1. ملامح الاستعجال في كتابة الراهن
ما تزال المغامرة بمقاربة الرواية الجزائرية التي واكبت المرحلة التي عرفت في تاريخنا الحديث، بمرحلة المأساة الوطنية، مشوبة بكثير من الجرأة والمغامرة لمجموعة من الأسباب التي تجعل كل مقاربة، لا تتمتع بقدر لا بأس به من الموضوعية وصفاء الرؤية، مجرد إعادة للهواجس المسيطرة على تلك المخيلة التي أنتجت تلك النصوص المفتوحة على كافة الأسئلة المقلقة، أسئلة النقد والسياسة والإيديولوجيا والاجتماع1. أقول ذلك مدركا تمام الإدراك لصعوبة مواجهة الذات على مستوى الممارسة النقدية، صعوبة أن نكون القارئ والمقروء، الملاحِظ والملاحَظ في نفس الوقت، فالمرجع التخييلي مرجعنا، وشخوصها نحن أو بعضنا، ومأساتها مأساتنا العميقة، وشطط واقعها هو شططنا بكل هلوساته وهوجه وجنونه. من أجل ذلك، ربما، مازالت ظاهرة الرواية التسعيينية لم تقارب كظاهرة، في شموليتها، من حيث القوانين التي حكمتها أو تبنينت وفقها، على الرغم من الاهتمام الكبير الذي واكب صعودها، سواء في البلاد العربية أو في أوروبا، أوفي فرنسا بالخصوص، وعلى الرغم من التأويلات الأيديولوجية التي ألصقت ببعض النصوص، جاعلة ذلك الترحيب الغربي لا يبدو بريئا تماما.
إن (الإهمال) النقدي الأكاديمي الجاد لتلك الظاهرة، إلى حد الآن على الأقل، وفي حدود علمنا طبعا، لم يخفف من غلوائه إلا الاهتمام الصحفي الذي واكب تلك الظاهرة، معرفا معظم النصوص الصادرة، وبكتابها، ولا سيما أولئك الكتاب الذين تزامنت تجاربهم الروائية الأولى مع مرحلة المأساة الوطنية، أو تلك التي دفعها الوضع المتردي إلى اللياذ بالكتابة درءا للجنون أو الانتحار. صحيح أنه وجدت كثير من المتابعات للأعمال الروائية التي صدرت عهدئذ، وهو ما سنشير إليه في سياق هذا التناول، لكنها كانت في مجملها متابعات لآحاد النصوص دون الارتقاء إلى مساءلة الظاهرة في مجملها، نستثني من ذلك بعض المتابعات الصحفية المستعجلة في الصفحات الثقافية التي لا تخرج عن ترديد التهمة التي ألصقت نهائيا بالأعمال الصادرة وقتئذ، عندما أطلقت عليها تعريفين يلخصان وحدهما الرؤية النقدية التي ووجهت بها، حيث سميت حينا بـ "الأدب الاستعجالي" Littérature de l’urgence وهو المفهوم الذي رددته الأوساط الفرانكفونية2 في مقارباتها النقدية أو معالجاتها الصحفية، بينما انفردت المقاربات العربية للظاهرة في الملتقيات والكتابات الصحفية خصوصا بإطلاق مفهوم (كتابة المحنة) أو الاكتفاء بترجمة المفهوم الأول، يقول جعفر يايوش: "لقد أطلق البعض من زملائنا الأدباء والباحثين الجامعيين، على الكتابة الأدبية في الفترة التاريخية الممتدة من 1990 إلى غاية 2000، اصطلاح (كتابة المحنة) و (كتابات الاستعجال)."3
ينصرف المصطلح العربي إلى بيان تعالق الكتابة بالراهن الجزائري المأساوي إلى أبعد الحدود، راهن صادم للعقل والحس والمنطق والقيم، ومحيل إلى عوالم لم تعرفها المخيلة الجماعية، سواء تلك التي عايشت فظاعات الاستعمار،أو تلك التي تعرّفَتها في عوالم رواد الرواية الجزائرية أمثال محمد ديب وكاتب ياسين ومولود فرعون، باعتبارهم هم أنفسهم، قد كتبوا راهنا جزائريا يعيش محنة الاستعمار، ومع ذلك لم تحبل فضاءاتهم بفظاعات الرواية التسعينية، التي كنا نحسبها شأنا لا يحدث إلا للآخرين، في محتشدات النازية، ومعسكرات الفاشية التي عرفتها بقاع أخرى من العالم.
أما كتابة المحنة، فهي الوجه الآخر لمحنة الكتابة، بما هي مرادف لمحنة العقل والروح والثقافة والوطن، تحمل ظلالا رومانسية تتقاطع مع محنة الإنسان الوجودية وأسئلته الخالدة المعلقة بين السماء والأرض، حتى لا يكاد المصطلح يؤدي حق الأداء معنى المأساة كما يؤديه المصطلح الثاني، مصطلح الأدب الاستعجالي المحيل إلى تسارع الكتابة إلى التقاط صور الحرائق المشتعلة في البيت الجزائري وإلى الخناجر المصلتة على رقاب الأبرياء من النسوة والأطفال، بما يجعل كل ممارسة كتابية غير متجهة رأسا إلى التنديد بما يحصل، مجرد لعبة لفظية رخيصة لا تساوي قيمة حبرها. ذلك ما جعل مصطلح الأدب الاستعجالي أكثر التفاتا إلى المقاربة المضمونية/ التيماتيكية لمجمل الأعمال الصادرة وقتذاك، متناسية إلى حين، أو مهملة بالجملة، قيمتها الفنية والتشكيلية. نجد أحسن مثال في التدليل على ذلك، في المنهج الذي سلكه رشيد مختاري في كتابيه4 اللذين كرسهما لمقاربة مضمونية صرف لموضوعة الشهادة Témoignage على ويلات الراهن، والتنديد بالوحشية الفاقدة للقلب والضمير وهي تمخر أوصال الوطن الجريح.
المنهج نفسه كرسه مخلوف عامر في مقاربته لبعض الروايات الصادرة في المرحلة التسعينية حيث يقول: "ولعل هذا ما يفسر نزوع هذه المحاولات نحو التركيز على المضمون. لكن هذا الميل ذاته تبرره طبيعة الإنتاج الأدبي موضوع النقد. إذ مهما اجتهد الروائيون المعنيون في اصطناع تقنيات جمالية مستحدثة وسعيهم لخلق بنيات فنية جديدة، إلا أن المضمون هو الذي يكشف عن وجهه قبل أي مظهر من مظاهر الشكل."5 وعلى هذا الأساس يجد المصطلح مبرراته الموضوعية والنقدية، مستدعيا، إنسانيا وثقافيا، التعامل مع النص وفق ما يقتضيه الجرح العميق الذي أحدثته الأزمة في نفوس أبنائها، بمساءلة الواقع والملابسات التي زجت بالبلاد في دوامة من الدماء والأشلاء، تجعل البحث عن المقومات الفنية سلوكا ينم عن (قلة الحياء) الفني إن صح القول، بما يجعل المنهج الموضوعاتي أليق المناهج بمساءلة النص وتفكيك مقولاته، إسهاما في إضاءة العتمة المخيمة على الفضاء.
وإذا حاولنا أن نستجليَ المميزات الفارقة لكتابة المحنة، وجدنا جل المقاربات تتجه رأسا إلى (الموضوعة الغالبة) أو الموقف المعلن تجاه ما يقع من أحداث وما يتعرض له المجتمع من حرب على كل مكوناته المادية والبشرية، وفي كلمة واحدة، الحرب على مقومات الوجود نفسها، كأن مقاربة الظاهرة، ظاهرة كتابة المحنة، لا يمكن أن تتأتى إلا بالقبض على المعنى الذي يريد النص أن يقوله، ومنه الالتفات إلى الشخوص وموقفها ورؤيتها للأحداث والأشياء والوقائع، أو بنائها النفسي والآليات العقلية والروحية التي تطورها لمواجهة الموت المتربص، أو القراءة التي توليها النصوص للأزمة وجذورها والفاعلين الرئيسيين فيها، بما جعلها تأخذ أبعاد الأدب المقاوم من عدة جوانب، وأحيانا أخرى تتحول إلى قراءة عميقة للأزمة السياسية أو الظروف الاجتماعية والاقتصادية،بما جعل الكتابة "الوسيلة الوحيدة بين يدي الكاتب لتجاوز محنته الذاتية، والتخفيف من وطأة الجو العام الذي تعيشه فئات الشعب المختلفة. حيث تعلن عن قلقها و تنازع المقدس والمهيمن من أجل تحطيم التابوهات."6 متكشفة، في الوقت نفسه، عن عبقريتها الخاصة في قدرتها على التحول إلى ملجأ/ ملاذ، يعتصم به الكاتب من هول الطوفان العارم، وإلى سلاح في يده، هو الأعزل الذي لا يجيد استعمال سلاح آخر سوى الكتابة، محملا إياها كل المخاوف والأحزان والشطط وصراخه المبحوح في وجه البربرية، مستنهضا الضمائر الحية والرأي العام في الداخل والخارج.أصبحت الكتابة في ذلك الظرف العصيب من التاريخ، على حد قول فيصل دراج: "المجال الآمن الأكثر مواءمة للتعبير عن المعيش، تصرح بما لا يقول به عالم السياسة وتذيع مالم يقل به علم الاجتماع وتنشر ما يخفيه عالم الاقتصاد ويحجبه."7
ترى هل نقدر على العتبى؟ وهل نمتلك قدرا كافيا من الجرأة لننكر عليها استعجالها ومحنتها والإرهاب "ليس حدثاً بسيطاً في حياة المجتمع، وقد لا يقاس بالمدة التي يستغرقها ولا بعدد الجرائم التي يقترفها، بل بفظاعتها ودرجة وحشيتها. وعندما يتعلق الأمر بالجزائر فإن الإرهاب تقاس خطورته بتلك المقاييس جميعاً، إذ استغرق مدة غير قصيرة وارتكب جرائم كبيرة وارتكبها بفظاعة بلغت أقصى ما بلغته الهمجية."8 على قد قول مخلوف عامر، وفي هذا السياق يحق لنا التساؤل: هل يمكن للأدب أن يعشى عن راهنه التراجيدي من أجل بذخ الحكاية وأصالة التخييل؟ الواقع أن تساؤلنا هذا هو القضية المحورية في خضم الجدل الدائر حول ما سمي بالأدب الاستعجالي لأنه، من حيث لا يدري، يقع في قلب الانشغال الروائي بأسئلة الواقع والمتخيل، كما يقع في قلب معظم المقاربات التي تناولت، مستعجلة هي الأخرى، ذلك الأدب الذي لن تتأتى له الإجابة على السؤال إلا بالتناول النقدي الجاد، وبعرض نماذجه على تصنيفات التخييل الروائي دون اختزال القضية في مدى ارتباطه من عدمه بالراهن الدموي عندما انبرى الكتاب، مستعجلين، لإدانته، وإدانة الأسباب التي تمخضت عنها المأساة الوطنية جملة وتفصيلا؛ بما يقحمها في مواجهة الواقع المعيش وأسئلة الهوية والإيديولوجيا وأسئلة الوطن الجريح، في كل صفحة، وكل سطر نقرأه، ونقرأ وراءه تشظي الذات الكاتبة وعجزها عن تشخيص البربرية التي فاقت واقعيتها أغرب ألوان الخيال.
