صدر في دار نشر سيروان / العراق كتاب بعنوان (اخضرار النص في مواسم الكلام ... قراءات في ابداع خالدة خليل ) وقد جاء في هذا الكتاب الذي يتناول بالدراسات الأكاديمية والنقدية ماكتب عن منجز هذه المبدعة العراقية التي تخطت حدود الإبداع وتجاوزت المألوف وعقدت بينها وبين الكتابة صلة رحم وعقد حب يتأتى من تجربتها الحياتية وخيالها الخصب المجنح .
كتب د.خليل شكري على الغلاف الخلفي للكتاب (النص عند خالدة خليل في معنى من المعاني شعراً وسرداً كائن ينتمي إلى فصيله، لكنه لا يشبه ولا يكون إلاّ نفسه، له روحه وهويته وهواجسه وطاقاته وجمالياته التعبيرية التي تتظافر جميعها في علائق تشابكية وعبر رؤى حداثوية منفتحة لا تستكين في اتجاه معين ولا تؤمن بالتقولب والمحاكاة، وتظل مخلصة لنواميس الرؤيا التي لا يمكن أن تتحدد في فضاءات مفهومية ثابتة، لأن النص عندها فعل حداثوي خلاق يتوالد على نحو لامتناهٍ، واجتراح مستمر لتشكلات ومعان جديدة، ومغامرة في كنه الغامض والمواري والمجهول،
بمعنى آخر عابر للنوع والجنس، ومتمرد على كل إطار أو قيد يعيق حركته في التشكيل الحر للرؤى والتخيل والتخييل والتذكر والتفكر.
، ليغدو في النهاية في شكل من أشكاله نصاً مفتوحاً غير قابل للتصنيف والتحجيم في حقل أجناسي معين، ينهل من الجميع ولا يدخل في سور أي واحدٍ منها ) .ليؤكد الكاتب ان بتجاوز خالدة خليل للمألوف والسائد استطاعت اختراق اصعب المراحل وأصبح لها مكانها في الإبداع الراقي في الوطن العربي .
خالدة خليل كاتبة فريدة ونوعية في منجزها وتكتب بهدوء وتأنٍ وهذا هو سر نجاحها ..
جاء في مقدمة الكتاب :
الكتابة عن تجربة خالدة خليل الإبداعية، كتابة عن تَشكُّلٍ متأنٍ ومستقل، بعيداً عن الشهرة الإعلامية والنقدية التي كثيراً ما قتلت الإبداع قبل رسوخه أو حتى ولادته،فبحكم معرفتي الطويلة بالمبدعة، ومتابعتي وإطلاعي على كتاباتها وهي في الخارج وعودتها إلى ربوع الوطن، أستطيع القول: إنها كانت معنية بذاتها وقضيتها أكثر من أي شيءٍ آخر، وقد جاءت نصوصها مرآة عاكسة لهذه الذات بوصفها إمرأة شرقية تنحدر من منظومة إجتماعيىة كانت ولا تزال ترزح تحت جنح الأقلية التي مهما فعلت لا يمكن أن تصطف من وجهة نظر المجتمع المحكوم بسلطة الأكثرية على خط المساواة معها، فكان سعي الذات الكاتبة إبداعياً ونقدياً نوعأ من إثبات الوجود، ومغامرة لذيذة من أجل الوصول إلى حقيقة أن الأنثى قادرة على تجاوز الصعاب وكسر السائد ومن ثَمَّ الكشف عن قدرتها الفاعلة في إنتاج القيمة المعادلة، لاسيما في مجال الأدب من جهة، ودفاعاً عن قضيتها المركزية في الإنتماء إلى الشعب الكردي الباحث عن التحرر والإستقلال، ودفاعاً عن الأقلية التي انبثقت هي من شرنقتها، التي تعرضت مراراً إلى الإضطهاد والإبادة على أيدي الآخر المنتمي بشكل أو بآخر إلى منظومة الأكثرية المالكة لأدوات السلطة من جهة ثانية.
