تواجهنا المجموعة القصصية الجديدة للدكتور بهاء عبد المجيد «طقوس الصعود» بعزف جديد علي سيمفونية الحياة بكل إخفاقاتها وصرخاتها وتبرمها وتلاشي الأمل وبصيص النور الموازي الذي يزيل جوانب الإحباطات وإن كانت تترك آثارها خلف الأحداث والشخصيات والذكريات. إنها مجموعة قصصية كالدنيا الدوارة تأخذك في دوامات للتواشج في إشارات منها مع أعمال أخري لمؤلفنا الشاب: إشارات تعمق من الإحساس بالجمال وفهم كنه هذه الحياة المعاشة في عملية صعود لسماوات عالية من السرد الرائق الصافي.
في قصص هذه المجموعة نجد قصتين وهما "رجل وأمرأتان" و"بلد الحلم البعيد" نلمح فيهما بعض تيمات من الرواية السابقة للكاتب "النوم مع الغرباء" والتي تتكلم عن شروخ العلاقة بين الرجل والمرأة وتلاشي السفر- الحلم للولايات المتحدة ونهايته بالعودة من هناك. أما في قصة "مراكب الشمس" والتي أسمع فيها أصوات ودعوات وهمهمات الكهنة في معبد آمون وهم يسردون محاسن ذلك الذي مات في ترانيم كأنها دعوة للبعث من جديد، أو الحفاظ علي من ترك الحياة لعالم الموتي. وكذلك في قصة " سينما شبرا بلاس" والتي تتحسر علي أيام شبرا القديمة وذهاب الماضي الجميل الحلم ، نري في هاتين القصتين ترديدات لتيمات في الرواية الرائعة للمؤلف "سانت تريزا " والتي تتناول شبرا وتفاعل المجتمع المصري بعناصره المختلفة وتواشج فئاته والإهتمام بالأضرحة كطقوس تمتحي من القديم والفرعوني والمقدس سماته وآثاره.
إذا ذهبنا إلي أعماق قصص منتقاة من هذه المجموعة القصصية الضافية لكاتبنا الشاب بهاء عبد المجيد سنجد تيمات معينة تواجهنا في سماوات الصعود، فنجد في القصة الأولي "الإله الذهبي" ولنا أن نقف أمام كلمة الإله ومغزاها هنا في هذه القصة والتي تنتهي بولوج بطلها مفتول العضلات والجسد لعالم الأفلام الإباحية مقابل مبلغ كبير من الدولاراتK وذلك في عبارة خاتمة للقصة تنقلنا إلي عالم "عادل" بطل قصتنا المتيم بجسمه "لم يرفض متعللا بأن هذا عمل مثل أي عمل، خاصة بعدما خفت السياحة في شرم بعد الثورة، وقال: متعة ونقود وهجرة، بدلا من هذه البلد التي تأكلنا أحياء وترمينا جيفة بعد موتنا" ص16
قبل هذه النهاية نري بطل القصة الذي تبدلت حاله فنجده "وكلما عاد إلي القرية كرهها وكره ظله وكره حقولها وفقرها واشتري دارا جديدة، ومتجرا ليتاجر والده به، وأرسل في البريد مالا لوالدته وازداد طولا وجمالا، وكأن الخطيئة إكسير الحياة" ص 16. إنها عبارات من نور تضفي علي السرد في القصة رونقا لتثبت معالم الأحداث في عقل القارئ حتي تكتمل لقطات القصة ونفهم ما يدور فيها كنموذج نواجهه في هذه الحياه نقبله أو نرفضهK لكنه موجود وزادت نسبته في السنوات الأخيرة.