إن القول براهنية كتابة المحنة لا يحتاج إلى تأويل عميق، فقد كانت ويلات الإرهاب وأثرها على الأفراد والجماعات والقرى والمدن تمثل خلفية لمعظم الأحداث الروائية، تتلقفها النصوص طازجة لتنسج، من وحيها، عالمها الروائي دون أن تتروى لبناء معادل تخييلي يتتبع الأزمة منذ بداياتها التاريخية كما فعل بلزاك مثلا، مع كوميدياه البشرية، غير أن خصيصة الواقع المضطرم بالحرائق، والفضاء المضرج بالدماء والأشلاء، لم تبق للكتاب فرصة التروي أو التملي، فقد كانت المأساة، من هول الحضور، بما لم يدع مجالا لكل ذلك، وإذا قدرت لآحادهم الرغبة في تجاوز الراهن الحدثي القريب، وفتح فضاء السرد على عوالم متاخمة للراهن، متعلقة به بضرب من التعلق، أُثقِل كاهل النص بخطابات مكشوفة في مساءلتها المعلنة للتاريخ والثقافة والهوية والوعي، قد تتخذ شكل المواعظ أو التأملات السياسية والاجتماعية، كما نجد ذلك خصوصا، في رواية "الشمعة والدهاليز" للطاهر وطار، و"ذاكرة الماء" لواسيني الأعرج، حيث تحولت الكتابة الروائية للراهن الجزائري إلى كتابة لواقع الصراع بين سوداوية الواقع وهمجيته وبين الضمير الخلقي أو الإنساني. وعليه "تحول الكاتب إلى راوٍ للأحداث أو هو البطل نفسه الذي لا يتعب ولا يكل في البحث الدؤوب عن المعنى، وذلك من خلال إيقاظ الرغبة الكامنة فيصبح المجتمع الذي يأوي الرواية وجها آخر للمجتمع الدنيوي، الذي لا سماء له ويكون زمن التقدم المتوالي وجها آخر لقهر البراءة الإنسانية."9
وبقدر ما كان الراهن الحدثي القريب دافعا إلى العجلة في الكتابة من أجل التنديد والصراخ في وجه البربرية، كان في الوقت نفسه بمثابة المنعطف الحاد في حيوات الكتاب في بعدهم الذاتي كأفراد يحملون بين جوانحهم قلق الوجود البشري وضعفه أمام المحن والأزمات، فانبروا يعقدون ما يشبه المحاكمة للماضي القريب والبعيد باعتباره جزءا من تاريخهم الشخصي ومن تراثهم الفردي في سياق الوجود العابر ولا مبالاته محبطة، واتخذت تلك المحاكمة شكل السيرة الذاتية المعتمدة على تحليل شخصي لمنجز الذات، كمحاولة تعتمد القدرات الكامنة في اللغة والفن من أجل فهم المستعصي وتأمل الماضي والحاضر، فجاءت العناصر السيرية ملتبسة بالتخييل في كثير من الأعمال الروائية، نذكر منها: (مكر الكلمات.)10، و(الكاتب)11 لياسمينة خضراء، و(بوح الرجل القادم من الظلام)12 لإبراهيم سعدي، و(الشمعة والدهاليز)13 للطاهر وطار، أما(ذاكرة الماء) و(شرفات بحر الشمال) لواسيني الأعرج فتبدوا إلى التخييل الذاتي أقرب منها إلى أي جنس آخر، إذ تبلور فيها النزوع السيري المشتغل على الأنا وتعالقاتها مع الواقع التسعيني الراهن تبلورا أصبح يشكل لوحده مبحثا جديرا بالدراسة.
مثلما فرضت المأساة الوطنية تيمات كتابية وأساليب سردية وطرائق بنائية اشتركت كلها في التنديد بالواقع وإدانة الأعمال الدموية، استطاعت أن تبعث مواهب روائية كانت نائمة إلى ذلك الحين، لم تكتشف موهبتها إلا تحت طائلة صدمة الواقع العميقة التي دفعتها إلى الكتابة، مكرهة لا مخيرة، نذكر منها بوعلام صنصال الذي اقتحم الرواية في مرحلة متأخرة نسبيا من حياته، دون أن يعوقه ذلك عن تحقيق مقرؤية واسعة وشهرة كبيرة تجاوزت حدود الوطن على الرغم مما اتسمت به كتابته الروائية من استفزاز للمشاعر الدينية والوطنية من خلال التشكيك في الهوية والانتماء القومي ولاسيما في روايته لأولى (يمين البرابرة)14. وقد برر مواقفه التي أثارت ذلك الجدل بالقول بأن "الحرية التي أعطيتها لنفسي، هي سبب الصدمة، إذ عوتبت على أنني قلت أكثر مما يجب، وهو ما فعلته بمنتهى الإخلاص. .. فالرواية الجزائرية الراهنة، المكتوبة في قلب المأساة، تثير جدلا واسعا حول التاريخ والهوية. وستكون هدامة منذ اللحظة التي تمثلت فيها مهمتها في زعزعة المعتقدات السائدة، وعليه فليس المحكي سوى ذريعة للخطاب التدميري، لأن موضوعاتها في مستوياتها الصغرى هي الأسئلة المتعلقة بالدولة، بالنظام السياسي، بالجماهير، وهي نفسها التي تغذي مشاغلنا الروائية."15
يمكننا في الواقع أن نسحب الحكم الذي أورده صنصال في المقبوس السالف على النسيج الروائي للكتابة التسعينية كلها، ونباشر تعاملنا معها وفق ما مهدنا به هذه الدراسة، من قابليتها القرائية من زاوية الرؤية الموضوعاتية فحسب، انطلاقا من كونها مجرد خطاب مُحاكم للراهن بشتى تجلياته، دون أن يضع في حسابه ضرورات الجنس الروائي ومقتضياته التخييلية، غير أن الأمر ليس بهذه الاختزال ولا بذلك التعميم، وإذا أمكن أن يصح الأمر على أعمال محدودة ومعدودة، لا سيما تلك التي جاءت نزولا عند مقتضى المرحلة، وتحت إلحاح الواقع الدموي على تبليغ الصوت الرافض والمندد، أو تلك التي كانت التجارب الأولى لناشئة الكتاب، فإنه ليس الحال نفسه عند كتاب سجلوا تراكما معينا في الساحة الروائية الوطنية والعربية أو الأجنبية بصفة عامة مما يستدعي التريث عندها لملاحظة موقعها من الجدل الدائر حول ذلك المتن، ونقصد بالضبط منجزات كتاب أمثال الطاهر وطار وواسيني الأعرج ورشيد بوجدرة، وأحلام مستغانمي إذا حرصنا على النزول عند مقتضى (الشرعية) الفنية المكرسة التي اكتسبها هؤلاء، وتجنبا للحكم باقتصار الرواية على أيديهم، هم كذلك، على الوظيفة اللغوية التبليغية في بعدها اللساني البحت مهما توافقت الموضوعات التي تتخذها تلك الأعمال حتى ليمكن أن تشكل لوحدها مبحثا خاصا لمقارنة التشكيلات المختلفة للموضوع الواحد، ولعل شخصية المثقف أن تكون أبرزها بحضورها المكثف والمتكرر في بطولة مجموعة من الأعمال الروائية أبرزها ثلاثية أحلام مستغانمي، وأعمال واسيني الأعرج التي ظهرت في مرحلة التسعينيات، والتي تشكل بدورها ما يشبه الثلاثية16، وهي (شرفات بحر الشمال) و(حارسة الظلال) و (ذاكرة الماء)، وروايات الطاهر وطار (الشمعة والدهاليز) و(الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي)، وغيرها.
