يكشف الناقد المغربي هنا في تناوله لديوان الشاعر الفلسطيني المرموق عن جماليات اللغة الشعرية عنده وانزياحاتها المقصودة في بنية القصيدة الشعرية عن درجة صفر الكتابة كي تتخلق مفردات اللغة الشعرية وجماليات الصورة البلاغية التي تمنح هذا الشعر فرادته وقدرته على استشراف عوالم ثرية من الكتابة.

الانزياح وجمالية اللغة الشعرية

في ديوان «كأعمى تقودني قصبة النأي» للشاعر محمد حلمي الريشة

عزيز العرباوي

إن القارئ، وهو يعمل على إعادة عملية التركيب في ذهنه للنص الشعري، يفترض فيه بالضرورة أن يصير ذاتين معاً، بصفته قارئاً للنص أولاً، ومنتجاً جديداً ثانياً، حيث يكون الإنتاج الذي يتصف بمواصفات مختلفة تميزه في ذاته، كما يتميز بمعطيات لابد وأن يكون المتلقي- القارئ في انتظارها، مما يدعونا إلى القول بأن للنص الشعري مبدعيْن اثنيْن: "أحدهما الذي ينشئه ابتداءً، والآخر هو الذي يعاود هذا الإنشاء كلما عاود القراءة المتأنية، أو كلما عاود القراءة الناقدة الواعية التي تهدف إلى استيعاب النص وتقييمه في جملته، من خلال صياغته اللغوية التي لا يكفي عندها مجرد الشعور بالإعجاب، بل يتجاوز ذلك إلى عملية الرصد والإلمام بالتركيبات اللفظية، كالإلمام بالجوانب الفكرية والعاطفية تماماً"[1].

ترتقي رسالة الشعر إلى تحقيق غايات جمالية، تتسلح بالتغيير في اللغة والفكرة والرمز والمعنى العميق. حيث تحصل الإفادة الأساسية لدى المتلقي الذي يبحث بدوره عن مجالات الإبداع التي تحضر في النص المقروء على المستوى الإبداعي والفكري معاً. فباللغة، يمكن للمتلقي أن يحصل على الفكرة والمعنى في النص. وبالتالي، تبقى اللغة الشعرية المستوى الأساسي في تحقيق لذة القراءة والرغبة في التأويل وفك شيفرة النص الشعري، وفي جانبها الجمالي ترقى الأفكار وتتوطد العلاقة بين النص والقارئ.

تشتغل اللغة الشعرية في النص الشعري عموماً على اللغة البصرية والحسية وعلى الصور البلاغية من خلال عملها على تحديد مظاهر الحجاج وأساليبه المتعددة ٌلإقناع المتلقي أو تبرير تيمة القصيدة ومعناها ودلالاتها المختلفة، حيث يكون دور المتلقي كبيراً من خلال تحوله "إلى منتج للدلالة، اعتماداً على ما تلقاه من بيانات وحمولات ومعطيات لسانية ورؤيوية وبصرية وفرها له النص ذاته وسياقاته الثقافية أحياناً، عندما يكون ذلك ضرورياً ولازماً لإيقاظ الذاكرة البصرية والسمعية والروحية لدى المتلقي"[2].

يحاول القارئ الناقد للنص الشعري أن يستكشف فيه الأسرار المجازية التي تطفو على سطحه من خلال وقوفه على المفردات الهاربة التي لا يمكن له القبض على مقاصدها الكنائية وغاياتها المجازية إلا بالعمل على مراقبة البناء الكلي للنص والتركيب الجامع للكلمات والعبارات المكونة له. فالمعنى الكلي أكبر من أجزائه كلها مجتمعة، لأنه يمثل ناتج التفاعلات والعلاقات التي تقوم بين هذه الأجزاء وارتباطها فيما بينها بوساطة العديد من الأشياء والمعطيات اللغوية والدلالية.

