تكشف الباحثة المغربية هنا في قراءتها لتلك الدراسة النقدية أن الرغبة في تجاوز طروحات السردية البنيوية، هي ما ينشده الناقد في هذا الكتاب لاقتراح سردية تهتم بالجانب الثقافي للأعمال الروائية، وتتجنب اختزالها في نسق أو نموذج واحد عبر اقتراح توصيف أو نحو كلي. ولكنه اهتمام لتغيير المنطلق لا يغفل الجانب الجمالي للعمل.

القراءة الثقافية للنص الروائي

في كتاب «سرديات ثقافية» للناقد محمد بوعزة

بديعة الطاهري

تسعى هذه الورقة(1) إلى مقاربة كتاب الدكتور محمد بوعزة )سرديات ثقافية( من سياسات الهوية إلى سياسات الاختلاف(2) «مركزين على مشروع كتابه النقدي وما انبنى عليه من أسئلة، وما صاغه من أجوبة يمسك بها القارئ عبر فصول الكتاب.

أشير في البداية إلى أنني استمتعت بقراءة هذا الكتاب. ولا أقولها مجاملة أو محاباة، وإنما لما لمست فيه من وعي نقدي جاد، ترجمته لغة نقدية متينة، وروح موضوعية تتخلى عن الجاهز من الأفكار التي تحول النصوص عادة إلى مجرد فضاء للتجريب، ولما يتضمنه من محاور، رغم تنوعها، تمتلك صلابتها من كونها تدرج في إطار أطروحة واضحة المعالم، تتوخى الإنصات إلى النصوص للإمساك بعوالمها الدلالية. إنه وعي نلمسه من خلال الهندسة المقترحة للكتاب، والمؤسسة على محاور يعضد بعضها البعض بطريقة يكون معها الكتاب كلا لا يتجزأ .

قسم الناقد عمله إلى مقدمة، هي عتبة اختصر فيها موضوعه، ودواعي اختياره، والتعريف بأهم فصول الكتاب. تلاها مدخل وضح فيه بشكل جلي مشروعه النقدي. مشروع أراده جديدا مختلفا عما يسود في الكثير من الدراسات، منها تلك التي اكتفت بالمستوى الشكلي والبنيوي في النص.

يتوخى الناقد اقتراح سردية ثقافية توسع مفهوم السرد من جهة، وتقتنص فيه الدلالي والثقافي من جهة أخرى. فمشروعه ليس شكليا محضا، ولا موضوعيا يهدف إلى الإسقاط الجاهز من الموضوعات على النص، أو ربط هذا الأخير بسياق خارجي وبطريقة تعسفية. إن هدف الناقد هو الإنصات إلى روح النص، في محاولة الكشف عن تضاريسه البنائية الداخلية وعوالمه الدلالية.

ترتبط دواعي هذا المشروع بما لاحظه الناقد من قصور في بعض الدراسات الشكلية والبنيوية سواء في الغرب (فرنسا خاصة)، أو في العالم العربي. ولتوضيح مشروعه النقدي يرصد الباحث تضاريس الدراسات السردية، فيعود بنا إلى البدايات الأولى لعلم السرد، (السرديات) كما ظهر في فرنسا، موضحا رهانات هذا العلم وقصور ذلك الرهان. رهانات تجلت في تسييج النص والابتعاد عن الإسقاطات الخارجية والالتزام ببنيته المغلقة، واقتراح نحو كلي للنصوص، أو قواعد عامة وفقها تنتظم النصوص المختلفة والمتعددة. وبالرغم مما كان لهذا التوجه من إيجابيات- إذا أخذنا بعين الاعتبار الاتجاهات السابقة له التي أغفلت النص، وانطلقت من معطيات جاهزة- فإن هذا العلم- وكما يؤكد الناقد- لم يخل من منزلقات؛ لأنه اعتمد النموذج اللساني البنيوي الذي كان همه في الأصل الجملة لا ما بعدها، واختزل النصوص في بنيات وقواعد موحدة تلغي الخصوصية والتعدد والاختلاف، سواء داخل النصوص ذات الطبيعة الواحدة أو المختلفة منها، واعتبر النص بنية مغلقة وشبكة من العلاقات المرتبطة بمستويات نصية داخلية. فكان من تداعيات ذلك تقليص دينامية النص أحيانا، وتجزيء العمل الأدبي إلى قصة وخطاب وتثمين هذا الأخير. وهو منزلق وقع فيه (في رأيه) بعض النقاد العرب أيضا منهم الناقد سعيد يقطين؛ إذ كثيرة هي كتبه النقدية التي اهتم فيها بالخطاب على حساب القصة. وبالرغم مما يقدمه سعيد يقطين من عذر يختزله في البعد المنهجي والأكاديمي الذي يقتضي التركيز في الدراسة على جانب دون آخر، فإن الناقد محمد بوعزة، يرى أن في الأمر خللا، لأن القيمة الفنية في هذا التصور تسند إلى الخطاب على حساب القصة، وتصير القصة معطى غير خطابي وغير نصي .