في قصة "كريم أساس" نجد من عنوان القصة أن هناك أحداثا هادئة علي السطح ولكننا مانلبث أن نجد "ماجد" الزوج الذي قتل زوجته "نهلة" معنويا في العديد من المرات بعبارات كأنها النصل الحاد الذي يصمي بسرعة البرقK ولاتنتبه الضحية إلا وهي تودع عالم الدنيا. فنجد عبارته القاتلة لها وهي تتزين بالبيت "لماذ تتزينين؟ ولمن؟ ثم أضاف: التي في مثل سنك تستعد للموت، وتحفر قبرها بيديها، وتنتظر اللحد وغلق فوهة القبر عليها" ص 21، دعني عزيزي القارئ أمضي بسرعة البرق إلي مشهد وفاة الزوجة "نهلة" لنري إنكسار الزوج وندمه، ولكن بعد أن ماتت الزوجة وتحطمت معنوياتها. "عندما وجدها هكذا بلا حراك لم يدر ماذا يفعل، انتابه ذهول ثم ذعر وأحاطته حالة من الهيستريا، ثم بدأ يصرخ، ويطلب منها أن تستيقظ، ولكنها كانت بعيدة تماما وباردة وبيضاء كالنهار وكالشمع" ص 23 حاول الزوج أن يكفر عن كلماته القاسية علي زوجته والتي جعلتها لا تتزين من خلال محاولته تزيينها بأحمر الشفاه وهي علي خشبة الغسل، ولكنها تحرك رأسها أو يتحرك رأسها فجأة علي خشبة الغسل، وكأنها حتي أخر وجودها بالحياة ترفض ترضيته لها" وكأنها ترفض فعله، فسقط قلم الشفاه علي الأرض محدثا دويا علي الأرضية التي يملؤها ماء الغسل الطاهر" ص 24 هنا نجد نهاية القسوة والتي أدت لوفاة الزوجة والتي وجدت في ابنتها وتزيينها في ليلة زفافها والمبالغة في ذلك تعويضا عن فقدها لذلك، قصة قصيرة تتواشج أحداثها لتعكس لنا تسلط الرجل- القهر علي المرأة الضعيفة المريضة في جبروت ينتهي بالندم علي ما فات، ولكن هل بعد فوات الأوان ندم .
في قصة "بئر الألوان" نري الأب وخوفه علي ابنه "حسام" ودفعه له للعمل خلال الصيف لدي أحد التجار المسيحيين، نري هنا عبارة فيها جمال اللفتة "يتذكر أنه كان دوما مايسمع صوت الأذان، وكان صاحب المتجر القبطي يأمره أن يذهب ويغتسل من ماء الميضة بالمسجد ليصلي" ص 29 شاهد فتاته هناك ويلتقي في هذه اللقطة صفاء الروح بالصلاة مع إحساس الفتي بنصفه الأخر ألا وهي "الفتاة الجميلة التي رأها وكانت تبتسم له، وتنظر له من حين إلي أخر" ص 30 لاتترك الأحداث للأمور أن تسير كما يراد لها فيحدث الزلزال وفي أقرب التصورات أنه زلزال 1992 الذي هزّ مصر وكشف مافيها من خفايا وزيف فنجد تجمد المشهد- القصة في لقطة "كانت الفتاة التي رآها منذ قليل في المسجد ترقد تحت سور المسجد المتهدم والدماء تلطخ وجهها وملابسها ويجتمع حول جسدها النسوة. عرفها من فستانها ووجها الملائكي" ص31 تموت الفتاة التي تركت فيه الانطباع ولكن تظل ذكراها "في المرات القليلة التي كان يري صورة الفتاة وهي تردد القرآن." ص 32 إنها قصة اللوعة وضياع الحلم تمثلت في أوجها في هذه القصة القصيرة المعبرة
في قصة "الرجل والبحر" نري بطل القصة بعد أن ودع زوجته وابنته الصغيرة لزيارة أمها، قفز في القطار المتجه إلي الإسكندرية لإطفاء شهوة البحر، وسنري بعد قليل أن هناك معني أخر لكلمة "شهوة" حيث سيلتقي الرجل بامرأة هناك، ويكاد يحدث بينهما شيء، ولكنه يترك المكان في أخر لحظة، وسنجد هذه اللقطة التي أوجزت الموقف وترديداته داخل نفس بطل القصة "ولكنه تململ وشعر فجأة بغصة وتذكر ابنته وزوجته اللتين ودعهما في محطة مصر، وارتسمت صورتهما علي وجه الطفل والفراش فانسحب منها" ص 50 تنتهي القصة بمحافظة بطلها علي عدم الوقوع في الرذيلة والنجاة من الموقف برمته.
في قصة "فن تشكيلي" يغار الزوج من صاحبه الفنان ويبدأ في التساؤل عن مدي حبه لزوجته وعن إعجابها بصديقه الفنان إلخ من هواجس الغيرة التي عكرت عليه نفسه، فنجده "لأول مرة لم يستمتع بالأضواء ونوافذ الدكاكين التي تقع في وسط المدينة، مر علي شارع طلعت حرب ولمح مقهي ريش، أراد أن ينزل من هذه السيارة وأن يترك هذا الصديق" ص 55. قصة قصيرة تعتمد علي العين اللاقطة للأحداث وطبائع الرجال وردود أفعالهم تجاه زوجاتهم مع الأخرين.
في قصة "رجل وامرأتان" نلتقي بالرجل المشتت بين امرأتين وكيف أنه في النهاية يلجأ إلي "لبني" بعد أن اعتذرت "غادة" عن استكمال علاقتها معه. قصة نري فيها الصراعات التي في "سانت تريزا " بين بطلتي الرواية "بدور" و"سوسن" ونجد أنفسنا أمام قطعة من الواقع الحي وحيرة الرجل أمام الأنثى حينما ترفضه فيبحث عن المرأة- الأم .
