بمناسبة المئوية الرابعة لرحيل شكسبير يعود الفنان المصري المرموق إلى تأمل أعماله المدهشة وسبرها لأغوار آليات السلطة ودور الجماهير، ويدير حوارا شيقا بين رؤى شكسبير تلك وما جري في مصر عقب ثورتها الشعبية التي يتصور حضوره وقائعها في ميدان التحرير، ودهشته لأن مؤسسة السلطة لم تتعلم منها شيئا.

شكسبير في ميدان التحرير

عادل السيوي

صب العم السم في أذن أخيه الملك وهو نائم، أخذ زوجته واغتصب سلطانه، ولما عاد الأمير هاملت من سفره الطويل كانت المؤامرة قد اكتملت، وأمه تنام بالفعل فى احضان من قتل ابيه، شبح الأب المغدور لم يرحم هاملت وطارده مطالبا بالقصاص، فماذا يفعل هذا المثقف المرهف، وهو يدرك ان المواجهة ستكون انتحارا حتميا، بعد الكثير من التردد وإدعاء الجنون والهذيان، أيقن هاملت أن الامتثال لهذا الواقع يفوق احتماله، أشهر سيفه فتمت تصفيته في الحال، ثم بكى الجميع على نبله وشبابه المهدور. وعندما وضع أنطونيو التاج فوق رأس يوليوس قيصر تردد الرجل، لأنه كان يدرك جيدا أن تتويجه يعنى تحويله بالضرورة الى سلطة مطلقة، وسيصبح بذلك منظورا لطعنه مفاجئة، ولكن سحر السلطة لا يقاوم وبالفعل قبل المغامرة بشروطها القاسية، الى أن قتله صديقه بروتوس متصورا أنه بذلك ينقذ روما. ويقدم الإجابة على السؤال: «ماذا سيقول المؤرخون الآن، هل ما زالت روما بمساحاتها الشاسعة لا تتسع إلا لرجل واحد؟»
شكسبير الذى تحتفل لندن بذكراه الآن مع العالم كله، انشغل كثيرا بمسألة السلطة، الملك لير وماكبث وعطيل ويوليوس قيصر وكليوباترا هي بعض تجسدات هذا الانشغال الكبير، انشغال فيه الكثير من روح عصره، ولكن فيه بالمثل فيض من عبقرية تتجاوز شروط اللحظة، تتحول من خلالها قصة حب إيطالية، بين روميو وجولييت، الى مجاز ساحر عن استحالة الحب وهزيمة الأحلام في عالم عنيف، تتصارع فيه قوى متعددة على النفوذ والسطوة، وضع شكسبير يده ببراعة خاصة على العلاقة الوطيدة بين السلطة والعنف. وعلى ذلك التعارض الجوهري بين السلطة والأخلاق، فالملك لير الذى يصر على الاحتفاظ بفرسانه المائة بكامل عتادهم، حتى بعد أن تخلى عن العرش وتخطى الثمانين ولن يدخل أي حرب، لم يحتمل أن تكتفى ابنته بمحبته كأب، وأمر بإعدام من حاول الدفاع عنها، جريمة كوردليا النكراء أنها قالت للملك إنها تحبه كما تحب ابنة أباها. أما الليدي ماكبث فتبوح لزوجها بعد سلسلة وحشية من الاغتيالات الدموية بسرها «رغم كل هذه الدماء التي تغطى يدى، فأنى أشعر بأن قلبي مازال ناصع البياض». وكأن الاغتيال قدر أو تورط لا إرادي، تمارسه بلا ندم، وكأنهم بالعنف يؤدون مهامهم التقليدية كضرورة أو واجب لا يمكن تغافله. وهم يدركون أن هناك دائما من سيأتي في النهاية لينتزع الملك او طلبا للقصاص.
