يصف الراحل العظيم جمال حمدان النظام السياسي الذي أقامه ضباط يوليو 1952 في مصر بأنه مزيج من الفرعونية الجديدة والمملوكية الجديدة، ثم يضيف: "إذا كان محمد علي [مؤسس الدولة الحديثة في مصر ومؤسس الجيش الذي خرج منه ضباط يوليو] قد اعتُبر آخر المماليك العظام، وأول الفراعنة الجدد، فقد عُد عبد الناصر من بعده أول المماليك الجدد، وآخر الفراعين العظام.”
لا يزال هذا النظام بالطبع هو الصيغة الأمثل لحكم مصر في نظر ما يسمى بـ"الدولة العميقة"، التي تبذل جهدًا فائقًا، وتخصص موارد هائلة لترسيخ شعور غير واع لدى المصريين بأن بلادهم لا يصلح لها غير هذا النظام، من أول الدعاية المضادة للديمقراطية والتحديث، إلى التحكم الإداري والتشريعي في مدخلات ومخرجات العملية السياسية بكل الوسائل. وبالطبع يعرف أغلبنا ما هي "الفرعونية السياسية"، حيث "الفلاحون" عبيد فرعون، وأحيانًا عباده بوصفه إلهًا، أما "المملوكية السياسية" فتحتاج إلى شئ من الإيضاح، من حيث طبيعتها، ومن حيث امتداداتها في النظام السياسي لدولة يوليو، مع مراعاة أن كثيرًا من التقاليد "العثمانية" امتزجت بالتقاليد المملوكية طوال فترة الحكم العثماني لمصر، وانتقلت من دولة محمد علي إلى دولة ضباط يوليو، كما سنرى.
تعني "المملوكية السياسية" صفوة لا دور لها سوى الحكم والقتال، وهي بذلك تختلف عن طبقة الفرسان الأوروبية في العصور الوسطى والحديثة، لأن طبقة الفرسان كانت تقاتل فقط ولا تحكم، أي تقاتل تحت سلطة الملك صاحب الحق الإلهي في الحكم. أما المماليك فقد كانوا في الأصل مجلوبين من الخارج كأرقاء، قبل أن يصبحوا فرسانًا ويُعتقوا، ولذا ظلوا أقلية حاكمة، معزولة عن الشعب التي تحكمه، ولديها إيمان لا يتزعزع بتفوق طبيعي على هذا الشعب، الذي يجب أن تبقى مهمته هي العمل وراء المحراث أو الساقية أو أمام المطرقة والسندان، أو في الحانوت والمعمل، وفي أحسن الأحوال حول أعمدة الجامع الأزهر، وفوق منابر سائر المساجد. أما السيف والضبط والربط والحكم والسياسة فهي اختصاص للمماليك، ولا نزاع فيه إلا بين المماليك أنفسهم.
غير أن أهم سمات المملوكية السياسية كانت طريقة اكتساب المماليك للشرعية السياسية أولًا في مصر، ثم الشام بعد ذلك، ففي البداية كانت شرعيتهم مستمدة مما يسمى في عصرنا الحالي شرعية الإنجاز والاستقرار. وتمثل الإنجاز الكبير للمماليك في الانتصارات المتوالية على الصليبيين والتتار، فهم من هزموا حملة لويس التاسع على دمياط والمنصورة، وهم من ردوا التتار في عين جالوت، وأنقذوا مصر ثم الشام من مصير العراق، وهم من واصلوا مهمة تصفية الوجود الصليبي في السواحل الشامية طوال قرن تال من الزمان. ومن سمات المملوكية السياسية أيضًا أن التعاقب على السلطة فيها لا تقرره الوراثة بالدم، وبالطبع لا تقرره الإرادة الشعبية، وإنما يتقرر بالتوافق بين كبارهم على سلطنة أقواهم. أما الاستقرار الذي ساهم في تحقيق إنجازات داخلية مهمة في المجال العمراني والتعليم الديني، ودعم الطرق الصوفية على وجه الخصوص، فتمثل في ضمان أمن التجارة بين الشرق والغرب حتى اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، مما عاد على السلطة المملوكية، والعاملين المصريين في خدمة هذه التجارة، بوفرة مالية ساهمت في إحداث تلك النهضة.