1. 2. موضوعة المثقف وأزمة الأنتلجنسيا
هل يمكن تفسير ذلك الحضور الدال لشخصية المثقف على ضوء الواقع التاريخي الذي عاشته النخبة المثقفة في بداية التسعينيات عندما كانت رموزها تتعرض للاغتيال في ظروف غامضة؟ هل هو خيار فني لإدانة الإهمال والتهميش الذي عانت منه الأنتيليجنسيا الوطنية، فكان من الطبيعي جدا أن تفرز سياستها تيارا يعلن حربه على العقل والفكر والنور؟ أم لإعلان الفشل المحيط بمشروع المثقف العاجز عن القيام بدوره الاجتماعي الذي لا يتأتى إلا "بقدرة المثقفين بإنتاج وإعادة إنتاج معنى اجتماعي أو مجموعات أفكار ذات دلالات اجتماعية في مقدورها تكوين وتوجيه كل أو جزء من المجتمع المدني الذي توجد فيه هذه الفئة (المثقفون) أي أنها تساعد على توجيه ممارسة اجتماعية."17
أم أن مرجع ذلك هو ما يغلف هذه الطبقة من غموض ونخبوية وطوباوية تجعل التواصل معها مغامرة في سراديب مجهولة، تلك التي عبر عنها الطاهر وطار على لسان الشاعر، بطل (الشمعة والدهاليز) بقوله: "أنا هذا المجرم الذي تتمثل جريمته في فهم الكون على حقيقته وفي فهم ما يجري حوله، قبل حدوثه، أتحول إلى دهليز مظلم متعدد السراديب والأغوار، لا يقتحمه مقتحم مهما حاول وهذا عقابا للآخرين على تفاهتهم."18 إن فهم المثقف الكون على حقيقته لم يفده، على أرض الواقع، في التواصل الفعال مع مكونات المجتمع الذي ينتمي إليه، وعجز تمام العجز، إلا في حدود ضيقة جدا، عن إنتاج المعرفة الكفيلة بإضاءة المعتم، بله استشراف المستقبل الذي تقوم به المعرفة المؤسسة تمام التأسيس على البصر بالمحيط الاجتماعي والفضاء الثقافي الذي يتحرك ضمنه. يرى عبد القادر جغلول بأن "ما اصطلح عليه بالمثقفين أي منتجي ومعيدي إنتاج الأنماط الفكرية والمعايير والسلوكات ... مقطوعون إلى حد بعيد عن المجتمع ومكوناته المختلفة، حتى وإن كانوا يقاسمونها، إن قليلا أو كثيرا، مصاعب الحياة اليومية."19، كما لاحظ عجز التكوين عن تخريج مثقفين قادرين على فهم مجتمعهم و"صياغة التحولات الطارئة عليه وفهم التغيرات المعتملة فيه."20 ويقترح تسميتهم بالمتعلمين أو الكتبة لأنهم ليسوا سوى" معيدي إنتاج الخطابات التي أنتجت بعيدا عنهم."21 مهما يكن فإن شخصية المثقف ومكانته في المجتمع ودوره الفكري الخطير والإهمال الذي أولته إياه السلطة السياسية فضلا عن الضريبة الثمينة التي قدمها بين يدي نبوغه وألمعيته، كانت موضوعا متواتر الحضور ومكثف الدلالة في المتن التسعيني برمته بما يجعل المقاربة الموضوعاتية لهذا التمظهر مبررة بأكثر من سبب.
أما الموضوعة الأخرى التي تتحرك في إطارها أزمة الثقافة والمثقف، فهي الأكثر شدا للانتباه، باعتبارها، كما سلفت الإشارة، ما وسم كتابة الراهن بالأدب الاستعجالي، ونقصد بذلك وصف البربرية والوحشية التي بلغتها الأعمال الإرهابية في الجزائر، والتنديد بالتقتيل والاغتصاب الذي أصبح الخبز اليومي الذي تقتات منه الجماهير المصدومة أمام واقع لم يعرض لها ولو في كوابيسها الأشد غرابة، من أجل ذلك، اتجهت الكتابة، في محنتها، إلى إعادة إنتاج الواقع محاولة عرض نماذج بشرية حولتها الظروف إلى آلات بلا ضمائر تحترف البطش والتنكيل، كما حاولت الالتباس بجلد الضحية لتعرض نوازعها العميقة وهي تواجه الموت المجاني بأيدي إخوان يتقاسمون معهم الأرض والتاريخ والدين، يتوزعهم "إحساس متلفع بالخطر الداهم الذي لا يبقي ولا يذر، الأمر الذي يشحن النص الروائي بالتوترات النفسية الحادة التي تتلمس مواطن الضعف واليأس في ربط أجزاء الحدث، فتجد السارد يحكي من دون أن يحدد البؤرة التي يتمركز حولها الخطاب وذلك في ظل ضبابية الرؤية وزئبقية المعنى."22
يمكننا التمثيل لهذا الاتجاه بعشرات النماذج المكتوبة باللغتين العربية والفرنسية، لكننا سنكتفي بالإشارة إلى تلك التي استطاعت أن تتبنى الرؤية الموضوعية ولو نسبيا، حيث أخضعت شخوصها إلى فضاء مخبري بغية ملاحظة نهاياتها ومدى استجابتها لواقع بداياتها من حيث ترقب أثر الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في إنتاج ظاهرة العنف وفي الزج بالجزائر في تلك الدوامة الجهنمية، ونقصد بذلك أعمال ياسمينة خضراء الذي أفاد في بناء متخيله من تجربته العسكرية الطويلة في مواجهة الإرهاب ولا سيما في نصيه: (بما تحلم الذئاب)23، و(خراف المولى) Les Agneaux du Seigneur24. حيث يتخذ في الأولى من الفضاء الحضري للجزائر العاصمة خلفية لتنامي الحدث الدرامي من خلال وجهة نظر الشخصية المحورية (نافا وليد) الذي تتقاطع خيباته المتوالية مع خيبة شرائح عريضة من الشباب الجزائري، الأمر الذي يقوده إلى اعتناق الإيديولوجية الإسلاماوية التي تحاصره في بيته العائلي بالقصبة، أين تنمو هذه الأخيرة وتفشو بين أوساط الطبقة المحرومة التي ترضخ طائعة لخطابها الذي يحسن استغلال مرارة واقعهم، ويوفق الكاتب إلى رسم الفضاء الشعبي للقصبة بكل ما يعتمل فيه من تيارات وأفكار، ويحسن الاستماع إلى الهمس الساري بين الجدران الآيلة إلى السقوط وبين رواد المقاهي الشعبية، ويقبض على هسيس الموت المحدق والخطر المتربص، يقول: "كانت الجزائر العاصمة مريضة تتخبط في الفضلات النتنة، تتقيأ، تتخبط بلا توقف، جماهيرها الإسهالية تهجم من الأحياء الخلفية في فورات صاخبة. والنمل يقفز من المجاري متأججا في الشوارع المصهدة بشمس رصاصية. كانت العاصمة متشبثة بتلالها، مشمرة فستانها عن عورتها المتألقة ... بينما يحبس الشعب أنفاسه أمام الوحش الزاني بالمحارم الذي كانت بصدد وضعه للعالم. تلد العاصمة، في الألم والغثيان، وفي الفظاعة طبعا. يجأر نبضها بشعارات الأصوليين المتبخترين في الشوارع بخطى منتصرة. إنها لحظات يتفوق فيها الدراويش على الشياطين، والشمس المحرقة تستوحي نيران الجحيم لتذيب الأرواح، والناس، في غفلتهم، يتقمصون مهرجان المعذبين."25
ينم التشكيل الفضائي المتقدم عن الفيضان المتسرب تحت أسس مجتمع مريض يتحرك في فضاء من الرعب الذي يستحضر إلى الأذهان روائع السينما العالمية التي تقصت أساليب الرعب الكفيلة بإسالة العرق البارد من جباه أقسى الرحال وأعتاهم، في هذا الفضاء الجحيمي الحابل بالرعب والهمجية، يتحرك (نافا وليد)، وتتحرك معه زاوية الرؤية واصفة تفاصيل المشهد المكاني بألوانه وروائحه وتفاصيله الصغيرة الناطقة بالخطاب الأصولي المتفشي في تفاصيل المدينة المريضة بأبنائها وهم يخرجون من جلدهم الإنساني ليرتدوا لبوس أبالسة الجحيم.
على النقيض من ذلك، تقف الأحياء العاصمية الراقية، بكبرياء تتجلى في عنجهية قصورها المزورّة عن الواقع المريض، توغل في اللذة والإثراء الفاحش المشبوه، ندخلها مصحوبين بالشخصية الرئيسية وهي تشتغل سائقا عند عائلة (راجا)، لنتعرف على ألوان من الرفاهية والبذخ الذي يصعب تصوره بالقياس إلى الواقع البئيس الذي تعرفنا ملامحه في الملفوظ السابق، وفي تشكيلات أخرى لفضاء القصبة والأحياء القصديرية على أطراف العاصمة. يضعنا النص، وفق تقنية التقاطبات في مواجهة عالمين يحملهما التناقض والتقابل بين فضائيهما على الاصطدام الأكيد، اصطدام الحرمان بالوفرة، والفقر بالثراء الفاحش، الخيبة العميقة من البلاد والعباد بالاستغلال الوقح لخيرات البلاد من طرف قلة محظوظة، بما يجعل اتجاه (نافا وليد )، وهو يخرج من قصر ( راجا) مذموما مدحورا، إلى حمل السلاح، منسجما تمام الانسجام مع المقدمات السوسيو-اقتصادية التي أسس بها الكاتب فضاءه.
لقد كان الفضاء الحضري للجزائر العاصمة، هو الإطار الذي تحركت فيه الأحداث الروائية في النص كله، باستثناء بعض التشكيلات الفضائية للغابات والجبال التي عبرتها الشخصية في رحلتها مع الجماعات المسلحة، بينما نجد الفضاء القروي/ الفلاحي، في إحدى قرى الغرب الجزائري، هو الإطار الذي ستتحرك فيه شخوص الرواية الأخرى (خراف المولى) خاضعة للسيرورة التخييلية نفسها بحثا في جذور الأزمة وفق نسق يعتمد البحث في العوامل السيكولوجية بالإضافة لبحث الخلفيات التاريخية والإرث العائلي الذي يمثل المحرك الجوهري في نزوع الشخوص إلى الانتقام الذي كان الوازع الأساس في كثير من الجرائم التي اتخذت من ذريعة الدين مبررا لوحشيتها المعلنة حيث يكفي التصنيف الأولي لتلك الشخوص لتنكشف الآلية الداخلية التي حكمت تصرفها لأنها ضمت مختلف الانتماءات المشكلة لفسيفساء المجتمع الجزائري الرازح تحت وطأة الأحكام المسبقة التي عمرت منذ الفترة الاستعمارية.
فـ"قادة هلال" المدرس الابتدائي هو في الواقع سليل أحد (القياد) في العهد الاستعماري. يتطوع، بعد رفض حبه من قبل جميلة القرية (ساره) وابنة رئيس البلدية الفاسد، للجهاد في أفغانسان طلبا لسلوان محبوبته التي تقع في حب (علال سيدهم) الشرطي الفقير، والابن البار لقرية (غاشيما). أما (الشيخ عباس) فهو الزعيم الروحي لجميع الأصوليين، على جهل وعناد وتصلب لا حد له، سجن عدة مرات. و(عيسى عصمان)/ (الحركي) الذليل الذي تجرع طوال حياته ألوانا لا تحصى من الإهانات بسبب ماضيه الكريه إبان الثورة التحريرية، والذي لا يتحرر من نير الذل إلا بمبايعة ابنه (تاج عصمان) أميرا للجماعات المسلحة بنواحي (غاشيما)، حينها يعمل على غسل العار الذي طال أمده بالانتقام من مستعبدي والده من سكان القرية.
