أحيانا يكون»التقديم«، الذي هو من هذا النوع، مضللا للقارئ، لأن كاتبه، في هذه الحالة، لايفهم من التقديم إلا التقريظ والمبالغة في إصدار الأحكام، وقد يصل الأمر إلى حد الافتراء. زد على ذلك عدم الدقة التي من المفترض أن يتحاشاها الباحث المدقق. لذا، فإن ما سأكتبه هنا ليس من هذا النوع. ولحُسن الحظ، فإن المبدع المسرحي لحسن قناني، حسب معرفتي به وبناء على شخصيته وثقافته، لا يحبذ كتابة من هذا النوع، بل لا أجازف إذا قلت إنه يرفضها. وهذا ينسجم مع خصلة الصدق التي يتحلى بها. ولا شك عندي أن هناك انسجاما وتناغما بين هذا المبدع المسرحي ومشروعه المسرحي المتواصل الحلقات، وهو جامع بين الإبداع والنقد المسرحيين1. أساس هذا الانسجام والتناغم بين المبدع وإبداعه هو الصدق، الصدق في الفن وفي الحياة.
بفضل هذا الصدق لا توجد مفارقة أو تناقض بين ما ينتقده في إبداعه المسرحي، لاسيما السلطة بمعناها الشمولي، ومواقفه في الحياة العامة. والنتيجة هي أنه لم يجعل المسرح، وهو فن ابتكرته الإنسانية للدفاع عن القيم الإنسانية الأصيلة والخالدة، والكشف عن مكامن الخلل والعطب في الذات وفي المجتمع من أجل تجاوزها، أداة للارتزاق، والكسب، والتملق، والتزلف؛ وإنما كان عنده وسيلة للإبداع والتنوير. ولهذا ظل بعيدا عن الريع الفني والثقافي، وله أشكال وصور عديدة في حياتنا المعاصرة. وغير خاف أن هذا الريع لايكون بالمجان.
بناء على ما سبق، أقول إن لحسن قناني مبدع مسرحي متميز. تميزه ناتج عن مفهومه للمسرح، إبداعا ونقدا؛ وناتج كذلك عن بحثه الفني الدؤوب من أجل جمالية الإبداع المسرحي. فمن حيث الإبداع المسرحي، لاشك أن هذا المبدع الذي أحب المسرح وأخلص له، لأنه وجد فيه ذاته الباحثة دوما، من خلال هذا الإبداع، عن »قيم أصيلة في عالم منحط«، قد أغنى المسرح المغربي بعروض مسرحية ونصوص درامية مطبوعة، يمكن حين مشاهدتها وقراءتها استخلاص واستنباط السمات والخصائص والمقومات الفنية والفكرية التي ترتكز عليها. ذلك أنه بقدر ما يحرص على الفكر والتنوير في الإبداع المسرحي، بقدر ما يحرص على جمالية الكتابة الدرامية والمسرحية. حرصه على جمالية الإبداع المسرحي راجع إلى كونه مبدعا مسرحيا وليس مبدعا دراميا فقط، لأن تاريخه المسرحي الخاص يقدم الأدلة على أنه خبر لغة المسرح التي لا تشكل اللغة الدرامية اللفظية إلا جزء منها. ولقد استمتعت شخصيا، فنيا وفكريا، بلغته المسرحية حينما شاهدت بعض عروضه المسرحية التي عُرضت في الملتقيات المسرحية التي كان ينظمها الاتحاد الإقليمي لمسرح الهواة بأكادير، طيلة سنوات، في ثمانينيات القرن العشرين. هذا علما بأن حياته المسرحية كانت قد انطلقت منذ سبعينيات القرن المذكور ومازالت متواصلة إلى اليوم.
