يكتب الناقد المصري ان كتاب سفيتلانا إليكسييفيتش مادته شهادات واقعية جمعتها على مدى عشرين عاما عن كارثة انفجار مفاعل تشيرنوبل الشهير 1986.مونولوجات عن التاريخ المفقود، يتحدث أصحابها إلينا مباشرة، يحكون لحظات إنسانية فريدة، لن تجدها فى كتب التاريخ، ولكن سفيتلانا تستخدم مادة الواقع، لكى تصنع منها حكاية طويلة، قصة متعددة الأصوات.

«صلاة تشيرنوبل» عندما توقف الزمن ليفكر

محمود عبد الشكور

بعض الكتب تمتلك كل معالم الرواية، رغم أنها لا تُصنف فنيا على أنها روايات، فيها الأبطال، وعناصر الصراع، وملامح البداية والعقدة والنهاية، وفيها الحوار والسرد واستخدام المجاز، ولكنها تحتفظ بمادة الواقع كما هى، تريد أن تجعلها شهادة ووثيقة، ولا يتدخل الكاتب إلا من أجل الترتيب والتنسيق وضبط البناء، تصبح الأولوية للواقع وليست للخيال.

من هذه النوعية كتاب «صلاة تشيرنوبل» للفائزة بجائزة نوبل فى الأدب 2015، للكاتبة البيلاروسية سفيتلانا إليكسييفيتش، والذى أصدرته دار مصر العربية للنشر والتوزيع، بترجمة سلسلة متدفقة لأحمد صلاح الدين. سفيتلانا صحفية بالأساس، وكتابها مادته شهادات واقعية جمعتها على مدى عشرين عاما عن كارثة انفجار مفاعل تشيرنوبل الشهير يوم السادس 26 من أبريل من العام 1986.

مونولوجات عن التاريخ المفقود، يتحدث أصحابها إلينا مباشرة، أطباء وجنود وأمهات وعلماء وأطفال، يحكون لحظات إنسانية فريدة، لن تجدها فى كتب التاريخ، ولكن سفيتلانا تستخدم مادة الواقع، لكى تصنع منها حكاية طويلة، قصة متعددة الأصوات، تنقل سفيتلانا الشهادات، لا تتدخل إلا لكى تصف تعبيرا، ضحكة، لحظات بكاء، يقوم البناء على التداخل بين الكورس والمونولوج، شهادات جماعية، وأخرى فردية، كورس الشعب، كورس الجنود، وكورس الأطفال، عناوين الفصول مدهشة: «أرض الموتى»، «إكليل الأحياء»، «استعذاب الحزن»، حتى عنوان الكتاب نفسه ساحر ومثير للتأمل «صلاة تشيرنوبل»، وكأن الأحياء يقدمون الصلاة على أرواحهم، مثلما يتذكرون أرواح أحبائهم.

الصراع فى الكتاب أيضا حاضر بقوة: الإنسان فى مواجهة وحش اسمه «الإشعاع»، شىء لا يمكن رؤيته، ولكنه يتغلغل فى كل مفردات الحياة ليقتل، وكأنه ملاك الموت نفسه، الإنسان فى مواجهة تكنولوجيا ابتكرها فخرجت عن سيطرته، وهناك كذلك صراع مستتر بين الإنسان وذاته، كيف يكتشف الأكاذيب التى صدقها عن قدرته اللا نهائية؟ وكيف يواجه الوحدة والعجز وانهيار الحلم؟ وكيف تتهاوى أمامه «اليوتوبيا الأرضية» التى طالما سخرت منها سفيتلانا فى مؤلفاتها؟

 

ذلك أن الحلم السوفيتى الطوباوى على الأرض، قد انتهى إلى كابوس، ولذلك يربط الكتاب بين انفجار تشيرنوبل، وانهيار الاتحاد السوفيتى وتفككه، بل يعتبر أحد الشهود أن الحادث الأول، أدى إلى تسريع وقوع الحادث الثانى.

أما أبطال الكتاب فهم يتحدثون على طبيعتهم، تتلون عباراتهم بلون الحزن والصدمة، يعتبرون كارثة تشيرنوبل أسوأ من كل الحروب، أسوأ من الحرب العالمية الثانية، ومن حرب أفغانستان، المكان والزمان أيضا حاضران فى الكتاب بقوة، زمان ما قبل الانفجار، وما بعده أيضا، ولد بعد الانفجار ما يطلقون عليه «إنسان تشيرنوبل»، شخص يحمل الإشعاع فى جسده، يتفاداه الناس أينما حل، هناك حكاية عن رجل عاد إلى بيته، فلم يجد زوجته وطفله، هربت مع ابنها، حكاية أخرى عن فتاة تعثرت مشروعات زواجها لأنها تنتمى إلى تلك الفئة المسماة «إنسان تشيرنوبل».

