يرى الناقد المصري أن هذا الديوان ‮ ‬يحمل‮ ‬تجربة خاصة تجمع بين‮ ‬الواقعي والمتخيل،‮ ‬وفيه أيضا نقد وانتقاد لأشكال السلوك‮ ‬غير الإنسانية، ومواجهة لكل أشكال القبح التي أسهمت في تحويل حياة الإنسان إلي دكان للخردة،‮ ‬ ‬لكن الديوان عبر صوره وأبنيته‮ ‬يتشوف نماذج البشر الحقيقيين الذين‮ ‬يحلمون ويبدعون‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

التحليق بلا أجنحة في فضاءات المفارقة

‬شاكر عبد الحميد

غالبا ما تكون قصيدة مسعود شومان مركبة حيث تتراكب من طبقات وراء طبقات، عناصرها المعني والمشاهد والخبرات والصور والذكريات والرموز، وقصائده غالبا ما تكون أيضا عبارة عن محاولات متميزة لتشكيل عالم خصب مترع بعدد من المستويات المتفاعلة والمتشابكة حيث تتحاور وتتداخل في بنيتها الدلالات والإشارات والصور والرموز.

هنا في ديوانه الجديد:" دكان للخردة" يراكم شومان مشروعه الشعري الذي بدأه في دواوينه السابقة، خاصة المجموعة الأخيرة منها التي يمثل فيها كل ديوان/ قصيدة ؛ قصيدة واحدة تتنامي وتتفرع وتتشابك وتتعقد لكنها تظل تحمل تجربة واحدة ممتدة في الكتابة والحياة، هكذا نجد هنا القصيدة / الديوان أو الديوان / القصيدة وتمثيلا لا حصرا، قام مسعود شومان بذلك في دواوين: "ما تقفش عند بداية الحواديت(2011)- "بس مين يفهم" (2012) و"اكتبوا تحت الضلام بكرة" (2014)، و"دكان للخردة" (2016) موضوع الدراسة، وهو ديوان جديد يحمل  تجربة خاصة تجمع بين الذاتي والموضوعي، الواقعي والمتخيل، وفيه أيضا نقد وانتقاد لأشكال السلوك غير السوية وغير الاخلاقية وغير الإنسانية ومواجهة لكل أشكال القبح التي أسهمت في تحويل حياة الإنسان وواقعه ووجدانه وعالمه إلي دكان للخردة، دكان للنفايات، للبواقي، للمهملات من الأشياء والذكريات والأحلام والأمنيات، دكان قديم لأشياء قديمة تنافي قيم الخير والحق والعدل والجمال، لكن الديوان عبر صوره وأبنيته يتشوف العالم في قلب الخردة القديمة ونري فيه تلك  الطيور التي توشك علي التحليق  والكنوز المخفية تحت التراب، ونعاين نماذج البشر الحقيقيين الذين يحلمون ويبدعون.

فالديوان حافل برمزيات خاصة ومهمة في الديوان مثل رمزية الطائر والطيور والأشجار والأشياء المقطوعة (عود ـ ربابة ـ إيدين ـ طائر بلا جناح... إلخ) وهي إشارات لكل حالات عدم الاكتمال وعدم الوصول إلي حالة الرَّي والشبع، وكذلك الحضور الطاغي للحزن والتعاسة والموت والغياب والفقد.

"اكتبهم علي جسمك وسيبهم يحفروا قبورهم ويعلقوا علي الشواهد كل عمايلهم لو يقدروا... واكتب علي قبرك "إنا لله وإنا اليه راجعون.. وما تصدقش جناحاتهم وهي بتطير في الهواء ومعاها يافطة عريضة "خونوا تصحوا"

هكذا يكتب مسعود شومان عن الكتابة والدم والخيانة والادعاء، خيانة الأوطان وكتابة الشعارات التي لا تكون بالنسبة للبعض سوي وسيلة لخداع الآخرين ويكشف هذا النوع من الكذب، حيث الوطنية أشبه بـ "دكان" وعلي رفوف الدكان "جثث من كل نوع وجنبها الأكفان" في هذا الدكان أيضا "لكل هيكل هيكل سعر ولكل قاتل نيشان".

