أبعد من تقرير عادي، يلامس الكاتب الفلسطيني مأمون شحاذة بعمق فلسفي بعضا من الظواهر التي تتعدى بحمولاتها الثقافية والسياسية البعد الأحادي كي تصبح ترسيخا ل"ثقافة" ذات مصالح وأهداف تتجاوز البعد الآني، ومن خلالها يتأمل ويقارب دلالاتها ومراميها بحس ساخر معرفي.

كلام ممنوع

مأمون شحادة

المسارح كثيرة ومتنوعة، والباحث بين سطور عروضها يجد نرجسية عنقودية متشظية المشاهد. فالنرجسيون يزرعون حطام حريتهم مكان زهر النرجس؛ عندما يسدل الستار عن مشهد المصالح وسقوط شعارات الحرية.

الأجدر قولاً وفعلاً، توثيق أركان مسرح حرية الذات قبل تمثيل دور الآخر، فاخضرار اللوز سيمفونية جميلة تشيخ باللون البني؛ لتصبح معزوفة لذيذة المسامع. أما تفخيم الـ”أنا”، من أقبح الإشارات، فهي العدو “الأول” و”الأخير”، وما بينهما يتسلل الآخر ليطربك على وتر الشيزوفرينيا.

مشهد الاستهزاء من الحمار مهاترة كبيرة، لأنه يعرف “مسيره وطريقه” ولو على بعد 40 كيلومترا، أما من يمتلك الحمار (الإنسان)، فتلزمه مسافة 40 كيلومترا؛ لكي يتعلم ما تعلمه الحمار، فأجمل ما في الحيوان طبيعة صوته ووضوح غرائزه، وأجمل ما في الإنسان ان يتصالح مع نفسه قبل التصالح مع الآخر.

وبما أن الفأر أقوى من الفيل، والبعوضة أقوى من الأسد، فمن المؤكد ان “الواسطة” أقوى من “الجدارة والأخلاق والمهنية”، فالموهبة يقتلها الإهمال الطوعي والجبري، والقلم يقتله الجاهل، والحاسد يقتل نفسه... أما مشهد الإخلاص فيقتله المتسلق على شجرة التين وهو يبتغي جمع الثمار.

لا تنبهر كثيراً بالشكليات، فالهندام لا يعني أناقة العقل، لأن الثقافة والغرور لا يلتقيان، وكما تسرح شعرك كل يوم، سرح عقلك من الجهل والخرافات، فعامل النظافة مثل الأم، “الأول” يرعى وطنك بصورة عامة، والأم ترعاك بصورة خاصة، وإذا رأيت شخصاً يهاجم عملاً انسانياً ناجحاً، بحجج مقنعة، فاعلم ان العيب ليس في الشخص المهاجم، بل فيك انت، لأن من ادبيات القراءة، ان لا تكتفي بالعنوان بعيداً عن المضمون، فالأعمى يرى بقلبه، والمبصر يجهل ما يراه الأعمى.

إن أصحاب الشعارات الكبيرة، يختزلون شعاراتهم مع مرور الزمن، حتى تصبح صغيرة، وإن أقبحها هي التي تبدأ بفكرة كبيرة تتجاوز الواقع المعاش.

الحياة مسرح كبير، وأشهر عناوين عروضها “قداسة الحزب”، وترى من خلال هذا العنوان قيام بعض الشخصيات المعارضة ببناء شهرة ذاتية على انقاض مواقفهم المرحلية، ويسيرون مع التيار بمجرد استلامهم حقيبة وزارية او ادارية، لأن الخراف حينما تسمن يأتي موعد التطبيق بمقدار أجنداتهم، ولكن! من يبتغي المنصب شهرةً، سيظل مريضاً وأسيراً لها، فأقبح درجات الغباء، ان تصدق صاحب منفعة يبتغي الشهرة.

اما من يكسر الخلية ليحصل على العسل، بالتأكيد يجهل قراءة خارطة المجالات الحياتية، فلا تكن نسخة عنه، والتزم تقييم محيطك الداخلي؛ لأن الانتقاد من دون تقويم بيتك وذاتك لا يختلف عن سياسة الانحراف التقويمي والتقييمي لمن يجهل معالم تلك الخارطة، وتَذَكَر أن محاسن القائد لا تُذكر الا بعد رحيله، تماماً مثل اللوحات الفنية العالمية التي تباع باهظة الثمن بعد وفاة رسامها.

إذن عليك النظر الى عقدة المجالات الحياتية من منظار حبة الرمان، جوهرها مجزأ وقشرتها شديدة المرارة، كذلك الشعارات، بنودها جميلة وتطبيقها قبيح.

وما يخجلك أثناء مشاهدة هذا المسرح الكبير، أمر تسمية “الصحافة” بالسلطة الرابعة، فمن الهراء ان تسمى “الرابعة”، لأنها مجاملة عبثية، كملاحقة السراب للظل.

اما الأغرب من ذلك، ان يطلق على مواقع التواصل الاجتماعي لقب السلطة الخامسة، فعندها يكون الجواب كملاحقة الظل للسراب.

وللخروج من مستنقع الضباب وبرودة الانكسار، لابد من المرور بقصص تستوطن الفكر وتجليات بيئته، حيث سُئل “شخص”: ما هي الانتخابات؟ رد قائلاً: ان تتحالف مع العشيرة لإنجاح شخص ما.

الى ذلك، سُئل شخص آخر: من صنع القلم؟ رد قائلاً: بالتأكيد مهندس القلم... رد السائل “نافياً” بإجابة جوهرية: صانع القلم المشاعر؛ لأنها الطريق الواصل بين العقل والقلب والكلمة.

وفي قصة أخرى، مُنِح احد الاشخاص شرف اختيار ثلة من المثقفين لحضور ندوة تتحدث عن الأدب والفكر، فقام باختيار بعض المنتفعين، ذلك أنه يجهل أن “الأنوثة” و”الرجولة” تكمنان في جوهر الاخلاق والأسلوب ورجاحة العقل.

زبدة القول، لا تقف على حدود الذاكرة متشائماً، بل ابتسم؛ لأنها (أي الذاكرة) تعلمك دروساً اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية، والاقتراب من أصحاب الذاكرة القصيرة، يعني ان تكون أول من يُنْسى، وأن الصفر المتدحرج، ربما يَثبت، فيصيب اليمين نجاحاً بعيداً عن الشمال، فأعمى يرى بعقله، خير من مبصر يتجاهل “اقرأ”.

ومن يعتقد أن درجة حرارة الجو أعلى وأسخن من الأحداث العربية المؤلمة، بالتأكيد انه يعاني لوثة عقلية تترنح بين ملاحقة الظل للسراب واستشراف السراب للظل.

 

*كاتب صحافي من فلسطين