يسلط الباحث التونسي هنا الضوء على جنس أدبي غير مدروس هو أدب المجالس، ويقوم بتفكيك دور المسكوت عنه فيه وهو الجليس لا صاحب المجلس، ويكشف عن جدلية تحركه المراوغة من الهامش إلى المركز وخاصة في مجالس التوحيدي والنهرواني، وهما موضوع الدرس في بحثه هنا.

الشّخصياتُ في أدب المجالس

من خطاب التّهميش إلى مركزيّة الفعل: مجالسُ التّوحيدي والنهرواني أنموذجان

عبد الستار بن محمّد الجامعي

ملخّص:
يهدف هذا البحثُ إلى تسليط الضوء على مكوّن مهمّ من مكوّنات الثقافة العربيّة الإسلامية، هو "أدب المجالس". وفي هذا الضرب المخصوص من الأدب نُعنى بمكوّن، بدوره، مُهمّ فيه، هو "الجليسُ" الذي يُشكّل، إلى جانب صاحب المجلس، العمودَ الفقري للمجلس برمّته. لقد جرى الوعيُ الثقافيُّ العربيُّ على اعتبار هذا الجليس شخصيّة هامشية، ولا تقع ضمن الخطاب المروي، ومفارقة لبنية المجالس السرديّة التي يفترض أن تكون بنيةً متلازمةً مقيّدةً ولا تستكمل شروطها السرديّة ولا تُبنى إلاّ بتوفّرهما معًا وجنبا إلى جنب. لكنّ بنية المجالس الأدبية – بقيامها على هذه القواعد الإقصائية والمركزية الثابتة– قد تجاهلت حقّ الجليس ولم توفه حقّه. وبمقدورنا القول، إنّ الجليس حاضرٌ في هذا النوع المخصوص من الخطاب، وإنّ هذا الخطاب قادرٌ على استيعابه، وإنْ بدرجات متفاوتة، حتى وإنّ كان هو لا يُصرّح بذلك. بل إنّ هذا الجليس هو ركنٌ ركينٌ في نظامه، ولا يمكن تهميشه أو التغاضي عن دوره. وهو لئن كان متخفّيّا، يتسرّب في مفاصل بنية المجالس وفي حناياها، ولا يُمكن نسيانه. وعليه، فإنّ شروط الخطاب المجلسي لا تستوفى، وتبقى مرهونة، ولا يمكن أن نطلق عليها صفة النجاح أو عدمه إلاّ بتوفّرهما معا.

تقديم:
تُعدُّ جدليّة "المركز" و"الطّرف" أو "الرّسمي" و"الهامشيّ" من إحدى أهمّ الجدليّات التي تتحكّم في الوجود على الإطلاق. وهي جدليّة تدور ضمن جدليّة أخرى أكبر منها وأهمّ هي جدليّة الأنا والآخر. فهل إنّ وجود الأنا يفترض بالضرورة وجود الآخر ويتّسع لاحتوائه والاعتراف به والحاجة إليه والتفاعل معه؟ أم إنّ الشعور بوجود "الأنا" وبمركزيّته وبانغلاقه على ذاته، والتّسليم بهذا كلّه، يقوم بالضرورة على تنكير الآخر الذي يغدو وجوده هامشيّا وغير معترفٍ به؟ هذه الأسئلة، وأخرى تتفرّع منها، نُجيب عنها في التحليل. لكن، بدءا، ما "الهامشيُّ" أو "الهامشُ" أو"المُهمّش"، وهي جميعها مشتقّة من المادة اللّغويّة "همش"؟ لا يبدو، بحسب صاحب اللّسان، أنّ "الهامش" وهو اسم فاعل من (همش) له وجود فعلي. هذا يعني أنّه دخيلٌ ومُضافٌ ومُسقطٌ على ثقافتنا ومجتمعاتنا وحضارتنا. إنّ صياغة الهامش على اسم الفاعل، مع أنه ليس كذلك، وغياب الفعل الثلاثي (همش) من دائرة الاستعمال، يشيران- من ناحية العلاقة الأنطولوجيّة بين الوجود واللّغة- إلى أنّ فعل التّهميش فعلٌ طارئٌ على الوجود. ثمّ لِمَ أضحى الاعترافُ بالهامشيّن المنسيّين الذين جرى طمس تاريخهم على حساب التاريخ الرّسمي في الكتابات التاريخيّة الجديدة، مثلاً، أمرًا لابدّ منه، وشكلاً من أشكال سدّ ثغرات التاريخ التقليدي، على نحو ما ذهب إليه"جان كلود شميث" في المصنّف الجماعي "التاريخ الجديد"؟ ([i]) لقد اعتبر هذا الأخير أنّ مفهوم "الهامشيّة" يعكس، بداية، موقعًا شكليًّا داخل المجتمع، ووضعيّة قد تكون مؤقّتة من الناحية النظريّة على الأقلّ"([ii]). لِمَ وُضعت للنصّ هوامشٌ على سبيل المثال؟ هل الهامشُ في النصّ دليلٌ على عدم جدارته باحتلاله موقعًا ضمنه ومن ثمّة فهو، لأنّه غير نافع، يُقصى ويُنبذ ويُتنحّى جانبًا؟ أم إنّه دليلٌ على عدم كفاية هذا النصّ بالتوضيح؟ وعندئذ ألا يُصبح دور الهوامش في النصوص تفسيريًّا يكشف عن عدم قدرة هذا النصّ على الإفهام؟ وأخيرا، ولكيْ نضع المسألة في إطارها، ماذا عن دور الشخصيات الثانويّة في الأدب عموما وفي أدب المجالس خاصّة، التي جرى اعتبارها شخصيات هامشيّة غير معروفة، إذا ما قُورنت بالشخصيات الرئيسة التي هي صاحبة القرار والفعل؟ هل يقتصر دورها على مجرّد "الكلام" أم إنّ دورها يتجاوز ذلك إلى الفعل الذي ينسرب في طيّات هذا الكلام؟

