في مديح الألم.. هل نمدح الألم؟ ربما لم تفكر في ذلك قبل هذا اليوم، ولكنك ستواجه هذا السؤال فجأة حينما تمسك بذلك الكتاب الذي بين يدينا.. سؤال يجيب عنه سيد البحراوي قائلاً: "سعي البشر -إذن- إلي الراحة هو مجابهة الألم. ولولا الألم لما سعوا ولما أبدعوا علمًا وفنًا، ولذلك وجب مدح الألم".
تلك الثنائية الموجودة في العنوان (مديح/ الألم) هي ذاتها التي نراها علي طول هذه اليوميات التي تسجل رحلة سيد البحراوي مع مرض السرطان، تلك الرحلة التي انتهت بانتصار البحراوي، كما تعود في كل رحلاته (التي أعرفها علي الأقل.)
الثنائية إذن، أو التضاد، أو المفارقة هي العماد التي يقوم عليها هذا الكتاب المؤلم البديع، الموجع الممتع، المبكي المبهج، القاسي الرقيق، العنيف المليء بالوهن.
ورغم أن هذا (الكتاب/ اليوميات)، الصادر عن دار الثقافة الجديدة، هو تسجيل لرحلة الألم، تلك الرحلة التي قد يري البعض أنها ستكون دافعًا إلي التفكير في الذات والذات فقط، فإن سيد البحراوي يبدو مختلفًا مفاجئًا (من يعرفه حقًا لن يفاجأ بالطبع) حيث بدا مشغولا بكل من وما حوله إلي الحد الذي جعل ذلك طاغيًا حتى علي انشغاله بنفسه.
يبدو سيد البحراوي مشغولا بالوطن.. القضية.. الحلم الذي عاش يدافع عنه ويسعي إلي تحقيقه طول حياته. لن تجد غرابة إذن في أن تجده يقول، وهو المريض المتألم المتوجع: "لا أحد ينتقد عدلي منصور رغم أنه المسئول عن أخطر قرارين معطلين للحياة السياسية في مصر، قانون التظاهر، وقانون الانتخابات البرلمانية".
أو أن تجده يقول: "حل المشكلة الدينية.. أولاً: حل المشكلات الاقتصادية ثم نشر مؤسسات علمية للدراسة علي نحو واسع يشمل كل قطاعات المجتمع، وبالمجان، طبعًا هذا يحتاج إلي ثورة سياسية وليست دينية، فليس هناك ثورات دينية إلا في عصور الأنبياء".
ويقول أيضًا: "أشاهد الجلسة الافتتاحية لمؤتمر القمة العربية، دون أن أنتظر شيئًا جديدًا، فقط لمشاهدة كيف يؤدي الممثلون، وللأسف كلهم ممثلون رديئون".
بدا سيد البحراوي كذلك مشغولا بالناس، وهو الذي يري أن "المشكلة الأساسية الآن هي إذا حدث وعشت، فلماذا؟ لإفادة الآخرين كما عشت دائمًا، أم هناك شيء خاص بك يمكن أن تعيش من أجله، يعني أن تحب الحياة وتستمتع بها؟".. الناس إذن كانوا محور حياة سيد البحراوي، ومحور كتابه -أيضًا-.. لن نعجب إذن من أن نجد أسماء فارقت الحياة، مثل (ألفت الروبي) أو أسماء أخري، مثل:(سلمي/ سوزان/ فاطمة/ زينب/ حنان/ أمينة/ فريال/ دينا/ بسنت/ أمل/ عزة/ ريمان/ مروي/ أحمد/ علاء/ خيري/ حسام/ تامر/ كريم/ عبد الرحمن/ أشرف...), سيد البحراوي لم ينس أحدًا تقريبًا.. ذكر الجميع.. وصفهم بأوصاف تتوافق مع لحظة الألم.. المرض.. الوهن.. كان قاسيًا علي بعضهم حينًا، ورقيقًا مع البعض الآخر حينًا آخر.. التناقض ذاته إذن حاضر في كل شيء، ولكنه تناقض رحلة العلاج، ذلك الخط الفاصل بين النقيضين الكبيرين (الحياة والموت.)