تصر سفيتلانا على أن تجعل الواقع يتكلم من دون أن تتدخل، ولكنها تقول أيضا إنه «حتى الكلمات فى الوثائق تهرب من حدود الوثيقة، لا حدود بين الوثيقة والتلفيق، أحدهما يتدفق نحو الآخر، الشهود ليسوا متجردين، فى أثناء تلاوة الحكايات، يُبدع البشر، يتصارعون مع الزمن مثل المثال مع الجرانيت، إنهم ممثلون ومبدعون»، هذا معنى بديع وصحيح أيضا، فالطريقة التى يتدفق بها السرد صنعت فنا، وطريقة ترتيب الشهادات صنعت لوحة، ودقة اختيار الشهود منحت الكتاب حيوية وتنوعا، والتقاط اللحظات الإنسانية أعاد بناء الحادثة فى مستوى أعمق، وجعلنا نشعر حرفيا بوصف سفيتلانا لحادثة تشيرنوبل بأنها «لحظات توقف فيها الزمن ليفكر».

لذلك يمكنك أن تلمس بوضوح أن الشهادات عن بشرٍ تغيروا فى التفكير وفى نظرتهم لوطنهم وحياتهم، بنفس الدرجة التى يمكن أن نعتبره كتابا عن بشرٍ تغيرت أجسادهم بالإشعاع، فكرة سفيتلانا المحورية هى المراجعة، مراجعة كل الأفكار، وإعادة تأمل مفاهيمها: الأيديولوجيا، الحب، الموت، الأمان، قوة الإنسان، الصداقة، الكراهية، البطولة، الدولة، الحزب، الفرد، الجماعة، الماضى، الحاضر، المستقبل.. يصبح حادث تشيرنوبل، الذى أصاب فى آثاره المدمرة مواطنى وقرى بيلاروسيا بالأساس، عقدة مأساوية، تقود سفيتلانا وشهودها إلى لحظات اكتشاف وتنوير وتأمل، يبدو ظهور «إنسان تشيرنوبل» مقدمة لظهور إنسان جديد.

 

تعشق سفيتلانا أصوات البشر، وتهتم بتاريخ الروح، وهذا ما حققته على الورق، تركتنا مع أبطالها، وكتبت عناوين تأملية لأصوات منفردة وجماعية: جعلتنا نعيش أربعة عشر يوما مع امرأة روسية، لم تترك أبدا زوجها رجل الإطفاء، الذى صارع الموت فى المستشفى بجسارة.

توقفتْ عند قصص الصيادين الذين كلفوا بقتل الحيوانات فى محيط المفاعل المنفجر، سجلت شهادات الذين رفضوا إخلاء منازلهم، فعاشوا مع ما تبقى من القطط والكلاب، حفرت شهادات عن الأكاذيب الرسمية، التى أخفت أخبار الكارثة عن الشعب، ثم حولتها إلى مؤامرة من الإمبريالية الغربية، وانتهت بها إلى «ملحمة بطولية»، انتصر فيها الإنسان على الإشعاع.

فى الشهادات صرخة أم وُلدت طفلتُها مشوهة، ونكات سوداء عما فعله الإشعاع بأجساد الرجال، وقصة تثير التأمل عن تنبه النحل وديدان الأرض للكارثة، وهروبها من الأجواء والأرض الملوثة، قبل أن يتنبه الإنسان «العاقل» إلى الكارثة، وهناك كذلك إدانة كاملة لجهاز حكومى، أرسل رجال الإطفاء فى مهمة انتحارية، للتعامل مع إشعاعات لم يخبرهم أحد بها.

بعض القصص حكايات قصيرة مدهشة: «جاء حفيدى بكلب، أطلق عليه اسم رادى، ذلك لأننا نعيش فى طيف الإشعاع، وعندما أتساءل أين اختفى كلبى رادى؟ أجده عند قدمى، أخشى أن يهرب من القرية، ستأكله الذئاب، سأكون حينئذ وحيدة».. «ذلك الذى لا يقفز، يبكى.. تنادى بائعة تفاح أوكرانية فى السوق، تفاح أحمر كبير الحجم: «اشتروا التفاح.. تفاح تشيرنوبل»، نصحها أحد المارة: «يا خالة لا تعترفى، بأن هذا التفاح من تشيرنوبل، لن يهتم أحد بشرائه»، «لا تقول هذا، سيقومون بشرائه على أى حال، هذا سيشتريه من أجل حماته، وذاك سيشتريه من أجل مديره فى العمل!».

تختلط المأساة بالسخرية المريرة، يتحول الحادث الكارثى إلى قدرٍ عَاتٍ يوقظ الإنسانَ من أحلامه بالتفوق والأهمية المطلقة، تهتز الثقة فى الأيديولوجيا وفى التكنولوجيا، وفى نظام لا يهتم سوى بتوفير اللانشون والفودكا وإقامة الاحتفالات ومنح الأوسمة لمن دمرهم الإشعاع، نزل الجنود إلى منطقة المفاعل بالأسلحة، اعتقادا من الدولة بأن الانفجار سببه عمل تخريبى، ثم كان منهج التعامل هو دفن آثار الفجيعة، فعلوا ذلك حرفيا بوضع (قبة / مقبرة) حجرية ضخمة فوق المفاعل المنفجر، ولكن بقايا الإشعاع تسربت من شقوق القبة الحجرية.

احتفظت مؤلفة «صلاة تشيرنوبل» بمادة الحياة فى صورة شهادات واقعية صادمة، ولكنها كتبتها وبنتها بطريقة أدبية مؤثرة، ومنحتها المغزى الإنسانى العميق، هذا هو الإنسان الذى لا يتوقف عن طرح الأسئلة، والتغنى بالحياة، حتى إذا سحقته الكوارث.