هذا عرض لخلاصات رسالة الباحث التونيس للماجستير حول دور خطاب التقديم في الكتاب العربي القديم ونوعية السلطة النصية الكامنة فيه، وطبيعة تجلياته المتباينة.

خطاب المقدمات في الكتاب العربي قديما

رضا الأبيض

إذا كانت ممارسةُ خطاب التّقديم قسمةً مشتركة بين كلّ المبدعين عربا كانوا أو غير عرب، فإنّه لا جدال في أنّ الدّرس النّقدي الغربيّ المعاصرَ أكثر اهتماما منّا بهذا الخطاب الذي تجاوز فيه البحث في الجزئيات إلى بناء نظريات متكاملة. إنّ خطابَ التقديم واقعة نصّية بغضّ النظر عن الوعي بها، والموقف منها. ونحن إذا ما تأمّلنا ما كتب أسلافنا وجدنا خطاب المقدّمة في مؤلفاتهم الأدبية والنقدية نصّا يكتبه المؤلف ذاته بعد كتابة المتن أو قبله، ويجعله في صدر كتابه، فيه يبيّن محتوى الكتاب ودوافع التأليف، و يعرض بعض القضايا والمفاهيم. إنّه نصّ سنّةٌ في الكتابة لا يخلو منه كتابٌ إلاّ في ما ندر. وهو نصّ يثير كثيرا من الأسئلة كسؤال الحدود: من أين يبدأ نصّ المقدمة وأين ينتهي؟ وهل للمقدمة حجم نموذجي؟ إنّ المقدمة في الكتاب العربي تحتلّ منه الصدر وليس لها حجم نموذجي ّ غير أنّها عادة ما لا تتجاوز حجم المتن تنفصل عن المتن إمّا برموز كتابية كالبياض والخط والنقط، وقد يجيء في آخرها ما يدلّ على انقضائها كالدعاء الأخير أو حدوث نقلة في الأسلوب، بيد أنّ مسألة ضبط حدود المقدّمات تظلّ حريّة بالاهتمام تحتاج إلى اجتهاد وحسّ نقديين خاصة وقد لاحظنا اضطرابا في هذا المجال.

ومن الأسئلة التي يثيرها نصّ المقدّمة سؤال الوظيفة، فإذا كان مدار الشرف على الصواب وإحراز المنفعة، فإنّ نص المقدّمة نصّ شريف لاحتلاله صدر الكتاب، وهو نصّ نافع لأنّه ينهض بتحديد مقام القول من حيث أنه يكشف عن الدّواعي والأسباب التي تكتنف النصّ ساعة كتابته وظروف إنتاجه، ويكشف عن طرفي عمليّة التواصل وعن رؤية الكاتبِ الفكرية والجمالية.

ولهذا النصّ وظيفة إشهارية بما أنّه فضاء تتقاطع فيه وظيفة التأثير والإقناع والجمال والتعبير. فيه يصنع الكاتبُ الإقناع و يسعى إلى التأثير على الآخرين، وفيه يعلن عن عنوان كتابه ومحتواه علّه يرغّب في قراءته ويمنع عنه سوء الفهم. وهو خطاب إشهاري دعائيّ بامتياز لا فقط للمتن الذي يليه بل لسائر مؤلفات الكاتب ولرؤيته الفكرية والفنّية عامة صحيح أنّ الترغيب ليس حكرا على المقدّمة، ولكنّ الكاتبَ يعي أنّ الفشل في هذا المحلّ الأوّل كثيرا ما يؤدّي إلى انتكاسة القارئ.

ولنصّ المقدّمة وظيفة حوارية حجاجية إذ فيه قراءة لمؤلفات سابقة تشاركه نفس الموضوع وفيه مواقف من هذا المقروء وأصحابه. إنّ الكّاتبَ في نصّ المقدمة لا يتخلّى عن كونه قارئا يتفاعل مع النّصوص، ومع المحيط الثقافي نقدا أو انتقادا. وهو عادة ما لا يقول في مقدّمته "هذا هو العمل " فحسبُ، بل أيضا" هذا ما يجب عليكم الاقتناع به ".