وقد أشار الناقد إلى فضل الدراسات الأنكلوساكسونية واختلافها عن الدراسات الفرنسية، إذ اقترحت مفاهيم لم تقف عند حدود المستوى الشكلي، لعل أهمها مفهوم وجهة النظر مع واين بوث الذي كان سبّاقا إلى إثارة قضايا هامة؛ منها التمييز بين من يسرد ومن يرى، وبين الكاتب والكاتب الضمني والسارد .. الخ. ولم يفت الناقد محمد بوعزة الإشارة إلى أن أحد أقطاب السردية الفرنسية وهو تودوروف، قد تنبه إلى هذه المزالق، وانبرى لتطوير أفق مغاير لمشروع السرديات بتوجيه اهتمامه إلى الجانب الثقافي والتاريخي للظواهر. إن الرغبة في تجاوز طروحات السردية البنيوية، هو ما ينشده الناقد في هذا الكتاب لاقتراح سردية تهتم بالجانب الثقافي للأعمال الروائية أو غيرها، وتتجنب اختزالها في نسق أو نموذج واحد عبر اقتراح توصيف أو نحو كلي. ولكنه اهتمام لا يغفل الجانب الجمالي والاستيتيقي .

سعى الناقد في خطوة أولى إلى توسيع مفهوم السرد وتجاوز مستواه اللفظي والخطابي، والنظر إلى وظيفته عبر اللسانية التي يشتغل بناء عليها وفق بعدين: أفقي وعمودي. ولعلنا هنا نلمس الروح الباختينية واستعادة طروحاتها ونظرتها إلى الملفوظ باعتباره نتاج المجتمع والثقافة، والتركيز على الرواية والفرد ولغته فيها اعتمادا على البعد الاجتماعي، والإضاءة الإديولوجبة لا بمفهومها الماركسي المحض.

لا ينكر الناقد وجود معالم تصوره هذا في بعض الدراسات الثقافية. ويتوقف الناقد بصفة خاصة عند إدوارد سعيد. وهو تصور لا ينظر إلى النص السردي باعتباره مجرد صيغة للتلفظ، وإنما باعتباره يحمل خطابا، مما يستدعي إدراج النص ضمن أنساق ثقافية. وقد جمع هذا النموذج الثقافي مابين الاهتمام بالخاصية الجمالية والسياق الثقافي والرمزي والإديولوجي للظاهرة السردية. ولعل أهمية ما جاء به إدوارد سعيد وإضافاته في إطار الدراسات الثقافية والدراسات ما بعد الكولونيالية هو ما دعى الناقد إلى التذكير بالعديد من النصوص التي قاربها إدوار سعيد، سواء منها ما انتظم في خانة الأدب الكولونيالي؛ من مثل رواية (اللا- أخلاقي) لأندري جيد وغيرها. أو روايات ما بعد الأدب الكولونيالي، مثل (موسم الهجرة إلى الشمال)، وهي نصوص تبين واقع السرد، ودوره كاستراتيجية لاكتساب المواقع وفرض السلطة وصياغة العالم وفق ما يخدم الذات الممتلكة لقوة السرد، كما تبين في حالات أخرى دوره كوسيلة للفضح واستعادة ما ابتزه الآخر وتفكيك افتراضاته. إنها استراتيجية سردية تتوزع على هذين النمطين من الأدب، وتتأسس في إطار علاقة بناء النموذج .ويتعلق الأمر هنا بالنصوص الإمبريالية وهدم هذا النموذج ببناء نسق مغاير في النصوص ما بعد الكولونيالية.

