اللقاء بالباحث والناقد المغربي سعيد بنكراد، ضمن لقاءات مؤسسة المشروع للتفكير والتكوين، يمثل حدثا ثقافيا بامتياز ارتباطا بانشغالات الرجل الفكرية واهتماماته في مجال البحث السيميائي، أما وأن يشكل اللقاء محطة لمحاورته في قضايا اللغة والصورة والإشهار فهو ما شكل حدثا استثنائيا يلخص هذا التقرير بعضا من محاوره.

الصورة واللفظ راهنا

نظمت مؤسسة المشروع للتفكير والتكوين يوم الخميس 23 يونيو 2016 سمرا ثقافيا مع الباحث د. سعيد بنكرد حول جملة من القضايا الثقافية والفنية واللغوية الراهنة . وتمحورت الجلسة التي أدارتها الإعلامية سميرة لشهب حول ثلاثة محاور (الوضع اللغوي في المغرب، ثم جمال الصورة وخداعها، ثم الإشهار والمجتمع). وتكلف بكل محور باحث متخصص (وهم على التوالي محمد الصالحي، وإدريس جبري، وإدريس القري) تطلعا إلى تعميق النقاش، وإثارة القضايا الحيوية، واستفزاز المخاطب ليبرز موقفه إزاء ما يحدث في المجتمع المغربي الآن.

 وقد عرف مقر المؤسسة  بحي أكدال حركية ثقافية وفكرية طيلة شهر رمضان حرصا على تنفيذ محتويات البرنامج الثقافي الغني والحيوي الذي زاوج بين المسعيين الثقافي والسياسي، وراهن على إشراك فعاليات ثقافية وسياسية لتبادل وجهات النظر حول جملة من القضايا، واستشراف آفاق المستقبل بلغة الحوار والمساءلة والنقد والمحاجًّة.. وفي تساوق مع ذلك سبق للباحث محمد الداهي أن بين - في تقديمه لندوة سابقة عن الفنان رشيد الوالي- أنه من غايات هذه الأنشطة إثارةُ نقاش عمومي حول القضايا المعيشة، وترسيخُ أخلاقية النقاش، واعتمادُ طرق جديدة ومرنة في التواصل والحوار والإقناع والاقتناع.

إن الأمر يقتضي، فيما يخص محور الوضع اللغوي، بناء نموذج تدبيرٍ لغويٍّ وسياسيٍّ واقتصاديٍّ، من شأنه أن يعزز تماسك المجتمع وتنوعه وتعدده، ويدعم المصالح المعرفية والتواصلية للمواطنين أيا كان مستواهم الثقافي وانتماؤهم الاجتماعي. وهو ما يسوِّغُ الاختيارات الديمقراطية ( تبادل الثقة والاحترام بين الحاكم والمحكوم)، وإيجاد لغة مُبيَّأة وطنية تكون أداة للتواصل والثقافة والرُّقي في المجتمع. لكن، ما يؤسف له أن التبعية اللغوية الحالية للنخب السياسية ومصالحها الاقتصادية تقف حاجزا في وجه التحرر والتقدم والسيادة والاعتزاز بالهوية، وأدخلت التعليم- باعتباره رافعة للتنمية- في دوامة من الإخفاقات المتعاقبة (ضعف المؤهلات التواصلية للمتعلم، الهدر المدرسي المبكر، تعثر طرق تدريس اللغات، وفي مقدمتها اللغة العربية. عاش المغرب بعد حصوله على الاستقلال رسمية لغوية مزدوجة (عربية/ فرنسية)، هيمنت فيها اللغة الفرنسية على أساس أنها لغة النخب، ورجال الأعمال، وأصحاب القرار. وأضاف الدستور الجديد 2011 رسمية ثالثة للأمازيغية. إن هذا الوضع- لتعقده وتشابكه- كانت له انعكاسات سياسية سلبية، وخاصة في مجال الديمقراطية اللغوية، واحترام الحقوق اللغوية للمواطنين، وتدريس اللغة الوطنية وتداولها في المرافق الإدارية والاجتماعية والمحافل الرسمية.