إن المرور إلى جمالية اللغة الشعرية في نصوص ديوان "كأعْمى تقُودُنِي قصَبةُ النَّأْيِ" للشاعر الفلسطيني الكبير محمد حلمي الريشة، والوقوف على هذه اللغة من خلال صورها البلاغية والحسية والبصرية يتطلب منا، أولاً وقبل كل شيء، التعرف على تجربته الشعرية الكبيرة والتي أثمرت العديد من الدواوين الشعرية الجميلة، وبوأته المكانة الأدبية التي يستحقها، ولعل ترأسه، أو بالأحرى، اختياره من بين العديدين في وطنه، على رأس مجلة متميزة وراقية كمجلة "مشارف مقدسية" خير دليل على ذلك.

يكتب الشاعر محمد حلمي الريشة الشعر بشغف يمتلك ناصيته وجوهره السامي، وبمرونة واضحة يطوِّع اللغة الشعرية من خلال استخدام كلمات متمردة في القاموس، ومن خلال عبارات ملؤها الدهشة والمفاجأة والتعبير السلس عن المشاعر والأحاسيس والمواقف. فهو شاعر متعدد المواهب له في الشعر 16 عشر ديواناً شعرياً (الخَيْلُ وَالأُنْثَى (1980)، حَالَاتٌ فِي اتِّسَاعِ الرُّوحِ (1992)، كَلَامُ مَرَايَا عَلَى شُرْفَتَينِ (1997)، هَاوِيَاتٌ مُخَصَّبَةٌ (2003)، مُعْجَمٌ بِكِ (2007)، كَأَعْمَى تَقُودُنِي قَصَبَةُ النَّأْيِ (2008)، قَمَرٌ أَمْ حَبَّةُ أَسْبِيرِينٍ (2011)، أَيُّهَا الشَّاعرُ فِيَّ (باللُّغتينِ العربيَّةِ والإِنجليزيَّةِ) (2015)). وفي مجالات أخرى غير الشعر كأعماله في الترجمة مثل:  لِمَاذَا هَمَسَ العُشْبُ ثَانِيَةً- مُخْتَارَاتٌ شِعْرِيَّةٌ مِنْ "مُشَاهَدَةُ النَّارِ" لِلشَّاعِرِ كِرِيسْتُوفَرْ مِيرِيلْ (2007)، وبِمُحَاذَاةِ النَّهْرِ البَطِيءِ- مُخْتَارَاتٌ شِعْرِيَّةٌ وَقَصَصِيَّةٌ (2010)، و أَدْخُلُ أَزرَقَ اللَّوْحَةِ فَيَسْحَبُنِي البَحْرُ- مُخْتَارَاتٌ شِعْرِيَّةٌ مِنَ العَالَمِ (2013)، و الخَرِيفُ كَمَانٌ يَنْتَحِبُ- شِعْرِيَّاتٌ مُخْتَارَةٌ مِنَ العَالَمِ (2013) ... وغيرها.

إن النص الشعري يفرض نفسه معنوياً وموضوعياً على القارئ، فمحتواه يظهر بشكل واضح كمعطى، باعتباره يمتلك نموذجاً تواصلياً محدداً يمنحه القدرة على ترك أثر معين. ومن هنا، نجد للشعر وظيفة تواصلية تستغل اللغة الشعرية وسيلة أساسية لتحقيق هذه الغاية. فالشعر الجميل هو الذي يصير "حمالاً لطاقة تعبيرية ولغوية قوية حتى يتمكن من الاضطلاع بالوظيفة المعهودة إليه"[3].

وفي هذا الإطار، يظهر أن شعر محمد حلمي الريشة لم يكن وقفاً على ذاته في صراعها الحياتي مع الحياة، والثقافة السائدة، والسياسة القائمة، بقدر ما يهدف إلى نقد كل هذه الأشياء بشكل عام من خلال التأكيد على عيوب الناس والمجتمع والثقافة ... بل إن بعض شعره يفر نحو عوالم المرأة/ الأنثى، وحضورها الآسر، ومقاومتها الكبيرة للشاعر وبوحه وشعره، وهذا ما يتأكد في ديوانه الجميل "كأْعمَى تقوُدُني قصَبَةُ النَّأْيِ" الصادر عام 2008، حيث صير المرأة هي اللغة والذات والكتابة والإبداع، بل أكثر من ذلك تصبح في قصيدة الشاعر ذلك التصور الجمالي للحياة والكتابة والشعر ... وبالتالي تمثل مساحة من الوعي الخاص بالشاعر لتعيد تشكيل الحياة والجمال والوجود والحب والعشق من جديد.