يخلص الناقد إلى أن المحكي، أو السرد علامة دينامية، يتمفصل وفق نظام ترميزي مزدوج أدبي –ثقافي يعكس رهانات الاستراتيجية السردية، حيث تستحضر سياقات الهوية والمتخيل والتاريخ وتجاذبات المعرفة والقوة من أجل فرض تصور للعالم، أو التحيز لتمثيلات على حساب تهميش تمثيلات أخرى. فقراءة النص، بالنسبة إلى الدكتور بوعزة، لا بد وأن تراعي هذين البعدين. ولهذا يقترح مجموعة من المحاور استخلصها من نصوص روائية مختلفة. محاور قد تبدو للوهلة الأولى متواترة في الإبداع العربي، وفي الدراسات النقدية؛ من مثل السلطة والآخر، والقوة والهوية، لكن الناقد من وعيه التجديدي، ينتشل دراسته من التكرار ويجنبها استعادة خطاب الآخر، باعتماد السرد محورا جامعا لهذه المحاور، متجاوزا مقترحات الدراسات الكلاسيكية القائمة على الاستعادة الحرفية لمضامين النصوص، ومتجنبا الدراسة الإديولوجية المحضة .

تجلى اجتهاد الناقد أيضا في الوقوف على الايقاعات المختلفة التي يتيحها اشتغال التيمة، أو المحور الواحد داخل نصوص مختلفة. فتيمة السلطة في رواية (دمية النار) لبشير مفتي ترتبط بخطاب الذات أو الأنا المنشطرة إلى ذاتين متناقضتين؛ ذات تمثل السلطة وتمرر خطابا مزيفا حول الثورة في الجزائر، وذات مضادة تتبنى خطابا مضادا يفكك الخطاب الأول ويبين حقيقته المزيفة. وقد جمع الناقد في دراسته لهذه الرواية ما بين جانبها الدلالي والشكلي الذي ناقش فيه طبيعة الرواية ونوعها، بناء على تصور لوكاتش للرواية، محاولا أن يجد العلاقة بين الشكل والعوالم الدلالية. وبمقاربته، في إطار المحور ذاته، نص سليم بركات (كهوف هايدراهوداهوس) يسعى إلى التقاط المختلف في توظيف هذه التيمة على المستوى الجمالي والدلالي، وأيضا على مستوى طبيعة الذات المنتجة للسلطة والسلطة المضادة.

وإذا كانت الحكاية في رواية الكاتب بشير مفتي تستلهم مكانا واقعيا، فإن رواية الكاتب سليم بركات تختار العوالم الخرافية لتصوير السلطة، ومضاعفة بعدها الدرامي الذي يجعل منها سلطة مقدسة بإعطائها بعدا تهويليا. ويبين الناقد كيف تنزاح هذه الرواية عن تجسيد خطاب مضاد مباشر، وتخلق خطابا مضادا بطريقة مواربة عبر استثمار السخرية، وأهم وسائلها المتمثلة في المحاكاة الساخرة التي تسحب هذه السلطة من مساحتها الملحمية. بل يشي تحليل الناقد محمد بوعزة بوجود آليات أخرى مستثمرة كالسخرية القدرية، والسخرية الدرامية، والتصوير الكرنفالي للعالم القائم على قلب الأدوار والجمع بين الأضداد. إن هم الناقد ليس تعيين تيمة السلطة ووصفها باعتبارها معطى جاهزا في النص، وإنما هو محاولة استعادتها عبر ما تبنى به وبواسطته في هذا النص.

