في هذه المقالة القصيرة عن عملاقين من عمالقة الفكر الفرنسي المعاصر يكشف لنا الباحث الفرنسي عمق العلاقة بينهما، والأساس الفلسفي النيتشوي الذي تنهض عليه، وكيفية إضاءة كل منهما لفكر الآخر. وأهمية اختلافاتهما في الفكر والفلسفة، وكذلك في مواقفهما العامة والسياسية التي تتحدد بها مسؤولية المثقف تجاه عصره وقضاياها.

فوكو- دولوز: صديقان- لدودان

روجي بول دروا

ترجمة: سعيد بوخليط

تقديم: يوم 5 نوفمبر2015، أُدرجت مؤلفات ميشيل فوكو، ضمن مراجع '(مكتبة لابلياد). قبل عشرين سنة، وبالضبط يوم4 نوفمبر1997، توفي جيل دولوز في باريس .فيلسوفان أحب أحدهما الثاني، قبل أن يختلفا.

 

أي ثنائي هذا! لم يعرف له، تاريخ الفلسفة، مثيلا. في الغالب، يسير المفكرون، على نحو متلازم، لكنهم قد يشكلون ثنائيا حسب طريقة أستاذ-تلميذ (أبيقور- لوكريس، لوك- فولتير، فرويد-لاكان) أو سواء مترادفان، الأب الروحي ثم الابن - القاتل للأب (أفلاطون- أرسطو، ديكارت- سبينوزا، هيجل- ماركس). بعض أنواع التآلف، تجمع أصدقاء منصهرين مثل، مونتين- لابويتي، ماركس- إنجلز. غير أنه، مع ميشيل فوكو- جيل دولوز، سنجدنا أمام أمر ثان: بؤرة ثنائية فكرية فريدة، تمازج للقرب والبعد، الانجذاب والتنافر، الائتلاف والافتراق.

لقد قرأ الفيلسوفان، أحدهما الثاني بتركيز، فأُعجب أحدهما بالآخر .ترافقا، بل مدح أحدهما الثاني، واستمرا لفترة طويلة، متفقان جوهريا حول كل شيء، على الأقل حول ما هو سياسي. ليس الأمر مؤكدا مادامت علاقتهما اتصفت بالتعقد، محكومة أيضا بالتباين، وسوء الفهم ثم الصمت .رغم كل ذلك، لم تحدث بينهما أبدا قطيعة نهائية، ولا تصادمات جلية. مع اتساع المسافة الزمانية، وكذا العمل، الذي يحيط بآثارهما، ربما استوعبنا بشكل أفضل، ما يمثل غرابة لدى هذين الصديقين-العدوين، اللذين بصما مرحلتهما، ومازالا يجسدان حتى الآن، جانبا من عهدنا.

*ابتسامة نيتشه:
ما يجمع بينهما؟ يبلغان عمليا، نفس السن: ولد دولوز شهر يناير1925، وفوكو شهر أكتوبر1926 . ينحدر الاثنان، من وسط بورجوازي قروي، يعيش في بحبوحة، مع بيت أسري حاضر دائما- منطقة "بواتو"Poitou بالنسبة لفوكو، و"الليموزين" Limousin عند دولوز- ثم مشاجرات علنية لا مفر منها.

سواء فوكو أو دولوز، اكتشفا نفسيهما منذ عهد مبكر جدا، أنهما مختلفان ومتمردان، يسكن رأسيهما، شيطان سريع، إلى أقصى بعد. يرفضان: الانتساب إلى مكان، وظيفة، خطاب- جاهز، أو هوية ما. في المقابل، يتطلعان صوب: الحركة، المدارات، التجارب وكذا اللا- متوقع. لا يفصحان عن ذلك، فورا بتلك المصطلحات، لكن ذلك حقا ما يحركهما ويوجه قصدهما، بالتالي حدث بينهما الود، عند أول لقاء بينهما.