أما (زان) فهو الشخصية الروائية التي لا نعثر على مثيل لها في كل المتن الروائي الاستعجالي على وفرته وتنوع أساليبه، إذ يتقاطع مع (أحدب نوتردام) الذي خلد فيكتور هيجو ملامحه على أكثر من مستوى، دون أن يحمل عمق إنسانية كازيمودو ولا نبل عاطفته، وهو (زان) قزم لئيم، يستغل شفقة الجميع عليه ليتجسس عليهم لصالح الجماعات المسلحة، التي تبيد أكثر من واحد بوحي توجيهاته وإرشاداته، ولا يفوته في خضم الرعب الفاشي، أن يجمع ثروة طائلة.
لا يخفى أن علاقات التوتر والحقد والكراهية بين النماذج النمطية التي بلور النص ملامحها تبدو لوحدها مبررات كافية لجميع أصناف العنف الدموي تحت طائلة حسابات موغلة في القدم، من أجل ذلك لم يكن ضروريا جدا أن تتجه الرؤية إلى استثمار الاجتماعي أو الاقتصادي كما كان شأنها في (بما تحلم الذئاب)، وإنما انصرفت إلى الحفر في أعماق الشخصيات ومكبوتاتها ولاشعورها مستعينة بآليات علم النفس بغية تفسير جانب مهم من الأزمة في بيئة قروية معروفة بالتكافل الاجتماعي وسواسية الناس في فقرهم وغناهم. على هذا الأساس نعتقد بأن الكاتب قد اعتمد أسلوبا أقل ما يقال عنه أنه تحرى فيه الإلمام بجوانب الأزمة التي لا يمكن اختزالها في الجانب السياسي على الرغم من مركزيته في الأحداث. وقد تمكنت الكتابة بتناولها الأزمة الجزائرية من الزاوية النفسية المعتمة من ارتياد آفاق مظلمة من الوجدان الجزائري المحتقن بتاريخ من المهانات والخيبات المتراكمة، وبجراح لم يزدها الخطاب المكرس بعد الاستقلال إلا تفسخا، بما جعل انفجارها ذاك نتيجة منطقية منسجمة مع الواقع إلى أبعد الحدود.
1. 3. العلاقات المكانية/ الغربة والحياد
ملمح آخر تتقاطع عنده نصوص العشرية السوداء وتستثمر مكوناته الموضوعاتية والبنيوية بصورة ملفته للانتباه، ونعني به التصنيف المتواتر للأمكنة وفق توصيفي الغربة والحياد، حيث تتمظهر ملاذيا في سياقات المنفى الذي دفعت إليه النخبة المثقفة هروبا من جحيم البربرية الإرهابية وطلبا لمواطن قادرة على الدفاع عن قيم العدل والحق في الحرية والحياة، وقد كان الغرب جغرافيا وحضاريا موطنا وملاذا وأمنا بيد أنه ظل مع ذلك، أو أثناء ذلك، مفضيا إلى الحياد من منطلق عدم الالتباس الشديد الذي يميز المغترب عموما في علاقته مع أمكنة الغربة التي تستدعى غالبا في سياق المقارنة مع أمكنة الوطن، موطن الجمال هناك، في مقابل القبح والبشاعة هنا، بينما تلتبس المدن البعيدة بالجمال والسحر والألوان، ومن ثم ينفتح الفضاء الروائي على جدل رهيب عاشه المثقفون جميعا وهو تقاطب الـ(هنا)، والـ(هناك).
يمثل الملفوظ التالي الذي ورد على لسان بطل (أكذوبة الكلمات) نموذجا صالحا لتمثيل ذلك التقاطب، حيث يقول الكاتب الملتبس بالرواي الذي كان قائدا في الجيش الجزائري وهو يستعيد لحظة فاجعة من المعارك التي خاضها في معاقل الإرهاب: "أسيرا لهمومي، عوض المتعة بالجمال المتتابع أمامي (طبيعة المكسيك)، أمد يدي إلى الستارة المسحورة لكي أجد البشاعات اللامبررة لبلادي، أرى روائع إيفلوسان وطمأنينتها مدنسة بأزيز حواماتي، وجوها المنعش قد لوثته عصابة قذرة، لحاها إلى صرتها، في انتظار لحظة هدوء من أجل مجزرة أخرى ... أتذكر الدماء المتيبسة في الساحات، والأنين الطويل للأرامل، وأثاث البيوت الفقيرة مقلوبة على جثث الأطفال، والكلاب التي أبت العودة إلى الأماكن التي أرتكب فيها البشر أخبث الفظاعات .. تتابع المشاهد، في كل طريق وجوه تعرض مآسيها."26 هكذا عن طريق ستارة سحرية (ستارة نافذة القطار)، ينفتح المشهد على فضاءين يثيران أشد الأحاسيس تنافرا، فضاء المأساة، وفضاء الجمال، بحيث لا يكون الأخير إلا معبرا للآخر المنقوش على صفحة القلب والذاكرة، ذريعة لرؤيتين هما مناط التشكيل المكاني الخارج من عمق الفضاء والمأساة، حيث لا وقت لبذخ الأفكار والأساليب.
وهو الموقف نفسه الذي يسارع الكاتب إلى إعلانه إجابة لسؤال الصحفي حول موقفه من مفهوم (الأدب الاستعجالي)، يقول: "وصف الأدب الجزائري لسنوات90 بالأدب الاستعجالي، يتعلق بخيار تسويقي Marketing أكثر منه بمقاربة موضوعية. أعتقد، عكس ذلك، بأن الأمر يتعلق بشكل من الالتزام ومن النضال الذي اختارته الروح الجزائرية كفضاء تعبيري، في الوقت الذي تحول فيها بلدها، إلى مكان مغلق منكوب مبذول للبربرية والظلامية."27 الإحالة في هذا المقبوس على مفهوم الالتزام وعلى التصور الماركسي لوظيفة الأدب واضحة لا كخلفية نظرية يصدر عنها الكاتب بوعي ولكن كضرورة اقتضاها واقع محلي مخصوص أعلن الحرب على الثقافة والنور، الأمر الذي عجل بظهور ذلك الزخم الثر من النصوص التي شغلتها الحرائق المشتعلة في أطراف ثيابها عن مقتضيات القول الفن وشروطه.
أما واسيني الأعرج فقد التبس هو الآخر ببطله الذي اختار منافي الشمال البعيدة عندما استحال عليه العيش وسط الموت والدمار والبداوة الزاحفة على مدينته التي يعشقها حد الفناء، وعند أول لقاء مع أمستردام يقع دون أن يدري بين رحي التقاطب بين الهنا والهناك: "ياه، هذه هي أمستردام الشهية؟ المدينة البريئة والعذبة التي تنام على الماء، مونتسكيو قال عنها: أحب فينيس كثيرا ولكني أحب أمستردام أكثر، بها نستمتع بالماء بدون أن نحرم من صلابة التربة، طرقها ناعمة مثل جلد مراهقة، مدينة هادئة ما عدا هدير السيارات الخافت والترام المطرز بالألوان الغريبة، الذي يشقها طولا وعرضا وغيمة رمادية ومطر لا يتوقف أبدا...بدا لي كل شيء واسعا، الطرقات، المحلات، الممرات، قلوب الناس، المدينة، أبهية المطار المتداخلة، العيون، في الوقت الذي تزداد فيه حياتنا، كل يوم ضيقا."28
مئات التفاصيل يسردها النص مأخوذا بهول المفارقة بين عالمين، عالم يقع على مرمى حجر من أعلى وجوه الكمال في الحضارة والعمران البشري الحديث وعالم مهرول نحو نهايته الأكيدة،" مدينتنا سرقت مثلما تسرق النجوم، أصبحت قديمة وعتيقة وكأنها ميت يخرج من تحت الأنقاض، الظلال الممتدة تملأ شوارعها التي بدأت تتآكل، السفن تتدحرج، والسواري بدأت زوايا ميلانها تتجاوز شكلها العادي ... شخص ما (دعا) على هذه المدينة تقول مريم، شيء ما يدور داخل خفايا هذه المدينة وأحيانا في علنها ... لا شيء تغير في هذه المدينة الحزينة التي تموت يوميا، تموت مثل ريف قديم وتتحول إلى قرية صغيرة، تتهاوى مثل الورق اليابس، كل شيء فيها بدأ يفقد معناه، الشوارع، السيارات، الناس."29 تجدر الإشارة إلى أن الترميز الوارد في المقبوس عن السواري المائلة والأشياء التي تعتمل في خفايا المدينة وعلنها، تحيل من طرف خفي إلى بدايات المد الإسلاماوي بعد أحداث 5 أكتوبر 1988، والتي تبلغ أوج قوتها بداية التسعينيات.
وهي موضوعة أخرى تتردد في جملة من النصوص التي اشتغلت على الأزمة الجزائرية أو تلك التي ظهرت خلال العشرية السوداء واضطرت، نزلا عند مقتضى المرحلة، إلى البحث في جذور الأزمة بالعودة إلى بداياتها القريبة، خصوصا أحداث أكتوبر، وهو الاتجاه الذي سلكته رواية (الورم) لمحمد ساري، حيث تتموضع الأحداث في النواحي الفلاحية للبليدة، بين مزارع البرتقال والكروم التي يرصد تحولاتها منذ الحقبة الاستعمارية إلى المرحلة الاشتراكية بعد الاستقلال، إلى خيارات الانفتاح واقتصاد السوق في بداية التسعينيات وأثر ذلك في وجدان الفلاحين والقرويين، معرجا على أحداث أكتوبر والندوب العميقة في وجدان الشباب الذين تعرضوا للتعذيب في مخافر الأمن، والذين سوف يكونون الأنوية الأولى للخلايا الإرهابية التي توجه ضرباتها الأولى إلى عناصر الأمن آخذة بثأرها القديم.