ويلاحظ الناقد أن مواجهة السلطة في رواية (الساحة الشرفية) لعبد القادر الشاوي تتم بواسطة الحكاية. بل إن الذات بواسطة الحكاية تواجه ألمها في السجن وغربتها ،و تكتشف نفسها وماضيها. وتحاول أن تبحث لنفسها عن موقع صحيح، بعد أن تكون عبر الحكاية قد عملت على تعرية خطاب السلطة. إن محور السلطة في تجلياته المختلفة يقابل بين ذواتين تنتميان إلى الفضاء ذاته، لكنهما تتعارضان فكريا وإيديولوجيا وثقافيا. وتكون هذه الثنائية هي الجسر الذي يتيح للناقد العبور إلى المحور الثاني في كتابه وهو السرد والآخر. فالذات لا تتغير، لكن الآخر ينتمي إلى فضاء مفارق. يختار الناقد نصا حديثا يعلن اختلاف العلاقة بين الأنا والآخر. ينزاح عن تلك الصورة النمطية التي استهوت المتخيل الروائي العربي، معتبرة الغرب غربا استعماريا، والشرق شرقا ممتشقا لسيف الفحولة والانتقام.

في رواية (روائح ماري كلير) للحبيب السالمي تغيب هذه العلاقة الفحولية وتحضر العلاقة في بعد فردي إنساني، خارج الصراع الثقافي. وبهذا تكون هذه الرواية قد قوضت التيمة الأسطورية في الروايات ما بعد الكولونيالية وهي الفحولة. ويبين الناقد كيف ينبني هذا النص على هدم نسق سابق، أو تصورات نصوص أخرى للعلاقة بين الشرق والغرب، وبناء نسق بديل تنسحب منه الرغبة في الانتقام والثأر لتحل رغبة الحب، ويختفي الجسد الفحل، ليبأر الجسد الهش، وتتغير الأدوار وتقلب في إطار العلاقة ما بين المرأة/ الآخر، والرجل/ الأنا، وينسحب الفضاء الشرقي العربي، فتحل الألفة مكان الغربة، ويحضر التوازن بدل الاختلال، والتصالح مكان الصراع. وعبر مسارات أخرى يتم الانتقال من الاشتغال الرمزي للسرد في الروايات ما بعد الكولونيالية إلى اشتغاله الفردي في هذه النصوص. ولا ينسى الناقد الإشارة إلى منطق السرد، ولكنه منطق لا يجلي بناء الحكاية وتمفصلها، وإنما طبيعة العلاقة بين الأنا والآخر، والقائمة على المصادفة وخارج مقتضيات النسق. وبناء على هذه العلاقة يوضح كيف ينغلق النص فضائيا في البيت، وسرديا في العوالم الداخلية.