ليس مطلوبًا في هذا المقال تتبع انهيار دولة المماليك في أطوارها التالية، وقد تحولوا إجمالًا من حماة للبلاد، إلى مفسدين في الأرض حتى الغزو العثماني، وصولًا إلى مذبحتهم الشهيرة على يد محمد علي. وإنما علينا المسارعة باستكشاف الخصائص التي ورثها ضباط يوليو 1952 من المملوكية السياسية، وأورثوها لخلفائهم في قيادة النظام الذي أسسوه، وهي كما يفهم من السياق السابق "الإيمان أولًا بالتفوق على الشعب الذي يحكمونه، والاستناد ثانيًا إلى مزاعم الاستقرار والإنجاز، واحتكار عملية التعاقب على السلطة ثالثًا”.
فالثابت تاريخيًا أن المماليك كانوا أحد المكونات الثلاثة الرئيسية لجيش محمد علي (رغم مقتل كبارهم في مذبحة القلعة)، الذي كان حريصًا على انخراطهم ضباطًا وقادة في الجيش، لموازنة الضباط والقادة الأتراك الذين كان يُخشى تمزق ولائهم بين والي مصر (أي محمد علي نفسه) وبين السلطان العثماني، وكان العنصر الثالث هم المجندون أو الأنفار، من أبناء الفلاحين المصريين. وقد عُرف المماليك في جيش محمد علي فيما بعد باسم "الجراكسة". ومعروف أيضًا أن اللغة التركية ظلت هي اللغة الرسمية في الجيش المصري حتى عام 1923، أي حتى 13 عامًا فقط قبل معاهدة عام 1936 المصرية البريطانية التي سمحت بزيادة حجم الجيش، بما أتاح لأبناء الشرائح المتوسطة والدنيا من الطبقة الوسطى المصرية دخول الكلية الحربية، وهؤلاء هم من خرج من صفوفهم ضباط يوليو 1952.
نحن نتكلم إذن عن حوالي 700 عامًا ظلت فيها المملوكية العسكرية والسياسية وتراكمت طبائعها وخصائصها على مؤسسة الحكم والسياسة والجيش في مصر، وهي الفترة الممتدة بين عام 1258، الذي هزم فيه المماليك التتار في عين جالوت، وبين عام 1923 الذي بدأ فيه تعريب (أي: تمصير) الجيش المصري لغة وقيادات وسطى، وصولًا بالطبع إلى عام 1936، ومرورًا بالثورة العرابية.
وقد ازداد إيمان ضباط يوليو بتميزهم، وتفوق المؤسسة التي جاؤوا منها، بنجاحهم – رغم قلة عددهم نسبيًا – في كسر الحلقة المفرغة التي أدخل القصر الملكي الحياة السياسية فيها، بعدائه لحزب الوفد ممثل الإرادة الشعبية، وصاحب الحق الشرعي في الحكم، وسعيه الدائم لإقصاء الوفد، وهو ما أدخل قضية إجلاء الاحتلال البريطاني في هذه الدائرة المفرغة نفسها، وكذلك بقية الاستحقاقات الكبرى كالعدالة الاجتماعية والتنمية المطردة. فقد عزل الضباطُ الملك، ثم أسقطوا الملكية كلها، وحققوا الجلاء، وأعادوا توزيع الثروة، وبدأوا مشروعًا شاملًا للنهضة تضمن إقامة السد العالي والتصنيع وتأميم قناة السويس. وهكذا بدأت تترسخ شرعية الإنجاز جنبًا إلى جنب مع الشعور بالتفوق على الشعب الذي عجز من خلال القوى السياسية التقليدية من أحزاب وغيرها عن تحقيق مثل هذا الإنجاز، ومع استمرار نظام يوليو في الحكم حتى يومنا هذا (باستثناء عام رئاسة الإخوان المسلمين التعيس للبلاد) ساد الاعتقاد بأن هذا النظام هو ما حقق ويحقق الاستقرار لمصر، لتكتمل معادلة الشرعية كما تفهمها المملوكية السياسية، أي الاستقرار والإنجاز. فهل حقق هذا النظام الاستقرار والإنجاز لمصر حقًا وصدقًا؟
وهم الاستقرار
المؤشر الوحيد الذي يعتمد عليه أصحاب ادعاء الاستقرار تحت حكم نظام يوليو هو عدم تغير رأس النظام لفترات طويلة نسبيًا، 18 عاما لجمال عبد الناصر، و11 عامًا لأنور السادات، و30 عامًا لحسني مبارك، وإيمانًا لا يتزعزع بسنوات مديدة للسيسي على سدة الرئاسة. ولكن بقليل من إجهاد الذاكرة وإعمال الفكر سنكتشف أن هذا الاستقرار المدَّعَى ليس إلا وهمًا كبيرًا.