متى وأين، لأول مرة؟ يصعب أن نعرف ذلك، حسب تعدد الروايات. ربما، في جامعة كليرمون- فيرون ''حوالي سنة1962''، مثلما أخبر دولوز فيما بعد، عقب موت فوكو، مضيفا ما يلي: "إننا نتذكر إشارة أو ابتسامة، أكثر من التواريخ" .شيء مؤكد: شهر يوليوز سنة1964، في منطقة رويومون Royaumont، وخلال أربعة أيام، فترة ندوة تاريخية حول نيتشه، وجدا نفسيهما متواطئان سلفا مع بيير كلوفسكي، الذي يحظى لديهما بنفس الإعجاب، ثم جيورجيو كولي ومازينو مونتيناري، المشرف في إيطاليا على إصدار جديد، لمختلف أعمال نيتشه .فوكو ودولوز، سيؤطران معا الترجمة الفرنسية، التي نشرتها غاليمار في عشرات الأجزاء، فغيرت تلك الترجمات الجيدة، تناول نيتشه.

إذن، اختيار نيتشه كمرجعية فكرية، يمثل أول صلة أكثر حسما بينهما.لأن الأمر، لا يتعلق بمجرد ذوق أو تفضيل ثقافي، بل هو قرار فلسفي، تنجم عنه نتائج متعددة .اختيار من هذا القبيل، معناه مغادرة مدفن عظماء الكتاب الأكاديميين، وخلخلة الصرامة الجامعية، ثم شق عصا الطاعة عن الحد بين الفلسفي والأدبي .الاستناد على نيتشه، معناه اللعب بالنار، وفسح المجال للضحك، والاستفزازات والإقرارات الجسيمة وكذا الشظايا غير المسؤولة. إنه، إيثار لحركة صيرورة الكائن، بدل لا انفعاليته، ثم احتدام الرغبة عوض البراهين الفاترة. إنه، تمثّل لكل حقيقة، باعتبارها علاقات قوى. مختلف الأشياء التي انصهرت ثانية – في السراء والضراء- بين ثنايا نصوص الفيلسوفين، وكذا مساراتهما.

في رويومون، أثنت محاضرة فوكو على مؤَلف دولوز ''نيتشه والفلسفة''.أيضا، أفصح الأخير في مداخلته، عن تقديره لتحليلات فوكو. هكذا انطلقت كرة الطاولة بينهما، التي تواصلت خلال عشرين سنة، عرفت إعلاء في المزاد، من هذا الطرف وذاك، عبر إطراءات متبادلة.

سنة1970، كتب دولوز عن ''أركيولوجيا المعرفة" لفوكو: «لقد ولد شيء جديد في الفلسفة، نعم جوهريا مختلفا () عمل، على قدر جمالية ما يرفضه: صباح للاحتفال». خلال نفس السنة، رد عليه فوكو، بنبرة أقوى: «لقد حدث صعيق، من سيحمل اسم دولوز  ربما ذات يوم، أضحى القرن دولوزيا». يصعب، أن نضيف أكثر. مع ذلك، سنة 1975، وحول كتاب"الحراسة والعقاب"، أدرك دولوز عند فوكو: «توجها جديدا، بمثابة طي وتقطيع جديدين، يعارضان الكتب السابقة»، ويمكن للائحة أن تتسع .ينبغي، أن تتضمن مختلف مغامرات "علبة الأدوات''- التعبير المستعمل من لدن دولوز، لوصف أعمال فوكو، ثم استثمرها ثانية كي يصف مؤلفاته الخاصة- وحجم أكاليل التمجيد، التي نسجها باستمرار أحدهما نحو الثاني، دون أن يغيب عن ذهننا، كتاب دولوز عن فوكو بعد موته.

* عدم امتلاك هوية:
إذا أمكننا، أن نضحك ونتهكم على اتحادهما القائم على الإعجاب المتبادل، الغريب والمطنب، ولا نرى فيه سوى إحالات على رد للجميل، والانتهازية، فسيكون التفسير، إغفالا صميميا عن الحقيقة. لأنه ببداهة، كل واحد منهما أذهله، ما يكنه له الثاني من إعجاب وتقدير: ''مفاجأة غير متوقعة للروح''، حسب التعبير الجميل لديكارت. هذا اللقاء المستمر، كان في الواقع وبغرابة، مؤسسا من الداخل. أقوى محرك، لديهما، يكمن في تحررهما من ذاتهما، وعدم امتلاكهما لهوية. حلِم، دولوز وفوكو، بتغيير جلدهما، وأن يُخلقا بصيغة لانهائية، دون خضوعهما المنضبط لتوجه بعينه، ضمن جوانب مشهد ثابت بالحفاظ على هوية جامدة. كل واحد منهما، يحتفي بالثاني، لكنه يبقى تقريبا عاجزا كي يقول حقا بخصوصه الكثير، ثم ما يميزه عن عمله الشخصي، وكذا أن يعطيه مضمونا. من المحتمل أيضا، أن كل واحد منهما تطلع إلى تحقيق نجاح ما أنجزه الثاني، ولم يستطع هو نفسه إتمامه.