1. جمالية اللغة الشعرية:
تبحث اللغة الشعرية في ديوان "كأْعمَى تقُودُني قصَبَةُ النَّأْيِ" عن ذاتها، عن أحقيتها في السيادة والجمالية والفنية، حيث تنزاح نحو دلالات جديدة ومختلفة، وذلك من خلال، حسب الشاعر جمال الموساوي، "علاقات جديدة بين الألفاظ، وتشكل الذات الشاعرة في العديد من النصوص القصيرة أو المتوسطة وحتى في الشذرات الافتتاحية والختامية محوراً أساسياً في هذه العلاقات"[4]. هنا نشهد تحولاً خاصاً للغة الشعرية المفعمة بالصور والرموز والإيحاءات الدالة على هذا الانزياح اللغوي، حيث التأكيد على الصور الشعرية يبلغ مداه الأقصى في استخدام الصور البلاغية القوية مثل الاستعارة والتشبيه والمجاز والالتفات ... وغيرها. أما التكرار كتقنية أسلوبية فهو حاضر بكل تجلياته الإيقاعية والدلالية والإبداعية.

لقد اعتمد الديوان في كل قصائده على دلالات لغوية وبلاغية وبديعية من خلال خلق علاقة متبادلة بين التعبير الشعري والمضمون في إطار خاص بمحيط الشاعر وتجربته الشعرية الخاصة. فالعبارات تدخل في الصورة الشعرية كما تدخل في اللغة باعتبارها، أولاً تراكمات لغوية يختزنها الشاعر في رصيده اللغوي، وثانياً فهي تتفاوت مع المباشرة والتقريرية النثرية والجمود، وذلك بتفجيرها (اللغة) وتفتيتها إلى شظايا متناثرة تربطها الصورة والصدق في التعبير والبوح. يقول الشاعر في قصيدة "غيْمةٌ تصْعدُ لأعْلَى":

رذَاذٌ

       بكْرُ آذَارَ

       مطرُ الصَّباحِ الرقِيقِ

       رفِيفُ فرَاشةٍ بلَوْنٍ واحِدٍ.

مُنادَى

       هاتِفُ الغَابةِ... آهٍ

       لوْ أنَّ لِي

ألْفَ عيْنٍ وأُذناً واحِدةً.

احْتمَالٌ

       قُطنُ الغَيْمِ

       يحْملُ قلْبَ عاشِقٍ

       ولاَ يحْملُ قمَراً[5].

نلاحظ من خلال هذا المقطع الشعري أن اللغة الشعرية ترتبط ارتباطاً جلياً بثقافة الشاعر، وبفكره الخاص، بل بكل مرجعياته الفكرية والثقافية والمعرفية التي تغني تجربته الشعرية، لأنها تصوِّر أحاسيسه ومشاعره الخاصة تجاه الأشياء، حيث تأتي اللغة الشعرية هنا وهي في انسجام تام مع حالاته النفسية المعبَّر عنها بصور شعرية جميلة، وبلغة تستعذب الذائقة الشعرية لدى قارئه. إن اللغة الشعرية هنا، وفي كل الديوان، تشاكس ذائقة القارئ، وتأخذ بيدها، وبفكرها نحو عوالم شاسعة من التأويل والتحليل. لذلك فإننا نجد الإشارة، والرمز، والإيحاء، والاستعارة (مطر الصباح، هاتف الغابة، قطن الغيم) كل هذه المؤشرات اللغوية تعيد صياغة المعنى وتشكله تشكيلاً مختلفاً عن اللغة العادية والمباشرة، من خلال التحليق بها خراج النسق اللغوي البسيط المشحون بالمباشرة والوضوح والبساطة...، إن التوظيف المتعدد للغة الشعرية في نصوص الديوان يرجع إلى تمكُّن الشاعر من لغته وأدواتها، حيث البراعة التصويرية بالكلمات والعبارات، والصياغة الدقيقة للجمل الشعرية المفعمة بالصور الشعرية المنقولة من الواقع والبيئة والمحيط، ثم تحويلها إلى كل ما هو متخيل يبهر القارئ من خلال هندسة متناسقة للجمل والعناوين الفرعية والداخلية، بل من خلال تنسيق دلالي وشكلي للنصوص الشعرية المكونة للديوان. وهذا إن دلَّ على شيء، إنما يدل على أن الشاعر محمد حلمي الريشة يمتلك تجربة كبيرة في الكتابة الشعرية وطرقها المتعددة.