 في ذلك الوضع العبثي يتحول العالم /الوطن إلي لوحة؛ لوحة لا تكتمل إلا بالدم والدموع والأحزان، وفيها يكون لكل لون حالة، ولكل حالة معناها، ولكل معني رمزه، ولكل رمز دلالته، ولكل دلالة إشارة، ولكل اشارة نموذجه المتمثل في شخص أو مجموعة من الممارسات والأشخاص، هكذا نعاين تلك الدائرة السوداء التي تحدد الألوان: "الأخضر المحروق، والأصفر الباهت والأحمر السايل والأبيض المجروح والأزرق الزاهي، بيواصل الدوبان".

نعم نحن أمام قصيدة واحدة / ديوان ؛ والديوان أشبه بملحمة تصور حياة المصريين الآن، تصور هذا التداخل وهذا الغموض وهذه الحيرة والشك وفقدان اليقين النسبي الذي أدركه الشاعر وشعر به وهو يراقب الواقع في مصر خلال السنوات الأخيرة ويراقب تحولات البشر والأصوات والأشياء والعلاقات وهكذا نجد كتابات بالخط الأسود الداكن وأخري بخطوط عادية وهي تكشف عن مفارقات بين ذات تركز علي ذاتها وعلي باطنها ثم علي علاقاتها بالعالم الذي يقع خارجها وينعكس داخلها وهي ترصده وتتخذ منه موقفا، وتعلق عليه في وحدتها الشديدة. " لكل بُق فريسة ولكل طير سماه ولكل قاتل خنجره ولكل عصفور غناه ولكل عقل جنانه ولكل بحر شطوط وانا ما ليس غيري.. قاعد وباكتب اللي يقدر عليّ.. مرة حكاية جريحة ومرة أغنية.. ما عرفش رايحه لفين.. أو ها تركب إيه... واللي أعرفه بصمتي بالحرف..

تأملات حول الابداع والكتابة

هكذا يري الشاعر أن كلا مقدر لما يعرفه، كل له قدره ومصيره، للفرائس أفواه تلتهمها، وللطيور سماواتها التي تحلق فيها، وللقتلة خناجرهم التي يرتكبون جرائمهم بها، وللعقول شطحاتها وهذياناتها وللبحور شطآنها، لكنه ودون كل المخلوقات ليس له سوي نفسه، ليس له من أحد، ليس له سوي كتابته، سوي حروفه ذات البصمة المميزة لها وله، وأنه يكتب ما يقدر عليه وما يقدر له، أحيانا يكتب حكايات جريحة وأحياناً أغنيات، لكنه وفي الأحوال كلها لا يعرف إلي أين ستذهب كتاباته، رغم معرفته بقيمتها دون شك، ويعرف أيضا أن له بصمته الخاصة التي يحاول وضعها علي كل كتاباته. ويتفاوت مستوي هذه الكتابات، يتفاوت مستوي رضاه عنها أيضا، لكنها في الأحوال كلها، كتاباته، بصمته، أسلوبه، طريقه وطريقته، عالمه وغاية متعته، سواء كانت هذه الكتابات ذات بناء هشٍ من وجهة نظره، أو كانت شطحة جنون هائجة طائشة، أو جنين ولد  بلا عينين "تطلع بُنا هايش.. تطلع جنون طايش... تطلع جنين من غير عينين.. تطلع ما تطلع... الحسبة مش كيميا.. ومش فرس ماشي ما لوش لجام ومش مرجيحة بين الصمت والمزيكا.. ومش ومش.. يمكن ورق طاير في صحرا أو زهرة برية في جناين المشمش".

