إن «كتابة القصة عملية فكرية جمالية بالأساس، نابعة عن وجدان مثقف ومثقل بهموم الناس، وهي في مضمونها وشكلها انعكاس للواقع المادي أيضا، لمستوى تطور المجتمعات ورقيها.» كما أنها ثمرة خيال خصب وذاكرة متوهجة ومتوثبة لالتقاط تفاصيل الحياة وجزئياتها، بما يجعلها إبداعا خصبا معطاءً ثراً.
والكاتبة المغربية الزهرة رميج في مجموعتها (عندما يومض البرق) اختارت الشكل الجديد الأصعب في الكتابة القصصية، أعني القصة القصيرة جدا. ومن يمتطي الأصعب وينجح في امتطائه يقدم الثمرات الناضجات الممتعات، وهو ما نجده في القصص الثمانين المشكلة لهذه المجموعة. ويعرف المتلقي أن كل قصة تحتاج إلى وقفة تأمل وعناية وتفكير، خاصة وأن وَجَازَةَ الحكي مفتوح على رحابة التأويل في هذه القصص القصيرة جدا، وجازة بهذا المعنى تحضن سَعَةَ الحياة، بكل ما تحتشد به الحياة من عنفوان وقوة وتوهج وبهاء. ويجد قارئ هذا المجموعة في قصة (سلطة) - السادسة والثلاثين من بين قصص المجموعة الثمانين- تركيزا وتكثيفا وإيحاء فائضا بمعنى الكتابة القصصية ودلالاتها وإوالياتها، نقرأ القصة كاملة:«(سلطة):
أخرجت كراستها. فتحت صفحة بيضاء. أخذت القلم لتكتب
قصتهما الغريبة. قصة تزخر بروعة النثر وسحر الشعر.
لديها ما يكفي من الجمال والجنون لتكتب قصة آسرة.
لكن، ما إن فتحت الصفحة البيضاء ودعت القلم لولوج
جسدها البض متسلحا بالرغبة المتأججة، حتى فوجئت به
يتقلص بين يديها ويتحول إلى مجرد هديبة تتلاعب بها الرياح.»
فكل طقوس الكتابة وملكاتها متوافرة لدى الكاتبة المحكي عنها في هذه القصة و«لديها ما يكفي من الجمال والجنون لتكتب قصة آسرة» وهي حقا قصة آسرة فالكتابة سلطة كما هو الجنس سلطة، وإذا كانت استعارة الجنس في هذه القصة قائمة على التحول المفضي إلى الخيبة، فإن أفق انتظار القارئ من القصة كلها يفضي إلى تحقق الإشباع، ولعل هذا ما تروم الكاتبة الإيماء إليه. فإذا كان الكاتب(ة) يعاني من الخيبة في تجربته، حتى يصبح شأنه شأن الأوراق في مهب الرياح، فإن القارئ يجني من ثمرة خيبة الكاتب إشباعا، ووجازة هذه القصة تنطوي على رحابة في التأويل، إذ أن الإبداع معاناة والقراءة متعة، لكن في المحصلة النهائية نجدهما-أعني الإبداع/ الكتابة/ والقراءة- كليهما معاناة ومتعة، إلى درجة أن كثيرا من المشتغلين بعمليات الإبداع والقراءة ينتهون في تأملاتهم لشأنيهما إلى الإقرار باقتران الألم فيهما باللذة، وكأن جوهر الإبداع هو نفسه جوهر الحياة بكل ما تزخر به الحياة من متع وآلام تقترن ببعضها حينا، وتفترق حينا آخر، وهكذا الحال في سائر قصص المجموعة التي تلفتنا ثيماتها الرئيسة بتلك اللمسة الومضية التي تلمس بها الكاتبة شؤون الحياة وقضاياها العامة والخاصة.
تتسم قصة (سلطة) بالوجازة، فهي لا تتعدى ستة أسطر لكنها تنطوي على كل ما تتسم به القصص القصيرة جدا، في هذه المجموعة كلها، وأهم تلك السمات الوجازة المفتوحة على رحابة التأويل، إن الكاتبة -في هذه القصة- تؤمن بسلطة الكتابة، باعتبارها سلطة معرفية تضاهي باقي السلط السائدة في المجتمع، ولذلك فهي تُعرف القارئ بمناط هذه السلطة النابعة من الجمال، أي من الخبرة الفنية كما يسميها الفيلسوف الأمريكي جون ديوي. إن الفن -وهو هنا القصة القصيرة- خبرة بآليات الكتابة وطرائق اشتغالها الفني والكتابة أيضا جنون، وهو يعني في هذا السياق: خبرة أخرى هي خبرة الحياة بكل ما تضج به الحياة وما تنطوي عليه من أسرار شبيهة بسرية الجنون بما هو تجربة في خوض الحياة ومعرفتها واكتناهها. وما قيل عن قصة (سلطة) هاته يصدق على باقي القصص الثمانين الثاوية في تضاعيف مجموعة (عندما يومض البرق). إنها قصص تتوافر فيها الخبرة الفنية، التي تمنح القصص كلها سر جاذبيتها الجمالية. إضافة إلى جاذبية الخبرة بالحياة. وهما خبرتان تضفيان على قصص هذه المجموعة هالة من التشويق والتحفز لمعرفة الدلالة، وكل هذا يحقق متعة الكتابة والقراءة اللتين تندغمان لتصلا إلى قارئ (عندما يومض البرق) في حال من النضج والذروة الفنيين، وفي كل هذا إبداع وجمال وجنون بمحبة الحياة وبمحبة الإبداع.
عدي مدانات: فن القصة وجهة نظر وتجربة.عمان.الأردن.الأهلية للنشر والتوزيع.الطبعة الأولى.2010.ص120.
الزهرة رميج:عندما يومض البرق(قصص قصيرة جدا).الدار البيضاء.مطبعة النجاح الجديدة.الناشر المؤلفة.الطبعة الأولى.2008(94صفحة.الحجم المتوسط).
الزهرة رميج:عندما يومض البرق.المصدر السابق.ص 42.
نفسه. ص 42.