إن تحقيق التقدم حقيقة ممكنة دائما، حين ينقض التخلف على الإنسان، بشرط أن يتحرر فكره وتعليمه، سعيا لتحقيق حياة الحضارة. هنا تكمن سعادة الإنسان العملية، بالحوار المؤسس المتبادل، والانفتاح على الاختلاف والمختلفين. لكن ادعاء الوصول إلى نقطة النهاية، يبقى خرافة وقطيعة وهمية مختلقة جوفاء. التقدم إلى الأمام منارة الحق والحرية والصداقة الفلسفية. أما الوصول فعالم مغلق، وبكاء على الطلل، وسذاجة تفكير، وإقصاء للآخر المختلف، وتعصّب منفر، ورفض للمتعدد المنشود بالنسبة لجميع ثقافات العالم قديما وحديثا.
لا شك أن واضع فكرة "الوصول"، افتراضا منا على الأقل، من أولئك الذين يخافون من السعي الدائم إلى إرادة حياة التقدم، ونيل القوة المدهشة لصداقة الفلسفة والفلاسفة المتقدمين، ممن يتشبثون ويتشبعون بروح الطبيعة تقربا، ويحترمون الانسان حتى النخاع، مهما كان زمنهم قديما، وكانت أمكنتهم بعيدة عن زمن التفكير وشروط الحياة الراهنة حولنا.
لعل الصداقة الفلسفية، هنا والآن .. فعل تأسيس فاعل، وليس فعل وصول منفعل. فعل تواصل وانفتاح وقوة التفكير وعمق الروية، وليس فعل انغلاق، وإقصاء واحتكار ورفض المختلف. صداقة الفلسفة، هي اختيار من لا اختيار له، في سبيل تفعيل حركة العقل النقدي المتقدم، القائد الأعظم إلى مملكة الإنسان وجنان الحياة على هذه الأرض. وليس البقاء في ظلمة جزيرة النص المهجورة الموحشة والمتوحشة إلى أبد الآبدين.
نقرأ في الموقف الماضوي المتزمت لأطروحة الوصول النهائي، بمفهومنا البحثي، ضمنيا، نوعا من عدم الاعتراف بقوة الآخر المختلف. والعكس هو الذي يجب أن يكون. لأن فعل الوصول، كنقطة نهاية، في هذه الحالة، يتحوّل، حسب تحليلنا، إلى ظاهرة منفعلة ضعيفة، تؤشر على الوجود الكمّي لقوى نظام الارتكاس المهيمنة، في زمننا، والمكتسحة للحقل الاجتماعي والمجتمعي العامين. بحيث نفهمها كحقيقة موضوعة مختلَقة، لا تهمّ سوى ذات العقل البسيط، والمتواضع الموظّف والراغب في الوصول، كنتيجة ضرورية لاختياره الذهني، والمعتمد كطريقة تفكير متسرعة، دون وعي منه في الغالب، أو بوعي مخدر، أو مدبر بسؤال التحكم الاقتصادي. أو بفكر هدّام مقنّع بالدين أو بالفن أو بالسياسة .. أو بسلطة المال والإعلام وثقافة تحجيم الإنسان .. وغيرها من وسائل التخدير الجديدة، وأدوات الإكراه الاجتماعية السائدة .. إلخ. نتحدث هنا عن عامة الناس، وعن جزء مهم من نخبة المجتمع المساهمة في صنع القرار، الذين اختاروا السير مع تيار ما هو سائد ومهيمن، ضدّ الواقع العميق والمقصي من سياسات المجتمعات المنفعلة. هؤلاء المواطنون الذين غالبا ما نجدهم ضحايا المواقف المتعصبة، بسبب جهلهم المركب لحرب المواقع، والصراع المذهبي والأيديولوجي من أجل السلطة، تلك المواقع الظاهرة والمتوارية الكائنة في بيئتهم المجتمعية .. فنراهم يختارون أو يدفعون لاختيار مواقع معينة: ضدّ الحياة .. وأيضا ضدّ العقل .. والإنسان، وضدّ الفلسفة .. وأساسا، ضدّ أهل الفكر الحر .. فيكون مصيرهم تراجيديا، تلعب به أيدي الجلاد، نتيجة الاختيار الخاطئ، والتفكير النكوصي غير السليم.
إن الوصول هنا، يعنى التوقف عند نهاية الطريق، ومحاولة فرض الذات على الذات المضادة، والكف عن نبض قلب الفعل، والتجرد التام من قوى الحركة والتغير، وعن إنتاج الموقف النقدي، والسلوك المتقدم، صوب الأمام والمستقبل المنفتح على مفاجئات عالمنا المتغير. يعني أننا هنا، بصدد ذات عقل ثابتة "تفكر"، بفعل العادة الغرائزية المكرورة التي تميل طبيعيا إلى وضع الارتكاس، والارتخاء والانفعال، والاستسلام الكلي أو المرحلي لوهم الوصول إلى عتبة النص "الممنوع"، ونقطة النهاية التي لا نهاية سواها. مركزية النص الواحد والوحيد، ولا حياة نص غير حياة نص المركز. دكتاتورية سلطة الوجدان لا محالة.
