يقدم محرر (الكلمة) في القسم الأول من هذه الدراسة كاتبة أمريكية سوداء لم يعرفها المسرح العربي من قبل، رغم أنها جديرة بأن يهتم بها كيلا تتحكم في خريطة معرفته بالمسرح في العالم اختيارات المركزية الثقافية الغربية، وكيلا تغيب عنه الكثير من الإنجازات المسرحية التي تستحق التريث عن كشوفها ورؤاها.

لورين هانزبيري وتأسيس المسرح الأمريكي الأسود

من الواقعية إلى الكلاسيكية بين «حبة عنب في الشمس» و«البيض»

صبري حافظ

استهلال: الكاتبة وسياقات عملها:
شاهدت هذا الشهر مسرحية (البيض Les Blancs) للكاتبة المسرحية الزنجية الأمريكية لورين هانزبيري Lorraine Hansberry (1930 – 1965) في المسرح القومي الانجليزي، في عرض يتسم بالدقة والرهافة الإيقاعية، وجماليات الحركة واللون؛ ناهيك عن جودة التمثيل التي هي أحدى سمات المسرح الانجليزي المحترف، ناهيك عن أبرز مؤسساته وهي المسرح القومي. وقد دفعني العرض بقوة النص وكلاسيكيته المدهشة للبحث عن كاتبته، التي أعترف بأنني لم أكن قد سمعت عنها من قبل، أو شاهدت لها أي عرض مسرحي. وبعد بحث وقراءة مستفيضة عنها وعن نصها الأول الذي وضع اسمها باقتدار على خشبة المسرح الأمريكي كأحد رواد المسرح الأسود فيه، اكتشفت كم أننا لانزال محكومين بمركزية الثقافة الأوروبية، أو الغربية البيضاء عموما، وبما تختار إبرازه أو تشاء أن تهمشه. ولا نعرف الكثير عن المسكوت عنه فيها وروافدها الثانوية الغنية، برغم أن تلك الروافد أقدر على لمس الكثير من القضايا التي نعاني منها في عالمنا العربي.

ذلك لأن المسرحية التي وضعت اسم لورين هانزبيري بقوة على خريطة المسرح الأمريكي وهي مسرحيتها الأولى (حبة عنب في الشمس A Raisin in the Sun) قد اكتملت عام 1957، أي في العام التالي لعرض مسرحية جون أوزبورن (انظر وراءك في غضب) 1956؛ وكثيرا ما يقارن تأثيرها على المسرح الأمريكي بتأثير مسرحية أوزبورن الشهيرة تلك على المسرح الانجليزي، والتي عرفها الواقع الثقافي العربي في حينها، وكثيرا ما قورن تأثيرها على المسرح الانجليزي، بتأثير مسرحية نعمان عاشور (الناس اللي تحت) على المسرح المصري، والتي عرضت هي الأخرى لغرابة المفارقة في نفس العام 1956.

فقد لاقت مسرحية لورين هانزبيرى الأولى حال عرضها في أمريكا، وبعد استحالة عرضها في نيويورك، لأنها مسرحية لكاتبة جديدة وسوداء، رواجا استثنائيا في نيوهافن، وفيلاديلفيا وشيكاغو، وهو الرواج الذي جلبها لنيويورك، بعدما تعثر حصولها من قبل على مسرح يقبلها فيها. وكانت بذلك أول مسرحية تكتبها امرأة زنجية، ويمثلها ويخرجها زنوج، تعرض في برودواي في نيويورك ويستمر عرضها عام 1959، ببطولة الممثل الشهير سيدني بواتييه (كانت تلك المسرحية بداية الشهرة الكبيرة التي حققها فيما بعد)، لـ530 عرضا. ويعتبرها الكثيرون الآن المسرحية التي بدأ بها الحراك الفني بين السود، والذي تبلور بعد ذلك في حركة الفنون السوداء Black Arts Movement في ستينيات القرن الماضي. كما كانت المسرحية الأولى التي تجعل حياة السود الأمريكيين مدار اهتمامها، وتعرض على جمهورها شريحة من حياتهم وأحلامهم المؤجلة. قبل هذه المسرحية لم يكن أمام الشخصيات السوداء غير أن تظهر في أدوار الخدم أو الشخصيات الثانوية في المسرح الأبيض. ولم يتصور أحد في أمريكا قبلها أنه يمكن وضع حياة السود اليومية وأحلامهم المشروعة على خشبة المسرح، وأن يحتل السود كل الأدوار الرئيسية في عمل مسرحي جدير بالعرض في برودواي. بل إنها قلبت البنية السائدة رأسا على عقب حينما جعلت الشخصية البيضاء الوحيدة في المسرحية شخصية ثانوية، ذات بعد وحد، غير قادرة على فهم الآخر، ناهيك عن التعاطف معه، كما كان الحال في تصوير السود في المسرح الأبيض.

ويعتبر الكثيرون (حبة عنب في الشمس) المسرحية التي فتحت أبواب المسرح الأمريكي على مصارعها للكتاب السود والممثلين السود على السواء. ثم أصبحت كاتبتها قبل أن تكمل الثلاثين من عمرها أصغر من حصل على جائزة «دائرة نقاد المسرح Drama Critics’ Circle» الأمريكية الشهيرة في نيويورك لأفضل مسرحية في العام، من البيض فلم يكن قد حصل عليها قبلها أي أسود، وخامس امرأة تحصل عليها، وأول من نالها من الكتاب السود رجالا ونساءً. ثم تحولت هذه المسرحية عام 1961 إلى فيلم شهير بنفس العنوان، مثّله سيدني بواتييه، وكتبت هي السيناريو له، وحصل على إحدى جوائز مهرجان كان السينمائي وقتها، ورشح لجائزة أفضل سيناريو في الأوسكار. وكما أحال نجاح (انظر وراءك في غضب) و(الناس اللي تحت) كاتبيها إلى نجمين في ثقافتهما، أصبحت لورين هانزبيري بين عشية وضحاها، وعن جدارة، نجمة في ثقافتها، وأحد أبرز أعضاء «حركة الحقوق المدنية» ومناهضة العنصرية ضد السود.

نحن إذن بإزاء كاتبة موهوبة لمعت كالشهاب في أفق المسرح الأمريكي ثم اختطفها الموت وهي في شرخ الشباب. صحيح أنها نشأت في أسرة سوداء لا تُعتبر النموذج الشائع بين السود في هذا الوقت المبكر من التاريخ الأمريكي. حيث لم تكن للغالبية السوداء أي حقوق مدنية أو قانونية، بما في ذلك حق التصويت، وكان ما يعرف في أميركا باسم Lynching وهو الإعدام دون محاكمة قانونية، مازال يمارس بكثرة ضد السود في عدد كبير من ولايات الجنوب تحت رعاية عصابات كثيرة مثل الكوكلوكس كلان وغيرها، ولم يتوقف هذا الأمر حتى ستينيات القرن الماضي. فقد كان أبوها، كارل هانزبيري، أحد أفراد النخبة الزنجية المتعلمة القلائل، وكان سمسار عقارات ناجح في مدينة شيكاغو، وعضوا فاعلا في «الرابطة الوطنية لتطوير حقوق الملونين National Association for the Advancement of Coloured People» كما كان في الوقت نفسه أحد الأعضاء الناشطين في فرع الحزب الجمهوري في المدينة. وقد مات أبوها وهي في الخامسة عشرة من عمره، «قتلته العنصرية الأمريكية» كما قالت لها ابنته فيما بعد.

وكان عمها ويليام هانزبيري أستاذا في قسم التاريخ في جامعة هاوارد في مدينة واشنطون، وهي الجامعة التي أسست بعد الحرب الأهلية الأمريكية وعلى مبادئها في المساواة وعدم التمييز بين الطلاب وفق اللون أو الجنس أو الطبقة، وإن أصبحت جامعة للسود مع مرور الوقت. وكان هو الذي أسس بها قسم دراسة الحضارات الإفريقية وأصبح من أبرز رواد الدراسات الأفريقية في العالم فيما بعد؛ حيث كرمته نيجيريا الذي كان أول رئيس لها بعد التحرير من طلابه وهو نامدي آزيكيوي Nnamdi Azikewe بإطلاق اسمه على أول كلية متخصصة للدراسات الإفريقية فيها عام 1963. وكان أيضا من بين تلاميذه كوامي نيكروما، أول رئيس لغانا بعد الاستقلال وصاحب فكرة الوحدة الإفريقية.

وبعد ان أنهت دراستها الثانوية في مدينة شيكاغو التحقت لمدة عامين بجامعة ويسكنسون في ماديسون، ثم أمضت صيف سنتها الجامعية الأولى في المكسيك تدرس الرسم في جامعة جواداليجارا. لكنها قبل أن تلتحق بالجامعة كانت قد تلقت في صالون بيتها منذ بواكير صباها الكثير من الدروس. فقد كان أبوها وعمها من أفراد النخبة النشيطة، وكان يزوره أعضاء تلك النخبة السوداء، وفي مقدمتهم دو بويز W. E. B. Du Bois (1868 – 1963) وهو أول أمريكي أسود يحصل على درجة الدكتوراه، ويعمل أستاذا في جامعة أمريكية، كما أنه من رواد حركة الحقوق المدنية في أميركا، ومن أوائل من طرحوا مفاهيم الوحدة الأفريقية فيها. وتعترف هانزبيري بتأثير أفكاره الكبير عليها، وخاصة فيما يتعلق بأهمية الأصول الأفريقية للأمريكيين السود، منذ بواكير شبابها.

