(1)
فتحتُ يدي للسنونو
وعينيَّ للأزرقِ اللانهائيِّ
(لا أقصدُ الأفقَ)
قلتُ: سيمضي النهارُ
وتذبلُ زنبقةٌ في الجدارِ
فلا بُدَّ لي أن أغنِّي
لأعبرَ هذا الربيعَ الخصوصيَّ
لا بُدَّ لي أن أشبَّ عن الطوقِ..
طوقِ الحمامةِ
كي لا أرى غيرَها في النساءِ
وكي أتأمَّلَ قلبي بشبهِ حياديَّةٍ
وهو يغرقُ في لُجِّ أزرقها
ويلوِّحُ للأنبياءِ وبحَّارةٍ غائبينَ..
وكي أتعهَّدَ ما تركتْ
من نشيدِ الأناشيدِ في الدورةِ الدمويَّةِ
أو ما وراءَ الكلامْ
(2)
كيفَ أنتَ؟
بلا أيِّ رؤيا.. ولكن بقلبٍ صحيحٍ
على قلَقٍ أقرأُ البحتريَّ أو النفريَّ
وآخرَ أشعارِ سافو
وقصَّةَ قطرِ الندى
ورسول حمزاتوفَ
وأشياءَ أخرى...
كيفَ عيناكِ أنتِ؟
هل ازدادَ برقُهما في غيابي؟
كأنهما سمَكٌ هائجٌ في البحيرةِ
من شدَّةِ الحزنِ
أو قمرانِ تحجَّرَ سرُّهما في الرخامْ
كيفَ قلبُكَ؟
ما زالَ يعدو كظبيٍ صغيرٍ وراءَ الذئابِ
ولكن بخيرٍ
يسمُّونهُ ما يشاؤونَ في كلِّ يومٍ
ولا يظلمونَ
المزاجيَّ عَشَّاقَ أنثى الحَمَامْ
(3)
صرخةُ الملحِ في دمنا يا حبيبي
تضيءُ الطريقَ الطويلَ
إلى الذكرياتِ المضاءةِ بالفحمِ
والفيجنِ الذهبيِّ..
أقولُ لأستاذِ علمِ الجمالْ
ما الذي سوفَ يبقى من الشِعرِ
أو عزلةِ القلبِ؟
لا شيءَ أو ربمَّا كلُّ شيءٍ..
وشكراً على آخرِ الأغنياتِ
هو الحُبُّ يا صاحبي كالزكامِ الخفيفِ لروحكَ
والشِعرُ مثلُ الغرامْ
ما الذي سوفَ يبقى إذن يا صديقي..؟
هوى الروحِ
مَهرُ الغوايةِ
تعويذةُ الأشهرِ القمريَّةِ
ملحُ الحنينِ إلى الأمَّهاتِ
زنابقُ أعلى الجليلِ
ذبولُ سفرجلةِ الماءِ في طرفِ العينِ
سِفرُ النبيذِ
لغاتُ الطيورِ
غيومُ البكاءِ
وما لا يُقالُ...
هو الحُبُّ يا صاحبي كالزكامْ
صرخةُ الملحِ في دمنا يا حبيبي
وفي فمنا قُبلةٌ لا تنامْ
(4)
منحَتني التلالُ فداحةَ نسيانكِ العذبِ
أو نزوةَ اللغوِ
قلتُ: كأنكِ أخرى لأنَّ المجازَ
يفخِّخُ لي نجمةً في البعيدِ
فقلتِ: كأنكَ خلفَ المعاني سواكَ
لأنَّ القصيدةَ منحازةٌ للرماديِّ
منقادةٌ في الربيعِ السريعِ لما لا يُرى
هي مثلي تماماً
ترتِّبُ فسحتَها الفوضويَّةَ
أو كيدي حينَ تغفو على الخدِّ
أو تعتني بالفراشاتِ حولَ ضفيرةِ شَعريَ
قلتُ: (كأني سوايَ) أحبُّ قصائدَ شِعري
وأشهى الوصايا إليّْ
لا لأنَّ شفاهَ البنفسجِ تنمو على ضفَّتيها
كفطرِ الحروبِ
وليسَ لما شاعَ فيها من النارِ
بل لأصابعكِ العشرِ
بينَ السطورِ وخلفَ الظلالِ
تضيءُ هواجسَ نفسي
وتشعلُ ثلجَ الظلامْ
(5)
لا أُفكِّرُ بالغدِ لكنني قد أُصيبُ وأُخطئُ
أكتبُ نصَّاً وأشطبهُ عشرَ مرَّاتٍ
أرمي بنردٍ وأندمُ
أضحكُ من كلِّ قلبي وأبكي بلا سببٍ
أتغزَّلُ بامرأةٍ وبنفسِ القصيدةِ أهجو الحثالةَ
لا شأنَ لي بنهاياتِ أحلى الرواياتِ
ما دُمتُ وحدي أُحبُّ بداياتِ نيسانَ..