في حالة عبد الناصر، وبالتغاضي عن الصراع بينه وبين محمد نجيب، وبينه وبين الإخوان حتى استقر له الحكم نهائيًا عام 1956، بالاستفتاء الشعبي عليه رئيسًا للجمهورية، سرعان ما انفجر الصراع على كل مستويات الحكم، فاستُبعد عبد اللطيف البغدادي من منصب وزير الحربية، لينفرد عبد الحكيم عامر الموثوق فيه أكثر من جانب عبد الناصر بالسلطة المطلقة على الجيش. وجاءت تجربة الوحدة مع سوريا لتجمد الصراع داخل مصر، وتنقله إلى الميدان السوري، وتنتهي بالانفصال المدوي الذي كان ضربة مؤلمة لاستقرار النظام الناصري، لأن هذا الانفصال أطلق سلسلة من الانقلابات الداخلية في مصر خوفًا من أن يحدث فيها ما حدث في سوريا من انقلاب عسكري ضد النظام، تحرض عليه وتموله الطبقات الغنية، فانطلقت حملة التأميمات الوقائية في عامي 1962 و1964، ليس فقط لتئد احتمالات الانقلاب على النظام، ولكن لتئد أيضا القدرات التنموية، والخبرات الإدارية والتكنوقراطية الواعدة للرأسمالية المصرية الوطنية الصغيرة، وبلغت المهزلة حد تأميم محالج للقطن ومطاحن للغلال ومضارب للأرز، بل ومتاجر للحلوى وبعض المقاهي الكبرى. فكيف يُفهم هذا بوصفه استقرارًا؟
أيضًا كيف يفهم وصول الصراع بين جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر لحد الانقلاب الصامت على الرئيس وإرغامه على تعيين عامر نائبًا أول له بوصفه استقرارًا؟ والحكاية أن عبد الحكيم عامر اعتُبر مسؤولًا بدرجة كبيرة عن نجاح الانفصال بسوريا، ورأى عبد الناصر أن الأوان آن للحد من سلطة صديقه على الجيش المصري، خاصة أن فشله في سوريا يعد الفشل الثاني الكبير له بعد إخفاقاته في حرب 1956. فشكَّل مجلسًا للرئاسة من أعضاء مجلس قيادة الثورة، وضم إليهم شخصًا مدنيًا، واقترح أن تكون سلطة ترقية وتعيين كبار القادة بيد هذا المجلس الرئاسي، فغضب عبد الحكيم واختفى، وطبع ووزع منشورًا سريًا يهاجم ديكتاتورية عبد الناصر، ويطالب بعودة الديمقراطية، ولم يتراجع عن موقفه، ويقبل المصالحة مع ناصر إلا بتعيينه نائبًا أولًا لرئيس الجمهورية، ونائبًا مطلق الصلاحية للقائد الأعلى للقوات المسلحة. فيما بعد حاول عبد الناصر مرة أخرى الحدَّ من نفوذ صديقه في الجيش بتعيين الفريق محمد فوزي رئيسًا للأركان، فرد عليه عبد الحكيم بتعيين الفريق عبد المحسن كامل مرتجى قائدًا للقوات البرية، في سابقة لم تحدث من قبل ولا من بعد في جيوش العالم، ولا في الجيش المصري نفسه، لكي يجرد فوزي من أية اختصاصات حقيقية، وأجبر عبد الناصر على توقيع القرار بوصفه القائد الأعلى. فماذا يكون الصراع إذا كان ذلك هو الاستقرار؟
أما من يرجع إلى مذكرات كبار القادة في تلك الفترة، فسيقرأ عن تسريحات لضباط بالجملة، أو نقلهم لمواقع هامشية، قبل وبعد حرب 1967، شكًا في ولائهم. وكان في مقدمة هؤلاء الفريق عبد المنعم رياض، الذي لم يكن عامر يحبه. وأما عن الصراع بين التنظيم السياسي "الاتحاد الاشتراكي"، وبين المؤسسة العسكرية، فالشهادات الموثقة حوله تملأ مذكرات قيادات تلك المرحلة، إلى حد إجراء تجارب حية في منظمة الشباب على التصدي لمحاولة انقلاب عسكري. في تلك الحقبة لم يكن يمر شهر إلا وتندلع أزمة تموينية خانقة، مرة في الشاي، وأخرى في السكر، وثالثة في الملح، ورابعة في الكبريت، وخامسة في الأدوية، وهكذا. ثم تعرف القاهرة لأول مرة، وتلتها بقية المدن، ظاهرة "خلو الرجل" في تأجير المساكن، وتعجز حملة سعد زايد الإعلامية عن مكافحة تلك الظاهرة.