كما كان يزورهم في بيتهم، نجم الحركة الأمريكية السوداء، بول روبسون (1898 – 1976) وهو بالإضافة لكونه نجما لامعا في عالم الموسيقى والتمثيل، كان من بين المثقفين الأمريكيين الذين شاركوا إلى جانب الجمهوريين في الحرب الأهلية الإسبانية، وأصبح أحد أبرز زعماء اليسار الأمريكي الأسود في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، وقد كان روبسون صديقا لعمها الذي قدم إليه ابنة أخيه النابهة لتعمل معه فيما بعد. في هذا البيت تعلمت أول دروس الوعي الثقافي الزنجي الأساسية، وهو أن هناك أمرين لا يمكن التفريط فيهما أو خيانتهما: وهما الأسرة والعرق/ اللون. بل تعلمت الاعتزاز بهما معا إلى أقصى حد، وتكريس حياتها للعمل من أجلهما. وسوف نجد أن الأمرين معا يسريان في نسيج أعمالها الإبداعية القليلة التي خلفتها لنا. ناهيك عن كتاباتها الصحفية الغزيرة التي جمعت بعد وفاتها.

وبعد عامين من الدراسة الجامعية، والتي اختلطت أيضا بالنشاط السياسي في الجامعة وخارجها، انتقلت إلى نيويورك وعملت عام 1950 صحفية في مجلة بول روبسون الشهرية (الحرية Freedom) لثلاث سنوات، تعرفت فيها على أبرز نجوم الثقافة الأمريكية السوداء، وفي مقدمتهم الشاعر لانجستون هيوز، ومحرر مجلة (الحرية) لويس بيرنام Louis Burnham أرهفت وعيها السياسي بآليات الحياة السياسية الأمريكية، فقد تعرضت فيها للخضوع لرقابة مكتب التحقيقات الفيدرالي الشهير، الذي سحب جواز سفر روبسون، وراقب كل من عمل معه قبيل وأثناء صعود المكارثية في أمريكا. كما شاركت، ممثلة له، في مؤتمر دولي يساري كبير في موتيفيديو عاصمة أوروجواي، لعدم قدرته على المشاركة بعد سحب السلطات الأمريكية لجواز سفره. كما مكنتها حواراتها مع بيرنام وهيوز خاصة من الوعي بأن كل عمل فني ينطوي على رؤية سياسية ودور اجتماعي، سواء أكان فنا تحريضيا مثيرا، أو تنويميا يهدد مشاعر الجمهور ويصرف اهتماماته عن التفكير في القضايا الحرجة. وهو وعي يغاير ما كان سائدا في المشهد الثقافي الأمريكي الذي ازدهرت فيه حركة النقد الجديد الأمريكية وقتها والذي شاع فيه وقتها الارتقاء بالفن فوق مشاغل الحياة اليومية وانصرافه للشؤون الإنسانية العليا، وترفعه عن الولوغ في مشاكل الواقع الاجتماعي.

أما التأثير الكبير الثاني عليها فقد كان مشاهدتها لمسرحية شون أوكيزي (1881 – 1964) الشهيرة (جونو والطاووس) والتي تجسد حياة أسرة ايرلندية فقيرة على المسرح، والتي ما أن شاهدتها في عرض لمسرح جامعة ويسكنسن، حتى تملكها إحساس قوي بضرورة أن تكتب عن حياة السود في أميركا، وما يتعرضون له من قهر وتضعها على المسرح. أن تضع لغة السود المميزة على المسرح بنفس القوة التي وضع بها أوكيزي أنين الشخصيات الأيرلندية وعويلها وكبرياءها معا على الخشبة. فقد كانت تشعر وقد نشأت في هذا المناخ الثقافي المشبع بأفكار اليسار والحرية والتقدم، بالاعتزاز بلونها وبجنوستها معا، وكانت تعلن في الفضاء الجامعي العام عن تمردها على الحدود المفروضة على الجنسين معا: السود والنساء، والتي تلقت أول دروس رفضها في حوارات دو بويز وبول روبسون مع عمها والتي كانت تدور في بيتهم. وهذا أيضا ما تفصح عنه مسرحيتها الأولى (حبة عنب في الشمس) التي تتناول قضايا العنصرية، والتحيز ضد المرأة، وقضايا الذكورة، والهوية الإفريقية، والإجهاض ودعاوى الاندماج في المجتمع الأبيض. والأهم من هذا كله أنها المسرحية الأولى التي تجسد اعتزاز السود بهويتهم وبلونهم وبتاريخهم المتميز في المجتمع الأمريكي.

وعلى إثر النجاح الكبير لمسرحيتها الأولى تلك كلفتها شركة الإذاعة الوطنية National Broadcasting Company NBC بكتابة عمل للتليفزيون بمناسبة العيد المئوي للحرب الأهلية الأمريكية، فكتبت عملها التالي (القرع الشارب The Drinking Gourd) عام 1959 عن مسيرة العبودية في أمريكا، واستلهمت العنوان من أغنية عن العبودية الأمريكية تتحدث عن شفرات الهرب. لأنها عمل درامي يبدد إلى غير رجعة أسطورة أن العبيد كانوا سعداء مطيعين وأوفياء لسادتهم، وأن العبودية لم تكن هي السبب الأساسي في الحرب الأهلية الأمريكية، ويكشف في الوقت نفسه كيف كانت العبودية الأساس البنيوي للاقتصاد الأمريكي، وكيف أنها نظام أيديولوجي اقتصادي محكم ترك ميسمه الاجتماعي والنفسي على كل من السادة والعبيد على السواء، وأنه استأدى أميركا ثمنا فادحا ولايزال. ولكن الشركة اعتذرت بأنه يصعب عليها عرض العمل أو انتاجه، لجرأته ومخالفته للكثير من الأعراف السائدة في هذا المجال.

بعد ذلك كتبت مسرحيتها (الغناء في نافذة سيدني بروشتاين The Sing in Sidney Brustien’s Window) والتي عرضت في برودواي عام 1964 لأكثر من مئة عرض، وظلت تعرض حتى وفاة كاتبتها في مطلع عام 1965. ومع أنها ليست مسرحية سوداء، فليس فيها إلا شخصية سوداء واحدة إلا أنها تنتمي لعالم هانزبيري الفكري ورؤاها المتعلقة بدور المثقف في واقع مأزوم. وتدور المسرحية في العالم الذي انتقلت هانزبيري بعد زواجها للحياة فيه، وهو عالم المثقفين والفنانين في قرية جرينيتش في مدينة نيويورك. وكانت الكاتبة قد بدأت العمل منذ عام 1960 على مسرحية جديدة، قدمت فيها ما اعتبرته ردها على رؤى صامويل بيكيت (1906 – 1989) القاتمة في مسرحيته الشهيرة (في انتظار جودو) وانتهت منها في العام التالي بعنوان (ما نفع الأزهار What Use Are Flowers?) 1961 تتناول فيها موضوع اليأس والموت والحياة وغيرها من القضايا الفلسفية التي أثارها بيكيت في مسرحيته، ولكن من منظور فكري لمن عاشوا جل حياتهم يعاقرون اليأس كما هي الحال بالنسبة للسود في الولايات المتحدة الأمريكية، ومن يدركون في نظرها أكثر من غيرهم قيمة الحياة. وهي مسرحية تختلف عن كل أعمالها التي تتجذر في الواقع الاجتماعي، في أنها مسرحية خيالية عن ناسك خرج من منسكه بعد سنوات من حرب نووية قضت على المنطقة التي يعيش فيها، ليجد مجموعة من الأطفال بلا حاضنة اجتماعية ناهيك عن حاضنة قيمية أو أخلاقية، ويبدأ في تلقينهم ما يعتبره أولويات الحياة والقيم الانسانية.

ثم انشغلت بعد ذلك وحتى نهاية حياتها بمسرحية (البيض) التي سعت فيها إلى خلق ما دعته بمسرحية كلاسيكية لشعب عريق، تنطلق من تصور أن السود شعب له تاريخ عريق تمتد جذوره في القارة الأفريقية وحضاراتها المتعددة، ولابد من التعامل معه بمسرح على غرار المسرح الإغريقي القديم. وقد واصلت العمل على هذه المسرحية طوال العامين الأخيرين من حياتها، وكانت تناقش تفاصيلها وتعيد كتابة مشاهدها مع زوجها السابق روبرت نيمروف Robert Nemiroff فيما بين الفترات التي تقضيها في المستشفى أو خارجها. ولكنها لم تستطع أن تراها على خشبة المسرح، حيث أصيبت عام 1964 بسرطان البنكرياس، وتوفيت بسببه في العام التالي. وهي المسرحية التي سنعود إليها بشيء من التفصيل بعد مشاهدتي أياها على خشبة المسرح القومي الانجليزي. لكن دعنا نتريث قليلا عند مسرحيتها الأولى التي أصبحت إحدى كلاسيكيات المسرح الأمريكي الأسود، قبل تناول (البيض).

