بادئ ذى بدء ننوه بأن هذا الطرح لا يقصد منه انتقاد مذهب أو طائفة أو شيء من هذا القبيل ، فقط نحاول تشريح الصورة العامة بقدر من الحياد والموضوعية بعد اطلاق هذه المبادرات فى مصر فى الفترة الاخيرة وانعكاساتها على الساحة، ومن هذا المنطلق سوف نقدم للموضوع بمقدمة عامة ربما تساعد فى فهم الاشكالية التى نتجت عن هذه المبادرة والتي من المؤكد أن حسن النية هو الغالب على متبنيها.
وربما يفيد استهلال الموضوع بتعريف مفهوم الوحدة لان البعض يخلط بين مفهومين للوحدة ، الأول بمعنى الاصطفاف بغض النظر عن الفوارق أو الاختلافات التى تظل قائمة ولا مساس بها ومثاله المفهوم الفيدرالي في النظم السياسية ، أما الثاني فهو الاندماج القسرى، وهو مفهوم لا يسمح بوجود أي فوارق أو اختلافات أى ذوبان الهويات الثقافية والدينية والفكرية فى بوتقة واحدة لامجال فيها لخلاف أو اختلاف. واحتراما لحرية الانسان وخصوصيته الشعار لا ينادى به كثيرا فى المجتمعات الناضجة لأن الكفر بالاختلاف هو سمة المجتمعات المتخلفة فقط، فالنداء بالوحدة ظل على مر التاريخ هو الشعار المراوغ لعدم قبول الآخر الا بشرط ان يكون البشر طبعات مستنسخة، وهو شرط مستحيل بعيد المنال فالاختلاف هو سر إعمار الكون، يختلف الناس لونا ودينا وثقافة طبقا لمنظومة لم تختلف منذ بدء الخليقة، وحتى الانسان نفسه كفرد لا يستطيع فى بعض الاحيان أن يتصرف ككيان موحد فتتنازع رغباته وشهواته مع قيمه ومبادئه أي أن الاختلاف قابع فى شريط الجين الوراثي، أي أنه الصفة السائدة فى كل البشر.
ولم تفلح جهود كل المصلحين والدعاة على مر التاريخ فى تغيير هذه السنة التى سمح بها الخالق لغاية سامية وقصد الهى، وهى الحرية، حرية الانسان، وهى المكرمة السمائية التى انفرد بها دون سائر المخلوقات، المكرمة التى تعطيه الحق المطلق فى الاختيار، اختيار أن يعتقد بعقيدة أو لايعتقد بأى عقيدة أو اختيار مذهب من عقيدة، اختيار مسار حياته، اختيار مايروق له فنا وثقافة وملبسا وغذاء وسلوكا، ومن ثم يكون حساب الانسان فى اليوم الأخير على ما أختاره بكامل ارادته لا على ما أجبر عليه. ودعوات الوحدة دائما ما تكون مقترنة بالشعور بالخطر الوشيك من عدو أو جائحة أو كارثة أو غضبة طبيعة، مما يتطلب توحيد الجهد البشرى فقط الجهد البشرى المادي المبذول لتعظيم فاعلية درء الخطر المتوقع. ولقد ظل مفهوم الوحدة شعارا سياسيا عاطفيا على مر التاريخ يستعمل فى الأزمات.
نعود للموضوع وحيث لم تعلن أى كنيسة عن تصور ولو تقريبي لمقترح عن ماهية الوحدة المطلوبة فى الوقت الذى لم يستطيع فيه دعاة هذا الطرح التوافق على قانون يمس كل المسيحيين فى مصر على اختلاف طوائفهم وهو قانون الاحوال الشخصية، فكيف نتوافق فى المستقبل على ما هو أهم من قانون وضعي من عشر بنود. ولقد تعايش المصريون وضمنهم الاقباط مع مسألة اختلاف المذاهب بقدر من السماحة حتى وقت قريب، وأنا شخصيا فى عائلتي كهنة أرثوذكس، وأقارب أعزاء من الانجيليين، وأصدقاء حميمين من الكاثوليك، ولم أشعر يوما أن هناك مشكلة. فاذا كان المقصود هو الوحدة الوجدانية فهى قائمة فلدينا مسيح واحد وكتاب مقدس واحد وقانون ايمان واحد، والأهم لدينا القيم المسيحية المترسخة فى النفوس. لكن البعض يحاول الايهام بأن المقولة هى مطلب شعبي عام. لكنني أجزم بأن رؤساء بعض الطوائف فاتهم أن الشعار يمكن استخدامه لأغراض أخرى ليس من بينها موضوع الوحدة، بالاضافة لاشكالية أخرى وهى أن القضية ستثير جدلا عقيما ينتهى بأن يكيل كل طرف الاتهامات للطرف الآخر بأنه المتسبب فى الفشل الذريع الذى سيكون هو نهاية المطاف ويعمق الفرقة وخصوصا بين الشباب. ولعل طرح بعض التساؤلات المشروعة التي يرددها الناس ربما يدلل على وجهة نظرنا فى الموضوع.