ويمكن التمثيل لحالة الاحتقان التي مهدت للمأساة الوطنية من خلال التشكيل المكاني التالي الذي يختصر بمفرده عمق التحولات التي عاشتها فضاءات أخرى غير الفضاء الحضري العاصمي، "آه على تلك السنوات السعيدة (السبعينيات والمزارع المسيرة ذاتيا)، بعد سنوات، انقلب الوضع رأسا على عقب، خرج سي العربي (الحارس الطيب الذي كان يسمح للناس بالانتفاع من خيرات المزرعة) وعوضه ناس آخرون، أصبح الحارس مسلحا ببندقية صيد، يصطاد الأطفال مثلما يصطاد سراب الغربان الناعقة، بلا رحمة ولا شفقة، أحاطوا البساتين بالأسلاك الشائكة، عدنا إلى عهد الكولون، يأتون بالعمال من أماكن أخرى، ورجال وادي الرمان يسندون ظهورهم إلى الجدران ويتفرجون وبصدورهم يتراكم الغضب والحقد، ثم انتشر خبر طرد جميع القاطنين في الأراضي الفلاحية، لم تعد المزارع ملكا للدولة، بيعت للكولون الجدد الذين سيجوا المساحات بالأسلاك الشائكة وأقاموا حراسا بالبنادق."30
تتقمص قرية واد الرمان هنا دور المعادل الموضوعي الذي يمكن النص من رصد التحولات العميقة في البنية السوسيو-اقتصادية للمجتمع الجزائري التي يرشح بها مكون المكان الفلاحي وتتبع سيرورة الشخوص وخيباتها المتكررة، والإحباطات التي تحفر في وجدانهم أخاديد لم يملأها إلا الخطاب الأصولي باستثماره لأثر التحولات السريعة التي لم تخلف سوى القهر والبؤس والتهميش. هل يمكن التذرع بهذا المنحى السوسيولوجي للحكم على المتن التسعيني بالوقوع في مطب التوثيق؟ هل يحق لنا ممارسة الإقصاء على الذوات الاجتماعية للكتاب؟ فهؤلاء في المحصلة ليسوا سوى مثقفين ينفردون دون عموم الذوات بامتلاك رؤية تؤهلهم للخوض في قضايا المدينة دون انتظار الإذن من أحد ما دام التساؤل عن وظيفة الكاتب والكتابة يمثل "شكلا من المعتقد، الذي يتطلب وظيفة اجتماعية للكاتب كوسيط لمعيش الشعب، وهو ما يفترض وضوح نظر حاد من جهة، وتجذرا في الواقع السوسيو-سياسي، من جهة أخرى، دون نفي للذاتية التي تجد في الكتابة فضيلة شفائية (صراخ، عزاء، خلاص) أو وجودية. حيث تعتبر الكتابة مبرر وجود في مواجهة إحباطات اليومي أو، أكثر من ذلك، كذاكرة، وكوسيلة للرقية من الموت."31 ثم إن الوساطة الاجتماعية التي يمارسها الكتاب، تتخذ شرعيتها الكاملة بالنظر إلى مفهوم الأنتسلجنسيا كبنية عليا من بنى المجتمع، تضطلع بدورها الجدلي التاريخي في تفاعل الطبقات بعامل ذاتي لصيق بالفن الأدبي وبعبقرية اللغة التي تمارس دورها (التطهيري) الفردي والجماعي وفق المفهوم الذي أرسى أرسطو أسسه في نظريته الشعرية الشهيرة.
1. 4. الذاتي والموضوعي في إنتاجية المتن التسعيني
تتجه بنا القراءة، على هذا النحو، صوب المفاهيم النقدية الممارسة لسوسيولوجيا النص في شقها المتعلق باعتبار الأدب مؤسسة اجتماعية، وهو ما يحتم علينا مراقبة أثر الذاتي في إنتاجية المتن التسعيني الذي جاء على نحو ما ليقول نوازع الأنا وهي تواجه الموت عارية إلا من عتاد الكتابة الزهيد، وقد سبقت لنا الإشارة إلى عدد من المبدعين الذين وجدوا في الكتابة موئلا وملاذا عندما أعوزهم الواقع مثيلَها في دنيا الناس فاستقطبت الذات الـ(أنا) مجموع الخطاب النصي لتتحول إلى بطلة مفردة تواجهه الواقع باستماتة، وتخوض معاركها البطولية الخاصة والعامة دون أن يشاركها فيها سوى من تربطهم بالذات رابطة قريبة من حميمية انكمشت في هذه المرحلة إلى حدودها الدنيا.
المثير للانتباه في هذا السياق هو المحكي على طول المسافة السردية الطويلة نسبيا في رواية (ذاكرة الماء) لواسيني الأعرج التي تتشكل سيريا لتكتب ملحمة المواجهة المعلنة بين الموت المتربص في كل لحظة وبين الرغبة المهووسة بالكتابة في سبيل استكمال النص قبل الاستسلام للمصير المحتوم. أما مايسة باي، فعلاقتها الشخصية بالكتابة تبدأ من اللحظة التي تتحول فيها هذه الأخيرة إلى فرصتها الوحيدة للاستمرار في ممارسة الحياة، تقول: "منذ السنوات الأولى من العشرية الرهيبة الماضية، نحن متجمدون من الخوف، ومن الصمت الحذر. لذلك أكتب لأرى نفسي في الصفحة، ولأتجنب الصراخ. ومن أجل أن أستشعر التفوق على المسألة، فوراء فعل الكتابة، ليست عجالة الوقت هي الأسبق، وإنما الرغبة في تحويل وقائع الرعب، على الصفحة، لتدجينها بفعل الإبداع."32 بشكل ما تستثمر إمكانات اللغة لخلق عالم تخييلي تتحقق فيه العدالة الشعرية، عقابا وجزاء، دون المخاطرة بالتعرض إلى الرعب الفعلي الكامن في فضاء العالم الواقعي. أليس فعل الكتابة بهذا المعنى ممارسة في غاية الأنانية، تكتفي بتحويل الواقع إلى مادة يتغذى عليها المتخيل الروائي؟ ألا يتحول الكاتب، عبر هذا المسلك، إلى مصاص دماء يعتاش على دماء ضحاياه؟ ألم تنجز الرواية الجزائرية التسعينية أطراسها المرعبة مكلسة الدماء فوق الدماء حتى إنه "كلما أريقت دماء الأبرياء، بشراسة، على يدي العصابات المتوحشة، كلما قام الكتاب، وهم كثيرون خلال هذه العشرية، بتغطيتها بالكتابة، أو بحبر الكتابة بالتحديد. وهكذا فإن لكلمة طرس PALIMPSESTE معناها الكامل."33؟
وربما كان معناها الآخر هو امتزاج دماء الكتاب بدماء الضحايا، دماء فوقها دماء، لا عاصم من طوفانها إلا الكتابة، ألم تعترف يونيل34 بأن "الكتابة عندها تحذير من الجنون، وحماية منه"35؟ تلك هي المسؤولية الشاقة التي حملتها الكتابة خلال سنوات الدم والنار، أن تكون المتناقضات كلها والجهات جميعها، أن تربت فوق ظهور المبدعين وتحمل أتعاب الضحايا والمقهورين والواقع والحلم والفجيعة، وأن تكون تلقائية، ثرة، نابضة بفوران الدماء ورسيس الألم، ورزينة، مكينة، متأملة، توثق للذاكرة والتاريخ، فلا مناص من أن تفي أو تخون، تنجح أو تفشل، بنسب معينة ومقادير متفاوتة لأننا ببساطة طلبنا منها أكثر مما يستطيع كرمها ونبلها وشهامتها ورأفتها ومشاركتها الوجدانية لمحننا، محنة كتابتنا، بينما لم يكن عليها خلال كل ذلك سوى أن تكون ما تستطيع أن تكونه، إما محاكاة وإما تخييلا.
2. النص التسعيني: توثيق أم تخييل؟
نريد هنا أن نقارب المتن التسعيني على ضوء الاتهام الذي وسم روايات العشرية السوداء بالأدب الاستعجالي من حيث سطحيتها المفرطة بإعادة إنتاج الواقع بحرفيته ومن ثم الافتقار المطلق إلى التخييل؛ والسقوط الكلي في التقريرية الصحفية التي تحرص أكثر ما تحرص على نقل الواقع بأمانة، فأطلق عليها بسبب ذلك توصيف أدب الشهادة Témoignage، وهو توصيف يحمل ظلالا قدحية انتقاصية أكثر منه معنى الملاحظة النقدية المؤسسة حيث اتجهت القراءات المشتغلة على ذلك المتن، في عجالات صحفية غالبا، إلى التماس الأعذار لتوجهها التوثيقي ذلك باعتبارها كتابات نضالية عضدت الصحافة، وشدت ساعدها في التزامها بفضح الإيديولوجيا الأصولية بتبليغ صوت الضحايا والأبرياء، وبالتنديد بالوحشية والبربرية والإرهاب الدموي الأعمى.
يصرح رشيد مختاري بأن: "حجم الشهادات المكتوبة التي ظهرت منذ 1988، قد صورت photographié ونددت بالمأساة بواسطة الكلمات اليومية العادية المنتزعة من الضبابية المفروضة، مبينة الحدث L’Evénement بكل قساوته، دون أن تبحث عن إثارة الإعجاب أو الخيبة. حيث تآزرت مع الصحافة، متخلية عن الأثر الأسلوبي، عندما أصبحت وظيفتها الجديدة هي أن تبلغ بقدر ما تستنتج الخلاصة السياسية لهذه المأساة، ومن ثم فهي لا تسعى إلى شرحها، وإنما إلى تسجيلها في الزمان والمكان."36
أليس التسجيل في الزمان والمكان، على حد تعبير الكاتب، هو على نحو ما القبض على لحظة هاربة في سيرورة الزمن والتاريخ؟ ألا يعني ذلك تحول الرواية إلى فوتوغرافيا تتوسل اللغة بدل عدسة الكاميرا دون أن ترتبط الصورة الفوتوتوغرافية حتما بالجمود الذي قد يتبادر إلى الذهن، لأنها تتحول إلى تخييل مفعم بالحركة عندما تزج في عملية التلقي، وعندما يتلقاها كل رائي/ قارئ بكثافته الوجودية وتجاربه الخاصة وآلياته الذاتية في تفكيك الصورة وإعطائها المعنى الذي يريد؟ وعلى هذا الأساس يتحول البعد الفوتوغرافي للمتن التسعيني إلى مادة صلبة حافظة للتاريخ والذاكرة وتفاصيل المأساة الوطنية. ثم لماذا لا تقارب هذه الفوتوغرافية باعتبارها خيارا فنيا ينم عن تصور ما لوظيفة الكتابة ولقضايا الرواية أكثر مما يشي بالقصور في التعامل مع مقومات الكتابة والتخييل؟ ولم لا نرى فيها تجاوزا للالتزام بالمعنى الذي بلورته الواقعية الاشتراكية وطورته إسهامات سارتر على الرغم من خطورة الانزلاق صوب الوعظية والمباشرة والرواية ذات الطرح؟ إذ المعاني تتجدد والواقع زئبقي بطبيعته، بما يجعل الرهان على المرحلة، أية مرحلة، يفضي إلى تسطيح العمل بربطه بقضايا لا تتضمن بالضرورة عمق القضايا الإنسانية الكبيرة التي تتيح للنص فرصة تجاوز مرحليته وآنيته باتجاه الخلود.
