في ندوة نظمها مختبر الأسلوبية ومناهج تحليل الخطاب التابع لجامعة القاضي عياض وقاربت أساليب الخطاب ضمن احتفاء علمي أكاديمي بالناقد الدكتور محمد الحيرش، وقد استطاعت الجلسة العلمية أن ترتكز على تفكيك التأويلية القرآنية للأكاديمي المحتفى به على ضوء كتابه الحديث "أساليب الخطاب ورهانات التأويل".

عن "أساليب الخطاب ورهانات التأويل

أيت بن احساين ابراهيم-  محمد مهدي توفيق

 

احتضن مدرج الشرقاوي إقبال بكلية اللغة العربية بجامعة القاضي عياض بمراكش انطلاق فعاليات الندوة العلمية الموسومة ب"أساليب الخطاب ورهانات التأويل"، والتي نظمها مختبر الأسلوبية ومناهج تحليل الخطاب، وخصصت للاحتفاء بكتاب" النص وآليات الفهم في علوم القرآن – دراسة في ضوء التأويليات المعاصرة" للدكتور محمد الحيرش، وافتتحت الجلسة التي ترأسها د. محمد الطالبي بكلمة السيد عميد كلية اللغة العربية د.محمد أزهري أشار فيها إلى المجهودات التي تسعى إلى إرساء تقاليد أصيلة في البحث والتحليل، وأكد فيها على أهمية موضوع الندوة في الوضع الراهن. وبعدها تناول الكلمة كل من المحتفى به د.محمد الحيرش الذي شكر الجهات المنطمة، ود. ابراهيم أيت بن احساين الذي عبر عن اعتزازه باستقبال قامة فكرية مغربية لها طموح في تأسيس بحث علمي أكاديمي رصين يجمع بين التراث والحداثة، وينفتح على أسئلة المجتمع العربي في ظروف معقدة تتصارع فيه التأويلات انطلاقا من مرجعيات تكاد تكون متناقضة. كما عبر السيد مدير المختبر عن اعتزازه بطرح موضوع التأويل والهيرمينوطيقا لأول مرة برحاب كلية اللغة العربية بمراكش.

وانطلقت الجلسة العلمية الأولى التي ترأسها د. شرف العرب الداودي بمداخلة "التأويل عند سيبويه: الشاهد القرآني نموذجا" تطرق فيها د.نور الدين الوكيلي إلى أهمية كتاب سيبويه سواء من حيث المادة المعرفية أم من حيث آليات التحليل المعتمدة والمنهج المعياري الخاضع للضوابط والقواعد، ومعالجة الظواهر النحوية. ثم كشف بعض ملامح التأويل في كتاب سيبويه من خلال تقديم نماذج (على مستوى الحذف، والإضمار ومستوى الحمل على المعنى أو الشبه). أما مداخلة د.فريد امعضشو الموسومة ب"مصطلح التأويل في خطاب الوحي"، أشارت إلى أن الوحي سواء كان قرآنا أم سنة فهو ينتظم وفق علاقات، ومن الضروري الإلمام بعلوم اللغة وعلوم الآلة، وشتى العلوم التي تساعد على عملية التأويل. كما بين الباحث أن مفهوم التأويل -الذي يتداخل مع عدة مصطلحات مثل التفسير والتأويل- قد استعمل من طرف الأصوليين والمفسرين والفقهاء والمتكلمين والفلاسفة. وفي الأخير أوضح الباحث أهمية الدراسة التي قامت بها الأستاذة فريدة زمرد في مجال التأويل في الوحي. وركزت مداخلة د.