في السنوات التي نتحدث عنها استقال أو أقيل ثلاثة من أعضاء مجلس قيادة الثورة من منصب نائب رئيس الجمهورية، هم البغدادي وكمال الدين حسين وحسن إبراهيم، وكان قد أطيح قبلهم بالأخوين جمال وصلاح سالم، وهي نفس السنوات التي شهدت محاكمة الفريق الدجوي التي تحولت إلى عرض مستمر للمحاكمة العسكرية لـ "المتآمرين على النظام"، وعاد التعذيب بقوة للسجون، واكتُشفت في غضون ذلك مؤامرة تنظيم القطبيين الإخواني، ثم لم تلبث قضية كمشيش الشهيرة أن انفجرت، لتتشكل لجنة تصفية الإقطاع برئاسة عبد الحكيم عامر، وتُطلق يد المباحث الجنائية العسكرية دون حسيب أو رقيب، فيعترف عبد الناصر نفسه لأنور السادات بأن البلد تحكمه عصابة.
كما جرى في تلك السنوات إسقاط حكومة علي صبري، بضغوط من عامر، وتولي زكريا محي الدين رئاسة الحكومة، فلا يبقى فيها سوى ستة أشهر لأن المؤسسة العسكرية والاتحاد الاشتراكي توحدا ضده هذه المرة، ويخلفه رجل ضعيف سياسيًا، وإن كان قويًا من الناحيتين الأخلاقية والفنية، هو المهندس صدقي سليمان الباني الحقيقي للسد العالي.
وتقدم لنا سنوات الستينيات مؤشرًا من نوع آخر يُثبت أن الاستقرار السياسي كان وهمًا، أو مفروضًا بقوة القمع، وهو ما حدث في تشييع جنازة مصطفى النحاس باشا زعيم الوفد والأمة قبل يوليو 1952. فرغم عدم إذاعة نبأ الوفاة إلا مرة واحدة، وفي تسع كلمات فقط في نشرة الثانية والنصف ظهرًا، فقد تجمع عشرات الألوف لتشييع الجثمان، في عصر لم تكن فيه هواتف محمولة، ولا شبكات تواصل اجتماعي، وهم يهتفون "لا زعيم إلا أنت يا نحاس"، ولولا ضراوة الشرطة في تفريقهم لتحولت الجنازة إلى مظاهرة مليونية.