«حبة عنب في الشمس» وعبء الأحلام المؤجلة:
فما أن قرأت هذه المسرحية الجميلة حتى أدركت أهميتها من ناحية، وتقصيرنا إزاءها من ناحية أخرى؛ فهي لا تقل أهمية بأي حال من الأحوال من حيث دراميتها وغنى عالمها المسرحي عن مسرحية جون أوزبورن التي احتفل بها الواقع المسرحي العربي كثيرا. وكما كانت كل من (انظر وراءك في غضب) و(الناس اللي تحت) مسرحية اجتماعية ذات قضية سياسية تقدم على خشبة المسرح واقعا اجتماعيا وشخصيات درامية جديدة، كانت (حبة عنب في الشمس) هي الأخرى مسرحية تكتبها امرأة سوداء عن السود الأمريكيين، وتطرح واحدة من قضايا الواقع الأمريكي الشائكة، ألا وهي قضية العنصرية، والتمييز ضد السود، وتوقهم المستمر للحرية؛ وأهم من هذا كله تضع السود على المسرح باعتبارهم شخصيات درامية حقيقية وإنسانية جديرة بالاحترام وتحظى بمركز الاهتمام في العمل المسرحي. وقد استمدت هانزبيري الكثير مما دار في المسرحية من تجارب حياة أسرتها الخاصة. فقد انحدرت كما ذكرت من أسرة متعلمة من الطبقة الوسطى الزنجية. وحينما تحسنت ظروف أسرتها المادية قرر أبوها الانتقال بهم من بيت صغير من المساكن الشعبية في منطقة السود إلى بيت أكبر في منطقة من شيكاغو يسكنها البيض، الذين اعترضوا على انتقال أسرة سوداء للحياة بينهم. كانت لورين في الثامنة من عمرها حينما حدث ذلك، وعانت من عنصرية البيض الذين أصروا على طرد الأسرة السوداء من بين ظهرانيهم؛ بل كادت تصاب بحجر ألقي على بيتهم في إحدى التحرشات ضدهم، وكسر نافذته الزجاجية، واستقر على بعد سنتيمترات من الطفلة المرعوبة. وقد رفض أبوها الانصياع لتهديدات البيض، ورفع قضية ضدهم أصبحت شهيرة في هذا المجال (لأن القانون الأمريكي تقرره سوابق أحكام المحكمة العليا، التي تتحول بدورها لمواد أو قوانين) لمنع التمييز في مناطق السكن بشيكاغو، وصلت إلى المحكمة الأمريكية العليا وأصبح انتصاره فيها أحد علامات القانون الأمريكي Supreme Court Case of Hansberry v. Lee, 311 U.S. 32 (1940) التي تمنع التمييز العرقي في السكن. من هذه التجربة تستمد هانزبيري مادة مسرحيتها، وإن استطاعت الارتقاء عبرها بالشخصي إلى مستوى الإنساني والرمزي والعام.

فنحن هنا بإزاء مسرحية أكبر من مجرد أنها مسرحية شريحة اجتماعية أو عرقية محددة، وإنما هي مسرحية خطت طريقا جديدا للكتاب السود في المسرح الأمريكي، وغيرت قواعد اللعبة الدرامية فيه بفتحها الطريق أمام الكتاب السود من ناحية، وأمام عالم السود وقضاياهم وأحلامهم من ناحية أخرى. فهي بحق مسرحية عن الأحلام المحبطة والمؤجلة، إذ استقت كاتبتها عنوانها، في تناص دال، من بيت شعري للشاعر الأمريكي الزنجي الأشهر لانجستون هيوز Langston Hughes (1902 – 1967) والذي عرفته الكاتبة شخصيا أثناء حياتها في نيويورك واستهوتها أشعاره، فقد كان الشعر من بين أشكال التعبير المختلفة التي حاولت استخدامها، من قصيدة له قصيرة وعميقة معا بعنوان «مونتاج لحلم مؤجل Montage of a Dream Deferred» وهذا هو نصها بالكامل:

What happens to a dream deferred?

Does it dry up

like a raisin in the sun?

Or fester like a sore—

and then run?

Does it stink like rotten meat?

Or crust and sugar over—

like a syrupy sweet?

Maybe it just sags

like a heavy load

Or does it just explode?

ماذا يحدث لحلم تأجل؟

أيجف تماما،

كما تجف حبة عنب في الشمس؟

أم يلتهب كجرج تقيح؟

ثم ينزّ؟

هل ينتن كلحم تعفن؟

أم يتصلد وتتكون عليه طبقة قشرية

كما تتسكر الحلويات السائلة؟

وربما يهن ويتراخى

كعبء ثقيل مبهظ!

أم تراه ينفجر!

ويبدو أن لورين هانزبيري كانت واعية بحدوسها الإبداعية بأهمية التناصّ، ودور عتبة العنوان الافتتاحية قبل أن تتبلور التنظيرات العديدة بشأنهما. فأطياف قصيدة لانجستون هيوز تظل تخايل عالم المسرحية طوال تلقينا لها. كما أن الوعي بتلك الأطياف يثري عملية التلقي، ويستحث المشاهد على سبر مستويات متعددة من المعنى في الحدث الدرامي وفي تكوين الشخصيات معا.

والواقع أننا بإزاء مسرحية تكشف عن موهبة درامية حقيقية. تتكون من ثلاثة فصول، وتعتمد على البنية الدرامية التقليدية، وتنتمي للمسرح الواقعي الذي ساد في خمسينيات القرن الماضي. وتقدم لنا عبره عالم الأسرة الأمريكية السوداء وأحلامها المؤجلة، وغضب أفرادها الكظيم، والذي لا يقل حدة وتبريرا دراميا عن غضب الجيل الغاضب الذي انطلق مع مسرحية أوزبورن. مسرحية تعي أصول الفن الدرامي، وتدرك أن الدراما فن التركيز والحتمية معا، وأن لها قواعدها الصارمة التي تجعل لكل كلمة وحركة دورها ودلالاتها، وتستلزم توظيف الشخصيات الغائبة مثلها في ذلك مثل الشخصيات الحاضرة أمامنا على الخشبة. وتقدم المسرحية ثلاثة أجيال من أسرة زنجية تتكون من الأم «لينا ينجر» والابن «والتر ينجر» والأبنة «بينيتا ينجر» وزوجة الإبن «روث» ثم الحفيد «تريفيز» ابن والتر وروث وهو صبي في العاشرة من عمره. ويدور الفصل الأول في شقة صغيرة مزدحمة من شقق المساكن الشعبية في الشطر الجنوبي من مدينة شيكاغو، تتكدس فيها الأسرة بأجيالها الثلاثة مع أثاث مسكنهم الفقير. حيث ينام والتر وزوجته في غرفة، وتنام الأم وبينيتا في الغرفة الأخرى، أما تريفيز فإنه ينام على الكنبة في غرفة المعيشة/ الصالة، وليس للشقة دورة مياهها الخاصة، وإنما تشارك شقة الجيران وعائلة جونسون المجاورة في دورة مياه في الممر بين الشقتين، وهي كلها معلومات أساسية نعرفها منذ الدقائق الأولى في المشهد الأول.

ويبدأ الفصل الأول بتقديم الشخصيات، وتأطير حياتها، وبث بذور التوتر الدرامي الذي ستتكشف عنه أحداثها. فنتعرف أولا على «روث» زوجة والتر التي توقظ ابنها تريفيز وتنصحه بالتوجه مباشرة  إلى دورة المياه قبل أن يشغلها الجيران. ثم توقظ زوجها الذي نعرف أنها غاضبة معه لأنه استضاف أصدقاءه أمس حتى وقت متأخر، وهو يعلم أن غرفة المعيشة التي شغلها بهم حتى هذا الوقت هي غرفة نوم تريفيز. لكنه يحاول تهدئتها كما أنه أول من يشير إلى الشيك الذي تنتظر الأسرة وصوله. ثم تظهر مشكلة النقود مرة أخرى حينما يطلب تريفيز نصف دولار من أجل المدرسة، لكن الأم تخبره بأنه ليس معها نصف دولار إضافي، مما يغضب والتر الذي يمنح ابنه دولارا كاملا لأنه لا يريده أن يشعر بالفقر، وسنكتشف أنه كل ما كان في حوزته من مال للذهاب به للعمل. لكن والتر لايريد لابنه أن يعرف أنهم فقراء. ومن البداية نعرف أن كلا من الزوجين يتعامل مع مسألة المال بشكل مختلف، فبينما تتسم روث بالبرجماتية، فهي تعمل مدبرة بيت لدي أسرة بيضاء، وتريد أن تحصل أسرتها على ما يكفيها من المال، يطمح والتر لتحقيق الثراء، الذي سيمكنه من الاستقلال ورعاية أسرته بطريقة أفضل، ويعتقد أن المال هو سبيله الوحيد لتحقيق هذا الطموح، وللحفاظ على كرامته وعدم العمل سائقا لدى رجل أبيض.