وباستراتيجيته القائمة على التقاط المختلف، يقارب التيمة ذاتها في رواية (مصابيح مطفأة) لأحمد الكبيري، ليبين استثمارها المختلف. فالذات/ الأنا في هذا النص تنتقل من فضاء خارجي/ الغرب إلى فضاء داخلي المغرب، لكنها تلغي -مع ذلك- الفضاء الخارجي من سردها وتهمشه، ولا يكون المثال أو البديل، لأن السرد يركز على صدمة الأنا وهي تحل بالفضاء الداخلي حيث لا شيء تغير، بل وكأن كل شيء تعمق؛ اليأس والتهميش والإحباط والتشرد. إنها حالات الخراب المبثوثة في الفضاء والشخصيات، وعلاقة العودة الصادمة التي تصوغ عنف الواقع، لتبني -مع ذلك- علاقة حميمية بين السارد والوطن؛ مفارقة لم نجدها في الروايات/ النسق. ولابد أن أشير في هذا الصدد إلى جدية هذه الدراسة وهذا المحور. فهي دراسة اعتمدت على نصوص جديدة وأنصتت بعمق لهمسها. بل أقول إن الناقد أعطى لهذين النصين حياة أفضل من تلك التي يمنحانها لنفسيهما. لقد قرأت (مصابيح مطفأة)، وخبرت أسلوب (روائح ماري كلير) من خلال قراءتي لـ(نساء البساتين) للكاتب ذاته الحبيب السالمي. وتبين لي كيف أن هناك في هذين النصين-وإن بتفاوت- هوس الحكاية والبحث عن النهاية كخلاص من ألم السرد. بمعنى أن القارئ يسير في هذين النصين بوتيرة غير متوترة بسبب صفاء عالمي النصين ووضوحهما. صفاء يجعل الذات الساردة وعوالمها معطاة بشكل كثيف. ولنقل إننا إزاء نصين يفيضان معنى، ويعاقبان القارئ من خلال الإشباع المعنوي. لكن الناقد استطاع أن ينصت إلى همسهما الخافت، وأن يختار لهما موقعا يستعيدان فيه ألقهما النصي.

اهتم الناقد في المحور الثالث بالسرد والقوة؛ فقارب نصين هما (ترانيم البردي القديم) لأمال النخيلي، و(أيلان أو ليل الحكي) لإدمون عمران المالح. وهما نصان يستعيدان تيمة السلطة وعلاقة الذات/ الأنا الممثلة للسلطة. يهتم الناقد ببنيتيهما الداخلية، وبما يسمح فيهما بالإضافة الفنية والدلالية لاشتغال السلطة. ومن ثمة كان تركيزه على السرد وقدرته على صياغة عوالم قديمة وأخرى جديدة. قوة تتجلى في رواية أمال النخيلي في تنوعات وإيقاعات تتحقق عبر الشعر والسرد والبوح والحكي بطريقة تجعل النص حكايتين تختلفان في كون إحداهما تشتغل إطارا، وأخرى مؤطرة، وتستعيدان بعض التيمات مثل مواجهة السلطة للآخر. لكنهما تختلفان في طريقة تصورهما للمدينة؛ مدينة قديمة تقاوم الغزاة وتحتفي بالتضحية في فعل جماعي تنتفي فيه الحدود والألقاب، ومدينة حديثة تشي بالخنوع والخراب. وعبر قوة السرد يتم الاقتراب من فضاءين، ومن زمنيين رمزيين. ويكون للسرد قوته في الحكايتين؛ إذ عبره تتم المواجهة: مواجهة السلطة.

أما المحور الأخير فهو امتداد لتيمة المحور الثاني. ولكن من مستوى آخر؛ هو تفكيك هوية السرد، لا البحث عن قوته أو تيماته. ومن هنا كان الإنصات لـ(كتاب الأيام) لشعيب حليفي لمساءلة وضعه الأجناسي، واستخراج خصائصه التي تكشف عن التحول والتغيير. إذ ينتقل النص من هويته الرحلية عبر ما يبنى عليه من خصائص تخص هذا التعبير، إلى التخييل بما يستثمره النص من أبعاد مختلفة تدخل أحيانا في الغرابة والدهشة واللامعقول. ويشتغل الناقد على الموضوع ذاته في عمل غالب هلسا (ثلاثة وجوه لبغداد)، محاولا البحث في تضاريسه التي تجعله يتراوح ما بين السيرة والرواية. مبينا كيف أن هذا الوضع الأجناسي ليس مجرد تجريب، وإنما تستدعيه العوالم الدلالية. فالنص يمدنا بعناصر السيرة، ولكنه يعمل على هدمها ليرسخ في عالم التخييل. و يوازي هذا الوضع النصي التباس علاقة الذات بالمجتمع، كما توازيه ثنائية التصوير المتراوح بين الواقع والترميز، وبين التخييل والأسطرة، وبين الحلم والحقيقة، مما يجعل النص يفقد تماسكه الأجناسي. بالرغم مما قد يوحي به المحور الأخير المتعلق بالهوية من ابتعاد الكتاب عن أطروحته، فإن الانصات الدقيق للمحور يجعل القارئ يدرك كيف أن الحديث عن هوية النص يشكل وسيلة لإيجاد العلاقة بين الشكل والعوالم الدلالية. فالشكل بهذا ليس مجرد وعاء وإنما هو شكل للمعنى.