في قصة "سينما شبرا بالاس" نجد الحنين إلي الماضي بكل طقوسه وأحداثه ولفتاته، حنين يأخذ علي النفس أقطارها. نلمح في القصة طبواغرفيا سينمات شبرا "كانت هناك سينما الأمير في شارع خلوصي، وسينما التحرير بشارع شبرا بجوار متجر الجيزاوي، وسينما دوللي، ولكن كان الأقرب والأجمل هي شبرا بالاس، اسمها علي اسم حينا وأفلامها تناسب أذواقنا" ص 71 تنتهي القصة التي تتحدث عن الأب والأخت أيضا وكأنها تكمل دائرة الحنين للمكان بالحنين للأشخاص في تفاعل يجمع الجميع ونري نبرة الصرخة في كلام بطل القصة، وهو يقول "هُدمت سينما بالاس الأن، وحل محلها متجر كبير، وبناية قبيحة، وهدمت سينما الأمير، وقيل إن عادل إمام اشتراها وهدمها، ولكن لاتزال سينما التحرير باقية تسكنها أشباح وخيالات الأفلام والممثلين" ص73 تنتهي القصة بعبارة ملؤها المرارة حيث يقول البطل "ولم تعد شبرا هي شبرا لأنها أهلها تغيروا "ص 73
في القصة التي تأخذ المجموعة اسمها "طقوس الصعود" نري في القصة بساطة الحياة وتعقيداتها، فهذا هو الأستاذ "علي" يترك في ابنه آثارا ولقطات لا تنمحي من الذاكرة حيث تتمازج فيها الورود مع الكلام مع البسطاء والماضي الجميل وكفاح الأب وتضحياته. لقطات كأنها فيلم تسجيلي لحياة نتمنى أن نحياها وأن نكون في مثل هذه النوعية من العطاء. في القصة تتمازج لغة الواقع مع لغة لها ترنيمة خاصة وكأنها النشيد، فيقول راوي القصة في خاتمتها منهيا تلك الحياة- القدوة "ذهب ولم تزل قلوبنا تبلغ الحناجر، ذهب وترك الثورة والعنف والحياة بصخبها وطواحينها الماجنة التي لا تفرق بين ريح الخير وريح الشؤم. ومازلنا نصارع من أجل قتل الرياء والنفاق والظلم. هو لم يعرف غير الحب وغير الله .. زاد إيماني بوجود الله بموت أبي" ص 81
تختتم القصة بفقرة تلخص الصعود بمعناه كما نحسه وندركه "عاش الأستاذ علي فقيرا، ومات بروحه التي تحوم وتجيء لي كل ليلة عند الفجر، تردد مع الأذان أنغام السماء وتتحد روحانيا في لحن سماوي بديع هو الأن في مكان آخر بعيد جدا، ولكنه قريب من الحور والأعناب المتدلية، ويطير فوق أنهار من لبن وعسل مصفي، ويتنفس عطور الجنة، ويخدمه الولدان المخلدون، ويعيش علي لحم الطير، ويري مالا عين رأت، ولاخطر علي قلب بشر" ص 81& 82 خاتمة أجملت وعبرت وأوجزت في سبك من العبارات زاد من جلالها الأخذ من الأسلوب القرآني، ولكنها "طقوس الصعود" وهكذا لابد أن تكون لغتها الصافية القدسية .
في قصة "أوراق تسقط في الخريف" تواجهنا أحداث ألمح فيها جزءا من تأثيرات حياة الكاتب الذي سافر إلي الخارج ودرس وعاش هناك" من رحلتي من إنجلترا هذا العام حيث كنت أحاضر في جامعة أكسفورد، والحقيقة أنني لم أحاضر كثيرا، لأنني كنت مشغولا بنفسي كوني كاتبا، وشغفي بمعرفة البشر قرأت الأوديسة هذا العام وصورة دوريان جراي لأوسكار وايلد. وقصائد الكانتوز لعزرا باوند ، وأولاد حارتنا لنجيب محفوظ، ومات أبي هذا العام، وحزنت عليه كثيرا، وافتقدته وغابت عنا الفرحة منذ أن رحل" ص 87 نلمح في هذه القصة تأثيرات حياة الكاتب التي تنسرب إلي سرده فتزيده رونقا وتجعلنا نرفع القبعة له علي هذ الخليط الجميل والذي يضم لقطات مختلفة من الحياة، كما أن هناك خطا في الخلف يتمثل في حكاية بواب العمارة الذي يحادثه بطل القصة وراويها وتمتلئ القصة بلقطات أحس بأنها فسيفساء يتفنن الكاتب في اختيارها من أجل أن يزيدنا دهشة ويحفزنا إلي إعادة القراءة في عملية من التواصل النادر مع هذا النمط من الإبداع المتجدد. فنجد هذه العبارة التي تجعلنا نفطن للحياة "عند خروجي من المكتبة وجدته في طريقي وكانت الريح قد هدأت، واكتفي ملك الموت بما أسقطه من وريقات وفاة البشر في حي المعادي، ابتسم وتحول الوجه الصلب المنحوت إلي وجه بريء لطفل جميل، وقال أتفضل اشرب معانا شاي" ص 88 لا مزيد من التعليق علي تلك العبارة التي تأخذنا إلي مناحي جديدة في نص واحد، وكأنه سيمفونية تضم العديد من النغمات في معمار رائع نواجهه فنصمت في محرابه إجلالا.