1. من خصائص الخطاب التّهميشي في أدب المجالس:
يُرى عادةً في المجلس الأدبي فضاءٌ لإنتاج الثقافة العربية الإسلاميّة، عن طريق إنتاج الكلام وإبداعه. وكثيرا ما كانت شخصياته تُصنّف تصنيفًا مادّيا إلى شخصيات مركزيّة رئيسة وأخرى ثانوية مهمّشة. فتمّ التركيز على صاحب المجلس، أي الشخصية الرئيسة، وإكسابه حظوةً خاصّةً، من خلال التأكيد على صفاته وذوقه وشروطه وطلباته، وتمّ، مقابل ذلك، إقصاء الشخصيات الثانويّة من مجال الدّرس والتمحيص، وقلّما نُظر إلى هذا المجلس نظرةً داخليةً تهدف إلى كشف العلاقات "السّرديّة" الثّاوية فيه. فهذه العلاقات- التي سيعمل التحليل على توصيفها- باتت مغيّبة تمامًا ومُهمّشةً في ظلّ النظرة البرّانية التي تَسِم ظاهر المجالس الأدبيّة وخطاباتها، أو قُل إنّ جزءٌ منها قد غُيّب من مجال البحث والتّمحيص وخمل الاهتمام به، في حين شهد جزءٌ آخر عناية النقاد كلّها.

جرى اعتبارُ العلاقةَ بين صاحب المجلس والجليس علاقةً محكومةً ببنية خاصّة بالمجالس. وهو ما يدلّ ضمنيّا، وبالضرورة، على قواعد مُستبطنة هي التي تمنح المجلس تلك البنية. هذه القواعد تقوم على ثنائية "الطالب والمُجيب" أو "السائل والمسؤول"([iii]). هذا يعني أنّ السّؤال والجواب هما أساس المجالس، وأنّ هذه المجالس قد نشأت، أول ما نشأت، في محاضن شفاهية بالأساس. هذه الثنائية هي أشبه بعقد تواصلي(contrat du communication) افتراضي مقبولٍ من الطّرفيْن، بصفته مبدأً منظّمًا وشكلاً من أشكال التواصل بين الجُلاّس، يُؤطّر خصائص المحادثةِ بين الطّرفين، ويُلزم التعاون بينهما، فيحدّد للمتكلم "الطالب" شروطه وللسّامع "المجيب" شروطه وكلّ شيء يدور ضمنه ولا يخرج عنه.