ومن حيث النقد المسرحي، يمكن رصد آرائه في المسرح المغربي في كتابيه »المفاهيم الإجرائية للنقد المسرحي في المغرب« و»المسرح والمسألة الحقوقية« حيث كان الباب الثاني فيه مخصصا»للمسرح الاستلابي« الذي قدم عنه نماذج من وجهة نظره، أما الباب الثالث فكان مخصصا لـ«مسرح التنوير« الذي أدرج ضمنه »الكوميديا الصادمة«. مفهوما الاستلاب والتنوير مفهومان فكريان، ولذلك فإن هذا التقسيم عنده تقسيم فكري.
هذا، وتجدر الإشارة إلى أن مفهوم »الكوميديا الصادمة« هو من وضع لحسن قناني، وهو يتكون من موصوف وصفة. في تاريخ المسرح كان الضحك، ومازال، غاية أساسية في الكوميديا. وسائل الضحك الفنية موجودة في الإبداع المسرحي الكوميدي، أما الضحك فيتعلق بالمشاهد/ القارئ. ضحك هذا الأخير يكون عبر تلك الوسائل. ومن أجل بلوغ هذا الهدف، حفر لحسن قناني حفرا عميقا في الواقع فتشكلت لديه صورة ذهنية عنه، ثم قدمها بطريقة كوميدية ساخرة في مجمل مسرحياته ونصوصه الدرامية. هذا الحفر جعله يتجاوز ظاهر الواقع ليكشف، بأدوات مسرحية، عن الخفي واللامرئي وفق رؤية فكرية غايتها التنوير تبديدا للظلام، من هنا جاءت الصدمة. لذلك فهي صدمة خلاقة لأنها تنويرية.
منطلق الصدمة موجود في»الكوميديا الصادمة«، أما سببها فموجود في واقع مختل الموازين. يتضمن هذا المفهوم، الكوميديا الصادمة، في ذاته ثلاثة أطراف هي: المسرحية الكوميدية الصادمة، والواقع، والمصدوم. المفترض أن صورة الواقع في ذهن المصدوم، قبل مشاهدة المسرحية أو قبل قراءة النص الدرامي، اللذين يندرجان في إطار تلك الكوميديا، ليست هي الصورة نفسها بعد المشاهدة أو القراءة. هذا التغير لديه، على مستوى الصورة الذهنية، يكون مصحوبا بالصدمة. هي إذن صدمة فكرية بوسائل فنية. تحدث هذه الأخيرة بسبب المفارقات، والسخرية، والمبالغة، واللعب باللغة، وغيرها من الوسائل الفنية الكوميدية. زد على ذلك الرؤية الفكرية التنويرية.
هذه الكوميديا الصادمة يجوز إضافة صفة ثانية لها، إنها كوميديا صادمة وسوداء. السواد موجود في الواقع وليس في المسرحية التي هي من هذا النوع، ودور هذه الأخيرة هو الكشف عنه بوسائلها. هكذا يتجلى أن الكوميديا صادمة للمشاهد/ القارئ، وأن السواد موجود في الواقع. ولأنها صادمة فلابد من مصدوم. المصدوم هو القارئ/ المشاهد. نتيجة هذه الصدمة تتمثل في إعادة ترتيب الأشياء وإعادة النظر في رؤيته للواقع. في إعادة الترتيب وإعادة النظر يكمن الدور التنويري لهذه الكوميديا. لذا فإن الضحك فيها بعيد عن التهريج.
انطلاقا من هذا المفهوم، وهذا المنظور للمسرح، كتب لحسن قناني مونودراما »ميكرو كراسي» سنة 1995. الأحداث الدرامية في هذه المونودراما لا رابط بينها من حيث المضمون سوى البحث عن الديمقراطية ومحاولة تعريفها، إذ توجد فيها أحداث مختلفة من حيث المضمون، والفضاء، والشخصيات. وتبعا لهذا الاختلاف، تعددت الفضاءات والشخصيات التي استحضرها وحاورها المختار مسلك الأيام. ولكل حدث نوع من الشخصيات، وفضاء، وديكور يناسبونه من أجل تركيب الجملة الدرامية/ المسرحية التي تأتلف، على قاعدة الاختلاف، دوالها من أجل بناء الدلالة الدرامية/ المسرحية. لكن إذا غاب الرابط المضموني، عدا البحث عن الديمقراطية ومحاولة تعريفها، على مستوى الأحداث، فإن هناك رابطا جامعا بينها يتمثل في الرؤية الفكرية (البحث عن الديمقراطية وتعريفها)، وكذلك في الشخصية الرئيسية: المختار مسلك الأيام.