أولا: هل يقبل الجميع الانضواء تحت رئاسة الكنيسة الام؟ والتنازل عن الرئاسات المسكونية فى الخارج مثلا؟
ثانيا: هل سيتم توحيد الطقوس مثلا، ومن سيقبل التنازل عن طقوس طائفته وشعائرها؟
ثالثا: ماهو مصير الخلافات العقائدية الكبيرة هل سيتم التغاضي عنها؟
رابعا: ان دعاوى مثل هذه وفى هذا الوقت التي تتلمس فيه الدولة المصرية طريقا جديدا سيتم تفسيرها على أنها تجييش سيكون له رد فعل سلبى من شركاء الوطن.
خامسا: أما كان من الاجدى أن يتم بحث وحدة الطائفة أولا قبل البحث عن وحدة الكنيسة، حتى يتم تصدير شعار مصداقية الهدف للاتباع ونيل دعمهم للمبادرة (فى مصر الكنيسة الانجيلية تضم حوالى 15 مذهب فرعى والكنيسة الكاثوليكية تنقسم الى حوالى 6 كنائس)
سادسا: البعض يطرح مصطلح كنيسة فيدرالية وهو مصطلح لا أعتقد أنه يصلح فى مجتمعاتنا الشرقية المسيحية؛ فثقافة الشراكة رغم الاختلاف هي درجة من الانفتاح الفكري لم نصل اليها بعد. ولأن الكنيسة الأم لازالت تتألم من الجرح الغائر الذى تركته الارساليات الأمريكية والأوربية في جسدها؛ فطابع الحذر والتحفظ من المبادرة هو الغالب على رد فعل قياداتها، وان كان رأس الكنيسة الارثوذكسية يتصرف فى الموضوع بدبلوماسية هادئة، الا أن قسما من الاكليروس لا يخفي المعارضة الصريحة، وقد وصفها أحد المطارنة الشيوخ (ببدعة اللاطائفية) باعتبار أن دعاة الوحدة اليوم هم دعاة الانشقاق بالأمس، والموضوعية تقتضى القول بأن الدعوة نالت قبولا في بعض اوساط الشباب الحالم من كل الطوائف؛ لكن الواقع يقف حجر عثرة. فنحن نتحدث عن انقسامات عميقة عمرها يقارب القرنين من الزمن في بلادنا. ونحن نعتقد أن مجلس الكنائس المحلية الذى تم انشاؤه مؤخرا يؤدى الغرض فى المرحلة الحالية، مع بعض التطوير في اختصاصاته وصلاحياته كالإشراف على جمعيات مجتمع مدنى مختلطة، خاصة بالتنمية، تستفيد من امكانات كل طائفة، أو انشاء مدارس ومستشفيات ذات طابع وطني مما يساهم في تقوية الروابط الوطنية بين أبناء الوطن من كل الاديان والمذاهب، مع التشجيع على الشراكة بين الشباب وبث روح المودة مع اعلاء مبدأ لامجال في كنائسنا على اختلاف طوائفها لمبدأ تكفير أو ادانة أو كراهية، ففى الكنيسة كلنا مسيحيون وفى الوطن كلنا مصريون. أرجو أن نكون قد لمسنا الموضوع برفق بما يتناسب مع جلال وسمو الدعوة لأن أي طريقة أخرى ستثير جدلا نحن في غنى عنه ويتعارض مع المفهوم المسيحي فى النقاش الهادئ.