ولَئِنْ ضَمَنَ هذا العقدُ لصاحب المجلس شروطه الكاملة، فجعله الآمرَ والنّاهيَ، والمركزَ الذي يدور حوله كلُّ شيء، وإليه يرجع كلُّ شيء، فإنّ هذا التّوصيف الضيّق، الذي جعل إرضاء صاحب المجلس قوامه، قد غبن- في المقابل-دورَ المُجالس الحقيقيّ الذي جرت العادةُ على اعتباره، حسب شرط المجلس الإقصائي، شخصيّةً هامشيّةً يقتصر دورُها السّرديُّ على تقبّل الوضع بداية، ثمّ مُجاراته في مرحلة ثانية. ولئن خطا الناقدُ المغربيّ "سعيد يقطين"، في تحليله لبنية المجلس الأدبي، خَطوة ايجابية مهمّة ومفيدة في هذا المسار، بالرغم من أنّها غير كافية وتحتاج إلى قراءات أوسع تليق بحقيقة المجالس([iv])، فإنّ باقي النقّاد، والحقّ يُقال، لم يُولوا كبيرَ عنايةٍ لهذا الجزء المهمّش من المجالس أي الجليس (المُرسل )، وما حسبوا له حسابًا، بالرغم من أنّه في حقيقته لا يقلّ أهميّةً عن المستمع، بل هو شرط القيام المجلس أصلاً. فمازالوا يكتبون في إطار هذا الخطاب التّهميشي الضيّق، ويحلّلون وِفقه، دون أن يتجاوزا هذا الفقر التأمّلي في خطاب المجالس، الذي يطعن في قيمة الجليس، إلى خطاب استيعابي قادرٍ على أن يحضن هذه الشخصيات جميعها ضمن تصنيف جديد، كفيلٍ، في اعتقادنا، بإعادة نشر التراتبيّة ضمنها. إنّ إسكات النقاش حول طبيعة العلاقات داخل هذه المجالس يُعدُّ تعبيرا كنائيَّا عن إسْكاتٍ أعمق لعالم الجليس "الهامشيّ".