رنَّ كلامٌ لبائعةِ الوردِ قربي كخاتمِ ماسٍ:
تقلَّدني زمني ثمَّ هُجِّرتُ من وطني
دونَ روحٍ..
ولكنني قد أُصيبُ وأُخطئُ كالعاشقاتِ
إذا ما أردتُ قراءةَ شِعري
وتجفيفَ شَعري بلا كهرباءٍ مزاجيَّةٍ
كلَّما مسَّ ماءٌ شفاهي تلوَّيتُ من ظمأٍ
كلَّما عشتُ أكثرَ يقتصُّ مني
نداءُ الدماءِ وشوقي الحرامْ
(6)
لا تقولي: أعرني ابتسامةَ عينيكَ
كي يتوضَّأَ وجهي بها
لا تقولي لريحِ الصَّبا: لا أريدُ انطفاءً
لجمرةِ قلبي...
ولا تتركي الياسمينةَ تنمو على درجِ البيتِ
مثلَ ظلالِ الغيابِ
التي تتربَّصُ بالقبَّراتِ الصغيراتِ
وهيَ ترفرفُ في المقلتينِ..
النهارُ على حالهِ الأبديَّةِ.. أما خطايَ
فمثلُ بنفسجةٍ تتخلَّصُ من شوكتينِ
على جانبِ الدربِ
أو تستحمُّ بملحِ السواحلِ
أو بالرمادِ...
وأما أنايَ
فلن تخرجي من صداها
ولو بعدَ مليونَ عامْ
(7)
لم أُصدِّقْ يدي
وأنا أجمعُ الغرباءَ لأجلِ العشاءِ الأخيرِ
وقبَّلتُ عينَيْ يهوذا
الذي قادهم لصلاتي
كما قادَ نجمٌ حيارى المجوسِ إلى المهدِ
آهِ تذكَّرتُ...
لم ينشفِ العطرُ عن كاحلي في الطريقِ
ولم تنزلِ الأرضُ عن كاهلي بعدُ..
كانَ المساءُ حدائقَ دفلى
ولكنني لم أكنْ لأصدِّقَ شيئاً
ولا لأقولَ الذي لا يُقالُ
ولا لأُنادي على آخري في الكوابيسِ:
لا تغلقْ البابَ دوني
ولا تُطفئْ الليلَ
لا تشرَبْ الماءَ وحدكَ لا..
لا تضئْ بسوى صرختي ودمائي سماءَ النفقْ
فكلُّ المياهِ التي في عيوني بلونِ الغرَقْ
ويا صاحبي يا (سيورانُ) موتاكَ ليسوا نيامْ
(8)
لرائحةِ العطرِ روحٌ وظلٌّ
وإن كانَ لا
فلماذا تُصابُ بما يشبهُ الكهرباءَ الرهيفةَ
أو برذاذِ الربيعِ المفاجئِ
أو تقتفي طائراً لا يُرى؟
هل لأنكَ حينَ تذوَّقتَ
جمرَ النداءِ الخفيِّ
إلى ما ورائكَ
أو راودتكَ الظنونُ المريبةُ
عن ثمَرٍ ناضجٍ في اليقينِ
التفتَّ إلى الخلفِ من دونِ جدوى
لتنقذَ ما يستغيثُ بعينيكَ
تحتَ الركامْ؟
(9)
خَذلتكَ الوحيدةُ لكنكَ الآنَ أجملُ
قلبُكَ أصفى غماماً
وثغرُكَ أعذبُ من بُرعمٍ خائفٍ
في مهبِّ التنهُّدِ
لم تبنِ عشَّاً صغيراً لقُبَّرةٍ
لم تعدْ من أغاني الرعاةِ إلى صوتها
لم تراودْ زليخةَ عن جمرتَيْ شفتيها
ولم تقتبسْ من سوفوكليسَ بيتاً من الشِعرِ
يُرشدُ قلبَكَ في الليلِ
نحوَ طريقِ الرجوعِ إلى أوَّلِ البحرِ
أو لعذارى إيثاكا اللواتي يُغنِّينَ
كيما تُتمَّ الخرافةُ نقصانَ أقمارها الأنثويَّةِ
فيما ضلوعُكَ خلفَ الرياحِ السوافي تئِّنْ
لأنَّ الورودَ التي جَمعتها الحياةُ
لتشبعَ من شَمِّها
ما تزالُ على حالها في الظهيرةِ
متروكةً مثلَ فنجانِ بُنْ
خَذلتكَ الوحيدةُ..