 وفي هذا الصدد بين سعيد بنكراد أن النقاش حول الدارجة يرتد بنا إلى إلى العشرينات من القرن الماضي. وأحال ، بالخصوص، على المقدمة التي صدَّر بها الطبعة الثانية لكتاب " فتاوى كبار الكتاب والأدباء في مستقبل اللغة العربية". وبين أن المغاربة يتحدثون في حياتهم اليومية باللغة الدارجة، لكن أصحاب القرار يفكرون باللغة الفرنسية. وعارض فكرة ربط التخلف أو التقدم باللغة. هناك دول إفريقية تبنت اللغات الأجنبية كلغات رسمية لكنها لم تحقق التقدم المنشود. وبالمقابل، استطاعت الصين أن تشيد حضارة عظيمة بلغتها الأصلية وبانفتاحها على اللغة الإنجليزية.  حاول سعيد بنكراد في النقاش وفي ما كتب من قبل أن يتفادى ذكر بعد الألفاظ الإشكالية، على نحو " الهوية" و"القومية" وما يماثلهما. فاللغة العربية ستظل أداة لمخاطبة أفق أوسع، ورافعة للتنمية إن توافرت الإرادة السياسية. وهي ليست جماعا من القواعد والتراكيب فحسب وإنما ذخيرة فكرية وفنية وثقافية. وهي أغنى في تعبيرها من العامية. يكفي في هذا الصدد الإشارة إلى وجود كلمة واحدة لليل بالدارجة وهو ما يضيق  على المتكلم أفق التعبير ويصيبه بالعي، في حين تتوفر اللغة العربية الفصيحة على مفردات كثيرة (الديجور، الدجى، سدفة، سمر، صريم، هزيع، طسم، طيسل..الخ). وهي ليست مرادفات وإنما تقطيعات ثقافية ودلالية للتعبير عن الوجود في مختلف مراتبه وتجلياته ومقاماته المختلفة. ورأى سعيد بنكراد أن الدستور الجديد لم يحسم في وضع اللغة العربية بسبب موقعها ضمن اللغات الأخرى، وبالنظر إلى التنصيص عليها بعبارة ملتبسة يتصدرها الفعل الناقض " تظل".

وبين بنكراد في المحور الثاني أن الصورة، في الوقت الراهن، لا نعتبر أداة تعبيرية فحسب بل شكلا من أشكال الاستلاب والتضليل والتوجيه. وهذا ما يجعلها تنزاح عن وظيفتها التهذيبية والفنية (تربية المواطن على الجمال والرقي بذوقه). إنها تخضع للتمويه والمُلاينة  سعيا إلى عادة تشكيل المشهد، وصناعته وفق منظورات وزوايا جديدة. إن المعنى- في هذا الصدد-لا يُعاد إنتاجه من خلال استنساخ جزئية من الواقع المُعايَن، وإنما يتشكل من جديد بفضل تنظيم الفضاء عموما والدال خصوصا (المادة، اللون، الشكل).

وهذا ما يعلل تدخل عوامل جديدة (المضاف الثقافي، عناصر المجال والتأطير، الإرغامات المقامية) في التقاط الصورة وإشاعتها. لا تتوقف مهمتها في استنساخ الواقع أو إعادة تمثليه كما يعتقد عادة، وإنما لتدارك النقص فيه، وإعادة إنتاجه في نسخ متعددة، واستنطاق المغيب والمخبأ والمستتر فيه، وإعادة تمثليه وتشخيصه بطرق مغايرة .

ومما أشار إليه سعيد بنكراد- في المحور الثالث- أن الإشهار يقترن عندنا بالربح. في حين ننسى أن له أدوار أخرى قد تشكل خطرا على الذوق العام. فهو يتغلغل في نفسية الإنسان وباطنه مؤثرا على سلوكه وتفكيره، حاضا إياه على تغيير نمط عيشه وطريقته في الأكل واللباس والاستمتاع. وهكذا فالإشهار يخاطب أفق انتظار المستهلك وليس وعي المواطن بدعوى أنه يغلب الربح والتوجيه على التربية والقي بالذوق. وتوقف سعيد بنكراد أمام أمثلة كثيرة يحفل بها المشهد الإعلامي. نذكر منها أساسا سلسلة "مشيتي فيها" التي غابت فيها العناصر الفنية من قبيل المفاجأة والفطنة والذوق، وحلت، عوضها، الغباوة والعنف والسماجة والارتجال. إنها تقدمنا كأغبى شعب على الإطلاق، لا يحسن الضحك والمزاح والإيحاء والتلميح، كل ما يتقنه هو تقليب المواجع ومواضع الألم عرضا ودون روية.

وقد أثارت، مع بداية شهر رمضان، وصلة صنف من الإسفنح (Ponge) ردود فعل كثيرة وقوية  بسبب خطورة محتوياتها الأطفال خصوصا. توحي ظاهريا بشراء منتج يقاوم النار لكنها ضمنيا تحرض على هدر الطاقة، واللامبالاة، وإضرام النار والعبث بها. وهي كلها إيحاءات يحذر منها القانون المنظم للقطاع السمعي البصري بدعوى إقامة مفاضلة صريحة بين منتج وآخر، واستغلال براءة الأطفال، وتعريضهم لأخطار محتملة.

وفي الختام بين سعيد بنكراد أن الحكومة المغربية تفتقر لرؤية واضحة للنهوض بالقطاعين الثقافي والإعلامي، وتفادي انزلاقات تؤثر سلبا في تقدم المغرب وسمعته دوليا، وأن الجامعة المغربية ما زالت تكرس المحتويات التقليدية عوض الانفتاح على مواد جديدة وضمنها "تدريس الصورة"  لتطوير مؤهلات المتعلم الفنية والنقدية حتى يستطيع أن يحبط المفعول السحري لأساليب التضليل والتوجيه التي تجرده من إنسانيته، وتستخف بمواطنته، وتعبث بذوقه.