وسرعان ما نعرف، بعد استيقاظ بينيتا، ودخولها إلى ساحة الحديث، أن الشيك الذي أشار له هو شيك ضخم بقيمة عشرة آلاف دولار، هي قيمة بوليصة التأمين على حياة الأب لصالح أسرته بعد وفاته، وسيظل الأب برغم رحيله من الشخصيات الغائبة الحاضرة في المسرحية والفاعلة فيها. وأن والتر يريد أن يستخدم جزءا كبيرا من هذا الشيك في مشاركة «ويلي هاريس» على متجر لبيع المشروبات الكحولية، يحقق عبره الاستقلال والثراء معا. ويظل ويلي هاريس الذي لا يظهر أبدا على المسرح الشخصية الغائبة الحاضرة الثانية التي تلقي بظلالها على العمل حتى النهاية رغم عدم ظهورها فيه. لكن بينيتا التي تميزها لغتها كامرأة تعلمت عن بقية أفراد الأسرة، كما تميزها عنهم ثقافتها ووعيها بجذورها الأفريقية، تريد أن تستخدم قسطا من هذا المال في تسديد رسوم تعليمها في كلية الطب، وهي دراسة مكلفة وغير متوقعه لامرأة سوداء في ذلك الزمن. وهو الأمر الذي يكون والتر أول من يعترض عليه. طالبا منها أن تكف عن التطلع لما فوق متناولها، وأن تكتفي بأن تصبح ممرضة لو كانت رعاية المرضى هي همها المقيم. أو أن تبحث عن زوج وتواصل حياتها التقليدية. لكنها أبعد شخصيات المسرحية كلها عن التقليدية، وأشدها تميزا واعتزازا بنفسها وبأفريقيتها، ووعيا بتميزها الثقافي وبجنوستها ونسويتها، رغم أن لفظة النسوية لم ترد في المسرحية أبدا.

أما آخر شخصيات المسرحية التي تظهر على الخشبة وأهمها جميعا فهي الأم «لينا ينجر» التي سيصدر الشيك باسمها ولصالحها حسب وثيقة تأمين الزوج. وهو الأمر الذي لم يفت بينيتا تنبيه والتر له في حوارهما المتوتر قبل خروج الأم من غرفتها. فهي وحدها صاحبة الحق في التصرف في المبلغ. وهي شخصية تجسد شخصية الأم العملية الحنون والحازمة أيضا التي تجعل أبناءها مركز حياتها، والتي تتسم كجل الأمهات السود بالتدين الشديد. ولذلك فإنها لا تقر برغبة والتر في فتح محل لبيع المشروبات الكحولية، ولا تريد أن تتحمل وزر هذا الفعل. ولكنها على العكس من ذلك تؤمن بأهمية التعليم، وتؤكد أنها ستجنب قسما من المال لتعليم بينيتا، وتحقيق حلمها في دخول كلية الطب، ولن تسمح لأحد أن يلمس هذا القسم. أما حلم الأم الأساسي، والذي ظل مرجأ لسنوات فهو شراء بيت صغير من طابقين له حديقة أو باحة خلفية يمكن أن يلعب فيها حفيدها تريفيز أثناء عطلة الصيف. لأن امتلاك بيت في تلك الفترة، كان ولايزال، هو الركن الأساسي في بينة الحلم الأمريكي بالتحقق. وقد كان هذا الحلم هو مدار حياتها هي وزوجها الذي تاق لتحقيقه طيلة حياته، ولكن أعباء الأسرة، وتدني دخل السود، حالا دونه وتوفير القدر اللازم من النقود لتحقيق هذا الحلم الذي ظل مُرجأ حتى مات.

وتقول الأم أن زوجها الراحل كان كثيرا ما يكرر: يبدو أن الله لم يشأ أن يحقق أحلام السود، ولكنه أعطاهم أبناء يجعلون الحلم جديرا بالحياة من أجله. غير أن المفارقة المؤلمة هي أن موت الزوج، هو الذي جعل تحقيق حلمها بأن يكون لها ولأسرتها بيت له حديقة ممكنا. وهو حلم تشاركها إياه روث التي تحلم هي الأخرى بأن تنتقل من المساكن الشعبية الفقيرة في جنوب مدينة شيكاغو وأن تعيش في بيت من طابقين، يوفر غرفة لابنها خاصة به. وعندما تعود بينيتا من الممر، وقد وجدت أن الحمام مشغول، تناقش المرأتان معها أحدث اهتماماتها الكثيرة، وآخرها أخذ دروس لتعلم العزف على الجيتار، وحينما تقول أن هذا لرغبتها في التعبير عن نفسها تسخر منها روث «التعبير عن أي شيء؟» فتعلن أن هذا الأمر أعلى من مستوى روث، وأنها لا تتوقع منها أن تفهمه.

ذلك لأن «بينيتا» التي تعكس الكثير من أفكار لورين هانزبري واهتماماتها ومطامحها تجسد الفجوة أو بالأحرى النقلة بين تفكير الجيل الذي تمثله هانزبري والأجيال السابقة عليه من السود. وهو الجيل الذي يرفض التعايش مع الأحلام المرجأة، ويعمل على تغيير الواقع الذي يسد أمامه الطريق. لذلك يتواصل كشف المسرحية عن هذه الفجوة حينما تمدح المرأتان «جورج ميرشيسون» صديق بينيتا الذي ترفض الارتباط به، وينصحانها بالتمسك به لأنه غني، لكنها ترفض الارتباط به لأنه ضحل رغم ثرائه، وليس بالقطع في مستواها الثقافي، ولأنه من الذين يستسلمون كلية للأيديولوجية التقليدية البيضاء، ويكتفون بما تتيحه للسود فيها من هامش. صحيح أنه معجب بثقافة بينيتا ومطامحها، لكن أسرته كما تتوقع سوف ترفضها لأنها ليست من مستواهم الاقتصادي. وتضيق بينيتا بحديثهما، وتنصرف ذاهبة إلى جامعتها.

وفي المشهد الثاني من الفصل الأول والذي يدور في صبيحة اليوم التالي، وهو يوم سبت حيث تقوم الأسرة بتنظيف الشقة الأسبوعي، ونكتشف فيه حرص الأم على النظافة والنظام، يتواصل تعرفنا على بقية الشخصيات، ويكتمل زرع بذور التوتر الدرامي للمسرحية. فهذا اليوم هو الذي يُتوقع فيه وصول الشيك المرتقب، وقيمته عشرة آلاف دولار. لذلك كان طبيعيا أن يبدأ الحدث بمكالمة تليفونية من «ويلي هاريس» الغائب عن المشهد، يخبر فيها والتر أن إجراءات مشروع متجر المشروبات الكحولية قد أوشكت على الاكتمال ولا ينقصها سوى التأمين على والتر، فيعده بأن يجلب له النقود حال حصوله عليها. أما بينيتا التي تقوم برش الشقة بالمبيدات للتخلص من الصراصير، فإنها تتلقى هي الأخرى مكالمة من شخص ما وتدعوه فيها لزيارتهم، وهو أمر تعترض عليه الأم لأن تنظيف الشقة لم ينته بعد. إلا أن بينيتا تقدم لهم الزائر المرتقب على أنه «جوزيف أساجاي» زميلها في الجامعة وهو مثقف أفريقي من نيجيريا.

ويدور نقاش حول أفريقيا التي تعتقد بينيتا أن على أسرتها أن تعرف المزيد عنها، فتفصح الأم عن محفوظاتها من رؤية الكنيسة لحاجة أفريقيا للخلاص المسيحي من الوثنية/ الهمجية، وهو ما تحذرها بينيتا من أن تشير إليه في حضور آساجاي، وتصرّ على أن ما تحتاجه أفريقيا هو الخلاص السياسي من الاستعمار الفرنسي والبريطاني. هنا تعود روث من زيارة للطبيب، وتخبر الأم وبينيتا بأن الطبيب أخبرها بأنها حامل منذ شهرين، وهو أمر يثير ريبة الأم لأنها تتحدث عن الطبيبة، بينما طبيب العائلة رجل. ثم يجيء النيجيري أساجاي ومعه بعض الهدايا: فستان نيجيري بألوان أفريقية زاهية لبينيتا، وبعض اسطوانات الموسيقى الأفريقية، ويدور بينهما نقاش حول الهوية الأفريقية وما تطمح إليه بينيتا، وكيف أنها لا تعي مدى تغلغل كليشيهات الثقافة البيضاء في سلوكها، فقد فردت شعرها بدلا من الاعتزاز بتجعده الإفريقي. ويترك اعتزازه بزنوجته/ أفريقيته انطباعا إيجابيا لدى كل من الأم وروث.

وبعد خروجه، يصل الشيك، ثم يأتي والتر من الخارج متحفزا لمناقشة مشروع متجر المشروبات الكحولية، بينما تركز الأم على الحديث معه حول حمل روث وشكوكها بشأنه، ولما لا ينصت لها تدخل روث غرفتهما غاضبة. فتكرر له الأم رفضها القاطع لاستثمار أي جزء من الشيك في متجر للمشروبات الكحولية. فيكون رد فعله الغضب والإحباط ومنولوج طويل يتحدث فيه عن ضيقه من فقره، وخجله من وضعه كسائق، وانعدام فرص الحراك الاجتماعي أمامه، وعبء الأحلام المؤجلة المبهظ عليه. لكن ما يزعج الأم هو أنه يربط المستقبل بالمال والتقدم المادي، بينما كان جيلها يطمح للحرية وانتهاء التمييز العنصري ضد السود. وتصر أمه على أن تبلغه بحمل زوجته وبأنها تشك في أنها تفكر في الإجهاض، وهو أمر يستبعده، لكن روث تبلغه حينما تخرج من الغرفة بأنها قد دفعت خمسة دولارات مقدم عملية الإجهاض بالفعل (وهي التي شاهدنا كيف أنها لم تعط ابنها نصف دولار في المشهد السابق).