إن اللغة الشعرية عند جون كوهين تعني "الانزياح عن لغة النثر باعتبار أن لغة النثر عنده توصف بأنها لغة الصفر في الكتابة"[6]، فهذا الانزياح يقود مباشرة إلى الدخول إلى لغة الشعر، وهذا الأخير هو نشاط لغوي محض "ينهض على إعادة النظر في النظام اللغوي، والإمساك بما يتضمنه من قوانين توليدية تسمح بتمزيق النظام اللغوي المتعارف نفسه قصد خلق ذرىً تعبيرية توليدية جديدة"[7]. وهي عند أدونيس أيضاً تختلف عن اللغة العادية والنثرية، حيث تهدف إلى خلق معاني مختلفة عن المعاني المباشرة، يقول في ذلك: "إذا كان الشعر تجاوزاً للظواهر ومواجهة للحقيقة الباطنة في شيء ما أو في العالم كله، فإن على اللغة أن تحيد عن معناها العادي، ذلك أن المعنى الذي تتخذه عادة لا يقود إلى رؤية أليفة، مشتركة. إن لغة الشعر هي لغة الإشارة، في حين أن اللغة العادية هي لغة الإيضاح. فالشعر هو، بمعنى ما، جعل اللغة تقول ما لم تتعلم أن تقوله"[8].

هنا، ومن خلال هذه المقولات والتحديدات للغة الشعر، نلفي موقعاً لها في شعر محمد حلمي الريشة، فاللغة الشعرية في ديوانه "كأْعمَى تقُودُني قصَبَةُ النَّأْيِ" تنزاح عن اللغة النثرية، وتبحث لها عن موطئ قدم في اللغة الشعرية القائمة على الإشارة والرمز، ومن هنا، تكسب جماليتها الخاصة بها، وتختلف عن لغة الشعراء الآخرين. ودليلنا على ذلك، ما جاء في نصوص الديوان، مثل قصيدة "كقِيثَارَةٍ تُشْعلُ أصَابِعِي":

انْتبَاهةٌ

       ورَقةُ القَلقِ انتَبهَتْ

       حينَ سالَ عنْها

       بلَّوْرَ الزَّهْرِ.

هدِيلٌ

       منِ اسْتواءِ أخْرَى

       تهْدلُ ورْقاءُ رغْبتِي

علَى أَيْكِ عُمْقهَا.

إيقَاعٌ

       سائِراً في بًسْتانِ الفتْنةِ

يسَّاقطُ علَيَّ شَرراً

إيقَاعُ عُريِ الثَّمرِ.

لهْفَةٌ

       كقِيثارَةٍ تُشعِلُ أصابِعِي

تتلَهَّفُ الأوْتارُ لاحْترَاقهَا

هكَذا هِيَ[9].