هنا رصد وتأمل ومعاناة حول الإبداع ومع الإبداع، كيف يكون الشاعر خلال الإبداع؟ كيف تكون هنا قصيدته وكتابته؟ هل يخبرنا مسعود شومان في هذه القصيدة أن المهم هو الكتابة وأن علي الشاعر أن يكتب بصدق ما يعانيه ويشعر به ويدركه ويتصوره؟ وإنه ليس عليه إدراك النجاح أو الإنجاز البارع في كل مرة، عليه أن يكتب سواء كانت قصيدته أشبه بالبناء الهش أو أقرب إلي الجنون الجامح، أو أقرب إلي الجنين غير المتكمل (من غير عنين) ستكون القصيدة كما مقدر لها أن تكون، المهم أن تكون، وليست هناك من حسابات دقيقة ولا معادلات متقنة، ليست الكتابة كيمياء تنعزل فيها الذات عن مشاعرها وإحباطاتها ضمن تفاعلات الحروف والأصوات والموسيقي والصور وليست القصيدة أيضا فرساً هائجاً جامحا برياً يسير بلا هدي ولا غاية ولا طريق، ليست القصيدة أرجوحة يتحكم الشاعر في حركتها صعودًا أو هبوطًا ما بين الصوت والصمت، الحركة والسكون، ليست هي هذا أو ذلك، هل يريد أن يقدم لنا مفهوما لها عبر آلية النفي، قد تكون القصيدة أبسط من كل ما هو موجود في أذهاننا عنها وعن الشعر وعن الفن، قد تكون القصيدة متمثلة في مجموعة من الأوراق المتطايرة في الصحراء، أو في زهرة برية تنبت هنا أو هناك، موجودة داخل حدائق تكتب قصائدها الطبيعية الخاصة علي نحو يفوق جمالاً زهور الحدائق كلها.

هنا يكون الشاعر مع ذاته، مع نفسه، يكتب أسطورته الخاصة ويعبر عنها، يكون علي سجيته، وفي كامل حريته، بلا قيود أو سدود أو حدود، والقيود والحدود إنما تأتي من الآخرين، من تأملهم وتأمل أحوالهم والتفاعل معهم، من المعاناة وهو يرصد أكاذيبهم وتناقضاتهم وانتهازيتهم، في هذا العالم لابد للشاعر أن تكون له حساباته، لابد له أن يقدر خطواته ويدرك مسبقاً، ويفهم تلك الاخاديد والأحجار المنهارة التي يعاينها، فالحياة لن تكون دائما حرة وطبيعية وتلقائية وحميمية، كما هو حال الكتابة، بل ستكون محفوفة دوما بالأخاديد والأنهار المالحة والبرك العفنة وغيرها.

إن الشاعر عندما يدرك صورة العالم يتكشف له دوما غياب الاتزان أو "الاكتمال" أو الإنسجام في علاقاته لذا نراه يقول لنفسه، عُد إلي ذاتك، حاول أن تصغي إلي صوت الظلال أثناء صعود الشمس وأيضا "وخبّي قلبك من تعابين الشجر واشرب جروحك قبل ما ترعرع.. الحزن ممكن يفرُّغ.. سلم عليه بابتسامه.. وحدد مكانك".

هكذا يكون خروج الشاعر إلي العالم مثيراً لمشاعر الخوف والإحباط والتهيب والرهبة والحزن في كل مرة، ففي كل مرة يدرك أن العالم الذي يعيش ليس كما ينبغي له أن يكون، لذا عليه أن يطور أساليبه الخاصة في مواجهة هذا العالم الملئ بالكذب والعفن والخداع، العالم الذي يجلب له له الأحزان والدموع والجروح، هكذا عليه أن يخبأ قلبه من ثعابين الشجر وأيضا عليه أن يشرب الدماء التي تسيل من جروحه "قبل ما ترعرع، وعليه أن يواجه الحزن قبل أن يمتد وينتشر ويهيمن "ويفرّع"، عليه أن يواجهه ويسلم عليه بابتسامة وأن يحدد مكانه وطريقه وهذا مثمر وغايته أن يعود إلي أرضه الثابتة إلي ذاته وكتابته أن يكتب كل ما يعن له ويرغب "كتبت بالطباشير ومسحت.. كتبتها وارتحت"

وهو في كتابته، في عالمه الخاص يخلق من ذاته قرينا له، وهكذا تكون الأنا الشاعرة موجودة في حالتين؛ إحداهما تكتب والأخري تعلق علي الكتابة وتتساءل عنها "كتبت ايه يا عم يا شاعر" والشاعر يجيب "كتبت من ظلمة وفَتَّحت.. وجريت وراء الغيمة بقلب جسور.. مسكتها من شفايفها فسالت مطر واتلمت الطيور علي بعضها وغنت الرمله والغنم سَرَحِت ورا الراعي وصوته أرغوله بكاني"