في قصة "بلد الحلم البعيد" أري خيوط العزف علي تيمة السفر والغربة وضياع الحلم تتجدد في هذه القصة القصيرة؛ فنجد في القصة عودة "حازم" ولكنها عودة غير تامة واستطاع الراوي بطل القصة العائد من أيرلندا لدراسة القانون أن يضعنا معه في صوبته الزجاجية التي يري منها الناس ونحن معه نحس بأنفاسه عالية وحديثه لنفسه عالي النبرة وهو يحاول أن يعلل لنفسه تصرفاته وردود أفعاله ونحن فرحين أننا معه في صوبته الزجاجية، نراه ونسمعه ونستمتع بحديثه ودفء المكان كذلك، ويختتم كاتبنا بهاء عبد المجيد هذه القصة بعبارة تتركك تتساءل ولا تجد الإجابة "كان قرار العودة حتميا مع أول امرأة أوربية أقابلها في وسط البلد مهما يكن اختيارا لايناسب توقعاتي أو طموحي، البيع ليس له شروط مع الفقراء أو المحبطين" ص 100
في قصة "حبال ومشانق" وهي أخر قصص المجموعة نري فيها الأرستقراطية الإنجليزية في قاهرة بداية القرن العشرين حيث الاحتلال الإنجليزي الجاثم فوق صدورنا، وكذلك صور المصريين البسطاء. قصة قصيرة أرشحها أن تكون رواية قصيرة أو رواية طويلة يصول فيها كاتبنا ويجول فلديه من "حادثة دنشواي" الكثير والكثير في ذاكرة التاريخ والذاكرة الجمعية. ويجذبك الكاتب بلقطات من طين مصر مع لقطات من نمط حياة الإنجليز ورؤيتهم لأنفسهم ومن يحتلونهم. قصة كانت خاتمة المسك في المجموعة وإن كانت في نظري نواة مشروع إبداعي أضخم وأجل.
لقد أخرت حديثي عن هذه القصة "مراكب الشمس" – القصة قبل الأخيرة في المجموعة التي نحن بصدد الحديث عنها-لأنها قصة ترانيم وتعزف علي نغمة الطقوسية في المجموعة، إن القصة نشيد دائم التجديد وهي عبارة عن سرد في لغة شاعرية لتصرفات "العبد" الذي أدي الفضائل في الحياة الدنيا حيال أهله المقربين، وحيال الفقراء والمساكين، وحيال الحياة من حوله، من نهر وطيور. كما تسرد سمات التدين من تردد علي المعابد وتقديم القرابين والأضاحي، وحب الشمس وحب القمر وحب البحر .. إلخ في سرد لكل الصفات التي تؤهل للحياة الأخرى الجميلة وهنا نري تلك العبارة الخاتمة التي تعزف علي نغمة الصعود "أيها المعلم الحكيم الذي أسعدت تلاميذ القرية، أنت الآن تصعد للسماء وتبارك معراجك الملائكة، لأنك أخلصت في دنياك لإلهك وأحببت ابنك، ولم تفرق في ميراثهما. خطواتك ناعمة في المسير، وممرك آمن نحو السموات العلي" ص 105
ينتهي هنا الحديث عن هذه المجموعة القصصية التي أثلجت صدورنا ورسمت لنا لقطات من الحياة وأضافت لبنة إلي لبنات الإبداع القصصي المصري، وشيدت مع الإبداعات الأخرى لكاتبنا الشاب بهاء عبد المجيد عالما ندخله ولانريد أن نخرج منه، لأنه ببساطة الحياة في خفتها وثقلها، في أخذها وردها، في إقبالها وإدبارها، في سرد نقف أمامه مشدوهين كأننا أمام أثر فرعوني خالد، كلما تنظر إليه تزداد إعجابا وتقديرا ولا تريد أن تفارقه.