تعبر لغة الشعر في الديوان عن حقيقة الإنسان الداخلية، وعن مشاعره الدفينة، وعن حبه ورغبته في اختزال الكون والعالم في صورة واحدة وحيدة مرتبطة بالسلام والاستقرار النفسي ... وهي في قوتها الدلالية والتركيبية تحقق متعة القراءة وتجليها في النفس والذهن.حيث يجدد الشاعر محمد حلمي الريشة لغته الشعرية من ديوان إلى آخر، فيثري شعره بالعبارة الجميلة وبالجملة الدافئة من حيث المعنى والدلالة، ومن حيث قدرتها على إثارة القارئ ودفعه إلى البحث لها عن دلالة خاصة بها لفهم معناها العميق. إنها لغة الشعر الجميل الذي يغرف من المعجم العربي الغزير، ومن القاموس الثقافي والحياتي للشاعر. يمكننا أن نقول إن الشاعر، وفي أغلب قصائد الديوان، يعمل بانتقائية واضحة مع لغته الشعرية، يختار الكلمات وينتقيها انتقاءً جيداً من أجل خدمة موضوعاته ومواقفه الشعرية المتعددة. ويبحث من القاموس عن لغته فينتج الصور الشعرية الجميلة والتراكيب المفعمة بالرموز والإيحاءات (بكر آذار، مطر الصباح الرقيق، هاتف الغابة، قطن الغيم، ورقة القلق، بلور الزهر، ورقاء رغبتي، إيقاع عري الثمر، احتلام الغياب، مراسم احمرارك، يمامتيك تشتعلان، رزنامة النأي، أصبع المِخْيلة، دجاجة الجسد، نافورة المواقيت، ماء الشمس، رخام الإياب، موسيقى عطر، رقصة عبرات، كمشة ليل). فحركة القراءة لقصائد الديوان تقتضي منا عملية قراءة نصوصه الشعرية والعودة إلى كل نص على حدة ثم الانطلاق من جديد في عملية القراءة من البداية إلى النهاية، وهذا ليس بالشيء اليسير، لأننا في حاجة إلى اكتشاف الأسرار المجازية التي تغزو النصوص من خلال عبارات ومفردات غامضة ومعقدة لا يمكننا فهم مقاصدها المجازية وغاياتها الكنائية إلا بمساعدة القراءة التركيبية والبنائية لكل الكلمات المكونة للنصوص الشعرية.

2. الصورة البلاغية وجماليتها:
يكسب الشعر المعاصر وظائف جديدة مختلفة عن الوظائف التي كان يؤديها من قبل، حيث أصبح موضوعاً للتأمل والإنتاج الفكري، ومجالاً للتعبير عن الذات الشاعرة بطرق أكثر وضوحاً وشساعة، دون وجود أي مركب نقص. وذلك باستخدام لغة جديدة تعتمد مجازاً مبتكراً، وخاصة الاستعارة التي تعتبر بحق سيدة المجاز كله. ولعل القراءة التحليلية لديوان "كأْعمَى تقُودُني قصَبَةُ النَّأْيِ"، تقودنا مباشرة إلى الوقوف على الحضور الطاغي للاستعارة في جميع النصوص. بل تسيُّدها المطلق وبروزها اللافت في كل نص شعري يجعلنا نقول إن الشاعر يحتفي بالاستعارة ويستدعيها لتعوِّض الكثير من الأشياء المرتبطة بالشعر في مفهومه القديم كالقافية والوزن والإيقاع.

تعمل الاستعارة في النص الشعري على استجداء الخيال وعدم إدراك الحقيقة، بل على استبصارها وتحديد عملها والوعي بها بواسطة الخيال الاستعاري من أجل خلق دلالات متناقضة ومتباعدة فيما بينها. فالصور البلاغية في الشعر عموماً غالباً ما تكون متباعدة وغير متقاربة من الناحية المنطقية، لكنها من الناحية الشعرية فتكون العلاقة فيما بينها متواصلة ومحددة بطريقة أو بأخرى.

يراهن محمد حلمي الريشة في قصائد الديوان على لغته الشعرية من خلال توظيفه للرموز والإيحاءات والصور المتعددة من أجل استشراف آفاق جمالية وفنية مختلفة عن الآخرين. فهي التي تساعده على التعبير عن أفكاره ورؤاه ومشاعره المجسدة لرؤيته للعالم والحياة، والبحث عن المعنى المضمَّن في هذه الرؤية. يقول الشاعر في قصيدة "لا جدَاوُلِي تمْلؤُها، ولا بِئْرُها تُلْقينِي":

ميَلانُ ماءِ الشَّمْسِ

علَى وجْهِ زهْرةِ اليَاسمِينِ

نقْشُ أبَدٍ

في رُخامِ الإيابِ.

أخْمِشُ صدَّ الرِّيحِ

تُكَسِّرُ سلاسِلَ الغُبارِ

كيْ تدُسَّنِي عتْمةَ جوْفهاَ الشَّرِهِ

بخَجَلِ يدَيْها المُضِيءِ.

الأمْسُ عادَةٌ نُسِيتْ

حينَ شُرْفةٌ نافِرةٌ

بِبُحَّةِ يَدهاَ

تَدُلُّها عَلَيَّ[10].