خاتمة
يعتبر هذا الكتاب إضافة جادة في حقل الدراسات النقدية العربية. يتسم بالموضوعية ويبتعد عن الأحكام الجاهزة، ويعتمد منهجية تعيد الاعتبار إلى النص بالالتزام به، دون الاقتصار على مكوناته الشكلية. ينصت الناقد إلى النص وعوالمه، ويلتقط في كثير من الأحيان ما يهمس به النص لا ما يجهر به؛ بل نجده في بعض الحالات يبدع في النص ويوضح قيمته التي ربما لا تبدو فيه بقوة .

تعددت المرجعيات التي اعتمدها الناقد بالرغم من أنه يخبر في مقدمته بتبني مقاربة سردية ثقافية. ولا يخل هذا التعدد بالمنهج وإنما يغنيه، لأنه يستفيد من المناهج والمرجعيات الأخرى، بما يشكل فيها نقطة التقاطع مع مقاربته وهو الجانب الثقافي، ونذكر من بين هذه المرجعيات جورج لوكاتش، وميخائيل باختين وذلك ما أسهم في بلورة أسئلة متعددة، ونوع الزوايا التي تقارب من خلالها تلك الأسئلة. بناء عليه، جاءت دراسته سردية تفكيكية تأويلية. إنها دراسة تبين عن حنكة عالية لا يمتلكها إلا ناقد متمرس يعرف كيف يقرأ النص الروائي، وكيف ينصت لهمسه الذي لا يقدم نفسه بسهولة. وإن الرواية في جوهرها وبشكل عام نص يسخر من السذج الذين يبحثون عن المعاني السطحية، ويتقدم بامتناع وعسر إلى القارئ العالم المتمكن من أدواته النقدية وبالروح الموضوعية العلمية. والنقد الروائي الحديث بمختلف توجهاته لا يقبل الانطباع والاعتماد على الذوق البسيط الذي يصوغ النص عبر كلمات مبتذلة أو انطباعية وعامة، بل اصبح خطابا ينتج معرفة تتطلب عمقا ودراية عالية بمختلف أسسه الفكرية والفلسفية اللسانية التي لا يمكن الإلمام بها بسهولة.

هذه المقتضيات العلمية والمنهجية لمستها في هذه الدراسة الشيقة التي تشي بالجهد والعمق لترويض النظرية وجعلها خفية، ولتفكيك النص لالتقاط الخفي فيه، لأن للرواية حرمتها وهو عمقها ، وللنقد حصانته وهي المعرفة الرصينة .