وأستطيع القول أيضا: إن هذه التجربة تجاوزت الآن مرحلة الولادة إلى مرحلة التجذر والرسوخ، عبر مجموعتين شعريتين هما: (شرنقة الحمى) و (توهجات رماد)، ونص مفتوح يقترب كثيراً من الرواية القصيرة هو(أشرعة الهراء)،فضلاً عن دراسات أكاديمية ونقدية كونها أكاديمية أساساً ، والقراءة الفاحصة لهذا التشكُّل تكشف من غير عناء مدى تأني الكاتبة في طرح نفسها شاعرة وساردة وناقدة في الوسط الثقافي، يتعزز هذه القناعة أكثر فأكثر عند الولوج إلى متنها المسبوك بوعي ثقافي وأكاديمي، والنابض بشعرية عالية تذهب معها العبارات والتراكيب والصور إلى مديات بعيدة في الإنزياح عما هو مؤلوف وسائد.
النص عندها في معنى من المعاني شعراً وسرداً كائن ينتمي إلى فصيله، لكنه لا يشبه ولا يكون إلاّ نفسه، له روحه وهويته وهواجسه وطاقاته وجمالياته التعبيرية التي تتظافر جميعها في علائق تشابكية وعبر رؤى حداثوية منفتحة لا تستكين في اتجاه معين ولا تؤمن بالتقولب والمحاكاة، وتظل مخلصة لنواميس الرؤيا التي لا يمكن أن تتحدد في فضاءات مفهومية ثابتة، لأن النص عندها فعل حداثوي خلاق يتوالد على نحو لامتناهٍ، واجتراح مستمر لتشكلات ومعان جديدة، ومغامرة في كنه الغامض والمواري والمجهول لكشفه وتقديمه على مائدة القراءة وجبة لم تفض بعد بكارة لذته، ولا سرَّ نكهته. ورحلة مغامرة في المسك بتلابيب الذات الانسانية التي كلما حاولنا الامساك بها ماعت بين أيدينا، كجني ماكر يراك ولا تراه، يسكنك ولا تسكنه.
والنص عندها في معنى آخر عابر للنوع والجنس، ومتمرد على كل إطار أو قيد يعيق حركته في التشكيل الحر للرؤى والتخيل والتخييل والتذكر والتفكر، لأن النص بمعناه الحداثوي مغامرة في التحديث والكشف والبعث، يقوم على علاقة شائكة وإشكالية تتمازج فيه قواعد اللعبة الشعرية بقواعد اللعبة السردية إلى حد الإنصهار أحيانا، ليغدو في النهاية في شكل من أشكاله نصاً مفتوحاً غير قابل للتصنيف والتحجيم في حقل أجناسي معين، ينهل من الجميع ولا يدخل في سور أي واحدٍ منها، على نحو ما نراه في (أشرعة الهراء)، التي تقول عنها الكاتبة في حوار معها: ((أشرعة الهراء ابنة بيئتها والظروف كانت مدعاة لخلقها، كانت تجربة أراها فريدة ولا أعرف كيف يقيمها المتلقي، ولو طلب مني اليوم كتابة تجربة مماثلة، ربما سأعجز لأن الظروف التي أمر بها الأن تختلف وقد تتطلب سرداً واقعياً ينفتح أكثر على التصريح)).
هذا الأمر بكل جوانبه يتناغم والتحولات العميقة والكبرى التي شهدتها العملية الإبداعية على صعيد المتنين: النصي، والنقدي، وأصبح فعلي الكتابة والقراءة فعلين موزيين إبداعياً بعد أن كان الأخير في النظريات النقدية القديمة فعلا محاكياً ومفسراً ومبرراً للأول.