ريحانة اليندوزي الموسومة ب" ضوابط التأويل عند الأصوليين" على مفهوم التأويل باعتباره جهدا عقليا اجتهاديا تتمثل حقيقته في صرف الألفاظ عن مدلولاتها الظاهرة إلى غيرها أقل احتمالا في الدلالة لدليل يقتضيه. ومن أجل ذلك سعى علماء الأصول إلى تحديد معالم التفسير والتأويل بوضعهم معايير محكمة وضوابط منهجية حاكمة لمسالك الفهم السديد، والاستنباط الصحيح من خطاب الشارع الحكيم. وقد أجملت الباحثة الضوابط الواردة في المصنفات الأصولية في سبعة ضوابط: استحضار البعد المصدري للنص الشرعي، وأن يكون اللفظ مما يقبل التأويل أصلا وداخلا في مجاله، وأن لا يسوغ العدول عن الظاهر بغير دليل، وأن يكون اللفظ أو الخطاب قابلا للمعنى الذي أول إليه، وأن لا يكون المعنى المؤول إليه معارضا لنص صريح قطعي، أو مناقضا لقاعدة شرعية مجمع عليها، وأن يراعي مقاصد الشارع الحكيم، وأن يكون المؤول أهلا لذلك. منبهة في الأخير إلى أن القرآن العظيم كلام الله المجيد الذي يحمل من المعاني ما لا يستنفد فهمه وتأويله جيل واحد، وإن كل جيل سيجد فيه ما يعجزه بحسب مداركه المعرفية ومكاسبه العقلية. وافتتح د.محمد الطوكي مداخلته "قانون التأويل عند المفسرين: الفخر الرازي نموذجا" بطرح أسئلة راهنة مرتبطة بمصطلح التأويل، ثم فكك عنوان المداخلة وأشار إلى أن عنوان كتاب التفسير المشتغل عليه "مفاتيح الغيب" فيه دلالة على التأويليات التي يطرحها النص الديني. وأوضح أسباب اختيار الفخر الرازي وتفسيره مفاتيح الغيب، حيث قدم الباحث سمات الفخر الرازي باعتباره مجتهد القرن السادس الهجري والمعروف بموسوعيته. وبعد ذلك انتقل الأستاذ الطوكي إلى قانون التأويل في مفاتيح الغيب، إذ بين أن دخول الرازي إلى النص القرآني كان من خلال عدة مداخل ممكنة. وتطرقت مداخلة د.محمد فرجي "حدود الوظيفة التأويلية عند متكلمي الغرب الإسلامي" إلى مركزية وأهمية التأويل في عصرنا الحالي مبرزا دواعي اختيار التأويل عند المتكلمين عامة وعند أحد علماء الغرب الإسلامي ابن بزيزة القيرواني خاصة من خلال كتابه "إيضاح السبيل إلى مناحي التأويل" مؤكدا على أن التأويل استنبت عند المتكلمين خاصة وأن النص واحد والمذاهب متعددة، فكانت مسألة التأويل هي الرابط بينها. وأشار إلى مجموعة من الثنائيات المرتبطة بالتأويل (العقل والنقل – اللفظ والمعنى– العامة والخاصة – الظاهر والباطن) مبينا في الأخير المشترك بين القراءات التأويلية عند المتكلمين وجعلها في : المصدر الرباني، والقدسية، ومكانة النص القرآني، إلا أن تمة اختلافات في مقدمات التأويل. أما مداخلة د.أنس وجاج "مناحي التأويل عند أبي القاسم السهيلي" بينت وريادة مؤلف " النص وآليات الفهم"، وكذا الإشكالات التي يطرحها الكتاب والموضوع، وسمات الكتابة الأكاديمية في هذا المؤلف. ثم حدد الباحث دواعي اختيار هذا الإمام الفذ أبي القاسم السهيلي مبينا حدود التأويل عند السهيلي، ورابطا بين النمذجة للتأويلية القرآنية المقترحة من طرف د. محمد الحيرش، النموذج الذي اعتمده الإمام السهيلي من خلال تقديم أمثلة تطبيقية.