تبقى لدي بعض الأسئلة التي تكون من باب الاختلاف والحوار النقدي الجاد. بعضها يتعلق بالمجال النظري. إذ أثارتني حلقة متجاوزة في رصد مسار الدراسات السردية. وهو ما عرف بالدراسات ما بعد السردية الكلاسيكية، أو ما يسمى بالسردية أو السرديات الحديثة، حيث تشعبت وظهرت سرديات مختلفة معتمدة على حقول معرفية مختلفة، فيها العلوم المعرفية والنفسية والتأويل وغيرها. وهي بدورها كانت واعية بقصور الأطروحات السردية عامة في مرحلتها البنيوية .حلقة نرى أن الناقد استبدلها بما قدمه إدوار سعيد في إطار الدراسات الثقافية. ولا أحد منا ينكر قيمة هذه الدراسة وأهميتها ولا ما قدمته من جديد. لكننا نلاحظ أن هذه الدراسة تندرج في إطار ربما نراه مغايرا لما يقترحه الكاتب، لأن دراسة إدوار سعيد تدرج في إطار تفكيك هوية الرواية وتفكيك خطاب تنظيري حول الرواية، وإن بطريقة غير مباشرة، وهو خطاب لوكاتش وغيره من المنظرين الذين اكتفوا بتحديد ماهية الرواية وربطها بالمجتمع البورجوازي، وبما حققه هذا المجتمع من شروط صحية جعلت الرواية نوعه النموذجي. في هذا السياق تمتلك دراسة إدوار سعيد شرعيتها الكبرى من كونها تزيل الغموض عن جانب آخر في هوية بعض النصوص الروائية، وهو كونها إيديولوجية تدافع عن المجتمع البورجوازي، والمجتمع الامبريالي وسياسته التوسعية ورؤيته الشوفينية، وتعيد قراءة نصوص في هذا التوجه؛ من بينها نصوص تشكل البدايات الأولى اعتبرت نصوصا تمثل بامتياز العلاقة الوطيدة بين الرواية والمجتمع البورجوازي، من مثل روبانسون كروزو لدانيال دويفو وغيرها. لكن إدوارد سعيد كشف كيف مثلت هذه النصوص إديولوجية مناصرة للفكر البوجوازي الاستعماري. ومن هذه الزاوية مابعد الكولونيالية قارب إدوارد سعيد العديد من النصوص الغربية، مبينا دورها في صياغة خطاب مضاد في نصوص العالم الآخر. كما أن هذه الدراسة الجادة (دراسة إدوار سعيد) تجيب ربما دون أن تدري على المغالين القائلين بقدم الرواية العربية. لأنها تبين أن النص الروائي هو نتاج سياقه، وهو إن كان يحمل خصوصيته الراهنة، فإنه يتشكل في إطار سياق ثقافي عام باعتباره يدخل في حوار مع ما يعاصره من نصوص.

كما أننا نرى أن دراسة إدوارد سعيد لما يسمى بالأدب ما بعد الكولونيالي أغفلت الجانب الجمالي. فما يهم في رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) ليس خطابها الإديولوجي، ولا تيمة الصراع بين الغرب والشرق، وإنما كيف تصوغ تلك العوالم. ولا يمكن بطبيعة الحال دراسة العوالم الدلالية خارج اللغة ومستوياتها، وخارج الوصف إذ عبره يتم استعادة خطاب الآخر، وما يسمه من ازدواجية تقوم على لعبة الظاهر والكينونة. وأعتقد أن الناقد بوعزة قد أحس بهذا القصور لأنه يستعيد في حالات كثيرة المقولات التي اقترحتها السردية في مراحلها الأولى لدراسة النصوص.

هناك أسئلة أخرى تتعلق ببعض الجزئيات منها لما ذا يتم استحضار واين بوث في علاقته بالسردية الفرنسية، ولم يتم ربطه بالسياق الثقافي الأمريكي حيث ظهر، خاصة وأن دراسته تعتبر تاريخيا أسبق من دراسة تودوروف وغيره . كما أن هناك ما يشكل امتدادا وإضافة إلى أعماله وهو ما قدمه "جيب لانتفلت" و "دوريت كوهن .استوقفني أيضا انتقاد د بوعزة لمفهوم العمل الأدبي باعتباره قصة وخطابا. بحيث يرى أن الاهتمام كان بالخطاب على حساب القصة سواء عند سعيد يقطين أو عند المنظرين الغربيين، واعتبر ذلك هفوة في هذه الدراسة. ولكنني أرى أن السياق التاريخي الذي ظهرت فيه هذه المقولات كان يستدعي هذا الفصل. إنه سياق البدايات حيث كانت هناك ضرورة لتفصيل مستويات الدراسة لصياغة قواعد تهم كل مستوى على حدة.