إن من يقرأ شعر خالدة خليل يجد نفسه أمام شعر مكتنز بجمالية تشكيلية بالغة التنوع والتموج تحاول الإنفلات من أي قيد أو تقليد لتكون أكثر قدرة وقابلية وتعبيراً عن ذات شاعرة تحمل ما تحمل من قضايا، ومن مضنيات الحياة، ومن إغتراب وغربة لازما الذات وشكلا جزءاً مؤثراً من حياتها وواقعها على نحو شكل النص عندها مرآة للذات والواقع، لكن هذه المرآوية ليست بمعناه العاكسة لوجه الذات أو الواقع، لأن المرايا كما يرى فوكو لا ترينا ما لا يظهر عبر سطحها كما يفعل الشاعر أو السارد، بل مرآوية غاصة في الأعماق لإجلاء الأكناه وإبرازها على السطح، مرآوية تتسع معها الرؤية والرؤيا، فلا توقع اللوم على تفاحة آدم، بل تجعل منها بؤرة إشعاع لحياة ضاجة وممتلئة، وبنية رمزية من العبث التدقيق في واقعيتها أو مرجعيتها الدينية حسب، بل تسلط عليها جمرة التأويل الباحثة عن خلق جديد من رماد معنى أو هيئة قديمة.
ضمن هذه الرؤية الواقعية نرى أن ثنائية الحياة والموت تشكل بؤرة قرائية مهمة في نصوص خالدة خليل، إذ تأخذ وضعها الشعري في التعبير عن خيوط التجربة وعمقها وامتزاجها، بل تقوقعها في بالون الإحساس العالي،والعاطفة الشجية المتقدين من نار القضية المصيرية التي تعيشها الذات، بوصفها ذاتاً مهمشة داخل الوطن، ومهشمة خارجه، يلاحقها الموت بكل تجلياته المعنوية في كل مكان، لذلك لا تجد الذات -إذا ما حاولت أن تتغلب على وضعها المأساوي- بداً من أن ترمي بنفسها في منطقة الحزن الإبداعي المجبول بفداحة القضية، في مسعى منها لتعويض الحياة بعيشها ثانية في النص، إلا أن هذا التعويض على الصعيد النصي لا يقف عند حد التعبير المحايد عن التجارب، بل يحاول استبطان الذات على وفق رؤية سيرذاتية خاصة، وحين يقع الاختيار على الكتابة لتكون مأوى وملاذاً، فإنها – أي الذات الكاتبة – تحس مثلها مثل أي إنسان آخر أنها بحاجة إلى الخلاص، ولكي تصبح قصتها خلاصاً حقيقياً، لابد لهما من ذريعة تجدها في قصة حياة أكثر انسجاماً مع رغباتها مما كانت عليه بالفعل. لذلك تلجأ إلى إدخال الذكريات بعد أن تستخرجها من بئر الذاكرة العميقة إلى منطقة الرؤية، لتعمل الأخيرة على إعادة إنتاجها على وفق ما تمليه عليها أجندة الذاكرة من خلال قيامهما باستنفار خزينها الذاكراتي والمعرفي والثقافي، والتخييلي العامل على شحنها – الذكريات – بطاقة الإبداع، عبر صور شعرية وسردية، وغيرها من الأدوات التي يستعين بها الشعر والسرد، لتخرج بذلك مغلفةً برؤية تفلسفها على وفق ما ترتئيه الذات الكاتبة.
يترتب على هذه الثانئية الجدلية، ثنائية جدلية أخرى تنبع هذه المرة من عمق المكان الذي ظل بكل تجلياته مصدراً للقلق بالنسبة للذات الكاتبة، لتشكل في النهاية تجربة إبداعية متأرجحة بين مد المكان الدائم، إذ الاستقرار الذي تحلم بها الذات، وجزر المكان المؤقت الذي تعاني منه الذات وهي تجوب مدن العالم، إلى الحد الذي شكل معه المكان بجدليته هذه هاجساً متجذراً في أعماق الذات، فراحت تنظر إلى المكان من زاوية خاصة، تحاول أن تمسك بين طرفي الثنائية التي كانت مصدرا لقلقها وعدم استقرارها، ثنائية الـ (هنا) /المكان البديل أو المكان المنفى(ألمانيا)، والـ (هناك) /الوطن، المكان المستعاد نصياً عبر الذاكرة، الأول معادٍ أو غير متصالح ولا متآلف معه،فنراها تنظر إليها بعين الريبة وعدم التصالح، والثاني أليف عاشت فيه ردحاً من الزمن أثرت وتأثرت به، واضطرتتحت ظروف قسرية إلى مغادرته والتخلي عنه جسدياَ لكن ظلت روحياً متعلقة به فراحت تخلده نصياً.
