بعد «عمود رخامي في منتصف الحلبة» (2003) و «كيرياليسون» (2008)، تأتي رواية هاني عبدالمريد الثالثة «أنا العالم» (دار كتب خان) بعنوانٍ مغامر يراهن فيه الكاتب على قارئ لديه من الفطنة ما يجعله يلتقط سرّ عبارة يوسف عبدالجليل للطبيب المُعالج «أنا العالم».
تكمن إشكالية هذه الرواية في أنّ كاتبها صرّح في سياقات عدّة، أنها تدور حول الوحدة والعزلة، بل إن الطبيب الذي يُعالج يوسف في داخل النص شخّص مشكلته بوصفها المعاناة من الوحدة. وهذه النقطة الأخيرة مفهومة لكون الطبيب هو أحد الشخوص الفاعلة في النص وله حرية القول، لكنّ الكاتب بتصريحاته رسم خطاً محدداً لتفسير النص.
يعاني يوسف من الوحدة، ما يجعله يقيم عالماً ذهنياً موازياً للواقع. وينتهي الأمر عند ذلك، وعلينا فقط أن نرصع التأويل بقليل من الاقتباسات التي تؤكد حالة يوسف: فصام أو هلاوس أو تخيلات أو قهر أو هروب. وهنا تحديداً تكمن المشكلة، محاولة تحديد حالة يوسف عبدالجليل التي تأخذ النص بعيداً من جوهره وأبعاده الجمالية والرؤية التي يعتمد عليها متخذاً من حالة يوسف ذريعة.
وعلى رغم أن يوسف على قناعة تامة بقوله «أنا العالم»، يؤكّد التاريخ الطويل للعائلة المفارقة العميقة التي ينطلق منها النص. فالرواية تبدأ بالجدة التي كانت تعاني شطحات من الحلول، ثمّ الأب الذي يندهش كثيراً من غياب وجود شاعر في العائلة على اعتبار أنّ أفرادها يستخدمون المجاز في الحياة اليومية في منتهى السلاسة، ثم الأم التي تحولت تقريباً إلى قطة، وتشوهات أخواته، والربيع الذي غاب عن القرية، والغيبيات التي تم توظيفها من أجل تفسير غياب الربيع. ومن هذا السياق جاء يوسف، السياق الذي يكشف عن رؤية أسطورية للعالم، من منطلق أنّ وظيفة الأساطير تكمن في تنظيم الكون وفهمه، كما يقول كارل غوستاف يونغ.
وتحتلّ الأحلام دوراً كبيراً، حتى في حياة الشخصيات المختلفة. فتتحول الكائنات (كالقطط مثلاً) والمزروعات (كالنعناع) والروائح والعم قادر وزوجته التي تلاشت على شكل نور صاعد، إلى نماذج أولية سابقة على أبنية العقل، ولا يمكن تفسيرها بمنطق الفصل بين العوالم، أو بمنطق وحدة يوسف. بل إن الكاتب لا يتردد في أن يضيف الى تلك النماذج الأولية، مثل شراء المياه المعدنية لريم في مشهد ينهل من قصة النبي موسى عليه السلام، أو في مسألة الرقيب الذي يتتبعه ويواجهه بجريمة الكتابة في شكل بنائي يستدعي قصة الفيلم الأميركي «العقل الجميل». هكذا يتنقل عقل يوسف من نموذج إلى آخر، وهو ما ينفي مقولة «أنا العالم» - بمعنى أحادية المنظومة - وبالتأكيد يُهمش كثيراً مسألة الوحدة والمعاناة الناتجة منها.