من ظلمته يدخل الشاعر إلي النور ومن عتمته يخرج ويجري وراء الغيمات بقلب جسور "يمسك باحدي الغيمات "من شفايفها" وكأن الغيمة هنا امرأة وكأنه  يسقط رؤيته للعالم في تلك اللحظة عليها، وكأنه يريدها أن تكون إمرأة قادرة علي العطاء والحب، علي إنزال المطر، والغيمة قد تكون هي نفسها القصيدة، عالم الشاعر آثناء الكتابة حيث تتوالي علي عقله وخياله ووجدانه الصور والتراكيب، هكذا تتحول الغيمة إلي امرأة والمرأة إلي قصيدة والقصيدة تطل منها الصور والصور تعود إليه وتعود عليه وتحوله إلي كائن او إنسان حقيقي يعيش عوالمه الخصبة المترعة المتدفقة بالأمطار والطيور والرمال التي تغني والأغنام التي ترعي والراعي الذي يغني علي أرغوله فيكون غناؤه شجيا محدثاً بحزن خاص.

يبكي الشاعر فينتبه؛ يتحول فيصير طائراً أو ملاكا يرفرف بجناحيه؛ ينضب صوته "في حر الجبل" ينظر إلي العالم زهوًا وفي فخر يغني ويغني، لكنه سرعان ما يؤوب من أحلامه وتحليقه وغنائه فيعود إلي الأرض فيري الدم، يري الجماجم والعظام والأشلاء فيبكي مرة أخري "ولما حطيت بالجناح" ع الأرض شفت الدم جنب العضم والجماجم أخدني البكا من جديد وسرحت".

كما نري فالشاعر في حالة من التراوح الدائم بين عالمه الداخلي الرحب الحر الطليق والعالم الخارجي المليء بالدماء والعظام والجماجم والجروح. يتساءل: "سألت ليه؟ رد السؤال مكسور.. امتي نشوف النور؟ هنا تتفتح بوابات ذاكرته وحكاياته" يتذكر الشاعر في أحلامه الشاردة شبه الواعية أشياء وذكريات ومشاهد كثيرة، فيبدأ عالم الحكي وتتوالد الحكايات، والحكاية هنا وسيلته للإشارة أو الإحالة إلي الماضي، وليست وسيلة للهروب من الحاضر إلي الماضي، بل أشبه بحيلة أو أداة لإحضار الماضي إلي الحاضر ومواجهته به، وكشفه من خلاله، كأن الشاعر هنا يتحرك عبر ثلاثة مستويات أو محاورهي:

- محور العالم الخارجي بكذبه وخداعه - محور الذات الداخلية وخاصة في تشكيلها لعوالهما الخاصة أثناء الكتابة - محور الذات في علاقتها بالذاكرة وعالم الحكايات والماضي، والعوالم الثلاثة متفاعلة متداخلة غير منفصلة ولا منفصمة في بنيتها،  فالطفولة والحكايات الأولي تدخل إلي عالم الخيال والكتابة ويدخلها معها العالم الحالي " كان الفضا وكان القمر في مكانه وكانت الحواديت بتبتدي بـ صلي علي النبي وكانت السما حبة دخان أزرق وكانت الفراشات بتجرب الرفرفه والأشجار فرحانه بالأوراق وكنت واقف وفي لساني نشيد فاتح جرابي بلم فيه الندي وبعبي وقلبي لسه في أول التنهيد".

الذات الشاعرة هنا في بداياتها "وقلبي لسه في أول التنهيد"، كأن قلبه وعقله قد بدآ في التفتح علي العالم وقد شعرا به، وكأن العالم بالنسبة له أكثر رحابة، الفضاء واسع، والقمر في مكانه، والحواديت تبدأ بالصلاة علي الحبيب، والسماء دخانها أزرق، والفراشات حرة تتجول أو تجرب الرفرفة، وكأنها تبدأ معه عالمها وعالمه، أما الأشجار فكانت "فرحانه بالأوراق" عالم مفعم بالتفاؤل والتفتح والأمل والفرح، والذات تحاول أن تقول شيئا، أن تترنم بنشيدها الأول، لتملأ به الجراب  الخاوي، إنه تمثيل لخلق جديد، لبداية أسطورة خلق الكون الذي يري بدايته عامرةً بالمحبة للحياة والبشر، فيستقبله بقلب مفتوح يتلقي الندي الذي يشير إلي رمز التفتح والبكور والضوء والإشراق والماء المقدس وكأن القلب في بدايته الأولي الجميلة المفعمة ببدايات التنهيد.