ولهذا النصّ وظيفة منهجية، لأنه كثيرا ما يجمعُ المشتّتَ ويردّ المتباعدَ، يعتمد فيه الكاتبُ الإيجاز ويذكر العناوين الفرعية علامات تهدي القارئَ إلى السيطرة على المقروء، بل إنّه كثيرا ما يتحوّل إلى كلام عن الكلام، يؤسس بالشرح والتفسير عقدا مشتركا يحدّد إلى حدّ بعيد كيفية تلقّيه.

ولا تخلو المقدّمة من وظيفة جمالية يرتقي فيها الكلام إلى مرتبة الشّعر لينزاح بالعبارة عن دلالتها الأوّلية إلى أخرى فيها من الغموض ما يهيئها إلى أن تكون حمّالة معان. زد إلى ذلك ما في المقدّمات من أبيات شعرية إذا جمعناها كوّنت ديوانا. هي أبيات على سبيل التضمين والاستشهاد، يدلّ حضورها على أنّ الشّعر كان مصدرا من مصادر الكتابة.

ولأنّ الكاتبَ يتحدث في المقدّمة عمّا سيتحدث عنه أو تحدّث عنه - في المتن، فإنّ لهذا النصّ وظيفةً إخباريةً. فيه يُخبر الكاتبُ عن المحتوى والكيفية(2) ، وفي المقدّمة قد يحكي الكاتبُ ظروف الكتابة وما حفّ بها، وقد يتوسّع فيصف أحوال الكتاب والعصر.

ومن المقدّمات ما كانت مناسبةً لضبط المفاهيم والتعريفات وعرض الأُسس النظريّة. إنّ الكّاتبَ في مقدّمة كتابه كثيرا ما يكون ناقدا وقارئا في آن(3) . لذلك كلّه كان نصّ المقدمة - ولازال - شريفا فضاءً ووظائفَ، وخطيرا في آن.

ومن الأسئلة التي يثيرها نصّ المقدّمة ما يتعلّق بالقارئ: كيف يبدو القارئ من خلال المقدمات وما علاقته بالنص وبالمعنى و كيف يراه الكاتب وكيف يريده؟ ما هو أفق انتظاره وهو يقبل على نصِّ المقدمة؟ وهل يخيّب له الكاتبُ هذا الأفق؟ وهل حرص الأدباء والنقّاد في مقدمات مؤلفاتهم على عدم تجاوز الحدود في التأويل والحفاظ على ثبات المعنى أي على " ترويض القارئ " أم أنهم طوّروا بالمقدمات كفاءته التقبّلية وتركوه حرّا في تلقيه؟

إنّ كتابة مقدّمة لكتاب ما، لا شكّ تدلّ على حضورِ سلطة المتكلّم و قصديَّتِه، لأنه هو الذي يختار العبارة والمعجم، وهو الذي يحدِّدُ معانيَ كلامه سلفا، بما يجعل المتلقيَّ لا يضفي المعنى ولا يبتكره, بل فقط يستخرج ما وضعه المتكلمُ من أفكار وآراء. إنّها نصّ يكرّسُ فكرة أنَّ الكاتبَ صاحبُ الحقيقة وشارحُها والموجِّهُ إليها، يستغلّّ هذا الفضاءَ المتقدّم فيمارس فيه سلطتَه، بأن يوجّه القراءاتِ ويحرمَ القرّاءَ بشكل من الأشكال من ممارسة التأويلِ. إنّ الكاتب يدرك سلفا أنّ عواملَ عديدة ستتدخلّ في سيرورة الإبلاغ منها عواملُ الزمان والمكان، ومنها كفاياتُ المتلقي وطبيعة تكوينه وقدراته العلمية والأدبية، وهو يعرف أنّ القراءةَ مغامرة ومعاناةٌ(4) ، لذلك يسعى في المقدمة إلى مراقبتها وتوجيهها.