على امتداد أبحاثه، وسط الخزانات، انغمس فوكو في الأرشيفات، ومع الكتّاب الصغار، ثم أتربة الوقائع، متعمدا عدم التفاته للصروح النظرية الكبرى.على العكس منه، عرّف دولوز الفلسفة باعتبارها إبداعا للمفاهيم، لذلك أقام إلى جانب الوحوش المقدسة، قصد التشويش عليهم من الداخل، لكن دون الانشغال كثيرا، بالسياقات التاريخية والتقاليد العلمية. بالتأكيد، سواء فوكو أو دولوز، يتقصى أحدهما عند الآخر، ما يفتقده شخصيا.

هذا لم يمنعهما خلال سنوات، كي ينكبا معا على "أنشطة يسارية مألوفة'' وفق تعبير دولوز. يصعب، أن نحصي العرائض والتظاهرات والمواقف العملية المتخذة من طرفهما، والتي وحدتهما بعد سنة 1968، لاسيما حول جماعة التحقيق في السجون. هذا التواطؤ النضالي المستمر، القائم على الشجاعة والسخرية والمواقف المثيرة ، وبعض ضربات المطرقة، انتهى صيف سنة 1977 مع قضية كرواسون croissant .هذا المحامي الألماني، كان قريبا من جماعة الجيش الأحمر (أندرياس بادر وأولريكي ماينهوف) المنخرط في أعمال العنف، والاعتداءات بالقنابل، والاغتيالات.

إذن، كلاوس كرواسون المتهم بالإرهاب، سيرحل إلى فرنسا، ملتمسا اللجوء السياسي. بخصوص هذا الأمر، وضع دولوز إمضاءه من أجل دعم طلبه، بينما رفض فوكو، منحازا إلى جانب موقف حقوق الدفاع، المرتكز اعتراضه على رفضه دعم الإرهاب. إجمالا، وقف دولوز إلى جانب كلاوس كراوسون، مقابل امتناع فوكو. هكذا، بدأ التباعد بينهما، ثم ساد الصمت إلى غاية وفاة فوكو، الذي اتخذ قرارا، بأن لا يجتمع بدولوز مرة أخرى. تبادلا أحيانا رسائل مكتوبة، لكن دون التقائهما ثانية قط. على امتداد السنين، دافع دولوز عن اختيار النضال المسلح خصوصا ما يقوم به الفلسطينيون، بينما ساند فوكو إسرائيل.

رغم كل ذلك، دولوز من سيتلو يوم 29 يونيو 1984، بصوت يكسره الحزن وسط فناء المستشفى الجامعي "بيتي سالبترير''، لحظة مراسيم دفن صديقه، هذا النص الذي تضمنه كتاب فوكو الأخير، ''ممارسة الملذات'': «ماذا تبتغي المعرفة في سعيها الحثيث، غير ضمانها على نحو ما، وقدر ما تستطيع اكتساب المعارف، وليس أن تضلل من يعرف؟ لكن ما هي الفلسفة اليوم إذا لم ترتكز بدل شرعنة ما لدينا أصلا، أن تتعهد بمعرفة كيفية، ثم إلى أي حد سيكون بالإمكان التفكير بطريقة مختلفة؟» هي صياغة دقيقة، لما انطوى عليه مشروعهما المشترك، رغما عن تباعداتهما.

في زمن مختلف جدا عن زمنهما، فأن نفكر بطريقة مغايرة، يمثل واجبنا الدائم.

 

*هامش:

Le point :3 décembre ;2015.numéro2256 ;pp74 ;76.