هنا عوالم مختلطة تجمع المتناقضات في صور شبه سيريالية تتجمع فيها ذكريات وأحداث وصور ومشاهد بعضها أحمر في لون "فصوص" الفراولة والآخر ناعم "زي الحرير" والآخر أشبه بسماء فاضية من الدخان" وهناك "وتر مشدود وعازفه مقطوع اليدين" وأيضا سحابة بيحدفها الهواء بين البلاد" وهناك "قتيل بيتمشي قبره لحد باب بيته" وأيضا "قله بتنقط وحواليها الوجع مسموع، إنه عالم غريب عجيب يزخر ظاهريا بالمتناقضات لكن عند التأمل سوف ندرك أن المشهد بمجمله وتفاصيله يشير إلي العالم الخرب والوجع المفعم بالكآبة، حيث نري بقعة سوداء نائم عليها التراب والوتر المشدود يعزف عليه عازف مقطوع اليدين، فكيف سيعزف عليه، هناك عود أو كمان لكن العازف قد فقد وسيلة التواصل والتفعيل لآلته الموسيقية، فصار العازف وآلته هما الوجود والعدم في آن واحد، والعلاقة بينهما أصبحت موجودة لكنها غير متحققة، هناك عازف لا يعزف علي الرغم من وجود آلة العزف وهناك آلة تنتظر أن يلعب عازفها علي أوتارها، لكنه عاجز عن القيام بذلك لعلة أصابته أو أصابتهما معا، وهناك قتيل بيمشي قبره لحد باب بيته، هل القتيل هو الذي يتمشي أم أن القبر هو الذي يتمشي حتي باب بيت القتيل هو الذي أصبح قبراً يسير نحوه القتيل كي يدفنه، ونري بل نسمع  تساقط قطرات الماء من القلة فتتحول إلي وجع مسموع وتتجارب معها عينا الشاعر فتتساقط منها قطرات الدموع، يتساءل عن الذي لا يجعله يبكي وهو يري كل شئ قد أصبح غارقا في الدم، الأشجار التي تحولت إلي عكاكير وكذلك القطن والشاش والبشر والحياة التي فقدوا المعني، وعلي الرغم من ذلك كله أو بالإضافة إليه فإن الكذب والخداع مازالا يملآن الفضاء "والحاوي لسه مطلع البيضه وبيلعب تلت ورقات".

وتتواصل القصيدة / الديوان، فنعاين يدا تمسك بالجمر وأخري تمسك بالتمر وفي المسافة بينهما تتسرب سنوات العمر وتتبدد،  فلا الحنان نافع ولا الجنون ولا الوداعة، فالحنظل ملأ الحدائق وتعالت أصوات المحرومين المكلومين والجسد قد أصبح ينوء بأوجاعه ويبوح بها علي أنحاء تتجاوز دقة الطب وتحاليله وأشعته هنا أوجاع تتعلق بالفقراء والمحرومين والمكافحين دون جدوي في الحياة، ونري بائعة الكرشة والكوارع التي صورها مسعود شومان في جلستها أمام طشت الكرشة وصور حركات يديها وأسنانها وعينيها وحاجبيها ورمشيها وأسنانها وكلامها وكذلك أحلام صغار الموظفين ومعاناتهم وأحوال أسرهم واولادهم "في إيده شنطة ورق وفي عينه حلم اتسرق ساعة التعب تلاقيه،  رجال ونساء، عمال وفلاحون وباعة جائلون، فنسمع من يقول إن العجز قد أصابه وأصبح يتناول أدوية الضغط، ومن يرد عليه "ما تقول كلام غير دا.. خايف من الحسد والنق، وم الصراصير التي علا صوتها و ظلت تحلق فوق الكراسي تغني ويغني معها البق والهاموش والقلب ينشق وينقسم ما بين توقه للحق والعدل ومشاهدته للظلم والقتل، والشوارع التي تمتلئ بالجثث والرصاص وعربات الكارو التي تمشي في ليل طويل أبدي".