بهذا الأمر تسدل ستارة الفصل الأول، وقد تعرفنا على كل الشخصيات، الغائبة منها والحاضرة، وعلى بذور الصراع المتعددة، وعلى أحلام شخصيات المسرحية المشروعة جميعها، والمتصارعة مع بعضها البعض إلى حد ما. فحلم الأم المرجأ منذ سنين في بيت تملكه، هو ما يدفع روث لليأس من تحقيق حلم مماثل، والاستعداد لإجهاض حملها الجديد، وقد عجزت، برغم عملها هي وزوجها معا، عن توفير غرفة لابنهما، ناهيك عن بيت مستقل لأسرتها. وحلم الأم الذي يوشك على التحقق لأنها تسلمت الشيك، تتنازعه رغبة والتر في الاستحواذ على قسم كبير منه كي يفتح متجره، وحلم بينيتا في الحصول على قسم آخر كي تدرس الطب. لذلك يبدأ الفصل الثاني، مساء اليوم نفسه، ببينيتا وقد خرجت من غرفتها مرتدية الثوب النيجيري الذي جلبه لها أساجاي، وعلى رأسها عمامة أفريقية ملونة، وهي ترقص في طقس إفريقي وثني. وحينما يصل والتر سكرانا يشاركها الرقص معلنا نفسه رمزا للحربة المشتعلة، تحدجه زوجته روث بارتياب وغضب. بعدها يصل جورج مورشيسون، يريد أن يصحب بينيتا إلى المسرح الذي دعاها له، فتنزع العمامة عن رأسها لنكتشف أنها قصت أغلب شعرها، وجعلته قصيرا ومتجعدا، وهو الأمر الذي يثير دهشة الجميع وغضب جورج، فتندلع في نقاش حاد معه حول الهوية الإفريقية وضرورة مقاومة استيعاب السود في الثقافة البيضاء.

وعندما تذهب بينيتا لتغيير ملابسها، يناقشه والتر في مشروع متجر المشروبات الكحولية لكن جورج لا يتحمس للمشروع باستعلاء، ويبدأ والتر في إظهار عدوانيته تجاهه، فيعامله جورج بترفع يقترب من الاحتقار، ثم ينصرف مع بينيتا. وتبدأ الخلافات بين والتر وروث في التعبير عن نفسها بسبب انفاقه القليل مما يكسبونه من المال في الشراب مع أناس من عينة «ويلي هاريس»، ولكنه ينحو لمصالحتها والاعتراف بالفجوة التي بدأت في التخلق بينهما. هنا تعود الأم من الخارج معلنة أنها دفعت قسما من نقود الشيك كمقدم لبيت جديد، دون أن تستشير بالطبع أي من أبنائها فهي تتصرف كأم سوداء تقليدية ترى نفسها الربة الفعلية للأسرة. وهو الأمر الذي يثير بهجة روث، فهي الأخرى تحلم بالانتقال من شقة المساكن الشعبية الخانقة. لكنه يثير حنق والتر الذي كان يريد الحصول على المبلغ كله لمشروع متجر المشروبات الكحولية. لكن ما أن تكشف الأم عن موقع البيت الذي دفعت مقدما له، بمنطقة كلايبورن بارك Clybourne Park وهي منطقة بيضاء كلية، حتى يعرب عن شكوكه في الأمر كله، فتقنعه الأم بأن ثمنه كان متهاودا وفي متناول ميزانيتها، لأن البيوت التي بنيت للسود في أطراف المدينة كان ثمنها ضعف ثمن هذا البيت، وهذا يؤكد أن خيارها خيارا اقتصاديا بحتا ولا علاقة له بأي رغبة في الانتقال لمنطقة بيضاء. وتزداد فرحة روث بالبيت حينما تعرف أنه في هذه المنطقة المتميزة برغم مخاوفها منها. لكن والتر يشعر بخيبة الأمل، وبأن أحلامه قد أُطيح بها، ويتهم امه بتحطيم أحلامه فيشعرها بالذنب، ويتركها وحدها في الصالة ويختفي في غرفته كي يسدل عليها الستار وحدها.

ويبدأ المشهد الثاني من الفصل الثاني في يوم جمعة بعد عدة أسابيع من المشهد السابق؛ وقد تحولت الشقة إلى مكان مليء بالصناديق التي عُبأت فيها أشياء الأسرة، تمهيدا للانتقال منها. يدخل جورج مع بينيتا بعد وقت أمضياه معا في الخارج، ويريد تقبيلها، لكنها ترفض ذلك وتريد أن تواصل معه النقاش حول وضع السود في أمريكا وما يعانونه من ظلم، وهو أمر يبدو أنه لا يشغله كثيرا، فكل ما يريده هو امرأة متعلمة وزوجة بسيطة فتطرده بينيتا من الشقة. هنا تدخل الأم وتسألها عن الأمر، فتخبرها أن جورج أحمق وجاهل، فتعلق بأنه غير جدير بها أن تبدد وقتها مع شخص مثله إذن، فتسر بينيتا بتأييد أمها لها. هنا تجيء السيدة جونسون ربة الأسرة التي تشاركهم دورة المياه في الممر. فتقدم الأم وروث لها الطعام والشراب، فتقبل وهي تخبرهما بأنها جاءت كي تقول لهما عن أسرة زنجية فجروا بيتها في منطقة مخصصة للبيض؛ وأنها تتوقع أن يحدث نفس الشيء لهم حينما ينتقلوا إلى كلايبورن بارك. وتكشف لغتها وعجزها عن الحديث بطريقة مهذبة، وطبيعة أفكارها عن أنها من السود المستوعبين كلية في أيديولوجيا الاستلاب، وخطاب الخضوع للبيض. بل تصل جلافتها إلى حد وصف أسرة ينجرز بأنهم حفنة من الملونين المعتزين بأنفسهم بلا مبرر، مستخدمة بعض آراء بوكر واشنطون Booker T. Washington وهو من النخبة السوداء التي تدعو لضرورة استيعاب السود كلية في المجتمع الأبيض، وعدم التمرد على موقعهم فيه، فكم أفسد التعليم في رأيه أيادٍ كان الأحرى بها أن تمسك المحراث. فترد عليها الأم بأن بوكر واشنطون أحمق جاهل فتغادر الشقة.

هنا يدق التليفون، فترد عليه روث التي يخبرها رئيس والتر بأن زوجها لم يجيء للعمل لليوم الثالث على التوالي. فيخبرهما والتر بأن هذا صحيح، وأنه ضائع، يهيم على وجهه طوال النهار، يبحث عن عمل مغاير في المزارع والمصانع البعيدة، عمل يلائم رجلا لا يريد أن يقوم بدور الخادم الذي لا يليق برجل كما كان يقول أبوه، ولكن بلا جدوى، فيشرب طوال الليل وهو يستمع لأغاني  «الجاز» السوداء التي تهدد الحلم بالخلاص، لأنه محبط ومقهور ويشعر بألا قيمة له، وأنه لا يستطيع أن ينهض بدوره كرب للعائلة، وأن وظيفته كسائق ليست إلا نوعا جديدا من العبودية. فتشعر أمه بالذنب نتيجة لتحكمها في كل شيء بما في ذلك المال الناتج عن بوليصة التأمين، وتخبره بأنها لم تفعل أبدا ما يضر أبناءها، وتقدم له المبلغ الباقي من شيك بوليصة التأمين (6500 دولار)؛ وتطلب منه أن يودع ثلاثة آلاف منها في البنك في الصباح من أجل الانفاق على تعليم أخته بينيتا، وأن يحتفظ لنفسه بالباقي (3500 دولار) لكي ينهض من هذا الوضع، وأن يتصرف بذلك على أنه قد أصبح بحق رجل العائلة، وهو الدور الذي يفترض أن يقوم به.

هنا يتغير والتر، ويصبح أكثر ثقة بالنفس وحيوية، ويحدث ابنه تريفيز عن أنه سيقوم باستثمار يجعلهم أثرياء، وعن مستقبل أفضل لهم جميعا يصبح فيه مثل مخدومه السيد أرنولد له مكتب وسكرتارية، ويملكون فيه بيتا وسيارة (وهما أبرز مفردات الحلم الأمريكي)، ويتمكن معه من أن يرسله إلى الجامعة عندما يكبر. على هذه الأحلام المؤجلة التي توشك على التحقق جميعا، يسدل الستار على المشهد الثاني من الفصل الثاني، وحينما يفتح على مشهد هذا الفصل الأخير بعد أسبوع صباح يوم الرحيل من الشقة إلى البيت الجديد تتبلور الأحلام الوشيكة، فتعرض الأم على بينيتا الستائر التي اشترتها للبيت الجديد، وتخبرها روث بأن أول ما تحلم بأن تفعله في البيت الجديد، هو أن تستحم في حمام بيتهم الخاص. وقد بدت عليها السعادة، وتخبرها بأن والتر قد تغير وأصبح رائعا، فقد أخذها للسينما في الليلة السابقة.

