أثناء الحرب العالميّة الأولى، توصّلت بريطانيا وفرنسا إلى اتفاق لتقاسم أراضي الإمبراطورية العثمانية، التي كانت تقاتل إلى جانب ألمانيا. وفي إبريل نيسان 1916م وقّع مارك سايكس ممثلاً عن بريطانيا، وجورج بيكو ممثلاً عن فرنسا على نص الاتفاقية الشهيرة التي عُرفت باسميهما. وفي مايو/أيار 1916م وقّعت عليها إيطاليا وروسيا. و"في هذه الاتفاقيّة احتفظت فرنسا لنفسها بمساحة كبيرة من أراضي الأناضول الجنوبيّة والجزء الشّمالي من سورية الطّبيعيّة ولواء الموصل، واحتفظت بريطانيا لنفسها بولايتي البصرة وبغداد ولواء كركوك، بالإضافة إلى الجزء الجنوبي من سورية الطّبيعيّة، ابتداء من غزّة والعقبة في الجنوب الغربي، على أن تلتقي بحدود العراق في وسط البادية. واتّفقت الدّولتان على جعل فلسطين باستثناء الجزء المعروف بالنّقب منطقة تخضع لحكم دوليّ خاصّ"(1).
لم تكن خرائط سايكس بيكو وليدة الحرب العالميّة الأولى ونتائجها، فالمرحلة الاستعماريّة التي سبقت هذه الاتفاقيّة، كانت قد بدأت منذ القرن الثامن عشر، الّذي شهد اهتماماً أوروبياً بالدولة العثمانيّة، حيث حاولت الدول الأوروبيّة بكل الوسائل النفوذ لداخل تلك السلطنة واقتصادها ومرافقها ومؤسساتها.
لن نعود كثيراً إلى مجاهل التّاريخ، ولكن يجب التّذكير بأنّ الدول الاستعمارية جهدت في جمع المعلومات حول الإمبراطوريّة العثمانيّة، وأرسلت بعثاتها إلى حواضرها، ولا يمكن إغفال دور البعثات التّبشيريّة الأوروبيّة الّتي حاولت الدّخول إلى قلوب وعقول المسلمين من بوابة التّعليم، فافتتحت المدارس المتنوّعة، وأنشأت الكليّات العالية(2).
هذه الحملات وفّرت للدول الاستعماريّة "خريطة متقنة ظهرت في تقسيمات سايكس بيكو، وتبيّن النظرة المتفحّصة لخرائط الاتفاقية أنّها قسّمت البلاد العربية بموجب معلومات متراكمة لدى فرنسا وبريطانيا، على أساس الثروات الاقتصادية والطبيعية أوّلاً، ومن ثمّ على أساس التركيبة السكانيّة دينيّاً وإثنيّاً، بشكل يبعد العرب السنّة عن كامل الساحل الشرقي للبحر المتوسط، كما يفصلهم عن الأتراك بكيانات أقلويّة تخلق حاجزاً بين ما تبقّى من السلطنة العثمانيّة والعرب السنّة في العراق وسورية، وعلى هذا الأساس الاستخباراتي - العسكري - الاستراتيجي كان الاتفاق على تجزئة الولايات العربيّة المحتلّة إلى 15 كياناً ضمن منطقتي نفوذ فرنسي (أزرق) وبريطاني (أحمر)، ومنطقة A (سلطة فرنسية مباشرة) ومنطقة B (سلطة بريطانية مباشرة)"(3)
قبل ذلك صدر تقرير لجنة بنرمان(4) عام 1907، حيث أكّد أنّ البحر المتوسّط هو الشريان الحيوي للاستعمار وللمصالح الاستعمارية الآنية والمستقبلية، وأنّه لابدّ من أجل نجاح أيّة خطّة تستهدف حماية المصالح الأوروبية المشتركة من السيطرة على البحر، وعلى شواطئه الجنوبية والشرقية، لأنّ من يستطيع التحكم بهذه المنطقة يستطيع التحكم بالعالم أجمع. وكوسيلة مستعجلة لدرء الخطر عن الاستعمار العالمي أوصى التقرير المذكور بضرورة العمل لفصل الجزء الإفريقي من الوطن العربي عن الجزء الآسيوي، وذلك لا يكون إلاّ من خلال إقامة حاجز بشري قوي وغريب على الجسر الذي يربط آسيا بإفريقيا، بالبحر المتوسط، بحيث يشكّل على مقربة من قناة السويس، قوة صديقة للاستعمار وعدوة لسكان المنطقة. ولم تكن اتفاقية سايكس ـ بيكو عام 1916، ووعد بلفور عام 1917، سوى التطبيق العملي لتوصيات لجنة بنرمان(5).