يتّخذ النص من قصة الحب بين يوسف وريم مركزاً له، تدور حوله الشخصيات الأخرى ليس بوصفها نسخاً مغايرة له بل باعتبارها تقدم الجوهر الذي يسعى إليه النص في شكل مغاير: التوحد مع الطبيعة في أشكال مختلفة، شرّاً أو خيراً، براءة أو خبرة، كما كتب ويليام بليك قصائد البراءة ثم أتبعها بقصائد الخبرة، الحمل والنمر. لكن تبقى للمركز في المدينة خصوصيته، فتبدو الذروة في مسألة النعناع الذي يتحول إلى ما يشبه هوية يوسف والياسمين الذي تتوحد معه ريم برائحتها وجسدها. حتى أن النهاية لا تتنازل عن هذا التوحد الذي يرى العالم متجسداً في حبة رمل - كما قال ويليام بليك - فيتحولان معاً إلى حبتي فول، واحدة بنكهة النعناع والأخرى بنكهة الياسمين.
من الصعب القول إنّ رواية «أنا العالم» تنتمي إلى تيّار الكتابة الفانتازية، حتى وإن بدت الفانتازيا طاغية على مصائر بعض الشخصيات أو متحكمة في مسار الأحداث. فالتوحّد مع الطبيعة - وقد اتخذ الكثير من المسميات في تاريخ الفلسفة العربية والغربية - يُعدّ نظاماً للمعرفة، رؤية تُشكل فهم العالم (الذي يدعي يوسف تماثله معه). كلّ ما في الأمر أنّ يوسف (بمساعدة الكاتب) حوّل المنظومة المعرفية وطريقة فهم العالم إلى صورة حرفية متجسدة في واقع النص، أي أنه جعل من الصورة الذهنية صورة مادية. ومن هنا يمكن أن يحقق أمنية والده عبدالجليل في ظهور شاعر في العائلة التي طالما استخدمت المجاز والتكثيف اللغوي الشديد بتلقائية. وكأن هذا التوحد الواقعي الحرفي الذي يبدو في ظاهره فانتازيا، ليس إلا تعبيراً عن مفردات الصورة الشعرية. وهو ما يجد صدىً في منظومة بليك للمعرفة التي تقول إنّ الأبنية السابقة في العقل والتي تشكّل صوراً ذهنية تتم ترجمتها وتفسيرها عبر الخيال الشعري. وكأن يوسف كتب قصيدته داخل النص من دون أن يدري، وإن كان قد نسخ قصته القصيرة التي نُشرت في الصحف على جسد ريم. فلم يأتِ توظيف الفانتازيا إلاّ كذريعة لترجمة صور شعرية ممتدة، يكمن تماسكها في ذاك الخيط الأمومي الذي يربط يوسف بجدته ووالدته.
يبدو بناء النص متماسكاً في شكل مدهش، وذلك من ناحية وعي الكاتب بتوزيع الأدوار في شكل دقيق بين أصوات الشخصيات وأفعالها. وعلى رغم أن الأب يحتل مساحة الصوت، حيث يمتلك شجرة العائلة «حكياً» ويعبر عن رغبته في ظهور شاعر، تحتل الأم مساحة الفعل وتقدم ليوسف الصورة التي ينطلق منها النص، التوحد مع القطط، وهو المشهد الذي يكرره يوسف في توحده مع القطة التي يطلق عليها ريم أو ريما.
وتماما كالنعناع الذي ينمو بشراهة ومن دون انتظام، ينمو النص في الاتجاهات كافة من دون أن يفقد بوصلته. فتطالعنا فصول قصيرة بعنوان «مشاهد مرتبكة»، وهو ما يراه يوسف عندما يتأرجح على حافة الواقع والخيال، ثم تطالعنا فصول أخرى بعنوان «صفحات مدسوسة من الرقيب»، لتقدم صوتاً مغايراً يراقب يوسف ويُقيّم ما يفعله، إلى حدّ اتهامه بجريمة وهمية. وفي النهاية، تتجمع كل المسارات - الشبيهة بفروع النعناع - لنكتشف أنّ هذا ما كتبه يوسف بناءً على نصيحة الطبيب. في انشغال يوسف بالماضي وعزوفه عن الحاضر، كتب صورة شعرية ممتدة لتحقيق أمنية الأب. يوسف ليس العالم، بل يكتب قصيدة عن العالم الذي خبره منذ البداية مع الجدة.