وسط هذا المناخ المشرق المترع باقتراب تحقق الأحلام المرجأة، يدق جرس الشقة، ويأتي أول أبيض إلى المشهد المسرحي، وهو «كارل ليندر» ممثل رابطة سكان كلايبورن بارك، يسأل عن لينا ينجر، فيخبره والتر بأنه يتولى الآن أمور أمه، ويطلب منه الدخول. ويبدأ ليندر حديثه بأن المشاكل عادة ما تبدأ حينما يخفق الناس في الحديث مع بعضهم البعض ومناقشتها قبل وقوعها. وأنه جاء كي يعرض على أسرة ينجر مبلغا أكبر من ذلك الذي دفعوه في البيت كي يتركوه، ولا ينتقلوا للمنطقة، حيث يرفضهم سكانها البيض، وسيسبب هذا الرفض لهم المشاكل؛ كما أن انتقال أسرة زنجية للعيش فيها سيخسف بقيمة منازلهم كلها، فهم من الطبقة العاملة البيضاء، وسوف يعصف انتقال أسرة سوداء للعيش بينهم بالحلم الأمريكي الذي حققوه بشراء بيوتهم في تلك المنطقة. ويغضب خذا الاقتراح والتر وروث وبينيتا، ولكنهم يسيطرون على غضبهم، ويرفضون جميعا عرض كارل ليندر، في نوع من قدرة الحلم على هزيمة العنصرية والتمييز ضد السود. ويطلب منه والتر بحزم مغادرة الشقة.

وحينما تعود الأم يخبروها بما جرى، فتؤيد موقفهم في رفض عرض كارل ليندر، هنا يفاجئونها بهدايا عبارة عن أدوات للعمل في الحديقة التي تحلم بها، وتؤثر عليها تلك اللمسة، فهي لم تعتد على تلقي أي هدايا إلا في أعياد الكريسماس. وبينما تستمتع الأسرة بهذا الوفاق، قبيل الانتقال إلى بيتهم الجديد، يدق جرس باب الشقة مرة أخرى، لنجد «بوبو» أحد أصدقاء والتر، وشريكه المحتمل في  مشروع متجر المشروبات الكحولية، وقد جاء ليخبره بأن «ويلي هاريس» قد فر بكل النقود التي دفعها له والتر من أجل المتجر. هنا تكتشف الأسرة أن والتر لم يضيع فقط ما قدمته له أمه (3500 دولار) في تلك الصفقة الخاطئة التي رفضتها الأم من البداية؛ ولكنه ضيع أيضا الثلاثة آلاف دولار التي طلبت منه إيداعها في البنك لتوفير مصاريف تعليم بينيتا، فاستثمرها أيضا في مشروعه الوهمي الخاسر. هنا تثور الأم وتبدأ في ضرب والتر، فقد ضيع في يوم واحد ثمار عمل أبيه الشاق لعمر بأكمله، وكأنه قد قتل أباه للتو بهذا الفعل، وتلك الخديعة التي بدد بها حق بينيتا أيضا. لكن بينيتا تفرق بينهما، فتنهار الأم وهي تنعي كل العمل الشاق الذي بذله الأب كي يوفر لهم مثل هذه الفرصة النادرة. ثم تأخذ في الصلاة كي يمنحها الرب القوة على تحمل ما جرى. وهنا يسدل الستار على آخر مشاهد الفصل الثاني.

ويبدأ الفصل الثالث والأخير، والذي يتكون من مشهد واحد بعد ساعة من نهاية الفصل السابق، بوالتر مهموما يفكر في مخرج، ثم يفد أساجاي كي يساعدهم في عملية النقل، فتخبره بينيتا أن النقود التي كانت ستمكنها من دراسة الطب قد ضاعت. وتكشف للمرة الأولى عن أن رغبتها في هذه الدراسة تختلف كلية عن نزواتها في تعلم الجيتار أو ركوب الخيل، لأنها نابعة من خبرة قديمة بكيف يبهظ المرض أرواح الفقراء، وبرغبة حقيقية في انقاذهم من براثنه. ويصيبها الغم والكدر لتبدد حلمها في شفاء هذا المجتمع المريض، أو التغلب على البؤس الإنساني. لكن أساجاي يوبخها على تخليها عن حلمها ومثاليتها وعلى شدة ارتباطها بالنقود التي ضاعت. ويحدثها عن حلمه بأن تعود معه إلى نيجيريا، وأن تعالج الفقراء هناك، وأن يعملا معا على تغيير الوضع فيها. ويؤكد لها أنها سوف تشعر أنها تعود إلى جذورها وأنها لم تغادر أفريقيا إلا منذ وقت قصير، في نوع من تجسيد لفكرة أن السود لا تحقق لهم إلا بالعودة إلى أصولهم في القارة الأفريقية. ويتركها كي تفكر في الأمر وقد أخرجها من أحبولة اليأس الذي وضعها فيه تبديد والتر لحصتها من المال.

ووسط منولوجها التهكمي الطويل الذي يكشف لنا عن أثر ما فعله والتر عليها، يخرج والتر من غرفته، ويغادر الشقة، بينما تخرج الأم هي الأخرى من غرفتها لتعلن أنهم لن ينتقلوا للبيت الجديد، فتعترض روث. هنا يعود والتر معلنا أنه قد دعا كارل ليندر وأنه قرر أن يقبل عرضه ويأخذ منه المال  كيلا ينتقلوا للبيت الجديد. فيعترض الجميع على اقتراحه الذي يهين كرامتهم، ويحرمهم من الانتقال لبيت حلموا به لمجرد عنصرية الآخرين ضدهم. ويثير هذا الأمر غضب والتر الذي يبدأ في تقليد دور العبد الأسود، فتعلق الأم بأنه قد مات من الداخل. أما بينيتا فإنها تتبرأ منه كأخ، لكن أمها تطلب منها ألا تتخلى عنه، وأن تحبه كأخ، خاصة وقد أنهار من الداخل.

هنا يصل كل من كارل ليندر وعمال شركة نقل الأثاث للبيت الجديد. فتطلب الأم من والتر أن يتعامل مع ليندر أولا، وأن يتم الأمر كله أمام ابنه تريفز كي يتعلم، ويفهم ما يدور، كما تعلمت أنت مما فعله بك ويلي هاريس. ويفرد ليندر العقد الذي جاء به كي يوقع عليه والتر، ويبدأ والتر في التردد، ويأخذ هذا التردد في التعبير عن نفسه من خلال تغير لغة حواره معه. إذ يتحدث عن أنهم أناس يعتزون بكرامتهم وكبرائهم، وأنهم قد عملوا بإخلاص على تحقيق حلمهم، وأنهم اشتروا هذا البيت من لحم أبيه الحيّ؛ ويرفض التوقيع على العقد وأخذ النقود، ويخبره بأنهم سينتقلون إلى بيتهم الجديد. فيطلب ليندر من الأم أن تتدخل لتقنع ابنها، لكن الأم تخبره بأن الرأي رأي والتر، وكأنها تريد أن تساهم في بعث الرجل الذي مات بداخله. ويغادر ليندر الشقة وقد رفض والتر التوقيع على العقد أو أخذ أمواله. بينما تواصل الأسرة حزم بقية الحقائب والاستعداد للانتقال، وتدعوا عمال النقل لأخذ الأثاث، بينما تخبر الأم روث أن والتر قد استرد رجولته حينما قرر مواجهة ليندر، فتوافق روث وهي تشعر بالفخر بزوجها، ويغادر أفراد الأسرة المشهد متجهين إلى بيتهم الجديد، إلى الحلم الذي لا يعني تحققه نهاية الصعاب، بل ربما بداية صعاب من نوع جديد. ويسدل الستار على تلك النهاية شبه المفتوحة، أو المشرعة دوما على الحلم.

البنية المحكمة ومركزية البيت والحلم:
هذه هي أحداث المسرحية، وقد أردت أن أسردها بالتفصيل لسببين: أولهما أنها غير معروفة للقارئ العربي، ولم تترجم بعد فيما أعلم، وثانيهما لأكشف عن مدى ثرائها الدرامي، وغناها بالمواقف والمشاعر والشخصيات، بصورة تؤكد جدارتها بضرورة أن نحتفي بها، أكثر مما احتفينا في الماضي بجون أوزبورن. حيث تتميز ببنية منسوجة من شبكة معقدة من الاستشرافات والتوقعات المرجأة، وقادرة على بلورة دراما حقيقية تتغير بها الشخصيات وتُمتحَن فيها معادنهم. فنحن بإزاء مسرحية واعية بأهمية البناء المسرحي، لا تترك شيئا للصدفة، تهتم بالكشف عن الشخصيات وبتنمية الحدث وتصاعده، وتحرص على بث بذور كل حدث بعفوية في المشهد السابق عليه. فقراءة والتر لخبر انفجار قنبلة في جريدة الصباح في مفتتح المسرحية، يمهد لما سيدور في الشقة من انفجارات وشيكة عقب الإشارة للشيك المرتقب؛ كما أن الإغماء على روث في نهاية المشهد الأول من الفصل الأول، يمهد للكشف عن أنها حامل في الفصل التالي؛ كما أن زلة لسانها والحديث عن الدكتورة بدلا من الدكتور حينما تؤكد للأم حملها، تثير شكوك الأم في أنها تفكر جديا في الإجهاض؛ كما أن وفود جارتهم السيدة جونسون في المشهد الثاني من الفصل الثاني وسخريتها من تطلعهم للحياة في منطقة أفضل، يمهد لوفود كارل ليندر ممثل رابطة سكان كلايبورن بارك في الفصل التالي .. وهكذا.