علي الرغم من ذلك يظل الشاعر يصرخ، يظل يحاول الطيران، يظل "يحن ع الغلبان" ويظل كذلك يشتهي شوية آمان" ويجد ضالته في التجول في الحياة والواقع و الوطن، يبحث عن الحقيقة الغائبة، يري البؤساء التعساء المحرومين التائهين الضائعين المضيعين، يري صدقهم وكفاحهم وبؤسهم وهزالهم، يتحول ويبحث ويري ويتساءل مع شخصياته "مين اللي بيبيع الحقيقة ونشتريها، ينادي حبيبته أو ذاته، "تعالي نهرب في الليالي... يسرح وراء الصييته/ المغنين والمنشدين ... نرمي العواف ع الشجر ونمسي علي هدوم الصبايا ونشتري خاطر بيوت الغلابة بالسلامو عليكم ونطمن العصافير علي أعشاشها ونستحمي بالغنا في مندوره دفيانه باللمه" فالعالم عنده غارق في المأساة، طائرات وقنابل وانفجارات ودم واغتصاب للأطفال وأطفال يجرون العربات بدلا من الحمير؛ وبينما يجلس الشعراء والمثقفون متباعدين، يغيب الدفء بينهم، متجهمين "ندفن روسنا في الكنايات وحفاير المعرفة ولا حد شافنا واحنا بنعيط ولا حد خد باله من اللي بيرفي قميصه بالإبره.. احنا هنا وهما هناك.. واللي ما بينا وبينهم جبال من الجرانيت.. حواديت.. أنين.. مسافات.. كأنها أخاديد ما بين الدنيا والآخره".

يتحدث الشاعر عن انفصال الشعراء والكتاب والمثقفين عن الناس، عن انشغالهم باللغة والنظريات والكتابات والاستعارات وحفريات المعرفة، عن انعزالهم عن الناس فلا هم رأوا الناس عن حق ولا الناس قد عرفوا بما يكتبونه،  فهناك مسافات وجبال من جرانيت تفصل بين هؤلاء وهؤلاء، مسافات كأنها الأخاديد التي تفصل بين الدنيا والأخرة. لابد للشعراء من أن ينزلوا إلي الناس، لابد من أن يروهم عن قرب، أن يدركوا مشاعرهم وآلامهم ومصادر احباطهم وكذلك الطاقة الدافعة لهم نحو مواصلة هذه الحياة، من هنا تكون الكتابة للفلاحين والحدادين والمغنين علي الرباب كما أننا نراه مع الأطفال والمنسيين وغيرهم، ومنهم ينطلق في محاولة للطيران بعيداً ربما كي يقترب أكثر ويري ليعود من جديد، والطيران ثيمة رئيسة في شعر شومان وتتعمق في هذا الديوان بكثافة

الظل والنور وعالم الطيور

مثلما نجد في عالم مسعود شومان ذلك الولع بعالم الطيور، والآلات الموسيقية وكذا استدعاءات للحيوانات والنباتات والألوان، كأننا أمام حديقة  وجودية، والديوان كذلك حديقة تتحاور فيها كل الأشكال من حكي وأغنية وزجل وقصيدة تعتمد التفعيلة، كما تستدعي الإنسان المصري في تجلياته وأحواله وأفراحه وأحزانه كلها، لذا سنجد الديوان زاخم ابالتنوع الأسلوبي والموسيقي والتشكيلي، فالمقاطع المظللة باللون الأسود وكأنها تشير إلي عالم الذات، عالم الظل، الذي يوشك أن يخرج إلي عالم النور، فإذا بنا نجد أن ذلك النور ما هو إلا مجرد ظل آخر، بل عتمة حياتية ووجودية؛ حيث القرار يتحول إلي جواب والجواب يتحول إلي قرار، والذات تصبح هي العالم والعالم يصبح عين  الذات لكنه في الأحوال كلها هناك رغبة في التحليق والتحرر والتحقق والوجود الأجمل ورمزية الطير من الثيمات الأساسية في عالم مسعود شومان والطيور رمز للحرية والرفرفة والتحليق والحركة بلا حدود وبدون  قيود، في الديوان غالبا ما ينتهي المقطع الأول المظلل بالأسود بكلمة تكون هي بداية أو مفتتح القسم الباقي من

 القصيدة، علي سبيل المثال نقرأ:

مستني ندهه وأطير... زي طير من نور " بالاسود بعدها يأتي:

رفرفه ومفيش جنح..