الى أين كان سيذهب بنا هذا الخيال الفذ، إذا تصورنا أن الرجل قد انضم الينا في ميدان التحرير؟ وما الذى كان يمكن أن يلمحه ببصيرته الحادة وسط تلك الملايين من الأجساد؟ هل سيسعى للتعرف على مبررات هذه الحشود، أم كان سينجذب الى طاقة الشباب المتفجرة، وهذا الجوع الهائل للحرية. أم ربما كان سينشد كمسرحي بدرجة أكبر الى ما يفعله رجال الدولة آنذاك وهم يتخبطون داخل الكواليس، ويهذون حول ثرواتهم، ويحصون من هرب ومن سقط بالفعل ومن سيسقط وبمن سيضحون.
لم يلتفت شكسبير كثيرا الى ما نسميه الآن بالجماهير، كان البسطاء يبدون في أغلب أعماله كحكماء شعبيين وفلاسفة هامشيين: حفار القبور والملاح والمهرج، وكأن الشعب خزان للحكمة ولكن بلا إرادة ، يفوض أمره دائما إما لأقدار الهية لا راد لها، أو لسلطات حاكمة لا تكشف له أبدا عن نواياها الحقيقية. لا شك أن غياب المجاميع الكبيرة في الدراما، كان مرتبطا بطبيعة وامكانات العرض المسرحي فى وقت شكسبير، ولكن حتى الحوارات بين الأبطال لم تكن تتوقف كثيرا عند إرادة الناس، والملك لير يتأسى لأحوال شعبه فقط، عندما يرى بؤسه عن قرب، وهو طريد أعزل.
الشعب في أعمال شكسبير كتلة من الغفلة والحماس، روح مستباحة يشكلها القادة بخطبهم ووعودهم، حاضر دائما كالمراقب الصامت ولكن في خلفية المشهد، فهناك قانون بالغ القسوة يحكم لعبة الحياة، نحاول أن نتغافل عنه، وندعى ببساطة أن التاريخ قد تجاوزه. هذا لا ينفى أن هناك أشياء تجاوزتها الإنسانية بالفعل، فمسألة أكل لحوم البشر كانت جزءا من قواعد الصراع للبقاء في عهود قديمة، واختفت هذه الممارسة تماما، وهذه نقلة اخلاقية حقيقية. ولكن يبدو أن الشعوب، ولأنها شعوب ستظل تابعة للأنظمة التي تحكمها، رغم الثورات والوعى والتواصل والمواثيق والمعاهدات وحقوق الإنسان المتفق عليها عالميا، مازالت السلطات، بغض النظر عن طبيعتها، تحتكر البطولة المطلقة، تنظر الى الشعب ككائن رخو لا يكف عن الشكوى، او كخطر قادم، لابد من تحجيمه والهائه.
لنرجع الى الميدان، ربما نجد أن المسرحي الإنجليزي الكبير قد اشتبك بالفعل في حوار مع الشباب، عما سيفعلونه بعد الميدان، وراح يحكى لهم عن دهشته من أن السلطات ظلت كما هي، محتفظة بجوهرها كما هو رغم أنها غيرت أشكالها كثيرا، وقد يسألهم كيف لم تستطع الانسانية بكل قدراتها أن تكتشف بدائل جديدة، او أن تخترق مواقع التسلط القديمة: الدولة والأسرة والدين، والى متى ستظل الأنظمة تبدل قشورها ببراعة دون أن تتخلى عن لبها التسلطي. وقد يتوقف ليفكر في مسارات جديدة، حتى لا تتبدد كل الأحلام، وفى النهاية لا نستبعد أن يكسر كل توقعاتنا، ويتحمس لكتابة مجموعة مسرحيات قصيرة تجريبية أو غنائية، أو قصائد تعكس حيوية هذه الأرواح المفرطة في حماسها ومحبتها، وربما يقرر أن ينام بجانب المعتصمين في الخيام، او أن يحكى لأصدقائه عند رجوعه الى لندن، عن دهشته من إصرار الحكام على ممارسة نفس الأدوار الكريهة ــ التى كتب عنها منذ قرون طويلة ــ بلا تردد أو خجل.