واجهت اتفاقيّة سايكس - بيكو عراقيل أمام تنفيذها بداية، وخصوصاً مع إعلان الأمير فيصل بن الحسين المملكة السوريّة بعد انفصاله عن السلطنة العثمانيّة، لذلك فقد عمدت بريطانيا وفرنسا إلى تطويع هذه العراقيل، وحصلتا على شرعيّة الاحتلال من خلال مؤتمر سان ريمو. أما البند الثاني والعشرين من وثيقة عصبة الأمم(6) فقد أضفى الشرعيّة للاحتلال البريطاني والفرنسي على البلاد العربيّة تحت مسمّى انتداب، ولم تكن قرارات عصبة الأمم إلا جراحة تجميلية لما كان أمراً معتاداً في ذلك العصر، وهو أن تحتل دولة قوية بلاداً ضعيفة وتستولي على أراضيها وثرواتها، "فكان الانتداب غطاءً وهمياً لنظام احتلال عسكري استعماري بخطط قديمة تبغي الهيمنة على المنطقة وثرواتها"(7).
هوامش:
(1) ـ خيريّة قاسميّة، الحكومة العربيّة في دمشق، ص37 .
(2) ـ محمود كامل، الدّولة العربيّة الكبرى، ص372.
(3) ـ كمال ديب، تاريخ سورية المعاصر، ص 39.
(4) شكّلت هذه اللجنة بقرار من رئيس حزب الأحرار البريطاني كامبل بنرمان الذي كان رئيساً للحكومة البريطانية، عام 1905، وضمت عدداً من العلماء في الاجتماع والجغرافيا والاقتصاد والنفط والزراعة، وعدداً من أساتذة الجامعات البريطانية والفرنسية منهم البرفسور جيمس، مؤلف كتاب زوال الإمبراطورية الرومانية، والبرفسور لوي مادلين مؤلف كتاب نشوء وزوال إمبراطورية نابليون، غيرهم. كانت مهمتهم المسح الشامل للمنطقة العربية، جغرافياً واجتماعياً واقتصادياً، واقتراح الوسائل والسبل التي تحقق مصالح المستعمرين على المدى التاريخي الطويل. انظر: وثيقة كامبل السرية وتفتيت الوطن العربي، مجلة دراسات تاريخية، العدد 10، عام 2008م.
(5) ـ منظمة التحرير الفلسطينية، ثورة أكتوبر والقضية الفلسطينية، ص42-43.
(6) ـ أرسى مؤتمر السلام الذي عقد بعد الحرب العالمية الأولى مبدأ الانتداب والّذي يقول بأنه ينبغي إدارة الأراضي التي كانت خاضعة لألمانيا والسلطنة العثمانيّة، من قبل حكومات مختلفة نيابة عن عصبة الأمم، وفق نظام يخضع للإشراف الدولي. عرف هذا النظام بالانتداب، الذي وضعه "مجلس العشرة" في 30 يناير/كانون الثاني 1919، وأحيل إلى عصبة الأمم. وقد نشأ الانتداب وفقاً للمادة 22 من ميثاق عصبة الأمم.
(7) ـ كمال ديب، تاريخ سورية المعاصر، ص 41.