2. 1. التزام المتن التسعيني
الحاجة إلى إعادة النظر في مفهوم الالتزام تطرح نفسها على ضوء ما سبق بإلحاح، هل هو تحميل الرواية أكثر مما في استطاعتها أن تحتمل من نضال من أجل الحق والحرية والمعاني الإنسانية السامية والمثل العليا وتوجه خاص في الحياة، مذهبي عقدي أو إيديولوجي؟ أم الانكفاء بعيدا عن كل ذلك على شحذ مقوماتها وتطوير آلياتها لكي لا تقع في سطحية المرجعي. الواقع أن الالتزام بعيدا عن أي تشقيق مذهبي أو نظري يظل على حد قول محمد برادة متعالقا مع "الدلالة العامة لما توحي به كلمة التزام من انشغال المبدع بقضايا القبيلة أو المجتمع أو العشيرة، واتخاذ مواقف تجاه قضايا سياسية أو دينية. فهذه الدلالة قد وجدت منذ وجد الأدب، ولا نكاد نعثر على مبدع لم يتفاعل مع هموم وصراعات مجتمعه."37 نستطيع على ضوء هذا المعنى الذي يقرره محمد برادة أن نفسر إلى حد ما تلك الوفرة الوافرة من النصوص التي سارعت إلى إدانة الأعمال الإرهابية، بالطرائق التي وفق إليها الكتاب متفاوتين كل التفاوت في أساليب مقاربتهم لعجالة المرحلة ومتقاربين في الالتزام بمقاومة الوحشية بلا هوادة وفي الإشادة بقيم التسامح والحرية وتقبل الآخر والحوار ونسبية المعرفة، كأنهم بدفاعهم عن قيم الفضاء الاجتماعي الحر يدافعون عن شروط وجودهم كنخبة مثقفة وعن شروط وجود الرواية؛ مدركين بأن لا رواية جديرة بهذا التصنيف دون حرية، وأن الاستبداد والطغيان والتطرف تئد الديمقراطية والحرية والرواية والمثقف والثقافة جميعا. وبإدراكها المميز ذاك لرهانات الكتابة والمعاني الوجودية المتخفية وراء الصمت والسلبية تارة، ووراء التنديد والتصدي والنضال تارة أخرى، تجد الرواية نفسها دون أن تسمي ذلك تقف في خط المواجهة مع كل ما يرتهن وجودها أو يستبيح مبررات وجودها.
وعندما ندقق النظر "نجد أن بصمات مفهوم الالتزام ما تزال سارية المفعول عند جزء من الكتاب ولكن بفهم مغاير، يتفق على مسؤولية المبدع إلا أنه يسلك طريقة نوعية في تحقيق تلك المسؤولية. وفي مجال الأدب العربي الحديث، لا نظن أن القضية قد أصبحت متجاوزة، وذلك بسبب عدم الوضوح الذي يطبع علاقة النقد بالنص الأدبي وبالقارئ تحت ضغط المشكلات الاجتماعية والسياسية التي تجعل معظم النقاد يتحرزون من المجاهرة باستقلالية الأدب عن الخطابات الإيديولوجية. لكن واقع الإبداع، في نماذجه الجيدة، يشخص نوعا آخر من (الالتزام) لا تكون فيه القيمة الفنية والرؤية الذاتية أقل من المضمون ودلالاته المختلفة."38
الواقع أن هذا النوع من الالتزام الذي ألمح إليه محمد برادة، والذي لا يضحي بالقيم الجمالية والفنية في سبيل القضايا (الكبيرة) بل يظل في منطقة (المابين) محاولا الأداء الالتزامي من حيث لا يفرط في الأداء الفني، هو وحده القادر على النفاذ من (وصمة) الاستعجال وظرفيته إلى أرضية الاستمرارية و التجذر في مدونة التاريخ الأدب القومي. يعلن واسيني الأعرج، في إجابته عن سؤال حول رأيه في مفهوم (الأدب الاستعجالي)، اعتراضه المطلق على المفهوم واعترافه بوجود كتابات يمكن تصنيفها في خانة الشهادة بحكم إغراقها في المرحلية، "صحيح، في بعض الروايات، بعد الشهادة هو الغالب، لأنها تشهد على حالة معينة، وعلى مرحلة محددة، وهي التي يمكن توصيفها بأدب الشهادة. هذا النوع من الأدب لا يهمني كثيرا، هذه الشهادات تفيد التاريخ، والذات نفسها، لأن هناك حاجة ماسة لأطرح هذا كله على المجتمع، غير أنها آثار متعلقة بمرحلة معطاة، وإمكانيات الاستمرارية محدودة جدا، متى أرادت مغادرة فضائها إلى فضاء آخر."39
يكتسي هذا التصور الذي يصدر عنه الحكم القيمي لواسيني الأعرج أهمية خاصة لأنه يعبر عن انشغاله العميق40 بقضايا الكونية والخلود؛ ولكونه واحدا من المبدعين الذين سجلوا خلال العشرية السوداء تراكما روائيا معتبرا تجاوز الحدود القطرية إلى البلاد العربية والأوروبية، واستقطب اهتمام الخطاب النقدي العربي باشتغاله المميز على موضوعة العنف والتطرف والأصولية. ذلك ما يضفي على وجهة نظره بخصوص الواقع الجزائري والنصوص التي اشتغلت عليه إبان العشرية السوداء نوعا من الوجاهة في الجدل الذي أثارته إشكالية التوثيق والتخييل فيها.
2.2. محلية أم كونية؟
إن الفهم الذي أسس به واسيني الأعرج وجهة نظره حول قضية الكونية والخلود، في سياق حديثه عن التوثيق و(الشهادة) في متن العشرية السوداء، يعيد إلى الواجهة عودا أبديا ذلك الجدل القديم الجديد الذي ما انفك يردده الخطاب النقدي العربي حول محلية الرواية العربية وكونيتها كلما أثيرت قضية الفولكلور والعرب وإشكالية التعبير عن الذات كما وضحها وناقشها عبد الله العروي في كتابه الايديولوجيا العربية المعاصرة41. ثم إن مغازلة الكونية، بقدر ما تحمل من طموح مشروع للرواية العربية من أجل ارتياد آفاق العالمية وما يعنيه ذلك من شحذ لإمكاناتها الفنية والدلالية، يحمل في ثناياه قدرا لا بأس به من التخلي عن القضايا الاجتماعية، والتنصل من المسؤولية الثقيلة المنوطة بها، أو على الأقل، لم يعد ذلك من أولوياتها ضمن الحركة الشمولية لمفهوم العولمة، كأن الأدب لم يرضه البقاء على هامش الكونية الشاملة لمختلف مناحي الحياة، فراح يعلن تحرره من قيود الإطارية القطرية والارتماء في النهر الجارف لأفكار العالم الفسيح.
صحيح أن تحول مفهوم الالتزام في الخطاب النقدي العربي بعد انحسار جمالية المقاومة، وتخلي المثقفين والكتاب عن أدوارهم الطليعية، قد أدى إلى فهم جديد للواقعية لخصه محمد برادة بقوله: "يبدو لي إذا أردت أن أغامر بتوصيف الوعي النظري الآخذ بالتبلور، راهنا، في الساحة الأدبية العربية، أن مفهوم الأدب يرفض استنساخ الخطابات الإيديولوجية والسياسية السائدة، ويميل إلى استيحاء ما هو قيد التشكل، وما ينبت في أعماق الذات المبدعة ملامسا لحظات الحميمية والتساؤل عن الكينونة والمصير، وعن العلاقة بالتاريخ وبالآخر."42 لأن "المجتمع الذي يريد الأديب العربي وصفه يحكم على نفسه بالضعف والتخلف. فإذا ما قنع ذلك الأديب بصورة تعكس الواقع بلا زيادة ولا نقصان، فإن الصورة التي ينجزها ستحافظ على نفس التخلف مع أن المطلوب من الفن هو تجاوزه وتداركه. إن العرب يحلمون دائما باستدراك ما ضاع منهم، ومجال الاستدراك هو الفن، الأدب بخاصة، أكثر مما هو الفكر المجرد."43 وعلى هذا الأساس، لم يعد من المفيد في شيء للأدب العربي أن يقف بنفسه عند واقع هذا شأنه، في الوقت الذي يمكنه استغلال إمكانياته في سبيل الثأر من تخلف عالمه، في المجالات التي لا يمكنه المغامرة فيها، وهو ما جعل العروي يتساءل: "أي نفع في التعبير إن هو ترك الواقع على حاله، ناقصا غير مكتمل ولا محتمل؟"44
لا ينبغي أن نفهم تساؤل العروي في هذا السياق كدعوة تستدعي نظرية أرسطو عن المحاكاة ودور الأدب في إظهار الواقع أجمل مما هو عليه، بل هي دعوة إلى فهم عميق للمجتمع وبناه من أجل بناء صورة احتمالية ممكنة التحقق، بعيدا عن التجريد الذي يسم الرواية العربية، التي تبدو على حد قول برهان غليون: "لا كتاريخ للشخص والمجتمع ولكن بالأحرى، كتأريخ لهذا التاريخ، تماما كما يبدو المقال التاريخي العربي مقالا عن التاريخ أكثر مما هو تحقيق التاريخ ذاته."45 وعليه فإن ارتباط العمل الأدبي بحقائق وقضايا اجتماعية مباشرة ليس هو ما يضعف أو ينال من خاصياته الجمالية، كما أن الواقع الاجتماعي حين يعاش ويدرك بعمق، يؤهل العمل أكثر ليشع كقيمة جوهرية في النظام الذي يهيكله.