يُمكن القول، إذن، إنّه قد نشأ في هذه المجالس خطابٌ خاصٌّ ونما وترعرع هو: "خطاب التّهميش". فالثقافةُ العربية- وثقافة المجالس خاصّة- قد ظلّت، لمدّة طويلة، غير معنيّة بمُرسل الخطاب ولا بدوره بقدر ما كانت معنيّة بالحكاية ذاتها، وفي أقصى الحالات بمتلقّيها، أي المُرسل إليه. أمّا مسألة من يُرسل هذا الخطاب، والضامن لاستمراريّته، وخصائص الباثّ الحقيقيّ للسّرد: شخصيته ومكانته في المجتمع، وثقافته، وحبّه وكرهه، وأمنه وخوفه وانتماءه وعقيدته وحقوقه على صاحب المجلس، فهذه مسائلٌ جرى طمسها وإنكارها واستبعادها. فلم تكن، في الغالب، ضروريّة. ولم تكن تُطرح إلاّ عرضًا. فأبو حيان التوحيدي (ت 400هـ)، مثالاً، لوْ جانب الصواب في قَصِّهِ ضمن مجالسه مع الوزير، لما غُفرت زلاّته، ولعرّض حياته للخطر، وهو ما يظهر في سرد الوزير مخاطبًا أبا حيّان، في أوّلِ ليلةٍ من ليالي مجالسه، لجملة من القوانين الخطابية، والشروط "الاستعمارية"، إن صحّ التعبير، تجعل التوحيدي مُجبرًا، بموجب هذه الشروط، أن يلتزم بها، فيكون صادقًا، وأكثر إفصاحًا، وإيجازا، وأبْعَدَ عن الغموض والإبهام. يقول الوزير مخاطبًا أبا حيان: "أجبْني عن ذلك كلِّه باسترسال وسُكُون بالٍ، بملْء فيك، وجمّ خاطرِك، وحاضر علمك، ودَعْ عنك تفنُّنَ البغداديّين...مع عفوِ لفظك، وزائِد رأيك، ورِبحِ ذهنك، ولا تجبُنْ جُبْن الضُّعفاء، ولا تتأطّر تأطُّر الأغبياء، واجْزم إذا قُلت، وبالغ إذا وَصَفْتَ، واصدُقْ إذا أسندت، وافْصل إذا حكمْت، إلاّ إذا عَرضَ لك ما يوجب توقّفًا أو تهاديًا([v]). والتوحيدي نفسه لو لم يشارك – في الليلة الثامنة عشرة على سبيل المثال- هزْلَ الوزير ومجُونه، فيتعاون معه، على نحو ما نفهم من قول الوزير: "تعالى حتى نجعل ليلتنا هذه مجُونيّة، ونأخذ من الهزل نصيبًا وافرًا، فإنّ الجدّ قد كدّنا، ونال من قوانا"([vi])، ولو لمْ يَضَعْ، في مجلسه مع الوزير، حدًّا ونهايةً متوقّعةً ومرغوبةً فيها، فيأتِي، في مبدئها، بطُرْفةٍ حينا، وبغزلٍ حينا آخرا، وفي مُنتهاها يأتي بمُلحة، على نحو قول الوزير ذاته:"هاتَ مُلحة الوداع"([vii])، لما انفضّ من حوله الوزيرُ السّامرُ، وَلَلبث في الحكْي وقتًا غير معلوم. فالنهايات الرديئة والمُحبطة لا تُغتفر في مجالس الوزير. وللطرفة أثر كبير في المتلقّي، فكم من"طُرفة في الخطاب ومليحة من الجواب خلّصت هذا المُرسل من الهلاك على حدّ عبارة الحُصري"([viii]). فهي، إذن، أمارةٌ من أمارات ختم المجالس وشرطٌ من شروطها. وهي استجابةٌ واضحة لسياق الحال فيها([ix]). لذلك احتفى بها التوحيدي في أغلب مجالسه مع الوزير وحرص على مراعاتها، لأنّ حياته تتوقف على ما يقوله. وما يقوله هذا هو الشيءُ الوحيد الضامن فيه. قال الوزيرُ لأبي حيان التوحيدي: "قُلْ – عفاك الله- ما بدا لك، فأنت مُجاب إليه مادمت ضامنًا لبلوغ إرادتنا منك، وإصابة غرضنا بك([x] ). وأبطال المعافي النهراوي (303 هـ-390هـ)، لوْ لمْ تحترم، بدورها، "قواعد اللّياقة" و"أدب الكلام" بتعبير ميخائيل باختين([xi])، فتُخالف أوامرَ الملك في كتاب "الجليس والأنيس"، ولا تُراعي وضعه النّفسي السّيكولوجي، وتلحقه ببيت شعري عجز عن إتمامه، لَلَقِيت خطرًا كبيرًا([xii]). ولوْ لمْ يتّصفْ "سعد العشيرة"، في الجليس والأنيس" بسمات خُلقيّة، ولم يتحرَّ الدقّةَ والصّدقَ والأمانةَ في الإجابة عن أسئلة أحد ملوك حمير، في "خبر سعد العشيرة أنموذجًا([xiii])، لما اكتمل مسروده، ولَحَكَمَ على نفسه بالموت. قال الملكُ لسعد: "هل أنت مُخبري عما أسائلُك؟ [...] يا سعد ! ما صلاح الملك؟ [...] يا سعد ! فمن أحمد الملوك إيّالا؟ [...] يا سعد ! فبم تؤمن سطوة الملك ويُحتجب من بوادر عقوبته؟([xiv]). وما كانت، قبل ذلك كلّه، شهرزاد - بطلة ألف ليلة وليلة- لتعيشَ لو كفّت عن ممارسة وظيفتها (الحكْي)، أو متى قرّر المروي عليه الذي تحكي له الكفّ عن الإصغاء إليها مرّة أخرى؟ وهل كانت لتعيش الشخصيات الأخرى الموجودة في السّرد؟"([xv]). إنّه فعل القصّ– السّرد وحده المهمّ إذن. وهو شرط نجاح (condition du réussite)عمليّة التواصل. بل هو معادلٌ للحياة برمّتها، وهو الضامن لها. "ما الإنسان إلاّ حكاية، وما إن تغدو الحكاية غير ضرورية، حتى يموت، الراوي يقتله، لأنّه لم يعد لديه من عمل([xvi]). حكاية أو حياتك، كما يقول تودروف ([xvii]). إنّ الحكاية معيارُ ديمومة الحياة في هذه النوعيّة من الخطابات.