ثم تأتي هزيمة 1967، ويدبِّر عبد الحكيم عامر ورجاله الهاربون من سيناء انقلابًا ضد جمال عبد الناصر، فيفشل وينتحر عبد الحكيم أو يُقتل، وما هي إلا أشهر، حتى تندلع المظاهرات الطلابية والعمالية ضد عبد الناصر نفسه، مرة بسبب ضعف الأحكام على قادة الطيران في حرب 1967، ومرة ثانية بسبب أوهى من ذلك، وهو محاولة إصلاح مناهج التعليم. وفي المرة الثانية أُغلقت الجامعات لمدة خمسين يومًا متصلة، وعُقدت دورة خاصة للمؤتمر القومي للاتحاد الاشتراكي، وصدر بيان 30 مارس الذي تعهد بإلغاء القوانين المقيدة للحريات. غير أن ما أوقف زخم المعارضة الشعبية لعبد الناصر (أول المماليك الجدد وآخر الفراعنة العظام) كان اندلاع حرب الاستنزاف، و في قلبها استشهاد الفريق عبد المنعم رياض نفسه، والغارات الإسرائيلية المجرمة على أهداف مدنية في عمق مصر، واعتقاد المصريين في صدق الاستعداد لمعركة تحرير سيناء، أو إزالة آثار العدوان، كما كان يقال في ذلك الوقت. بقي من معالم انعدام الاستقرار طوال فترة عبد الناصر أنها كلها حكمت بدساتير مؤقتة أو إعلانات دستورية، وأن جميع الانتخابات التي جرت خلالها كانت من تأليف وإخراج النظام، وأن العزل السياسي لخصوم أو معارضي النظام كان تقليدًا صارمًا، جنبًا إلى جنب مع المصادرات والحراسات الإدارية على ثروات المشتبه في احتمال معارضتهم، فياله من استقرار!
وجاء السادات، الذي لم تكن فترة حكمه أفضل على صعيد الاستقرار السياسي من سلفه، رغم تحسن الصورة العامة فيما يتعلق بالحريات، فمنذ اللحظة الأولى انفجر الصراع على السلطة بينه وبين مراكز القوة في أحداث مايو 1971، وبعد انتصاره في هذا الصراع نشبت الحركة الطلابية الضاغطة من أجل الحرب ضد إسرائيل. استمرأ السادات بعد ذلك لعبة تغيير الحكومات، ووزراء الدفاع على وجه الخصوص، فشهدت السنوات الـ11 لحكمه سبع حكومات، وسبعة وزراء دفاع. وأقدم على حل مجلس الشعب مرتين، وبشهادة أقرب الكتاب إليه، وهو الأستاذ موسى صبري، فقد كان وزير الداخلية ممدوح سالم ينظِّم المظاهرات ضد رئيس الوزراء عبد العزيز حجازي ليحل محله. وفي ظل حكومة ممدوح سالم نفسه اندلعت مظاهرات الطعام 1977، وشهدت شوارع القاهرة نزول قوات الجيش لحفظ النظام لأول مرة منذ حريق القاهرة في يناير عام 1952 في العهد الملكي. في الوقت نفسه، وللقضاء على اليسار القومي والشيوعي، لم يكتف السادات بإطلاق الإسلاميين من معتقلاتهم (وهذا حقهم بلا جدال)، ولكنه مولهم، وحرضهم رجاله على استخدام العنف في الجامعات وغيرها لقمع اليساريين، ولم يكن في ذلك أي معنى للاستقرار.
وبعد أن اتسعت دوائر الصراع داخل المجتمع أخذ السادات، الذي كان قد رفع شعار "سيادة القانون" أساسًا لنظامه، يصدر قوانين شاذة لتشريع القمع، فأصدر قانون "السلام الاجتماعي" وقانون "العيب"، واستحدث محكمة للقيم تعيد أسلوب العزل السياسي، إلى غير ذلك من القوانين التي حظرت التجمع في الشارع لأكثر من خمسة أشخاص. وفي سنوات السادات عاد إرهاب التطرف الإسلامي يضرب في كل مكان، فسمعنا بحادث الفنية العسكرية، وتنظيم صالح سرية، ثم اختطاف واغتيال الشيخ محمد حسين الذهبي (وزير أوقاف سابق)، لنسمع بعدها عن تنظيم التكفير والهجرة، وأخذت التنظيمات الإرهابية تتوالد من بعضها، حتى بات يصعب حصرها عددًا، وكان الوجه الآخر لهذا التطور البائس هو نمط متصاعد من العنف ضد المسيحيين، وصولًا إلى شرخ لم يلتئم بعد للقدر الموروث من ثورة 1919 من فكرة المواطنة.