إن شعر محمد حلمي الريشة يمارس الرمز دون الإسفاف المألوف في بعض شعرنا العربي المعاصر، حيث يرفع هذا الرمزُ الشعرَ إلى ممارسة حية مستمرة في الزمن تتماسك من خلالها عناصر الرمزية مع عناصر التجربة الواقعية للشاعر دون تساهل منه مع القواعد الجمالية والفنية للقصيدة، ودون أي حضور لافت لاهتزاز أركان الجمل الشعرية والتعابير اللغوية. وهنا نستحضر ردَّ الشاعر "مالارميه" على الرسام "ديكا" عندما كتب هذا الأخير قصيدة شعرية لم تعجب "مالارميه"، فقال له الرسام: "مع أنني وضعتُ فيها أفكاراً كثيرة"، لكن "مالارميه" أجابه: "لا يُصنَع الشعر بالأفكار وإنما بالكلمات"، وقصائد ديوان "كأْعمَى تقُودُني قصَبَةُ النَّأْيِ" تؤكد هذه المقولة، بل إن شعر محمد حلمي الريشة كله يؤكد على أهمية ذلك، وعلى أنه شاعر يعرف كيف يصنع شعره بالكلمات والعبارات الجميلة والمؤثرة.

لا يمكن للاستعارة أن تخلوَ من المشاعر والعواطف الخاصة بالشاعر المبدع، لأنها تُستخدم استخداماً انفعالياً ووجدانياً، حيث تأتي لغتها انفعالية وجدانية لا لغة فكرية خالصة[11]، فهي تقبل تنوع الصور من خلال تنوع العواطف الإنسانية وتعدد مواصفاتها، فعندما يتحدث الشاعر عن "سائراً في بستان الفتنة" فإن القضية ليست مجرد صورة شكلية للسير في بستان محدد بالمكان والفضاء المجسد في الواقع، وإنما تعبر عن التواجد في عالم ملؤه الفتنة والإغواء والإغراء بكل أشكالها، حيث تستدعي هذه الصورة مشاعر مختلفة تتعدد إلى صور أخرى ذات طبيعة إنسانية محضة متأثرة بما تعيشه وتشعر به. أما عندما يتحدث عن "إيقاع عري الثمر" فإنه يصوغ صورته الشعرية هنا بطريقة حية تتجسد من خلال تشكيل لغوي خاص من شأنه خلق التآلف والتجانس بين ما تثيره الصورة الاستعارية وما يحققه الشعر من اختراق للغة العادية بهدف خلق صورة جديدة مختلفة حيث يصير البستان عالماً من الأشياء والأجساد الفاتنة للشاعر والمثيرة لغرائزه، ويصير الثمر الذي في أشجار هذا البستان والذي يمثل فيه تشكيلاً متنوعاً من أشكال الفتنة والإغواء، فيصبح عري الثمر هو عري المرأة الأنثى وفتنتها الظاهرة والبادية للعيان.

ترى الدكتورة وجدان الصائغ أن الاستعارة في معناها المجازي "تلتقي مع الصورة في أن كلتيهما تشكيل لغوي قائم على هدم علاقات جديدة في إطار اللغة، فضلاً عن أن كلتيهما ترتبط ارتباطاً وثيقاً بعنصر الخيال والعاطفة والحواس. وما صلتهما ببعضهما إلا صلة الجزء بالكل"[12]. هنا تكون هذه العلاقة الجديدة قائمة على أشياء غير ملموسة بل هي مجردة تستخدم العاطفة والخيال الممتد في الذهن لدى الشاعر، يقول الشاعر في قصيدة "كمْ ساقاً أتحَايلُ كيْ أصِلَ الشَّهْقةَ؟":

تنَبَّهْ...

خِصْري مسْدولٌ أعْلاَ/كَ

كفَاكَ ستَائِرُ زوْبعَةٍ تطْرفُ عيْنِي

أدْخلُ لغَةً منْ قُطْرٍ مُرٍّ

يحْتكُّ حرِيرُ الحرْفِ بضِلْعِ حنِينِي

ما أشْقَى الدَّمْعةَ يَابِسةَ المِلْحِ

كأَنَّ يداً تلْهُو بِكُراتٍ جامِدةٍ/ ترْتَجُّ جُذورِي

كنْ قَوْسَ الضِّفَّةِ

       حِضْنَ المرْفأِ

       رمْلَ المقْعَدِ

حبْرَ الغيْبُوبةِ

رائِحةِ المَرْمرِ[13]...