إن مقولة الخطاب والقصة هي استعادة لمقولة الحكاية والمبنى عند الشكلانيين، و "تودوروف" ممن اقترحوا وتبنوا هذين المستويين، وافترضوا في كل منهما جوانب للدراسة. ولم يكن الهدف هو التجزيء، وإنما فتح آفاق لتطوير البحث. وهو ما نلمسه في ما اقترحه "جينيت" من مقولات وإضافة على مستوى الخطاب، وما اقترحته السيميائيات من عناصر للدراسة، بعد ان استبدلت المفهومين بآخرين هما الملفوظ والتلفظ، ثم إضافة مستويين آخرين هما الملفوظ المتلفظ والتلفظ الملفوظ.

يتعلق الأمر إذن، بمشروع نظري سعى إلى تحديد مستويات العمل والاشتغال عليها. ويدرج عمل سعيد يقطين في هذا الاتجاه. وله أيضا ما يشفع له وهو كون عمله من باكورات الدراسات السردية في العالم العربي. إذ كان القارئ غير المطلع على منجزات النقد الفرنسي، بحاجة إلى هذا التدقيق. كما يعود الأمر إلى طبيعة عمله، وهو كونه أطروحة تستدعي التدقيق. ولكن هذا لا ينفي وجود أعمال اشتغلت على المستويين في هذه المرحلة المبكرة وأقصد كل الأطروحات التي انجزها الطلبة العرب بفرنسا خاصة بجامعة السوربون باريز ثلاثة، أو بمدرسة الدراسات العليا بباريز .فالوعي بالمستويين لم يكن غائبا عن هذه الدراسات(3)، بل إن فضل هؤلاء يرجع إلى كونهم لم يقفوا عند حدود ما اقترحته السردية من لغة واصفة، وإنما كان هناك إنصات إلى النصوص. ولنا في نقاد آخرين ما يشير إلى استثمار البعد الثقافي، ونذكر مثلا مشروع سعيد بنكراد وكيف استطاع تطوير السيميائية البنيوية بانفتاحه على مقاربات متعددة. فالجانب الثقافي لا يغيب في دراسته، بل نعلم جميعا أنه اهتم بمختلف الأنساق الثقافية حتى ما يبدو منها خارج اهتمامات البحث الأكاديمي .

إنها مواقف اختلافية تهدف إلى الحوار. ويظل كتاب "سرديات ثقافية" للباحث محمد بوعزة إضافة جادة إلى النقد العربي، تحظى فيه النصوص الروائية العربية الجديدة باهتمام كبير، لا باعتبارها مجرد أشكال، وإنما باعتبارها نصوصا تقول أشياء كثيرة ومختلفة، وعبر طرق جديدة. وقد استطاع الناقد أن ينقل لنا هذا القول وطريقة صياغته بطريقة ذكية. فكانت دراسة موضوعية جادة نشكره عليها.

 

جامعة ابن زهر أكادير- المغرب

 

هوامش:

(1) نص المداخلة التي قدمت في اليوم الدراسي حول النقد الجديد بالمغرب، 3ماي 2014، كلية الآداب، جامعة ابن زهر، أكادير.

(2) محمد بوعزة: سرديات ثقافية من سياسات الهوية إلى سياسات الاختلاف، منشورات الاختلاف، دار الأمان، دار ضفافا، بيروت، 2014.

(3)يمكن الاطلاع على مختلف الأطروحات التي انجزت بجامعة السربون ثلاثة بباريز خلال الثمانينات من القرن الماضي خاصة تلك التي انجزها طلبة من مختلف دول العالم العربي .وهذه الأطروحات متوفرة بمكتبة الجامعة وبمكتبة قسم الدراسات الإسلامية بالجامعة ذاتها.