ومع سفور الفساد واتساع الآثار السلبية للانفتاح الاستهلاكي، ارتفعت حدة المعارضة حزبيًا وصحفيًا، فبدأ منع كتاب كبار من الكتابة، وصودرت صحف، وأُسقطت عضويات نواب، وجُمدت أحزاب، وأُخضعت نقابات للحراسة، واهتزت أوصال النظام لرؤيته تدفق الجماهير على مؤتمر قيام حزب الوفد الجديد في فناء المدرسة السعيدية في أواخر السبعينيات. وردًا على تساؤلات الجماهير للسادات "أين الرخاء الذي وعدتنا أنه سيعم البلاد في عام 1980"، فاجأ الرجل المتسائلين بأنهم هم من لا يريدون رؤية أن الرخاء حل بالفعل، فهذه واجهات المتاجر تتلألأ بالبضائع، وهذه أسعار الأراضي تبلغ السحاب، بعد أن كانت في التراب, على حد تعبيره، وكان ذلك مثالًا كلاسيكيًا للإنكار والمكابرة، سبقه إليه عبد الناصر بقوله إن رائحة الكباب تملأ حي الحسين، ويشمها هو نفسه عندما يمر من شارع الأزهر، فكيف يدعي الرجعيون أن المصريين جائعون؟ ويشبه هذا ما يقال الآن إن أهل الشر لا يرون الإنجازات، ويحجبون رؤيتها عن الآخرين بالضجيج والشائعات. بقية قصة السادات ومسرحيات وزير داخليته النبوي إسماعيل معروفة، وصولًا إلى اعتقالات سبتمبر 1981، واغتيال السادات نفسه في الشهر التالي في أول حادث اغتيال سياسي كبير منذ اغتيال رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي عام1949. ثم يقولون "ما أجملك يا أيها الاستقرار"!
ويأتي حسني مبارك، فيحكم ثلاثين عامًا لم تُرفع خلالها حالة الطوارئ يومًا واحدًا، لتتغير القوانين مع كل استحقاق انتخابي، ولتحل المحكمة الدستورية مجلس الشعب أكثر من مرة، وتنصرف جهود الحكومة لتقويض أحزاب المعارضة بالتزوير والمؤامرات والإفساد، وتفرض الجماعات المتطرفة سطوتها في بعض مدن الأقاليم وبعض ضواحي القاهرة، ويعلن وزير الداخلية زكي بدر سياسة الضرب في سويداء قلب المتطرفين، فتندلع حرب الثأر بينهم وبين الشرطة في الشوارع. زكي بدر نفسه جيء به وزيرًا للداخلية بعد أن أطاح تمرد جنود الأمن المركزي على امتداد البلاد بالوزير أحمد رشدي، وكان هذا التمرد هو المناسبة الثانية في العهد الجمهوري التي تنزل فيها قوات الجيش للشوارع، وتمر الكارثة دون تحقيق بطلب من الرئيس نفسه لمجلس الشعب، ويُفهم من الروايات الجانبية أن تمرد الأمن المركزي دُبِّر من قبل فاسدين نافذين للخلاص من أحمد رشدي.
في النصف الأول من التسعينيات كانت الحوادث الإرهابية الكبيرة تقع بصفة يومية تقريبًا، فاغتيل رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب، وجرت محاولات لاغتيال رئيس الوزراء عاطف صدقي، ووزير الإعلام صفوت الشريف، ووزير الداخلية حسن الألفي، فضلًا عن محاولات اغتيال مبارك نفسه، التي يقال إنها بلغت سبع محاولات، غير حادثي بورسعيد وأديس أبابا اللذين جريا علنًا.
ويقبل القرن الجديد، مبتدئًا العقد الثالث من حكم مبارك، ومعه مشروع توريث الحكم للابن جمال، مستندًا إلى تحالف بين رجال الابن في الحزب والاقتصاد وبين داخلية حبيب العادلي، التي تسلحت بقوانين الطوارئ لاعتقال المعارضين، والهيمنة على الجامعات والنقابات، وإهانة المواطنين، وإهدار دمائهم، إلى آخره. ومع اتساع الفساد والفقر، والاستخفاف بالشعب في التعديلات الدستورية الممهدة للتوريث تكتسب المعارضة قوة دفع بظهور حركة كفاية، وانفجار الإضرابات والمطالب الفئوية المشروعة، وصولًا إلى ثورة يناير.