وبرغم أن المسرحية تدور كلية في شقة الأسرة الضيقة، كما هي الحال في الكثير من المسرحيات الواقعية التي تتركز حول المطبخ Kitchen sink drama، مركز تجمع الأسرة التقليدي، والذي يتيح الالتزام بوحدة المكان الأرسطية؛ فإنها في الوقت نفسه تنفتح على العالم الخارجي الغائب الحاضر فيها دوما؛ سواء أكان عالم التمييز العنصري ضد السود في أميركا، أو عالم القهر الاستعماري للسود في أفريقيا على السواء. وتستشرف بذلك الكثير مما سيحدث بعد رحيل كاتبتها بسنوات قليلة، سواء في حركة الحقوق المدنية الزنجية التي قادها مارتن لوثر كنج، أو في تحرر القارة الأفريقية من الاستعمار التقليدي. كما أنها تعي أهمية بنيتها الدرامية، ولا تستسلم لإغراءات الوقوع في تفاصيل قد تكون مشوقة، مثل كيف هرب «ويلي هاريس» بالنقود، بل إنه ما أن يسأل والتر بوبو الذي جاء يخبره بالأمر عن ذلك، حتى يكون الرد حازما ومقتضبا: «حينما تسرق القطة طعامك، فإنها لا تترك لك خارطة طريق». لأن ما يهمها هو وقع هذا كله على شخصية والتر، وعلى الأسرة من ورائه، وكيف يساعد الأمر كله على سبر أغوار الشخصيات والكشف عن تناقضاتها.

وقد اختارت المسرحية أن تموقع أحداثها في زمنها، زمن تنامي تحقق الحلم الأمريكي للبيض عقب الحرب العالمية الثانية، وحرمان السود من هذا الحلم بل ومحابة من يحلمون منهم به، وإن بدأ الحراك الاجتماعي الذي وفره التعليم للسود، وتعد بينيتا أبرز تجلياته، يسفر عن نفسه في البدايات الجنينية الأولى لحركه الحقوق المدنية، وتحريم الإعدام الغوغائي للسود والمعروف باسم Lynching، واهتمام بعضهم بأصولهم الأفريقية وغير ذلك من البدايات التي نجد أطيافها الباكرة في المسرحية. وقد بدأ السود في الضيق بالقيام بدور العبد أو الخادم القديم بعد الانتهاء الرسمي للعبودية، كما تكشف الأم عن مدى وعي الأب الراحل بأنه دور لا يليق بالإنسان، ورفضه له، وهو الأمر الذي يكرره ابنه والتر أكثر من مرة، بل يتنامى به الأمر إلى حد رفضه له، وعدم الذهاب للعمل كسائق/ وهو دور الخادم إلى حد ما، حيث يربطه في إحدى حواراته بعبودية السود القديمة. ومع أن زوجته روث، لا تعرب عن رفضها لهذا الدور القديم الذي يرفضه حموها ثم زوجها من بعده، فإن تفكيرها في الإجهاض يشي هو الآخر بأنها غير سعيدة بوضعها الراهن، ناهيك عن أنها أكثر شخصيات المسرحية ابتهاجا بالانتقال من الشقة الخانقة.

ولم تفلت المسرحية من سياقاتها، فقد كان الوعي الأمريكي بعد الحرب العالمية الثانية وعيا ماديا خالصا، يربط الحلم الأمريكي بالملكية، ويربط الملكية ومازال بالتحقق والسعادة. فامتلاك بيت كان ومازال هو حجر الأساس في هذا الحلم الأمريكي. لأن الثقافة الأمريكية البيضاء تمد جذورها في الثقافة الانجليزية التي ترى أن «بيت الرجل الانجليزي هو قلعته»، ولايزال امتلاك بيت هو غاية كل أسرة فيها، وهو شارة تحققها معا. لذلك نجد أن الحلم بالبيت هو أبرز الأحلام، لأن البيت أيضا هو الذي يوحد العائلة ويحميها. وبالإضافة إلى موضوع البيت كحلم وكاستعارة لوحدة الأسرة وتماسكها، نجد أن الحلم المشروع بحياة أفضل وبالتقدم هو الموضوع الرئيسي الآخر للمسرحية، فالأحلام لا تذوي وتجف كحبة عنب في الشمس، كما تقول لنا الإحالة التناصية الواضحة في العنوان. بل إن ما يتعرض له حلم والتر من تحولات وتخثرات يجعله تجسيدا لمختلف احتمالات ما يدور للأحلام المرجأة في قصيدة لانجستون هيوز الشهيرة.

فالمسرحية مشغولة أيضا بكيفية التعامل مع الاضطهاد الأبيض والتمييز العنصري ضد السود، وكيف أن حياتهم مشدودة بين قطبي رحى الركون إلى دور هامشي في مجتمعهم، رغم شعارات هذا المجتمع عن المساواة، وتحرير العبيد، أو التمرد على هذا الدور ودفع ثمن باهظ لهذا التمرد تتركه المسرحية كنهاية مفتوحة لتحدي الأسرة لأعراف العزل العنصري، وتخصيص أحياء للسود وأخرى للبيض. لذلك فإن بلوغ والتر مرحلة النضج وتحقيق رجولته في المسرحية لا ينفصل عن مواجهته لهذا التمييز واستعداده لتحمل تبعات تلك المواجهة. لأن مواجهة هذا التمييز العنصري كما تقول لنا المسرحية لا تنفصل بأي حال من الأحوال عن رؤية السود لأنفسهم، واعتزازهم بكرامتهم وكبريائهم، وارتفاعهم فوق كل ما تنطوي عليه تلك العنصرية من تصورات مغلوطة عنهم وعن جدارتهم بالمساواة والحرية. فهذه هي الخطوة الأولى كما تؤكد لنا المسرحية صوب تحقيق أي من الأحلام المشروعة.

الأحلام المرجأة والشخصيات الثرية والإشكالية:
والواقع أن الأحلام المرجأة كما يشير العنوان هي موضوع المسرحية الرئيسي، وما البيت إلا أحد هذه الأحلام المرجأة من الجيل الأول الذي تمثله الأم، وكان من الضروري فيما يبدو أن يدفع الأب حياته ثمنا لتحققه. ولأنه حلم مرجأ منذ جيل بأكمله يوشك أن يشيخ قبل أن يستطيع تحقيقه فإنه أول ما تعمل الأم على تحقيقه فور استلامها للشيك وصرفها له. وهو لذلك الحلم الوحيد الذي يتحقق، برغم ما يحيط به من شكوك وما يقف في طريقه، حتى بعد تحققه من عقبات عنصرية نعرف أنها لم تنته، حتى بعد نصف قرن من عرض المسرحية، وبعد وصول أول أمريكي أسود إلى قمة السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية. والبيت، حجر الزاوية في الحلم الأمريكي كما ذكرت، هو حلم الجيل الأول من بين أجيال المسرحية الثلاثة، وهو حلم الجيل الثاني أيضا حيث يقول والتر لابنه وقد احس بأنه اقترب من تحقيق حلمه بعمل تجاري مستقل يدر عليه ما يكفي من مال، أنه سيكون لهم بيت وسيارة، وأنه سيرسله للجامعة.

فالحلم بالبيت حلم يشمل أفراد الأسرة جميعا، ويأخذ احتياجاتها من أكبرها، الأم حتى أصغرها، الحفيد تريفيز، في الحسبان. لأن الجدة تريد بيتا له حديقة كي تنمّي فيها زرعتها الوحيدة التي لا تحصل على قسط وافر من الشمس في نافذة الشقة الوحيدة، وباحة خلفية كي يلعب فيها تريفيز بدلا من لعبه في الشارع، وهو الخيار الوحيد المتاح له في حاضره الذي لا يتوفر له فيه حتى غرفة خاصة يعيش فيها، ناهيك عن باحة مفتوحة للعب. وهو في المحل الأول حلم الجيل الأول من أجيال المسرحية الثلاثة. الحلم الذي شاركت فيه الأم زوجها لسنوات، ثم شارك هو بموته وبوليصة التأمين على حياته في تحقيقه. لكنها كأم، وبكل ما تتمتع به من حزم ووعي بأنها تقود أسرتها الصغيرة، تضع تلك الأسرة في المكان الأول من اهتماماتها. وتضع كبرياءها وكبرياء كل أفراد أسرتها فوق كل اعتبار. لذلك فإنها لن تساوم أبدا على قيمها وعلى كبرياء أسرتها، بل إنها على استعداد لأن تؤجل حلمها من جديد كي ينهض ابنها من موته الداخلي الذي عاناه بعدما فقد بقية مال الأسرة، واتصل بليندر يريد أن يقبل عرضه المهين. كما أنها تردع ابنتها حينما تتبرأ من أخيها، وتطالبها بأن تقف بجانبه في محنته. فالأم بذلك من أكثر شخصيات المسرحية ثقة بالنفس وتماسكا. تستمد تلك الثقة من مستودع القيم المسيحية التي تؤمن بها، والتي تضع الحفاظ على التماسك الأسري على رأس أولوياتها.