وتطرقت مداخلة الباحث عبد الرزاق العسري الموسومة بـ"تثوير المعنى عند مفسري الصوفية" في البداية إلى التفسير الصوفي وأصَل له (القرن الثاني الهجري)، ثم أوضح مسار تبلوره فيما بعد، وأسباب ظهور هذا النوع من التفسير (أي التفسير الإشاري)، لينتقل بعد ذلك إلى تحديد مبادئ الصوفية لتأصيل تأويلهم من خلال التركيز على العلم اللدني في تأويلاتهم، مشيرا إلى طبيعة التجربة الذاتية عند المتصوفة والتي محلها القلب وحب الله والعشق حد المطلق. وفي الاخير قدم الباحث أمثلة تطبيقية (الطبري، الحلاج، ابن عربي) أبرز من خلالها حضور الرموز والإشارات عند مفسري الصوفية. واستهلت مداخلة د.بشرى تاكفراست "النص الصوفي والمقاربة التأويلية: ابن الفارض نموذجا" بالإشارة إلى كون الكتابة الأدبية الصوفية تزخر بالأسرار والألغاز والإشارات والرموز لارتباطها بعالم الروح والباطن. ثم بينت دواعي الاشتغال في فضاء التأويل وفي شعر ابن الفارض، وجعلت ذلك في الرغبة في الوقوف على المرجعية الدينية والرمز الصوفي الذي يحدد وعي الشاعر ابن الفارض. كما أوضحت الباحثة ضرورة فتح المجال لقراءة معرفية وتوجيهات فكرية ومكونات جمالية تستنبط من النص الشعري لابن الفارض المشحون بالعبارات المجازية والدلالات اللامحدودة. وقد تواصلت أشغال الندوة العلمية بجلسة ثانية ترأستها د.بشرى تاكفراست، وافتتحت بمداخلة د. شرف العرب الداودي" التأويل : تحيين إشكال" انطلق فيها من شرح مكونات العنوان ودواعي اختياره، وأشار إلى أنه سينظر إلى التأويل كما يراه غادامير وشلايرماخر. ثم بين الباحث كيف ينبني المعنى في الذهن قبل أن يكتب وقبل أن يقرأ وقبل أن يؤول. لينتقل الأستاذ الداودي إلى تحديد تيارات التأويل ( تأويل معتدل – تيار حرفي – تيار مغال)، واختلاف طرق التعامل مع التأويل، إذ هناك من يتعامل معه على اعتبار المؤلف، ومن يتعامل معه على اعتبار النص، وهناك من يتعامل معه على اعتبار القارئ. وفي الأخير نبه الأستاذ إلى ضرورة التمييز بين (التفسير – التأويل – التآول ) ((Exégèse – Interprétation – Interprétance، وانصبت مداخلة د.ابراهيم أيت بن احساين "النص الأدبي وإشكالية التأويل" على تحديد طبيعة النص الأدبي، فهو يعد من أكثر المواضيع تعقيدا ليس فقط بتداخل مكوناته اللغوية لكن بسبب التنازع في مرجعياته وتعدد مداخله النفسية والواقعية والتداولية. خاصة وأنه ليس غريبا أن يستغرق النقد الأدبي كل هذا الوقت الممتد إلى الحضارات القديمة لفهم هذا النص واستكناه أسراره وجمالياته. مشيرا في الوقت نفسه إلى أن علاقة النقد بالنص الأدبي في العصور الحديثة مرت بثلاث مراحل أساسية: الأولى: وهي مرحلة التفسير الوضعي للنص انطلاقا من مناهج خارجية تخدم النظرية الفلسفية أكثر مما تخدم طبيعة النص الجمالي. أما الثانية :وهي مرحلة الوصف البنيوي الدقيق لمكونات النص حسب مستوياته الصوتية والصرفية والمعجمية والدلالية مع ضبط العلاقات المختلفة بين هذه المكونات لبناء أنساق مجردة تحكم بنية النص الأدبي، والثالثة: وهي مرحلة التأويل، حيث نجد نقدا جذريا للمناهج