يدرك الكاتب أنّ القارئَ سيقتَحِمُ أوّلَ نصُوصِه انطلاقا من رؤية مخصوصة، فيسعى إلى إرضائه وفتح شهيّته فتحًا عادةً ما يكون مقدِّمَةً لتغيير أفق انتظار القارئ وتحويله من قيمةٍ فكرية أو جمالية إلى أخرى. ولعلّ أبرز مظهر دالّ على أنّ الكاتبَ العربيّ كان واعيًا بقيمة المُخاطَبِ وحساسيته انخراطه في مجاله القيميّ والعقائديّ. إنّ بدايةَ المقدّمة بالبسملة والحمدلة لا تنمّ فقط عن عقيدة الكاتب بل أيضا عن إرضاءٍ للقارئ. وفي الدعاء أيضا استمالة وإرضاءٌ سواء للمخاطب المعنيّ بالمكتوب أو للقارئ عامّة حال مباشرته فعل القراءة لأنّ "أنـت" الضمير العائد على " المُهْدَى إليه " يصبح بفعل القراءة عائدا على كلّ قارئ وإن لم يوجّه إليه الخطابُ في الأصل.

ولأنّ القارئَ ليس واحدا، ولأنّـه لا معنى للمتن إلا إذا سلّمَت المقدّمةُ القارئَ إليه، يسعى الكاتبُ جهده لتحقيق تفاعلٍ بين نصّ المقدّمة وكلّ القرّاءِ على قدر تنوّعهم واختلاف مقاصدهم، وتلك مهمة عسيرة ليس سهلا على كلّ كاتب إجادتُها والإصابة فيها. لذلك كلّه اعتبرنا القراءة إشكالية ذات أهمية في دراسة خطاب المقدّمات(5) .

في المقدّمة - الخطبة يطوّر الكاتب الكفاءة التقبّلية للقارئ بأن يكشف له عن المقاصدِ التي ولّدت النصّ والخطة الذي يقوم عليها. وفي المقدّمة النصّ المركّب، " يسلّح " الكاتبُ قارئه بقواعدَ نظريةٍ يراها ضروريةً لاستقبالِ المتنِ وفهمِه على الوجه الذي يريد. وفي المقدّمة - الرسالة يحاور قارئه ويدرج كثيرا من خطابه في رسالة الجواب فيتقاطع الصوتان على نحو تفاعليّ ويتحاوران، ويشتركان في كتابة المقدّمة.

فهل في كتابة المقدّمة اعتراف بـ" كسل " المتن؟ أليست المقدّمات بقدر ما تفتح المتون تغلقها؟ وهل يمكن القول إنّ كلّ متن له مقدمة هو نص كسول عاجز بذاته؟ و كيف يتحوّل قارئ المتن إلى منتج مبدع, وقد سيّجت المتنَ نصوصٌ مصاحبةٌ - منها المقدّمة - ترافقُه وتمنع "الاعتداء " عليه؟

ليست النّصوص المصاحبة - في الواقع - حارسا من "لحم ودم" إنّها من طبيعة النصّ المحروس، نصوصٌ " من ورق " لا يمكن للقراءة إلاّ أن تكون تأويلا لها. وإذا كان الكاتب في مقدّمته يؤسس للإغراء والإيقاع بالقارئ، فإنّ لهذا الأخير تجربة قرائية يتحصّن بها بما يجعل المقدمة محلاّ للالتقاء، ولإمكانية الافتراق. وهي أيضا فضاء لالتقاء الأجناس وتحاورها أخذا وعطاء منتجين، فيها تداخل صريح مرّة و فيّ أخرى خفيّ وقد يكون معقّدا أو بسيطا بين الرّسـالة والخطبة والخبر والنّصّ القـرآنيّ والشّاهد الشّعريّ.

إنّ نصّ المقدّمة حصيلة درجات من التّحويل يفضى إليها الاختبار والتجريبُ، والذي عليه جلّ الكتّابِ والقرّاء على اختلاف مشاربهم واهتماماتهم وعيهم بقيمة هذا النصّ المصاحب وبأنّه ليس نصّا فحسب بل حمّال نصوص. إنّ المقدّمات على اختلاف أشكالها وأحجامها تظلّ نصوصا ترتحل في الزمان لا تحكي ثقافة كتّابها فحسبُ، بل وأيضا ثقافة قرّائها، ومجتمعها لما تزخر به من أصوات وعلاقات.