فابحثْ إذنْ عن شبيهتها
في أقاصي المُدنْ
وضاعفْ ظلالَ ابتسامتها
في بكاءِ الصدى كيْ يرِّفَ الخزامْ
(10)
تركتُ ضفائرَ شَعري على البحرِ كيْ لا ينامَ
وأسندتُ قوسَ شفاهي على وهَجِ السنبلةْ
قُربَ عينيكَ يا أيُّها المبتلى بي
فهلْ تكسرُ القيدَ عن قدميَّ
أو الحجَرَ الصلدَ عن بابِ قلبي
وتحطمُ عن زهرِ تفَّاحتي قبضةَ المقصلةْ؟
هل تغارُ إذا ما أشارَ إلى امرأةٍ عاشقٌ
ثمَّ أخفى المعانيَ بينَ السطورِ
وشقَّ الطريقَ إلى الجلجلةْ؟
كُنْ وحيداً لتنسى ولا تلتفتْ للوراءِ
المُبقَّعِ بالملحِ والأخرياتِ..
وحيداً كفزَّاعةِ الطيرِ
كُنْ نخلةً في البراري
وذئباً حنوناً عليَّ...
على ما تقصَّفَ من خصلاتي
على حزنِ عينيَّ أو شفتيَّ
وكُنْ لي أنا
لوحدي.. تقولُ الحبيبةُ
كُنْ لفمي قُبلةً/ وردةً/ نجمةً/
ولعينيَّ كُنْ حبقاً/ دمعةً/ أو سنا
كُنْ شجاعاً لتنسى جفائي
ولا تلتفتْ للوراءِ ولا تلتفتْ للأمامْ
نحلةٌ لسعتْ يدَ قلبكَ حينَ اشتهتْ
عسلاً لا يُرامُ
وقلبي بألفِ قفيرٍ من النحلِ صارَ ينامْ
(11)
أن أُثرثرَ مثلَ النساءِ الوحيداتِ
عن أيِّ شيءٍ
وأضحكَ مثلَ السكارى
على غضبي الشاعريِّ
فمعناهُ أنَّ الفراشَ الذي في دمي طائشٌ
والقصائدَ ينقصُها ملحُ أنثى
لتسهرَ أو لتضيءَ الذي لا يُضاءُ
من الليلِ أو رغبتي باحتواءِ حدائقَ إلسا
ومعناهُ أنَّ الحقيقةَ فائضةٌ عن مجازي
ولا أفهمُ العاطفيِّينَ..
يحدثُ أن أتشاجرَ مع غيمةٍ في الطريقِ
وعصفورةٍ قربَ شُبَّاكِ نومي بلا سبَبٍ
أو أقايضَ أشعارَ روميو وجولييتَ
بالنردِ والماءِ..
يحدثُ أن أُسندَ القمرَ الساحليَّ
على دمعةٍ من رخامْ
(12)
في القصيدةِ بيتٌ من النثرِ يلمعُ
مثلَ قلنسوةٍ في الظهيرةِ
بيتٌ من النثرِ لكنهُ ليسَ نثراً تماماً
كخيطٍ يقودُ إلى مَطرٍ أوَّلٍ في الكنايةِ
مثلَ الشُعاعِ
ولكنهُ قادرٌ أن يجرَّ عطاردَ من قرنهِ
كحصانٍ يجرُّ معلَّقةً
في مديحِ مخيَّلةِ الرملِ..
في الرملِ شِعرٌ تخلَّفَ عن هجرةِ الطيرِ
في الشِعرِ بنتٌ أو امرأةٌ باشتهاءٍ مُصفَّى
بنفسجُها فائضٌ عن حنينِ الذئابِ
إلى فضَّةِ الليلِ..