الوضعية العلموية التي تدعي امتلاك الحقيقة المطلقة بموضوعها. وقد فتحت هذه المرحلة مجالا كبيرا للذات لتمارس حريتها وتفهم موضوعها انطلاقا من تجربتها الخاصة. وهكذا ظهرت المناهج التفكيكية ومناهج تحليل الخطاب ونظريات التلقي خاصة مفاهيم : أفق الانتظار والتفاعل وأماكن اللاتحديد والفراغات الخ.. واستهل الباحث مزايط مولود هيد الله مداخلته" انتصار الهيرمينوطيقا" بالتأصيل لمفهوم الهيرمينوطيقا، ثم بين كيف سيطر نموذج الهيرمينوطيقا على الفكر الفلسفي الغربي إلى أن أصبح نموذجا في الثقافة الغربية المعاصرة. وبهذا انتقلت الهيرمينوطيقا من دراسة النصوص إلى دراسة الوجود الإنساني. موضحا كيفية الاستفادة من الهيرمينوطيقا في عصرنا الحالي. أما الباحث محمد المهدي توفيق فقد وسم مداخلته بـ" آفاق التأويلية القرآنية من خلال كتاب " النص وآليات الفهم في علوم القرآن – دراسة في ضوء التأويليات المعاصرة" للباحث الأكاديمي محمد الحيرش، استهلها بالتعريف بالمؤلف والمؤلف من خلال العنوان المقترح لهذه الدراسة، ثم الهدف منها، والمتمثل في محاولة بناء نموذج اعتمادا على تركيبة من النماذج الأخرى. وذلك لتوظيفه كجسر بين نماذج التفسير والتأويل التراثية وبين نماذج التفسير الحداثية المعاصرة. مشيرا إلى بعض المفاهيم التي وظفها الباحث الأكاديمي الدكتور محمد الحيرش في دراسته (علوم التفسير، وعلوم القرآن، والمنظور الهيرمينوطيقي، والمنظور الميتافيزيقي، وأخلاقيات التأويل...)، ثم بين طبيعة النموذج الذي قدمة الأستاذ الحيرش لتنظيم المباحث التأويلية القرآنية، والذي أقامه على أبعاد ثلاثة ( البعد التكويني للنص – البعد النصي – البعد التأويلي). وفي الختام جاءت محاضرة الباحث الأكاديمي المحتفى به الدكتور محمد الحيرش والتي تطرق فيها إلى أسئلة التأويلية العربية القديمة في ضوء التأويليات المعاصرة، مشيرا إلى أن إشكال التأويل إشكال مركزي في العديد من الحقول المعرفية (نحو، فلسفة، تاريخ، أدب...) خاصة في ظل غياب مسح شامل للتأويلية العربية القديمة. وبعد ذلك أضاء الدكتور الحيرش عدة مفاهيم من قبيل: علوم القرآن، وعلوم التفسير، وأصول التفسير...حيث أوضح أن موضوع أصول التفسير هو المعرفة التفسيرية نفسها، في حين يعد علم التفسير علما موسوعيا يعنى بالنص وفهمه. كما تطرق الأستاذ المحتفى به إلى أخلاقيات التفسير المرتبطة بالممارسة التفسيرية وليس بالشخصية المفسرة، والتي تتمثل في ثقافة واسعة من الآداب والقيم مثل: التجرد من الهوى، والتجرد من الكبر، وتحقق الإيمان، والنظر إلى معاني القرآن على أنها معان لانهائية. وفي الأخير أشار الدكتور محمد الحيرش إلى ضرورة تأصيل المفاهيم وجعلها مرتبطة بالعصر الذي أنتجها من جهة، ومنفتحة على عصرنا الحالي، خاصة وأن التأويلية القديمة ستفيد كثيرا التأويلية المعاصرة. واختتم اليوم الدراسي بفتح المجال للمناقشة حيث تفاعل الحضور مع مواد هذه الندوة العلمية تفاعلا قويا، وانصبت المداخلات حول حدود الوظيفة التأويلية، وسبل الاستفادة من التأويليات المعاصرة دون تهميش التأويليات التقليدية.