وكما للواقع حضور في نصوص الشاعرة، فللأسطورة حضورها أيضاً ليس بوصفها وسيلة شعرية كثيراً ما لجأ إليها المبدعون بتصنيفاتهم المختلفة، بل سعياً منها للبحث عن أسطورتها الخاصة عبر ترحال مضنٍ للذات على الصعيدين، الواقعي: وهي تتجول عواصم ومدن العالم بحثاً عن استقرار وراحة صعبة المنال إن لم تكن مستحيلة بعيداً عن الأرض والأهل، والإبداعي: وهي تطير كفراشة بين حقول الإبداع باحثة عن وطنٍ جديد يعوض فقدان الوطن الحقيقي الضائع الذي لم ير النور، لا عندما كانت في حضنه، ولا عندما تركته مغادرة إلى المجهول، ليغدو في النهاية حلماً حزيناً متناثراً على جزئيات حياتها كلها، وفضاءً ملبداً بالوجع والقلق والحيرة، فأسطورتها تولد من رحم الواقع لتشكل ثنائية قرائية تجعل من الواقع أسطورة، ومن الأسطورة واقعاً، عبر شحنها بقدرات عالية من الخيال الحر القادر على أن يفجّر في العمل الفني كلّ مكامن السحر والجمال.
وللجسد بوصفها ثيمة نصية، ونسقاً ثقافياً حضورها المغري والفاعل في نصوص الكاتبة، التي أولته إهتماما خاصاً منطلقة في ذلك من تلك الرؤية الحداثوية التي تجاوزت الرؤية الأحادية من كونه مجرد وعاء للروح ومصدراً من مصادر الفتنة بوصفه عورة لابد أن يستر، إلى كونه كينونة الإنسان بكليته، إلى كامل شخصه ومصيره، فالجسد هو الذات والنفس والشخص كلها مجموعة مرة واحدة كما يرى دايفيد لوبرتون صاحب كتاب انثروبولوجيا الجسد والحداثة، وبهذا المفهوم يغدو الجسد مرآة للذات ووجهه الأول وموجهاً دلالياً تؤسس عبره بديهية العلاقة مع العالم، والكشف عن طقوس التفاعل، واللغة الإيمائية، ولعبة الإغراء، كما هو حاصل في الجسد الإشهاري والجسد الكرنفالي والجسد الكادح ليعمل كل ذلك على شن هجوم كاسح ضد الجسد بالمفهوم القديم الذي لا يفصله عن الروح وعن مجموعة الأعراف والشرائع التي تحكمه، وهكذا ننتقل مع الجسد من مفهومه الكلاسكي المحدد والمحكوم بالأعراف الاجتماعية والشرائع الدينية، إلى جسد لا متفرد تتحول كليا حدوده وأوضاعه ووظائفه على نحو تنمحي التضاريس الاجتماعية والذهنية لتبرز الحدود الجديدة لما يسميه باختين بالجسد (الغروتسكي).
وفي الختام يمكنني القول: إن تجربة خالدة خليل الإبداعية تجربة واعية استطاعت أن تقتحم منطقة القراءة لتثبت أقدامها بثقة وجدارة، وتعلن عن نفسها اسماً وكياناً راسخاً في الساحة الإبداعية العربية، وتغدو نصوصها الشعرية والسردية كينونة مستقلة يتبأر فيها الموضوع الشعري أو السردي، أو هما معاً في صميم الحس الإنساني الجوهري، تتسابق فيها الآليات والمرتكزات الشعرية والسردية لاحتضان الموضوع، ومن ثم مظهرته في إشكال نصية مختلفة.