تعكس حركة الصورة المشهدية في هذا المقطع الشعري دلالات متعددة ومعاني مختلفة، فالصورة الشعرية الآخذة في التصاعد والتعدد الدلاليين تؤكد دوافع الشاعر العاطفية والوجدانية تجاه المرأة، حيث يصوِّر هذه الدوافع بصور رمزية تتوازى مع حركة الصور الشعرية (خصري مسدول أعلاك، قوس الضفة، حضن المرفأ، رمل المقعد، حبر الغيبوبة، رائحة المرمر) لترسم مشاهد مختلفة عن المعنى البسيط والظاهر لهذه العبارات. يعمل الشاعر على تجسيد الأشياء والمشاعر وأنسنتها من خلال توظيف الاستعارة المرشحة والممتدة، لأنه يدرك إدراكاً واضحاً بقدرة هذه الأنواع من الاستعارة على إقناع المتلقي بطرحه وموقفه وفكرته، ويدفعه إلى مشاركته هذه المشاعر والأحاسيس.

يستعمل الشاعر الاستعارة للخروج عن المعروف والمألوف في الحياة والعالم الواقعي الذي يعيش فيه، وذلك من أجل تحديد معنى جديد مختلف عن المعنى المفهوم من الجملة الشعرية. ورغم أنه يستخدم نفس اللغة التي يستخدمها أي كاتب آخر، فإن الشاعر يخرج عن هذه القاعدة، فيعمل على استحضار الانزياح اللغوي ليصل في النهاية إلى معنى يحقق الاختلاف عن باقي مستعملي هذه الأدوات اللغوية. فالاستعارة في قوتها الرمزية والإيحائية والدلالية ترتقي إلى مستوى الصورة الإقناعية للمتلقي لشعر محمد حلمي الريشة الذي يدرك منذ البداية هذه المسألة، ويعرف جيداً التأثير الذي يمكن للاستعارة أن تحققه لدى متلقيه الواعي بحقيقة اللغة ودلالتها العميقة.

يبدع محمد حلمي الريشة شعره، وكأنه يعيش مخاضاً صعباً، أو كأنه يشعر بأرقٍ لا يحس بصعوبته وقساوته غيره هو. فهو الذي عرف أسراره حتى خرج النص إلى الوجود لنقرأه نحن بكل أريحية ونتفاعل معه دون أي صعوبة تذكر. لقد نسج شعره نسجاً عنكبوتياً بلغة جميلة مبدعة تفرض على قارئها التوغل جيداً في مجاهل هذا النسج الذي يجمع شتات تركيز القارئ في موضوعة واحدة محددة الفكرة، كل ذلك ليخاطب المرأة/ الأنثى في اختلافها وجمالها وحركتها وسكونها واندفاعها وديناميتها وغيابها وحضورها الآسر... بلغة خاصة دون غيره من الشعراء الآخرين.

يمنح الشاعرُ المرأةَ صورة خيالية أو بالأحرى صوراً خيالية متنوعة فيرصد الاستعارات والمجازات الممكنة حولها وعنها، حيث يتوارى في نفسه ليشاهد ببصيرته شكل امرأته ورمزها الخاص بها، ورسمها التجسيدي المميز لعواطفه الجياشة، يقول في قصيدة "تُنْزِلُ لِي سِياجَ حقْلهاَ... وتُشرِّدنِي":

تُراهاَ تَضِجُّ بأُنُوثتِها

شجَرةُ الخَوْخِ العارِفةُ

لتَشْتهِينِي؟

بِماءِ واحِدٍ وأخْضرَ واحِدٍ وشمْسٍ واحِدةٍ

تُرْوى الثِّمارُ كلُّهَا

إلاَّ ثمَرَةُ الجسَدِ؛ بارْتكَابِهِ.