قد تختلف اليوم المواقفُ من نصّ المقدّمة ومن مدى ضرورته غير أنّه في ما اطّلعنا عليه من مؤلفات قديمة كان هذا النصّ كثير الحضور لا يحاذي المتن فحسب بما يعني أنّه ثانويّ بل هو نصّ رئيسيّ و فضاءٌ مركزيّ يكوّن مع المتن وحدة نصّية ودلالية. يقودنا كلّ هذا إلى أن نعيد سؤال " ماريفو " الإنكاريّ : " أيعتبر الكتابُ المطبوع والمجموع دون مقدّمة كتابا؟ لا، إنّه لا يستحقّ دون شكّ هذا الاسم ".

أفلا ينبغي وحال الكتاب العربيّ القديم على ما وصفنا أن يكون خطابُ المقدّمات أحد المداخلِ الرئيسية في قراءة الإبداع العربيّ؟ بلى.

_________
1- هذه الورقة هي خلاصة بحث ماجستير أنجزناه سنة 2005 بكلية الآداب سوسة بإشراف الدكتور عبد العزيز شبيل.
2- ذكرت " جليلة الطريطر" أنّ Andréa Del Lungo ترى في دراستها لـلإستهلال L incipit أنّه بالإمكان تفصيل وظيفته الإخبارية إلى ثلاثة وظائف متفرعة عنها وهي : الوظيفة الدلالية وموضوعها ما عنه يتحدث الحكي الافتتاحي.. والوظيفة السردية التنسيقية التي تحيل على كيفيات تنظيم الراوي للعملية السردية وتنسيقها..والوظيفة التكوينية ويراد بها الإحالة على عناصر التخييل كما يتمّ توظيفها في العمل الأدبي. هذه الوظائف الثلاث تختلف في مستوى تفاعلاتها النصّية ودرجات تآلفها وانسجامها من فاتحة نصّية إلى أخرى وعن ذلك ينشأ ما يعبّر عنه بالضغط الإخباري العام للظاهرة الافتتاحية. انظر دراستها في شعرية الفاتحة النصّية.علامات. سبتمبر 98. صص 151-152.
فهل يمكن أن ينسحب هذا التصنيف على مقدّمات الكتب بما هي نصوص فواتح؟
3- إذا كان بعض النقاد القدماء يحارون في تفسير سبب استجابة المتلقي لبعض النصوص على الرغم من أن نصوصاً أخرى قد تفوقها جمالاً، ولا يمتلكون إلا أن يقولوا : " لا نعلم لهذه المزية سبباً".فإنّ كاتب المقدمة في مقدّمة نصّه يكون قارئا لكتابه , يسعى أقصى جهده لتفسير سبب مزاياه.
4- القراءة مسار مركّب يجمع داخله سياقات مختلفة ومترابطة ومؤثرة في ظروف القراءة , وهي تفاعل بين النصِّ موضوعِ القراءة و نصوص القراءة القبلية كبنياتٍ خطابية ولغوية وجمالية. و لكلّ قارئ " أفق انتظار " تحدده عوامل مختلفة منها : 1 ـ الخبرة القرائية العامة 2 - المعرفة المسبقة بالعمل الذي سيقبل على قراءته 3 - التجربة التي اكتسبها من خلال قراءاته لنصوص مماثلة.4- العادات الاجتماعية..
5- تجدر الإشارة إلى أن القراءة إشكالية قديمة جديدة لا سيّما مع جماليات القراءة والتلقي ذات الأصول ألمانية التي تبلورت على يد أعلام مدرسة جامعة كونستونس Constance مثل: جويس Hans Robert Yauss و إيزر Woolf Gang Iser وغيرهما، كرد فعل على هيمنة المناهج الشكلانية والبنيوية التي أهملت القارئ وفعل القراءة مكتفية بالنص بنية مغلقة.
انظر على سبيل المثال : حسين الواد في مناهج الدراسات الأدبية. سراس للنشر. 1985 خاصة الصفحات 65-79 والإحالات المصاحبة.
و من باب الوعي التاريخي و المنهجي أن تُطرح إشكالية القارئِ في المقدمات التي اخترنا ضمن سياقها الفكري والحضاري المخصوص.
تجدر الإشارة أيضا إلى أنّ جينات في سياق حديثه عن المقدّمة بين الضرورة والاختيار اقترح تأجيل قراءة المقدّمة بعد الإطلاع على المتن.