اختار المؤلف شخصية المختار مسلك الأيام وجعلها أداة فنية للتعرية. شملت هذه التعرية في النص مجالات مختلفة: الإعلام الرسمي، الثقافة الرسمية، المؤسسة التعليمية الرسمية، المؤسسة الأمنية. ويبدو من خلال أسماء عدد من الشخصيات في هذه المونودراما أنها مشفرة Codés. ودون تحليل هذه الشفرات، فهذا متروك للقارئ، يمكن ذكر هذه الأسماء المشفرة: المختار مسلك الأيام (دلالة مسلك الأيام في الدارجة المغربية)، أحلام مسلك الأيام (المفارقة بين الأحلام والواقع)، عكاشة مسلك الأيام (سجن عكاشة بالدار البيضاء)، أبو الدَّبَّاز المتبنَّى (دلالة الدًبًاز في الدارجة المغربية ودلالة المتبنَّى). كلمة/ لقب المتبنَّى، في هذه الصيغة الصرفية، تدل على أن هناك جهة للتبني، وهي صانعة الأسماء على المستوى الثقافي. أداة هذه الصناعة الإعلام الرسمي بوصفه أداة للتحكم. فعوض إلقاء الشاعر »أبي الطيب المتنبي« لشعره، باعتباره رمزا للإبداع الشعري، وليس شخص المتنبي بالنظر إلى الفارق الزمني بين الزمن الدرامي وعصر المتنبي، كان »أبو الدَّبَّاز المتبنَّى«، وهي تسمية جامعة بين كنية ولقب على غرار أبي الطيب المتنبي. في الكنية واللقب معا، في أبي الدباز المتبنى، يوجد موقف المختار مسلك الأيام.
يوجد الاختلاف على مستوى الاسم بين أبي الطيب المتنبي وأبي الدباز المتبنى. المتنبي، وفق هذه الصيغة، ذات فاعلة حيث يدل الاسم في ذاته على الاعتماد على الذات وعلى الإبداع؛ أما المتبنَّى، وفق هذه الصيغة أيضا، فيقتضي وجود الغير الذي هو جهة التبني. هذه الجهة أو هذا الغير هو الفاعل، أما المتبنى ففاعل ومفعول به في الوقت ذاته. هو فاعل على مستوى الأحداث الدرامية، تعكس هذا الفعل كنية »أبي الدباز«. تعني »الدباز« في الدارجة المغربية الرداءة. والمقصود بالرداءة في النص الرداءة الثقافية، التي يجسدها في النص هذا الأخير، والتي يكون الإعلام الرسمي وسيلة لنشرها والدعاية لها. ولكنه مفعول به أيضا، هذا ما يتضمنه اللقب: »المتبنى« . الرداءة الثقافية على مستوى المضمون، أي على مستوى الفعل، والفاعل معروف. لكن البحث عن جهة التبني يقتضي التأويل.
ولأن »أبا الدباز« المتبنى مفعول به فهو تحت سلطة ورقابة الفاعل الخفي. غاب الفاعل في لقب »المتبنى« وحضر نائب الفاعل. وبطبيعة الحال، فهذه الجهة ليست محايدة، إنها تتبنى المتشاعر والشعرور وتقصي الشاعر، وهذا هو الهدف أو بيت القصيد كما يقال. وفي هذا إفساد للشعر، وللثقافة، وللذوق. ما يدل على هذا الإفساد هو الرسم الكاريكاتوري للشخصية المعنية فضلا عن اسمها. أضف إلى ذلك التقابلَ بين أبي الطيب وأبي »الدباز« على المستوى اللغوي، بين »طيبوبة« الإبداع ورداءته. هذا علاوة على اختلاف مصدري المتنبي والمتبنى ودلالتيهما: التنبُّؤ والتبني.