قديما قال الشاعر الذي اكتوى ضميره من إنكار المكابرين :
"لعمرك ما صح في الأفهام شيء، إذا احتاج ضوء النهار إلى دليل".
فهل يستطيع من يقرأ ما عرضناه آنفًا أن يدعي أن نظام يوليو 1952 حقق لمصر استقرارًا فعليًا في عهوده الثلاثة الماضية، وأنه يحقق أو سيحقق هذا الاستقرار في عهده الرابع الحالي؟
وماذا عن الإنجاز؟
إذا خصمنا من سجل إنجازات نظام يوليو ما كان سيتحقق بالتطور الطبيعي، وإذا نسبنا أرقام إنجازات النظام إلى أرقام الفرص البديلة، وأرقام الإمكانيات التي أتيحت للاطراد والتراكم وأهدرت من بعد، وإذا قارنا بين ما حققه ذلك النظام لمصر وبين ما حققته نظم أخرى في بلاد في مثل ظروف مصر، بل وفي ظروف أسوأ من ظروف مصر، فإن الحديث عن الإنجازات الاقتصادية الكبرى لنظام يوليو 1952 باستثناء السد العالي وتأميم قناة السويس، وحركة التصنيع في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات، يدخل هو أيضًا في باب الأساطير والأوهام، لأن ما أفشل حركة التصنيع هو النظام نفسه، بدخوله في حرب اليمن ثم في حرب 1967، ثم تأميمه للصناعات المتوسطة والصغيرة، وبانقلاب السادات، ومن بعده مبارك على القطاع العام، وبتفشي الفساد السياسي والإداري، مع الاحتفاظ لعهد مبارك بالتفوق الكاسح في ميدان الفساد والنهب، ونزح دماء مصر إلى الخارج.
وكي لا نطيل أكثر من اللازم، دعونا نقارن بين إنجازات مؤسسة واحدة بقيادة رشيدة هي "بنك مصر" تحت قيادة طلعت حرب، وبين إنجازات عهود يوليو، فقد تأسست شركات بنك مصر الصناعية والتجارية والخدمية على الأسس الصحيحة، وأديرت بأهل الخبرة، فنجحت بسرعة، واطَّرد نجاحها. لتبقى حتى يومنا هذا من أعمدة الاقتصاد المصري، رغم تأميمها وتدمير بعضها في إطار تدمير القطاع العام، كما حدث لصناعات الغزل والنسيج في المحلة الكبرى وكفر الدوار. أما شركة الحديد والصلب في حلوان التي أنشأها نظام يوليو، فقد تعثرت من أول لحظة، ثم انتكست لتقترب من الإفلاس، وكذلك شركة كيما أسوان، وألومنيوم نجع حمادي، وغيرها وغيرها.
وفي مجال الخدمات، انظروا فقط إلى حال التعليم والصحة، وتذكروا ترتيبنا الدولي في قوائم التنمية البشرية.
وماذا عن إسرائيل التي هيأ الثأرُ لهزيمة مصر الملكية أمامها الذريعةَ للمماليك الجدد للاستيلاء على السلطة، أسوة بأسلافهم الذين دحروا الصليبين؟ باختصار وبعد ثلاث هزائم كبرى، وانتصار وحيد لم يتكرر، أصبحت إسرائيل قوة إقليمية عظمى، تزداد يوميًا قوتها الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية والديمقراطية، فيما نزداد نحن ضعفًا كل يوم، في حين كان المماليك الأولون هم من يزدادون قوة كل يوم، وكان قوة الصليبيين تنحسر ساعة بعد ساعة. ولا نتحدث عن مشاكلنا في أفريقيا النيل، واضمحلال دورنا العربي إلى حد انتظار مراحم أشقائنا الخليجين.
مرة أخرى وأخيرة، هل يحتاج ضوء النهار إلى دليل؟ وهل مزيج الفرعونية الجديدة والمملوكية الجديدة يصلح مصر أم يفسدها؟