ومطره من غير سما

ونور كأنه جسم من مرمر

أنا اللي ماشي

ومش شايف بلادي تحتي

رفيف وشوق ما يبطلش

كلامي ما بتقالش

وجسمي مش شايفه كأنه مفيش

وما معاييش يا رب غير جناحاتي

 نحن أمام إنسان أشبه بطائر يرفرف، لكن دون أجنحة، والأمطار تهطل دون سماء، والنور في العالم يبدو أقرب إلي جسم من مرمر، والذات التي تحولت إلي طائر يحلق بلا أجنحة تنظر إلي بلادها تحتها فلا تجدها، لا تجد كلامها، أو تجده ولا تستطيع أن تنطق، وجسدها أشبه بالهواء أو الفراغ الذي  لا يري، والأجنحة تنبت في جسدها لكنها تمضي في سمائها وتحليقها، والأجنحة تتحول إلي منقار أو فم، يتم النداء من خلاله علي البشر والشجر، يمضي الإنسان الشاعر الطائر في طريقة لا لكي يلتقط الحب، بل كي يلتقط الكلام والكتابة من أفواه البشر، يشعر بالحنين إلي الأرض مثل حنين المطر اليها، ويتحول العالم هنا إلي ما يشبه وحدة الوجود، فيه ينادي النخيل عليه ويطعمه من جُماره وفيه تعطف الجبال عليه وتبوح له باسرارها، وفيه تنبت الأشجار الجميلة في وسط الجبال والأحجار، والأيام تمضي والليالي، وتكون الشمس رقيقة دافئة لا تغضب أبدا وترسل شواظها "ما بتحماش علي جسمي حينها تلعب الذات الشاعرة الطائرة مع الأسماك وتغني في الغابات وترقص وتكمل مواويلها.

إنه طير بري جناحه الحرية، لو اشتهي شيئا "ما يشتهي الرمم" وحين يصاحب "عمره ما يصاحب جبان ولا بياعين الذمم" ولو أراد مهاجمة الخونة، هاجمهم بكلام "طالع كأنه الحمم" لكنه أيضا طائر مثقل بالهموم والأحزان "والدموع شايله جناحاته"، طائر يمضي من النور إلي العتمة ومن العتمة إلي النور، هدفه وغايته أن تتحول العتمة إلي نور، وأن يصبح النور أكثر بهاء وسطوعا، فهو قد اختار أن يكون النور في الظلمة دقاته ويصون كلام الشجر بروحه وحياته فمع الطيران يكون النور.

هكذا تبدو حركة الطائر في هذا الديوان أشبه بحركة في فضاء مفتوح أو حركة في لوحة تتشكل بنائيا وتكوينيا وجماليا من خلال حركة هذا الطائر الشاعر المغرد الحزين.

في هذه اللوحة الكون/ الوطن نسمع صوت سنابك الخيول "ورقرقات الميه تحت المركب تفرح ودموعها من ميتك يا نيل".. وكذلك نري تلك الأشجار التي "تعطف علي الأيتام" وتتوالي الحكايات التي تمتلئ بها الروح ويَعْمرَ بها القلب وتتجول الحكايات في البلاد إلي طيور، طيور تحمل بأجنحتها "ريحه بيوت لسه بتحمي الفرن" وهناك أيضا "ضلمه هربانه من القناديل" وثمة عالم كبير يتشكل من تفاصيل تبدو صغيرة لكنها ليست كذلك، إنه العالم الأصغر، الطائر، النور، والحكايات والإنسان والشاعر، الذي يسعي إلي مواجهة الظلم والظلام عندما ما تلتئم هذه التفاصيل الصغيرة كي تشكل هذا العالم الغريب الكبير فإننا حينئذ، وقتها، سوف نفهم "يعني إيه النهار ويعني ايه الليل"، وأيضا "ويا هلتري حبة الحبر اللي دابوا في السطور ها يقدرو يتحرروا زي الحمام.."