هكذا قدم المختار مسلك الأيام، انطلاقا من اسم أبي الدباز المتبنى، رأيه وموقفه. هذه الشخصية الأخيرة تتميز، من جملة ما تتميز به عن سائر الشخصيات الأخرى التي تم استحضارها في التشخيص المؤطر سرديا، بذوقها الفني. ويبدو أنها تعاطفت مع شخصية المُعلم الذي يعاني هو كذلك من بيروقراطية الإدارة التعليمية، كما أنه ضحية المفارقة بين الأحلام، التي تتجلى في محتوى المقرر الدراسي أو المنهاج التعليمي، والواقع. إنه »وصال الخبز للفران « فقط، وليس مسؤولا عن المفارقة بين الأحلام والواقع، أو بعبارة أدق بين مضمون المواد المدَرسَة والواقع. وقد كان للعبة الرقمين دلالة في السياق الدرامي اللذين تم توظيفهما فيه. ومادام الأمر يتعلق بمونودراما فإن سائر الشخصيات الأخرى، التي كان لها دور في البنية الدرامية في هذا النص، تم تقديمها دراميا انطلاقا من وجهة نظر المختار مسلك الأيام.
تتعلق وجهة النظر هذه بآرائه وأحكامه التي تختلف عن آراء وأحكام الآخرين. بسبب هذا الاختلاف، كانت هذه الموصوفات وصفاتها: الضجيج/ طرب، الصخب/ مرح (أمبيانص)، الترقاع/ إبداع، التهريج/ تجديد، الرگيع/ أسلوب، الخزعبلات/ ابتكار. إن ما يعتبره الآخرون طربا يعتبره هو ضجيجا، وقس على ذلك بالنسبة لباقي الثنائيات. بناء على ذوقه ووجهة نظره، انتقد المختار مسلك الأيام نوعا من الموسيقى والغناء. مقابل هذا النوع الذي انتقده، يوجد سيد درويش، والعنقا، ورشيد القسنطيني، والحسين السلاوي، وكذلك الطرب الغرناطي، والرقص الشعبي الأصيل (ولهذه الصفة دلالتها في السياق الدرامي الذي وردت فيه): العلاوي، والنهاري، والمنگوشي، وأحيدوس. والفن عنده غير منفصل عن النضال من أجل كرامة الشعب، وعن العاطفة والحب كذلك.
انطلاقا من هذا الاختلاف أيضا تُقرأ الخشبة في بداية الأحداث الدرامية: ميكرو ممزق ومعطل، صداع البطارية (الباتري). هذا فضلا عن تعليقات مسلك الأيام التي بدأت بكلمة مصيبة. وهي كلمة افتتح بها المتواليات الدرامية التي أبانت على أن له رؤية للحياة والفن مختلفة. في هذا الإطار يُفهم التنظيف في بداية هذه المونودراما.