مشغولةٌ بفراغِ التفاصيلِ
أو بانسكابِ حليبِ الظلامْ
(13)
كالغريبينِ في مُدنٍ لا تنامُ
ولكن بيأسٍ قليلٍ كما الملحِ
قلتُ: اطمئنِّي ولا تُطفئي ضوءَ عينيكِ
بالدمعِ أو بالتوجُّسِ
لا ترفعي زهرةً عن مطارفِ ثوبكِ
حتى تمَسَّ صدى الماءِ في الثوبِ
قالتْ: خُذْ الماءَ عن لغتي غيمةً غيمةً
ثمَّ طوِّحْ بحزني إلى البحرِ مثلَ القصيدةِ
أو كالحصاةِ التي أثقلتْ جيبَ قلبي
فلم يعُدْ الشِعرُ يُرشدُ ناياتِ صدري
إلى قصَبٍ في سفوحِ الحنينِ
ولكنْ إلى حَجَرٍ رابضٍ
مثلَ كلبٍ بليدٍ على غديَ المتفتِّحِ
كالجرحِ في اللا مكانِ..
مجازُكَ ينقصني لا لأكتبَ شِعراً
ولكنْ لأمشي كأني مسرنمةٌ في الظلامِ
وكيما أقودَ الينابيعَ نحوَ المصبِّ البعيدِ
وكيْ تقتفي أثري
فرسٌ في الطريقِ إلى آخرِ الشوقِ
كيْ نلتقي كغريبينِ في شارعٍ ضيِّقٍ
ثمَّ نُنكرَ (من ندَمٍ كافرٍ)
بعضَنا في الزحامْ
(14)
مثلما يغمسُ الطيرُ منقارَهُ
في السرابِ على عجَلٍ
سوفَ أغمسُ قلبيَ
في ناركِ الأنثويَّةِ والباردةْ
سأُردِّدُ مثلَ الحيارى:
إلى أيِّ خَصْرٍ سأُسندُ رأسي لأنسى
ولو لحظةً واحدةْ
وعلى أيِّ صَخرٍ سيغفو المحاربُ
بعدَ الرجوعِ من الحربِ كالشبَحِ الآدميِّ؟
وهل سأقولُ لإحدى النساءِ:
تركتُ فمي حينَ قبَّلتُ عينيكِ
مثلَ الفقاعةِ فوقَ الزجاجِ
لينمو كزهرةِ توتِ الحديقةِ
أو كالمَحارةِ في عُهدةِ الموجِ...
هل صرتِ أجملَ؟
هل أنفُكِ الآنَ أقنى كأيقونةٍ؟
هل شفاهُكِ أعذبُ من زهرتيْ لوتسٍ في البُحيرةِ؟
يا امرأتي شالُكِ الآنَ طوعُ خيالكِ
منفاكِ فيَّ ومنفايَ فيكِ..
ومحشوَّةٌ بالبُكاءِ أصابعُنا والضرامْ
(15)
سنقرأُ بابلو نيرودا معاً
وعلى شُرفةِ لا تطلُّ على الحربِ والطائراتِ
سنقرأ أشعارَ قبطانهِ
بعدَ عصرِ الرمادِ النهائيِّ
بعدَ الصُدودِ الشتائيِّ
سوفَ تقولينَ لي: هُنَّ أجملُ مني
ولكنني مثلُ زنبقةِ الردمِ
أحلو بعينيكَ أو أتجمَّلُ باليأسِ..
هل لنشيرَ إلى قمَرٍ واحدٍ في السماواتِ
نحتاجُ أغنيةً لنقطِّرَ أشواقنا في إناءٍ صغيرٍ؟
وهل لنذرِّي تماثيلَ أقسى الطغاةِ على الأرضِ
نحتاجُ أن نتعلَّمَ من قُبلةٍ كيفَ تنمو على الفمِ..
نحتاجُ حلماً خفيفَ الخطى
كيْ تشقَّ فراشاتُ أعيننا دربَها في الركامْ؟
(16)
لم أُصادفْ يوحنَّا النبيَّ لأسألهُ في الطريقِ:
أكلُّ امرأةْ
سالوميَّةٌ حينَ ترقصُ
أو حينَ تهمسُ لي بأصابعها
أو بغيمِ سجائرها المُطفأةْ
شاعر من فلسطين