علَى زُجاجِ النَّافذَةِ الرَّطْبِ

كتَبْتُ: أحِبُّكِ

رغْمَ يقِينِي بِجفافِ إصْبَعِي[14].

يرتكز الشاعر محمد حلمي الريشة في ديوانه على لغة شعرية مفعمة بالأسرار المجازية والبلاغية التي تجعل من التعبير الشعري غطاء جمالياً لها. إنه يحمل وعاء غنياً، مليئاً بالأفكار والمواقف والمشاعر الدافئة التي تقي دموع الحب والعشق، وتدفعه إلى التحلي بالشجاعة للتعبير عن مكنوناته وعن ما يجيش به قلبه ويتسلل إلى ذهنه المتوقد فكراً وتنويراً وحرية.

 

كاتب وناقد من المغرب

 

المصادر والمراجع:

  • أدونيس، مقدمة للشعر العربي، دار العودة، بيروت، ط. 1، 1979.
  • جمال الموساوي، "كأعمى تقودني قصبة النأي لمحمد حلمي الريشة: العزلة التي تبهج الإبداع"، موقع ندوة، للشاعر سيد جودة، بدون تاريخ، رابط الموقع: http://www.arabicnadwah.com/bookreviews/uzla_risha-mousaoui.htm.
  • جون كوهين، بناء لغة الشعر، ترجمة : أحمد درويش، مكتبة الزهراء، القاهرة، 1985.
  • رضى عبد الله عليبي، "الشعر بين الشكل الوجيز والمعنى المتعدد"، مجلة نزوى، العدد 85، مسقط، يناير 2016.
  • محمد حلمي الريشة، كأعمى تقودني قصبة النأي، شعر، المؤلف نفسه بالتعاون مع بيت الشعر في فلسطين، ط. 1، 2008.
  • محمد عبد المطلب، البلاغة والأسلوبية، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، والشركة المصرية العالمية للنشر، لونجمان، ط. 1 1994.
  • محمد لطفي اليوسفي، في بنية الشعر العربي المعاصر، دار سراس للنشر، تونس، ط ، 1، 1985.
  • وجدان الصائغ، الصور الاستعارية في الشعر العربي الحديث، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط. 1، 2003.
  •  
 

[1] - محمد عبد المطلب، البلاغة والأسلوبية، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، والشركة المصرية العالمية للنشر، لونجمان، ط. 1 1994، ص. 256.

[2] - فاضل تامر، "أنساق التمفصل في القصيدة الحديثة: قصيدة أنشودة المطر للسياب أنموذجاً"، مجلة نزوى، العدد 85، مسقط، يناير 2016، ص. 72.

[3] - رضى عبد الله عليبي، "الشعر بين الشكل الوجيز والمعنى المتعدد"، مجلة نزوى، العدد 85، المرجع السابق، ص. 97.

[4] - جمال الموساوي، "كأعمى تقودني قصبة النأي لمحمد حلمي الريشة: العزلة التي تبهج الإبداع"، موقع ندوة، للشاعر سيد جودة، بدون تاريخ، رابط الموقع: http://www.arabicnadwah.com/bookreviews/uzla_risha-mousaoui.htm.

[5] - محمد حلمي الريشة، كأعمى تقودني قصبة النأي، شعر، المؤلف نفسه بالتعاون مع بيت الشعر في فلسطين، ط. 1، 2008، ص. 23- 24.

[6] - جون كوهين، بناء لغة الشعر، ترجمة : أحمد درويش، مكتبة الزهراء، القاهرة، 1985، ص. 35.

[7] - محمد لطفي اليوسفي، في بنية الشعر العربي المعاصر، دار سراس للنشر، تونس، ط ، 1، 1985، ص. 24.

[8] - أدونيس، مقدمة للشعر العربي، دار العودة، بيروت، ط. 1، 1979، ص. 125- 126.

[9] - الديوان، ص. 31- 32.

[10] - الديوان، ص. 57- 58.

[11] - وجدان الصائغ، الصور الاستعارية في الشعر العربي الحديث، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط. 1، 2003، ص. 28.

[12] - المرجع السابق، ص. 34.

[13] - الديوان، ص. 57- 58.

[14] - الديوان، ص. 88.