فالأم بحق ربة هذه الأسرة القوية، ونموذج المرأة السوداء التقليدية في هذا الجيل الذي وجد في الدين خلاصه من أدواء العنصرية، وقدم له البوصلة القيمية والأخلاقية التي تعزز سلامه الداخلي في مجتمع يحرم السود من أبسط حقوقهم. وهي كأم زنجية تتسم بالقوة وإحساس قوي بالمسؤولية والثقة بالنفس، وبقدر من السلطة المطلقة التي لا تتورع معها من أن تصفع أبنتها حينما تكفر بالله، أو ابنها حينما يخون الأمانة. لكنها كأم أيضا تشعر بالفخر لصعود ابنتها الثقافي وطموحاتها، وإن كانت تقف بصرامة ضدها حينما يصل الأمر إلى حد التجديف بالله، أو الاستخفاف به. لذلك ترفض مشروع والتر على أسس دينية بحتة. فهي على العكس من والتر لا تعتبر المال غاية، وإنما وسيلة لتحقيق أحلام عادلة ومشروعة. كما استطاعت برغم الصعاب تحقيق حلمها الأكبر بأي يصبح أبنائها أناسا لهم قيمة.

أما والتر فهو بطل المسرحية Protagonist ونقيضه المضاد Antagonist في الوقت نفسه. وهو أكثر الشخصيات التي ينتابها التبدل والتحول. هو ابن التفكير المادي الأمريكي السائد الذي تستحوذ عليه غوايته إلى حد العمى عن رؤية الكثير من الجوانب الأخرى. وهو أيضا ابن المأزق الذي تضعه فيه وظيفته، كسائق خاص لشخص أبيض، والتي لا تتيح له أي أمل في التغيير. وهو يشارك الأم في ضرورة تحسين وضع الأسرة، ولكنه يؤمن بأن النقود وحدها ستحل مشاكله ومشاكل العائلة معه، ولكنه لا يستطيع التعامل معها بحكمة، ويفتقر إلى الخبرة التي تمكنه من المحافظة عليها. ويظهر ذلك من البداية حينما يعطي ابنه الدولار الوحيد الذي كان مخصصا لتذكرة الذهاب لعمله، ثم يضطر حانقا لطلب دولار بدلا منه من زوجته. ولا غرو فلم تتح له سوى القيام بوظيفة تعد من التجليات الجديدة لاستمرار عبودية السود، ولم تساهم في صقل شخصيته أو تعميق خبرته بالحياة، مما أتاح لويلي هاريس خداعه؛ وهو الأمر الذي نعرف قرب نهاية المسرحية أنه لن يدعه يمر، وسوف يسعى لاستعادة حقه. فهو رغم سخطه على وضعه المذري إنسان طيب رغم اندفاعاته التي تتجلى في أكثر من موقف في المسرحية، ومنها استدعاءه لليندر لقبول عرضه، ثم تراجعه عن ذلك حينما طلبت منه أمه أن يدير أمره أمام ابنه كي يفهم ما يقوم به أبوه. ورغم خلافاته المستمرة مع شقيقته بينيتا التي تضعها ثقافتها وتعليمها واهتماماتها العامة في مستوى أعلى من مستواه. والواقع أن التحولات التي تنتاب شخصيته أثناء المسرحية، وما جرى له فيها هي نوع من طقس العبور a rite of passage إلى الرجولة الحقيقية.

أما بينيتا فإنها أكثر الشخصيات سحرا وإشكالية معا، وهي مرآة للكاتبة وأفكارها ومطامحها إلى حد ما. شابه مترعة بالطموح، ممتلئة بالثقة بنفسها ورؤاها الجديدة، رفعتها الثقافة درجات فوق رؤية أسرتها وتفكيرها، ولكنها لم تفصلها عنهم. تريد أن تجرب كل شيء، وتستمتع بأخذ دروس في التمثيل وركوب الخيل والعزف على الجيتار وغيرها مما كان قاصرا على الطبقة الوسطى البيضاء وحدها في ذلك الوقت. إنها ترفض الحدود المفروضة على أبناء جنسها من السود، وهذا ما تجسده رغبتها في أن تصبح طبيبة في سياق كانت فيه هذه الرغبة حلما عصيّا بالنسبة لامرأة بيضاء، ناهيك عن امرأة سوداء. لذلك نجد أن إطلاق أساجاي اسم Alaiyo عليها، وهي كلمة أفريقية تعني المرأة التي لا تكتفي بالخبز/ الطعام وحده، تسمية بارعة، فهي تدرك بحق أنه ليس بالخبر وحده يحيا الإنسان كما يقول السيد المسيح برغم تجديفها به.

وهي إلى جانب رفضها للتمييز العنصري ضد السود ترفض أيضا التمييز الذكوري ضد المرأة، بصورة يمكن اعتبارها معها من رواد ما سيعرف فيما بعد بالحركة النسوية Feminism والتي لم تكن قد انبثقت في أمريكا بعد عند كتابة هذه المسرحية، وكيف أنها كشفت عن أن المرأة السوداء تعاني من تمييز مزدوج بسبب لونها وكونها امرأة معا. فقد انفتح أمامها العالم على احتمالات الحصول على ما يحصل عليه البيض، وعلى دراسة الطب، وعلى أفريقيا والعالم الأوسع من وراء هذا كله، على العكس من بقية نساء المسرحية، الأم وروث، اللذين يتمحور عالمهما حول المطبخ والأسرة. فهي ترفض الاستيعاب في المنظومة البيضاء المهيمنة على الواقع الأمريكي برمته، وترفض معها الزوج الغني الأسود المستوعب/ المستلب والذي يريد استيعابها في بنية المجتمع وأيديولوجيته البيضاء التي على السود التحرك وفق سياقاتها. صحيح أنها كشخصية إشكالية تسحرها احتمالات العودة إلى الجذور الأفريقية، وتتخلى عن شيء من نسويتها باحتمالات قبولها للزواج من أساجاي وانتقالها لأفريقيا، لكنها تظل حتى النهاية واحدة من الشخصيات التي تثير الكثير من الرؤى والأفكار.

وتقع روث في المسافة الممتدة بين الأم وبينيتا من حيث الجيل والنقلة العمرية في التغيير. فهي تمارس كزوجها عملا من أعمال الخدم/ العبودية القديمة التي لايزال يمارسها السود بعد عقود من تحررهم من العبودية، وتدرك صعوبة وضعهم الاقتصادي، مما يجعلها تتردد في المجيء بطفل جديد لأسرة لم تستطع أن توفر لابنها الأول حجرة ينام فيها. وبرغم حبها لزوجها والتزامها بدورها في رعايته وإعداد الإفطار له منذ المشهد الأول، إلا أنها تضيق بكثير من تصرفاته، ولا تشعر بالانسجام الكامل معه إلا في لحظات تحققه النادرة. وهي الوحيدة بين شخصيات المسرحية التي تحمل اسما توراتيا للزوجة الوفية الصابرة، وهي بالفعل كذلك بالرغم من رذالة والتر وتماديه في السكر واندفاعاته غير المحسوبة.

وإلى جانب هذه الشخصيات الأساسية، بما فيهم الصبي تريفيز ابن والتر وروث، والذي يلعب دورا واضحا في دوافع الحدث وحركيته، هناك الشخصية الثانوية الوحيدة البيضاء، كارل ليندر، وهي كما رأينا شخصية تجلب إلى ساحة المسرحية كل تحيزات البيض الكريهة ضد مواطنيهم من السود في الولايات المتحدة الأمريكية. وتساهم في أن تقلب المسرحية البنية الدرامية السائدة التي يلعب فيها الأسود دورا ثانويا، وغير إيجابي عادة، في مسرحية كل شخصياتها الإيجابية الجديرة بتعاطف المشاهد وتماهيه معها من البيض. لتجعلنا بإزاء بنية بديلة لمسرحية كل شخصياتها المفعمة بالإنسانية سوداء، وشخصيتها السلبية أحادية البعد بيضاء. صحيح أن هناك شخصية سلبية أخرى هي ويلي هاريس، قد تكون سوداء وقد تكون بيضاء، ولكنها غائبة لا تظهر أبدا على المسرح. فالمسرحية تعي دور الشخصيات الغائبة في اللعبة الدرامية. وهو الدور الذي تجسده شخصية ويلي هاريس التي نسمع عنها أكثر من مرة، حيث يطلب والتر بالتليفون يستعجل حصوله على المال مرة، ثم يجيء بوبو ليخبر والتر بما فعله أخرى. وهناك غائب حاضر آخر هو والتر الأب، الذي تريد الأم أن يرقى أبنها لمستوى رجولته وحرصه على مسؤولية أسرته، بالرغم من اعترافها بأنه لم يكن شخصا كاملا. فقد كانت «دماغه ناشفه وبتاع نسوان، كان فيه حاجات غلط كثيرة» كما تقول لنا، ولكننا نعرف أكثر عن إيجابياته وعن حرصه على أن يوفر أفضل مستقبل ممكن لعائلته، وعن رغبة الأم في أن يرقى ابنها إلى مستواه.

بعد أن طال تريثنا عند مسرحية لورين هانزبيري الأولى والتي وضعت اسمها بقوة على خريطة المسرح الأمريكي المعاصر علينا أن ننتقل إلى مسرحيتها الأخيرة (البيض) والتي شاهدت عرضا مثيرا للاهتمام والتفكير لها على خشبة المسرح القومي الانجليزي هذا الشهر كما ذكرت، وهو ما سنواصله في العدد القادم من (الكلمة)