الطيور تخرج من السطور، والطيور تتشكل من الحروف، الطيور تخرج وتحمل معها كتابة والكتابة تتحول إلي عالم يتجول فيه الطائر ويقوم بتشكيله كما قلنا، الطيور حروف من نور أو ظلام والكتابة عالم من الحركة والسعي نحو الحرية والكتابات قد تحوي عالم الظلام أو عالم النور، وعالم النور ليس بالضرورة عالماً نورانيا، لكنه قد يكون هو عالم النهار الذي يتجلي فيه الظلم والخداع، وبدايات القصائد قد تكون هي نهايتها وقد تكون البدايات المظللة بالأسود أشبه بالرحم أو الكنز أو المخطوط الذي يحتوي الحكايات التي سرعان ما تتجلي وتتكشف وتظهر علي شكل القصائد.

ودكان الخرده

جنينه الورد بقت دكان للخردة

والدنيا زي ما هي غشيمه وبارده

اوعي تكون بتفكر ترجع

أو بتشاور عقلك

أو ممكن تاني تحن

لسه الطين في ضوافري بينهج

النزعة السيريالية:

ازازه بلاستيك بترقص تويست

حج لبيت الله بالقسط

قطه بتعزف من غير آله

تلعب شيلو وترقص سامبا

وتدوّب شنبات ع البيست

في عالم مسعود شومان هناك مزيج من عالم الميديا والاعلانات والعبث السيريالي تحيطه الآلات الموسيقية خاصة الناي والربابة والرقصات، حيث الزجاجات البلاستيكية "بترقص تويست" والقطط التي تعزف دون أن تستخدم آلات موسيقية، تبدو كأنها تعزف علي آلة التشيلو وهي لا تعزف، بل تتظاهر بالعزف وترقص رقصات مثل السامبا والرومبا ومعها يظهر بشر كالحمير يترجمون الأفكار ويقرأون المندل والفنجان ويحصلون علي درجات الدكتوراه من خلال مقاطع ينقلونها عن طريق القص واللزق من مواقع الانترنت وهناك أيضا الأذرع المقطوعة والجدران المهدمة في الشوارع المظلمة وآلات العزف مثل الناي التي لا تجد من يعزف عليها أو تجده لكنها تشعر باليتم ولكن مونساها اخواتها والخيول التي تحمل جبالاً، والحواديت التي بلا نهايات؛ والنخيل المحرومة من الطلع والجمار، وعربات الكارو التي تجري بدون خيول والكلاب التي تتكلم وتحكي وتقطع استرسال الحكايات عن البشر، والديوك التي تتصارع علي قمحه، واللصوص الذين يحملون الرايات ليتشبهون بالثوار، والبقع التي تتحول إلي جيوش تحاكم الملابس وتدينها والأحزان التي بلا نهاية التي تتحول إلي حكايات الاولاد الذين يتحدثون مع الغيوم والطيور التي بلا أجنحة والرجال الذين يمارسون تعبئة الأوهام في جيوب الجواكت... الخ.

يكتب مسعود شومان عن الذين يموتون وهم يمشون علي الطريق أو يتعلقون في أوتوبيس أو وهم يسعون فجراً وراء رزقهم، أو هم يطفئون ناراً شبت في منزل، أو علي الجبهة الأمامية في مواجهة الأعداء، أو تحت عجلات القطار أو في العبَّارات، أو وهم يعبرون البحر سعياً وراء لقمة عيش لا يجدونها في وطنهم المترع بالخيرات والظلم، لكنه أيضًا وطنٌ زاخرٌ بالحزن والإبداع في سمائه تحلق الطيور حرة، وعلي أرضه يتفجر الإبداع ويتحول إلي طيور أخري تحلق هنا وهناك، تتحرك بين أرضه وسمائه، حركة حرة بلا أجنحة بيد أنها أيضاً حركة تستمد طاقتها من الخيال ومن الإبداع لينتصر بمفارقته الجمالية علي "دكان الخردة" البشرية.

 

عن أخبار الأدب