ولم ينشغل البحراوي فقط بالبشر، وإنما بدا مشغولا بالكائنات الأخري.. فها هو مشغول بعصفورته الجميلة التي تنادي رفيقها دومًا: "إنت يا واد يا ويكا؟ وبغضب، إنت فين يا ويكا؟ ثم اختفت. ربما ذهبت هي إليه". ولكن التناقض لا يترك هذا -أيضًا- فها هو "هذا الصباح.. بدأ الغراب بالنعيق، أتشاءم، ثم جاءتني صديقتي العصفورة علي استحياء، ثم بدأت تغريدها تنادي رفيقها، لكن نعيق الغراب استمر من مسافة أبعد".. ثنائية جديدة.. لا، ليست جديدة، إنها الثنائية ذاتها (العصفور/ الغراب، التفاؤل/ التشاؤم، الشفاء/ المرض، الحياة/ الموت.)
أما الأشياء فقد نالت -أيضًا- حظها من اهتمام البحراوي. بدا البحراوي مهتمًا بأشيائه التي رافقته طوال حياته. وهل هناك من رفيق أفضل من القلم والأوراق؟! لم يكن غريبًا إذن أن يكون واحدًا من أبطال كتابه هذا ذلك (القلم الحبر) الذي يحبه، والذي يبحث عنه، يحزن لفراقه ويبتهج لأن أحد أصدقائه يحضره له هدية.. لم يتخيل البحراوي أبدًا أنه سيفارق محبوبه (قلمه الحبر) بدا مشغولا بهذه الفكرة علي طول كتابه، وكيف أنه فقط من يعرف قيمة هذا القلم، أما هي فـ"لم تكن تعرف -مثل جيلها- ما معني القلم الحبر". قبل أن يستدرك: "ربما الآن تعرف". عاش البحراوي وسيظل مرسخا لقيمة هذا القلم رافعًا إياه راية له، ليقدمها إلي كل الأجيال التالية له.
رحلة الألم، أو البحث عن الراحة، رحلة طويلة بها الكثير من ملامح التناقض، كما أشرنا، وها هو التناقض ذاته يظهر في أسلوب البحراوي ذاته، فهو صاحب النفس الطويل حينًا، فيقدم لنا يومية طويلة (نسبيًا بالطبع) وربما عدة يوميات في يوم واحد، وهو صاحب النفس القصير في كثير من الأحيان، فلا تطول يومياته أكثر من سطر أو سطرين، لعله الألم وقتها هو الذي كان يتحكم في ذلك، ولعلها رغبة صادقة في الشفاء، وهو الذي قرر أن يقاوم بالكتابة، بالفن، بالإبداع..
هذا الكتاب (في مديح الألم) لن يخلو كذلك من حكمة، لكن صاحبها لم يدع أنه يلبس ثوب الحكيم.. هي خبرات وتجارب مع النفس.. من يعرف سيد البحراوي سيجده في هذا الكتاب.. سيراه في كل سطر من سطوره.. ذلك الشخص الذي يحافظ علي المبدأ.. يبدو قاسيًا حينًا، خصوصا إذا كان الأمر يتعلق بالمبدأ، ولكن هذه القسوة لا تخفي وراءها إلا طفلا كبيرًا رقيق المشاعر مرهف الحس.. اختصارًا لا تستطيع أن تقول إنها تخفي خلفها إنسانًا حقيقيًا في زمن قل فيه وجود مثل ذلك الإنسان..
** ملحوظة:
نسيت وأنا أتحدث عن المكان أن أخبرك يا صديقي (لا تنس أنك أبي أيضًا) بأنني أكتب هذه الكلمات وأنا أجلس إلي مكتبك.. لا تغضب كما غضبت في كتابك ممن جلست هنا.. أنا أجلس في هذا المكان لأكون دومًا قريبًا منك.. نعم.. أنت هنا دومًا.. تجلس بجواري الآن.. أراك هنا دومًا في هذا المكان الذي اشتاق إليك.. إنه يناديك، فعُد إليه..
جريدة أخبار الأدب