق مع النفس، واضحاً في موقفه السياسي، لا متردداً، خوفاً على مستقبله الأكاديمي.

الشكر العظيم للصديق الروائي الكبير صنع الله إبراهيم، الذي استطاع ان يقنع سيد البحراوي، بعد ممانعة، لنشر هذا الكتاب الممتع، بصورته الطازجة، دون تحوير أو تعديل، وهو يتأمل، اثناء مرضه وعلاجه مسألة الألم كفكرة وفلسفة. فقد كتب البحراوي في الصفحة الأخيرة." لم أكتب هذا لكم. على الأقل هذه كانت نيتي. قد يستفيد منها المريض المرشح للسرطان، لكني كنت أكتبها لنفسي كوسيلة علاجية تشارك في معركة المقاومة".

لا أزال اذكر القضية التي أثارها نائب في البرلمان المصري أثناء حكم الرئيس حسني مبارك، مطالبا بمنع تدريس، رواية "موسم الهجرة للشمال" للروائي المبدع الراحل الطيب صالح، في جامعة القاهرة، بحجة أنها أدب فاضح، "بورنوغرافي"، ومفسدة للأخلاق، ومضيفا بأن ابنته ضمن طلاب وطالبات الفصل الدراسي. كان وقتها يقوم الأستاذ البحراوي بتدريس الرواية. رفض البحراوي بشدة الوصاية عليه كمعلم واستاذ جامعي، وموضحا بأن الرواية ليست إباحية وهي الآن في مصاف الأدب العالمي ومشيراً الى العلاقة المراوغة أو الشائكة بين الفن والأخلاق؛ وأضاف بأن القضية في منتهى البساطة، فأبنة النائب المحترم لها مطلق الحرية أن لا تحضر الدرس. بهذا الهدوء والمنطق والاصرار انتهت هذه الزوبعة الفارغة.

التقيت البحراوي لأول مرة في برلين عام 2009،  عندما لبى دعوتنا باسم اتحاد الاِعلاميين العرب مع الكاتبة والصحفية المعروفة فريدة النقاش، للمشاركة في ندوة حول الوضع السياسي والثقافي في مصر. قلت له وقتها، بأنني قاص ناشئ، وقرأت له احدى قصصي القصيرة، كان يستمع باهتمام ولم يعلق، وطلب مني ان أرسل له المجموعة. وكانت المفاجأة والفرحة، فقد نشرت مجلة أدب ونقد في القاهرة في يناير 2010 (العدد 293 ) قصصي القصيرة كملف بعنوان "قصص سودانية" مع مقدمة تحليلية نقدية مكثفة بقلم د. سيد البحراوي، اذكر هنا فقط السطور الأولى من المقدمة "لم أعرف حامد فضل الله إلا كاتباً لمقالات في بعض المجلات العربية حين التقيت به في برلين – تيقنت أن وراء هذه الملامح الوسيمة مبدعاً كامناً، ولذاك لم أفاجأ كثيراً حين أعطاني هذه المجموعة من القصص القصيرة كي أقرأها".

لم اوفق، في زيارة عمل خاطفة الى العاصمة المصرية منذ ايام قليلة، بزيارة البحراوي، ولكنني نجحت في زيارة حياة وحيدر. حيدر إبراهيم مستلقياً، وهن في الجسد، مخارج الكلمات واضحة، الصوت في طريقه للنبرة المعهودة والذاكرة متينة.

علمت بأن السيرة الذاتية للبحراوي في اللمسات الأخيرة، فهذه بشارة خير. حيدر أصدر سيرته، لعله يضيف فصلا جديدا للخاتمة، وأما كمال فربما يصيغها إبداعياً.

ادعوا للثلاثي الفكري والمبدع بالشفاء العاجل.