وعلى هذا الأساس، يعلق واسيني الأعرج كتابته للراهن بالتقاط الجوهري وإعادة صياغة الواقع بما يتماشى والتحولات الجديدة لمفهوم الواقعية والالتزام كما أبنا عنها سالفا، يقول: "أما أنا فأفهم الأدب كقدرة على الإمساك بالجوهري داخل المجتمع، غير أن وظيفتها ليست إعادة صياغة ما تمسك به، وإنما إعادة تشكيل، وإعادة كتابة تاريخ آخر على علاقة أكيدة بتاريخ البلاد، تتجاوز الكتابة التبسيطية للشهادة. تلك هي مهمتي الأدبية. طبعا لا يمكنني الانفصال عن الواقع الوطني، هذا واضح، ولكن في نفس الوقت، يجب أن نتجنب، عند استقرارنا داخل الأدب، أن تكون مجرد إعادة إنتاج للواقع، بل يجب البحث عما هو مخفي خلفه."46
وعليه فإن السؤال الجوهري الذي اتضحت ملامحه على ضوء المقبوسات السالفة هو إلى أي حد استطاع هذا الأدب، متن العشرية السوداء الذي يعنينا في هذه القراءة، أن يكتب واقعه دون أن يسقط في التقريرية والمباشرة؟ أو ما هي الأعمال التي استطاعت أن تنجز متخيلها متكئة على واقع المأساة الوطنية ومراعية لشروط تكون المحكي، وجاعلة منه فضاء أغنى من الفضاء المادي، متوسلة ما تتيحه اللغة من استعارة ورمز وشعرية تزيدها الرؤية الذاتية عمقا وظلالا، هي بالتأكيد أكثر تأثيرا من الواقع نفسه، دون إغفال تلك التي التصقت بالواقع التصاقا نفى عنها إمكانية تجاوزه وإعادة صياغته، فتسترت وراء الأسلوب الفوتوغرافي، تاركة المشهد يقول فظاعته المجمدة في الفضاء والزمن.
ذلك السؤال، في اعتقادي، هو المحور الذي يتم عبره عرض أدب العشرية السوداء على آليات النقد لمساءلة الاختيارات الجمالية لتلك المرحلة من التاريخ، غير أن ذلك لا يتم إلا في الإطار الذي تحدده طروحات سوسيولوجيا الرواية، ومفاهيم الواقع والمتخيل واللغة والإيديولوجيا، لأنها تبحث في السؤال الكامن وراء الظاهرة التي نحن بإزائها، وهي الحدود الفاصلة بين الرواية والتاريخ والتداخلات التي يمكن ملاحظتها بينها، في ظرف تاريخي مميز بخصوصيته، كالمرحلة التي نحن بصدد بحث تمظراتها السوسيو-تاريخية على مستوى الخطاب الأدبي.
لأنه من الممكن "أن نرى في العمل الأدبي مجرّد وثيقة متّصلة بمرحلة تاريخية معينة، ومن الممكن أن نتصوّر العنصر الاجتماعي على أنه عنصر يشرح الحلول الجمالية للعمل الأدبي. كما أن من الممكن دراسة العلاقة الجدلية بين هاتين الوجهتين، أي بين العمل كحقيقة جمالية من ناحية، والمجتمع كسياق مفسر شارح من ناحية أخرى، بحيث نرى أن العنصر الاجتماعي هو الذي يحدد الاختيارات الجمالية في نفس الوقت الذي تصبح فيه دراسة العمل وخواصه البنائية من عوامل فهم مجتمع ما بشكل واضح؛"47 وعليه ينهض السياق. حيث يلعب السياق السوسيو-تاريخي، بلا جدال، أحد أكبر الأدوار في عملية التشكيل والتأثير في تبلور الإنتاج الأدبي، وخصوصا في جانبه المضموني والدلالي، "فالمجتمع سابق في وجوده على العمل الأدبي لأن الكاتب مشروط به، يعكسه ويعبر عنه ويسعى إلى تغييره، والمجتمع حاضر في العمل الأدبي حيث نجد أثره ووصفه وهو موجود بعد العمل لوجود سوسيولوجيا للقراءة وللجمهور الذي يقوم، هو أيضا بإيجاد الأدب، ولوجود دراسات إحصائية لنظرية التلقي."48
تجدر الإشارة إلى أن الواقع المقصود بالدراسة في المتن التسعيني ليس واقعا عاديا في بساطة وانسيابية الستينيات والسبعينيات في الوطن العربي، ولا في وضوح معطيات العالم الغربي، لأنه واقع متشابك ومفرط التعقيد لا تتوضح فيه الأوضاع الاجتماعية عن السياسية وعن الأيديولوجيا، فضلا عن انخراطه في حرب غير محددة الأهداف كان من نتائجها الصدمة والارتباك وزعزعة الإيمان الراسخ بالثوابت الموروثة ومن ثم تشتيت (انتباه) النص الروائي الذي استحال عليه إنتاج المعنى واستثمار مقومات الواقع دون الوقوع في التأريخ وفي عجالة الوصف، فتجلت أوضح اضطراباته في التغيير الحاصل على مستوى الالتزام، وفي مستوى علاقة الأدب بالمرجع وبالمصادر الواقعية خارج النص، مما أدى إلى إعادة نظر ذات دلالة بالغة لمفاهيم الواقع والواقعي عند الكتاب المكرسين الذين وقفنا على بعض تصوراتهم ومنهم مايسة باي التي صرحت بالقول: "في كتابتي لهذه القصص، كانت عندي ثلاث إمكانيات من المقاربة، تكمن الأولى في الالتصاق بالواقع الحدثي البارد، وعليه اختيار أسلوب السرد الصحفي، وتكمن الثانية في التشكل عبر السخرية، أما الثالثة التي تبنيتها وهي التي تفسر التوتر الحاد للنص، فتعطي للواقع بعدا شعريا. حيث تتسامى جمالية النص عن الحدث."49
يكشف المقبوس السالف عن استراتيجيات المقاربة المعتمدة في كتابة الراهن الجزائري عند كاتبة مهمة من كتاب التسعينيات، من حيث يكشف عن وعي الكتاب برهانات الكتابة الروائية في تلك المرحلة المأساوية من التاريخ، ومن حيث يؤكد على الاختيار الواعي للأسلوب الصحفي أو الفوتوغرافي الذي وسم كتاباتهم بالشهادة، وعليه فلا مكان إلى جانب ذلك التوجه الواعي إلى الأحكام المعيارية؛ بقدر ما يتوجب إعادة مقاربة ذلك المتن على ضوء هذا الخيار. إن مفهوم الالتزام، كما تجلى لنا في متن العشرية السوداء، على الرغم من اختلاف تصورات الكتاب لتشعباته ولقضاياه المتعالقة مع الواقع والمتخيل، قد عبر عن نفسه في الرفض المطلق للنهاية المفجعة التي انتهى إليها المسار الديمقراطي الفتي في التجربة الجزائرية. واضطر إلى عقد مساءلات عميقة للإيديولوجيا التي بررت خيار القتل والدمار من أجل مطالب سياسية بالدرجة الأولى.
ومن ثم انزلقت، نزولا عند مقتضى الطبيعة الاستمرارية لترسبات المطالب السياسية وملابساتها القديمة نسبيا، إلى كتابة التاريخ من حيث تكتب الواقع، فالفرق بين الرواية والتاريخ، في نهاية المطاف، "لا يكمن في أي منهما أكثر اتصافا بالواقعية بل في كيفية بناء الواقع، وإعادة تشكيله داخل النص."50 غير أن التاريخ الذي نشير إليه هنا، هو ما تتفطن إليه حاسة الكاتب من المغيب والمهمش والمسكوت عنه عندما تنبش الذاكرة الجماعية، وتنفذ إلى ما يستقر تحت هدوء قشرة الوعي، وتناوش المناطق المحرمة من الفكر والثقافة والإيديولوجيا، عندها فقط تصبح بديلا للتاريخ الرسمي وللتاريخ العالِم51.
مهما يكن، فإن الحقيقة التي ينبغي التأكيد عليها وسط معمعان الأسئلة الحافة التي استدرجنا إليها المتن التسعيني، هو أن هذا الأخير قد استطاع أن يحسم معركة التأريخ لصالحه، فما تقوله الرواية زمنيا في لحظة، "يحتاج فيه التاريخ إلى كل الاستحالات للقيام به، فالتاريخ من هذا المنظور، هو لعبة الكاتب، مثلما الكلمات، ومادته المعجونة sa patte a modeler التي تعجن بضوابط تنتمي إلى الأدب وليس إلى التاريخ بالمعنى الصارم، فتتحول العلاقة الإبداعية بالتاريخ إلى مساءلة واختراق، إنها معركة ضد المسكوت عنه والمسكّت عنه، فالرواية تواجه التاريخ بالسؤال الهدمي وبالكلمات، والمحرمات وبالذاكرة المتحفزة، إنها معركة انتزاع شرعية الخطاب، مخاطبة الآخر المهيمن والمدون للتاريخ الرسمي بكل الغيظ والغضب، نكاية ببلاغته وبتاريخه المقولب وبأشخاصه المصنعين."52
بناء على هذه العلاقة الالتباسية بين الخطابين، يمكن أن نقول في خاتمة هذه المقاربة، بأن الرواية التسعينية قد استطاعت أن تؤسس خطابها المميز وأن تبلغ صوتها إلى الآفاق البعيدة، وأن تكون البديل، في تلك المرحلة المظلمة، عن آلة التاريخ البطيئة، حيث تكشفت عن شجاعة نادرة في مقاومتها المستميتة من أجل قيم الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية بفضحها لبنية الإيديولوجيا الأصولية وفساد السلطة والحيف الاجتماعي وخيبة أمل جيل الاستقلال، وغيرها من الأدواء التي وفرت المناخ المناسب لتنامي ظاهرة التطرف.
هوامش المقال
1. نعتقد أن الأمر من الصوبة بحيث يتعذر أن نحتفظ تجاهه بالصفاء الذهني المطلوب لكل فعالية قرائية، لأنه يخاطب فينا شعورا جربناه، وواقعا عايشناه، وخطابا نفذ إلى أعماق مكوناتنا الإنسانية، وجعلنا نطرح بدورنا الأسئلة المحرجة ذاتها ونزفر احتجاجاتنا المكبوتة، تاركين لمن يمتلك ما يكفي من اللغة ومن الحساسية أن يقول عنا ما عجزنا عن قوله حينذاك.