أما التقدم الإيجابي، بمعية التفكير النقدي، والصداقة الفلسفية الخلاقة في مسار الإنسان المتعدد، وفعل الإبداع الحر، فهو من مبادرات عملية النافعة للعموم، قبل النخبة المتنورة، وخرق جريء وفاضح لمحدودية الفكر المغلق والحدود الوهمية. هذا السلوك التقدمي النوعي يعتبر عند الوصوليين (من الوصول) الضحايا الدائمين، والمهندسين الثابتين في مواقفهم، غرابة غير حميدة، وخروجا غريبا عن المألوف، يفتقد لأدنى الشرعية الاجتماعية والقانونية والتاريخية والثقافية الإنسانية. إن قضية الوصول هذه، عكس مبدأ الانطلاق المتحرر، وتحولات الحركة والبداية والولادة المتغيرة، ذات الملمح التراجيدي، كالصداقة الفلسفية بالضبط، تؤسس، من الناحية الفكرية العميقة لأطروحتنا، لقدر الميتافيزيقا المفارِق المدجّن، وتبشر من ثمّ بالإنسان الضعيف، المكتفي بالترديد، وتركيب الأشكال ووضع الأصباغ على القناع، دون القدرة على تخطي عتبة النص الجامد، وتجاوز- إن لم نقل - هدم خطوط وأسوار، بل أصنام الوصول، لإبداع مفاهيم جديدة للاشتغال، والنجاح في إنتاج، وإعادة إنتاج الانسان القوي، بعلمه وتعليمه، وتحريره من حياة الخضوع والتدجين، إعدادا له للمزيد من فرص الضعف وعنف السقوط. إنسان يلزم أن يوجد ويحيا كقدرة هائلة، ولامحدودة .. في واقع معقد، وقابل لأن يتحوّل ويتغير باستمرار، باعتبار أن القدرة الفكرية الفلسفية البشرية، الفعالة والقوية بعمقها، هي المؤهلة لتصنع الواقع المناسب لها .. وتحسن التكيف النوعي معه.
في حين، تبقى مسألة النهاية الانفعالية الحتمية، لمفهوم الوصول، وصنّاعه العمليين الجلادين والتابعين المفترضين، مجرد وجود لموجود بالقوة، كما يقول أرسطو، لا يوجد إلا في الأذهان الثابتة المنفعلة به، أي بمثابة وهم في صياغة معدلة، تمّ اختلاقه من قبل نسق السلطة المسيطر، للحد من قوة انطلاق العقول الحرة، والإرادات المتقدمة والفاعلة.
فكثير من الأحكام الشائعة بين الناس، تبدو كما لو كانت حقائق طبيعية، بفعل التكرار والتداول، وغياب أو تغييب الوعي النقدي الفاضح للحقائق والمكتشف للحياة في تجلياتها الطبيعية القوية. وأحيانا أخرى، بفعل فاعلين متوارين، خلف أقنعة المجتمع، تجد تلك الأفكار الحكيمة، والكلمات الموزونة، تتخذ لها لباس ما هو مقدس. لكن الباحث المنقّب، في عمق تربة هذه التعابير المحكمة الصّنع، يستطيع تعرية مؤشرات التناقض، ومفارقات الوهم الذي خلفها، ويحركها، لتبدو للناس حقائق عادية ومقنعة.
هنا تكون للغة الكائنة والمتداولة التي نتحدث بها، سلطة القوة السحرية الخارقة في ممارسة العنف ضدّنا، نحن المتكلمين بها، بل هي بهذا المعنى السوسيولوجي، يمكن أن تمارس على أهلها تلك الخيانة العظمى التي ليست بالضرورة حقيقة بريئة. لأن حياة اللغة الفعلية تراهن على تقدم القوة الفكرية والاجتماعية، كقوة فاعلة ومهيمنة ومسيطرة، لمن يتكلم بها، بل ويتقن التخاطب والتواصل بها مع الآخرين، ممن هم موجودين ضرورة، داخل نفس دائرتهم التاريخية والحضارية، أو حقلهم الاجتماعي والتواصلي. أليست اللغة هنا خادعة، توهمنا بكونها تقول الحقيقة؟
إن خلف كل تعبير لغوي، ينتصب واقع مجتمع من البشر في جميع العصور، سواء كان قبيلة أو عشيرة أو طبقة، يريد به فرض هويته الفكرية، وحقيقته العقلية الثابتة أو المتغيرة، وطرائقه في الاجتماع والتواصل، وتدبير العيش وشؤون الحياة. وبالتالي، ولنعد إلى مسألة الوصول والنهاية، فالإنسان هنا والآن "صانع قيمه"، لأن اللغة هي بمثابة قناعنا غير المباشر، لتكريس قيمنا التي نؤمن بها، وندافع عنها، ونريدها أن تستمر في الزمن الآتي، الأمر الذي لن يتحقق طبعا دون التشويش في إطار صراع القوى المجتمعية، عن وعي، أو عن غير وعي، على القوى الفكرية المختلفة والاجتماعية المضادة، داخل نفس الحقل اللغوي والقيمي، للعنصر البشري الفاعل والمسيطر والمهيمن على جميع المستويات.