وقد تضافرت عناصر فنية عديدة في صياغة هذه المونودراما منها: المبالغة في رسم الشخصيات وتقديمها بطريقة كاريكاتورية (العالم الكبير)؛ واستغلال اللوازم المسرحية (الأكسسورات) فنيا ومنها السطل الذي له وظائف مختلفة، وطول وهبوط مكبر الصوت (الميكرو)، والكاميرا؛ والأغنية، وهي منتقاة بعناية؛ والأمثال التي لم تسلم من تعليقات وانتقادات المختار مسلك الأيام؛ وقطع الديكور التي تتغير حسب موضوع كل مشهد؛ والحركة ومنها حركة الفم؛ واللون الأبيض والأسود لتوليد المعنى؛ والموسيقى الكناوية؛ وجسد المختار مسلك الأيام وهو يقلد شخصيات. هذا، وقد يتحدد معنى كلمة ليس من الأصوات المكونة لها أي من الدال، بل قد يتحدد من السياق والحركة. فقد حددت حركة يدوية دالة على الرشوة معنى » يزومي» في هذا التعبير»« سير ﯖول للمدير ديالك إلى بغاني نزومي عليه، يزومي عليّ» [حركة دالة على التدويرة/ الرشوة]. حافظت »نزومي» على معنى الكلمة الأصلي الذي يفيده الدال اللساني، وهي تستعمل في الدارجة المغربية لدى فئات اجتماعية معينة. أما »كلمة يزومي» فقد حددت الحركة، وليس الدال اللساني، وكذلك السياق الدرامي، معناها. هذا التفسير نفسه ينطبق على »اوحتى الزوم فيه الزوم» فقد حددت الحركة، وكذلك السياق الدرامي، معنى »كلمة الزوم» الثانية. وبهذا نستنتج أن معنى الكلمة في المسرح قد لا تحدده الأصوات المكونة للكلمة أي الدال اللساني. إننا أمام لغة الدراما والمسرح وهي مختلفة المكونات أو الدوال.
في هذه المونودراما جمع المختار مسلك الأيام بين السرد والتشخيص:تشخيص ذاته، وهو في بيته مثلا، وتشخيص شخصيات أخرى عبر التقمص. وهو سارد لمسرود له هو الميكرو. داخل بنية السرد هذه كانت حوارات بين المختار مسلك الأيام والميكرو. كان فضاء السرد و هذه الحوارات هو قاعة الحفلات. أما في التشخيص فقد تعددت الفضاءات:قاعة الحفلات، المدرسة، البيت، الحافلة، مكان بيع الملابس (الجوطية)، مكتب ضابط الشرطة. في كل هذه الفضاءات كانت هذه الشخصية تبحث عن الديمقراطية، تبحث عنها في تفاصيل الحياة اليومية.
كان البحث عن هذه الديمقراطية من خلال مَشاهد مترابطة فنيا. ويبدو أن نوعية الشخصية، التي تريد أن تقول هي أيضا كلمتها وتعبر عن أفكارها، وهي شخصية المختار مسلك الأيام، أدت إلى استعمال الدارجة المغربية التي تسربت إليها كلمات فرنسية مثل صالوبري، رولو، السكوتش إلخ. استعملت الدارجة في السرد والحوار معا. أما الإرشادات المسرحية فقد كتبت بلغة عربية فصيحة. ومعلوم أن هذه الإرشادات تتحول من لغة لفظية إلى لغة مسرحية أثناء إنجاز العرض المسرحي. كما كُتبت أيضا تعاريف الديمقراطية باللغة العربية الفصحى في النص. بناء على ما سبق، يتبين أن شخصية المختار مسلك الأيام حاملة لقيم وأفكار لاوجود لها في الواقع الدرامي. لم يجد المختار مسلك الأيام الديمقراطية في الواقع، ولكنه سعى إلى تعريفها بناء على احتكاكه بهذا الواقع. ولذلك كانت هذه الشخصية الدرامية وسيلة فنية قدم من خلالها الكاتب لحسن قاني وجهة نظره حول عدد من المواضيع، وكل موضوع في حد ذاته قضية، تتعلق بالديمقراطية المفقودة في الحياة العامة والحياة الخاصة على حد سواء. من هنا كان تفسير الكاتب نفسه لـ ميكرو كراسي».