2. Rachid MOKHRARI : La graphie de l’horreur (Essai sur la littérature -
Algérienne 1990-2000), Ed : Chihab, algerie, 2002
- Le Nouveau souffle du roman algérien (Essai sur la littérature des
Années 2000), Ed : Chihab, Algérie, 2006
3. رشيد بوجدرة وإنتاجية النص، أعمال الملتقى الدراسي الدولي حول رشيد بوجدرة،تنسيق محمد داود منشورات CRASC وهران/الجزائر، سنة/2006، ص:66.
4. هما الكتابان اللذان أشرنا إليهما في هامش الصفحة السابقة، وهما عبارة عن مجمل المقالات التي نشرها في جريدة Le MATIN الموقوفة عن الصدور، خلال فترة التسعينيات، وقد رصد فيها مجمل الروايات الصادرة بالفرنسية خصوصا التي تناولت المأساة الوطنية.
5. الرواية والتحولات في الجزائر، مخلوف عامر، ص:07. منشورات اتحاد الكتاب العرب، سنة/2000، د.ر.ط.دمشق/سوريا.
6. M.DAOUD : Le roman algérien de langue arabe/lecture critique, Ed : CRAASC, 2002, P : 116
7. نظرية الرواية والرواية العربية، فيصل دراج، ص:157، المركز الثقافي العربي، سنة/1999، ط/1، بيروت/الدار البيضاء .
8. الرواية والتحولات في الجزائر، مخلوف عامر،مرجع سابق،ص:91/92.
9. العناصر النووية المكونة للمخيال السردي عند رشيد بوجدرة، جعفر يايوش، ضمن كتاب: رشيد بوجدرة وإنتاجية النص، مرجع سابق، ص:66.
10. Ed : JULLIARD, Paris/2002
11. ED: Gallimard, Paris/1999Ed: JULLIARD, Paris/2001.
12. منشورات الاختلاف، الجزائر/2002، ط/1.
13. موفم للنشر،الجزائر/2004.
14. ED : Gallimard, Paris/1999.
15. . Rachid MOKHRARI : La graphie de l’horreurمرجع سابق،ص:74/75.
16. نقر هنا بأن الأستاذ واسيني الأعرج هو الذي أشار إلى تلك الأعمال بكونها تمثل ثلاثية [ أثناء محاورة لنا معه بخصوص
تعامله، أدبيا، مع المأساة الوطنية] على الرغم من إخلالها ببعض المقاييس.
17. حول الأمة ( 5دراسات حول الجزائر والأمة العربية)، علي الكنز، ص:15. دار يوشان للنشر، سنة/1990، د.ر.ط.
18. الشمعة والدهاليز، الطاهر وطار، مرجع سابق، ص. 05.
19. واقع المثقف في الجزائر، حوار مع المفكر الجزائري عبد القادر جغلول، ص: 13، ترجمة: محمد يحياتن، مجلة المساءلة، العدد/الرابع والخامس/شتاء وربيع/1993، الجزائر .
20. المرجع نفسه، الصفحة نفسها .
21. المرجع نفسه، الصفحة نفسها .
22. العناصر النووية المكونة للمخيال السردي عند رشيد بوجدرة، جعفر يايوش، مرجع سابق،ص:67.
23. Ed : JULLIARD, Paris/1999
24. Ed : JULLIARD, Paris/1999
25. .Yasmina KHADR : A quoi rêvent les loupsمرجع سابق،ص:24.
26. Yasmina KHADRA : L’imposture des mots، مرجع سابق، ص:98.
27. Rachid MOKHRARI : La graphie de l’horreurمرجع سابق،ص:174/175
28. شرفات بحر الشمال، واسيني الأعرج، ص:77، دار الفضاء الحر، سنة/2001،ط/1، الجزئر.
29. المصدر نفسه، ص:33.
30. الورم، محمد ساري، ص:09، منشورات الاختلاف، سنة/2002، ط/1، الجزائر .
31. Haj Miliani : Une littérature en sursis, Le champ littéraire de langue francaice en Algérie, Ed :
L’Harmatan, Paris/2002, P : 198.
32. Rachid MOKHRARI : La graphie de l’horreur، مرجع سابق،ص:149.
33. المرجع نفسه، مقدمة رشيد بوجدرة، ص: 15.
34. صاحبة رواية: " عيون الثعلب " L’œil du chacal, Ed :Barzakh, Alger/2000.
35. Rachid MOKHRARI : La graphie de l’horreurمرجع سابق،ص:147.
36. Rachid MOKHRARI Le Nouveau souffle du roman algérien ،مرجع سابق، ص:11.
37. تحولات مفهوم الالتزام في الأدب العربي الحديث، محمد برادة ،مجلة نزوى،عدد/25،سنة/2001.
38. تحولات مفهوم الالتزام في الأدب العربي الحديث، محمد برادة، مرجع سابق.
39. Rachid MOKHRARI Le Nouveau souffle du roman algérien، مرجع سابق،ص:158.
40. يبقى الاعتراف الخارجي بالرواية العربية حلم الكتاب جميعا على اختلاف مذاهبهم، في الوطن العربي كله، وحتى في غيرها من البلدان المتخلفة، وما يزال هذا الحلم مثار كثير من الجدل حول مفهوم العالمية التي يقول بشأنها واسيني الأعرج بأن الروائي العربي كغيره من كتاب العالم منشغل بالعالمية التي تعني في شطر منها إخراج جهده الإبداعي من دائرة الضيق إلى دائرة الاتساع بما تعنيه من انفتاح وإنسانية. وسؤال العالمية الذي تطرحه الرواية العربية على نفسها أمر مشروع لأنه محاولة لتحديد وضعها في سياق الرواية العالمية وفي الذاكرة الجمعية الإنسانية للوصول إلى الاعتراف بها كمنجز إنساني وليس كمجهود فردي أو جماعي مرتبط بمحلية تضيق الخناق أكثر مما تدفع بالرواية نحو وضع اعتباري يليق بها. انظر مقاله: سلطان الـ Big Brother ، جريدة الخبر، عدد 03. 04. 2008.
41. يقول "لن نصل إلى عبارة صادقة أمينة على أوضاعنا التاريخية والاجتماعية بمجرد أننا نتحكم في شكل يقال انه مشترك بين البشر، أو أننا اتسعنا فيما نصف من المجال الاجتماعي، أو أننا نوعنا ودققنا أساليبنا البلاغية. كل ما سنحصل عليه، بعد هذا الجهد، هو صورة مغرضة من نوع آخر لواقع محجوب عنا باستمرار". الايديولوجيا العربية المعاصرة (صياغة جديدة )، ص:231، المركز الثقافي العربي، سنة/1999، ط/2، بيروت/الدار البيضاء. الدار البيضاء.
42. تحولات مفهوم الالتزام في الأدب العربي الحديث، محمد برادة، مرجع سابق.
43. الايدولوجيا العربية المعاصرة، عبد الله العروي ، مرجع سابق،ص:208.
44. المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
45. تأملات في الواقع العربي، برهان غليون، ط/17، ضمن كتاب:الرواية العربي واقع وآفاق، دار ابن رشد،
سنة/1981، بيروت.
46. Rachid MOKHRARI Le Nouveau souffle du roman algérien ،مرجع سابق،ص:158.
47. منهج الواقعية في الإبداع الأدبي، صلاح فضل، ص:247، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سنة/1978، د.ر.ط. القاهرة.
48. النقد الأدبي في القرن العشرين، جان إيف تادييه، مرجع سابق، ص:225.
49. Rachid MOKHRARI Le Nouveau souffle du roman algérien مرجع سابق،ص:148/149.
50. صنع الله إبراهيم ورواية تاريخ، سامية محرز، ص:171. مجلة فصول، ع/1،المجلد/11،سنة/1992، القاهرة.
1. يرى عبد القادر رابحي بأن مجمل الروايات التسعينية " عبارة عن ردود استعجالية على مرحلة تبدو في أذهان الكثير منهم أنها استعجالية في حين أن الحقيقة التاريخية تثبت أنها أخذت الوقت التاريخي الكافي والأرضية المأزقية الضرورية للنمو الطبيعي في أحضان مساحة النسج تالأحادي لتباشير الأزمة القادمة،ومن هçنا كان هذا المفهوم الجديد على الساحة الأدبية الجزائرية،وهو (الأدب الاستعجالي)." انظر: إيديولوجية الرواية والكسر التاريخي، مقاربة سجالية للروائي مقنعا ببطله، أعمال الملتقى الخامس للنقد الأدبي في الجزائر، مرجع سابق، ص:62.
51. نسجل على هامش هذا المقبوس دهشتنا من تأكيد المتدخل على كفاية مرحلة العشرية السوداء ،زمنيا،لإنجاز خطاب روائي متمتع بالتأمل الكافي للأحداث وخلفيتها وتباشير مستقبلها، في حين أن الحقيقة التاريخية التي ينبغي تسجيلها بصدد هذا التأكيد، هو أن المنعرجات المصيرية في تواريخ الأمم لا تنهض بكل حيثياتها المخيلة الجماعية إلا بعد مراحل من التاريخ، تمكن من فهم الملابسات التي أحاطت بالظاهرة من خلال تعاضد المعارف الإنسانية المختلفة، ثم إن الرواية التسعينية الموسومة بالاستعجال لم تتمهل المهلة التي أشار إليها المتدخل، فقد بدأت بواكير تلك الكتابة مع أحداث صيف 1991،مسايرة تطور المأساة حدثا بحدث،حتى ليمكن أن نؤرخ لتطور آليات الحرب الإرهابية على المجتمع الجزائري بناء على المتن الروائي، إذ بين استراتيجية اغتيال المثقفين في بداية العشرية السوداء التي سجلتها رواية ( الشمعة والدهاليز) وبين الاغتيالات الجماعية التي سجلتها أعمال ياسمينة خضراء،من البون ما لا يحتاج معه لكثير من التدقيق.
52. مدارات الشرق، بنيات التفكك والاحتراق، واسيني الأعرج، مجلة نزوى، ع/09، يناير، سنة/1997.
جامعة حسيبة بن بوعلي بالشلف/الجزائر.