لم نكن فقراء جداً ، كان بيتنا مشيد بالطوب، في زقاق أغلب بيوته طينيه ، باب دارنا معدنية صدئة ، بأمكانك اقتحامها وفتحها بإسناد كفك في أعلاها ورفسها من الأسفل ، دون الحاجة إلى مفتاح ، كل الأبواب مثل بابنا يعلوها الصدأ ودون أقفال ، لكننا كنا نغفو ملء جفوننا ..
لم نكن فقراء جداً، كنا فرحين ، في باحة دارنا سدرة فتية ، وحِب ماء، ودجاج يسرح ، ومعزة ، كنا نمتلك مروحة منضدية تتنقل بين الغرفتين الوحيدتين ، ونضدة فرش ولحافات ملونة ، وبسط تغزلها جارتنا العجوز..
لم نكن فقراء جداً ، كانت أمي تصطحبني إلى سوق (إعريبة ) القريب من قطاعنا ، تحملني على كتفها النحيل ، وسلة الخوص تتدلى من يدها اليمنى ، ذات مرة وأنا أتشبث بعباءتها ، سحرتني اللُعب البلاستيكية الملونة ، مددت يدي في الفراغ لأقبض على سيارة صغيرة ، تشبثت بعباءة أخرى غير عباءة أمي ، سرت خلفها مسافة بعيدة ، لم تلتفت المرأة إلي ، كانت منشغلة بنقل سلة خضارها الثقيلة من كتف إلى كتف..
توقفت أمام باب صدئة غير بابنا ، دفعتها برجلها ، كون الناس لا يمتلكون المفاتيح ، ناديتها يا أمي ، التفتت نحوي ، ذُعرت المرأة لمرآي ، وذُعرت لمرآها ، صرخت ، بكيت ، ركضت إلى كل الاتجاهات ، حضنتني وربتت على ظهري ، ناولتني حبة مشمش ، ثم حملتني وهرعت بي نحو السوق ، حشد من الناس تحلقوا حول أمي التي افترشت الأرض تلطم خديها وتنفش شعرها وتصرخ ..
لم نكن فقراء جداً ، فرغم خوف أمي وذعرها لضياعي ، كانت على يقين بأن أولاد الحلال سيعيدون إليها صغيرها ..
من سيعيد اليوم صغار الأمهات الذين تناثرت أشلائهم في سوق إعريبة اليوم؟!. السوق الذي ضعت فيه قبل أكثر من أربعين عام؟!.