حسب تفسيره، لا علاقة لهذا العنوان بمكبر الصوت (الميكرو) والكراسي، وهما موجودان في »الخشبة» منذ البداية. لقد لاحظ الكاتب بأن »ما هو سائد في مختلف خلايا الجسد الاجتماعي، ليس هو الديموكراسي، بل هو الميكرو كراسي والماكرو كراسي أي السلطة سواء في أعلى ذراها، أو في أشكالها الميكروسوبية المتناهية»2. وبهذا تغدو الميكرو كراسي نقيضا للديموكراسي أي للديمقراطية. هكذا يكون العنوان، حسب تفسيره، مؤشرا على انعدام الديمقراطية في تفاصيل الحياة اليومية. أما الأحداث الدرامية فكشفت عن ذلك الغياب.
أخيرا، لابد من الإقرار بأن لحسن قناني أغنى، ومازال، المسرح المغربي بعروض مسرحية ونصوص درامية وضع لها هو مفهوما جامعا محددا هو الكوميديا الصادمة. وإذا كان الناقد الإنجليزي بلير Blair، على سبيل المثال، قد وضع مصطلح »الكوميديا الدامعة» (comédie larmoyante La)، فإن الناقد والكاتب المسرحي لحسن قناني قد وضع مصطلحا مسرحيا هو الكوميديا الصادمة. وضع هذا المصطلح انطلاقا من التجربة أي من الممارسة المسرحية نقدا وإبداعا.
ويبدو لي أن إبداعه المسرحي في حاجة إلى أبحاث ودراسات. ذلك أن إبداعه المسرحي لم يحظ بالاهتمام اللازم، رغم جماليته الإبداعية، لا على مستوى الإعلام والصحافة، ومنها الصحافة الحزبية التي دأبت على الاهتمام، المبالغ فيه أحيانا، بأسماء مسرحية معينة لسبب غير ثقافي وغير فني، ولا على مستوى البحث المسرحي. قد يكون السببَ في ذلك بعدُ لحسن قناني عن دوائر السلطة والقرار. ورغم ذلك، ففي هذا البعد بالذات تكمن قوته الذاتية والإبداعية. فقد جنبه الوقوعَ في التناقض بين إبداعه المسرحي الانتقادي وحياته العامة. كما ضمن له الحرية في الإبداع دون تحديد سقف محدد لهذا الإبداع لايجوز تجاوزه. فلا توجد أي سلطة، كيفما كانت، لاتكون موضوعا للفكر ومفاهيمه، والإبداع وعوالمه. قد يكون الاهتمام الإعلامي والصحافي ظرفيا وعابرا، لاسيما إذا كان هذا الاهتمام مخدوما، أما الإبداع فباق ومستمر في الزمان، إنها قوة الإبداع الذاتية. في هذا الاستمرار تكمن قوة لحسن قناني وقوة إبداعه المسرحي كذلك. وهي قوة مضاعَفة لأنها تتجاوز الحاضر...إلى المستقبل...إلى التاريخ.
الهوامش:
*هذا تقديم للنص المسرحي » ميكروكراسي« الذي صدر مؤخرا للحسن قناني.
1- يمكن الاطلاع على آرائه النقدية في كتابيه »المسرح والمسألة الحقوقية» مطبعة الجسور،وجدة،المغرب، ط/1،2013. و»المفاهيم الإجرائية للنقد المسرحي في المغرب» (مطبعة الجسور،وجدة،المغرب، ط/1،2012). ومن نصوصه الدرامية المنشورة »رغيف سيزيف»، و »وقتاش تصحا ياحجا» (جليلي للطباعة والنشر،وجدة،المغرب، ط/1، 1998 (نصان منشوران في كتاب واحد). و »تقاسيم باسمة على وتر حزين» مطابع الأنوار المغاربية،وجدة، المغرب، ط/1، 2012. و»جحا لن يبيع حماره»، مطبعة الجسور، وجدة، المغرب، ط/1،2014. و »حكاية الأسد والثور»، مطبعة الجسور، وجدة، المغرب، ط/1، 2014 وهي مسرحية للأطفال.
2-المسرح والمسألة الحقوقية،ص/267.أشار لحسن قناني في هذا الكتاب وفي الصفحة نفسها إلى مفهوم Micropouvoires عند ميشيل فوكو.