وغنّي عن القول إنّ هذا الخطاب القمعي المخصوص الذي يستجيب وذوق صاحب المجلس؛ أيْ المستمع والمسرود له، قد تضافرت لإنجازه عواملٌ وظروفٌ سياقيّةٌ كثيرةٌ لغويّة وغير لغويّة سابقة عن الحدث الكلامي: تاريخيّة واجتماعيّة وثقافيّة ونفسيّة بالأساس يجب أن يستجيب لها المُرسل ولا يتغافل عنها، بحسب ما سنّه مُعجم تحليل الخطاب للسّياق([xviii]). وهو خطاب قد وجد، آنذاك، ما يبرّره من خلال السّند والدعامة الذيْن قدّمتهما المؤسّسة النقديّة، التي يبدو أنّها قد ساندت هذا الوعي القائم– الخاطئ والجزئي- ووجّهته و"تواطأت" معه، وأصرّت على تعميق التعارض بين الجانبين، فسنّت جُملةً من استراتيجيات للإلقاء. فالمُبدع، أو قُل فعل الإبداع نفسه أصبح محتاجا – على حدّ عبارة أبي عثمان الجاحظ(ق، 3هـ)- إلى "تمييزٍ وسياسة غايتها استمالة القلوب وطيّ الأعناق، وتزيين المعاني([xix]). تهدف هذه السياسةُ التي وجب على القاصّ أن ينتهجها إلى ضرورة مراعاة "المقام" بتعبير الجاحظ([xx])، أو"مقتضى الحال" بتعبير ابن طباطبا (ق، 4هـ) في عيار الشّعر([xxi])، أو كما عُرفت حديثًا "بسياق الحالة"ومقام الخطاب(Situation du discours)، في كتاب "علم الدلالة" "لبالمر"([xxii])، وعدم إهداره، باعتباره جُزءًا لا يتجزّأ من بنية الخطاب في المجالس. نعني هنا حَقَّ صاحب المجلس وموقعه وحاجاته الخاصّة، وضرورة توّفر سُنُن في القول وسياقات وشرائطَ في الكلام بها يُصبح الأديبُ أديبًا والشاعرُ شاعرًا والجليسُ جليسًا، منها: الإجادة في الكلام، وعدم الإطالة فيه...إلخ. فكلّما احترف الجليس (القاصّ) مهنته على أتمّ وجه، وأبدى تواطؤا مع حاجات المتلقّي، ورغباته كلّما ضمن لخطابه قدرًا عاليًّا من الجودة والنّجاعة. إنّ هذا الجليس ليس حرّا في إنتاج خطابه، ويجب عليه - على سبيل المثال- ألاّ يطيل في كلامه. فالذي يُطيل في كلامه يكون معرّضا – بحسب المُبرّد- "أصحابه للملل ولسوء الأسماع([xxiii]).  ولكننّا سنتبيّن – من خلال بعض العيّنات السّرديّة- أنّ هذه السُنن التي كرّستها المؤسّسة النقدية، يومذاك، لا يُمكن أن يعوّل عليها كثيرا في اكتشاف حقيقة الخطاب داخل المجالس، وضبط العلاقات فيه، لأنّها تمضي في حقيقتها ضدّ الفهم الحقيقي لهذه المجالس وللخطاب فيها، ولا تُراعي حقوق جُلاّسه. وإلى هذا الفهم ذهب إبراهيم الحصري في "جمع الجواهر في المُلح والنوادر". فهو قد تبنّى طريقة من طُرق الإلقاء، واستراتيجيّة من استراتيجيات الاستهواء التي تهدف إلى أغراء الطرف المشارك في التبادل التواصلي وإقناعه([xxiv]). فقال هي:"طريقة تُبعدك من الملال، وتوسّطك في الحضور بين الإكثار والإقلال ولا تسترسل كلّ الاسترسال. ليكنْ كلامك جوابًا تتحرّز فيه من الخطل والإسهاب، ولا تعجبنّ بتأتّي كلمة محمودةً، فيلحُّ بك الإطناب توقّعًا لمثلها، فربّما هَدَمَتْ ما بَنَتْهُ الأولى([xxv])، وأكّد ضرورة مَزْج الحديث بالمُلح والنوادر حتى تُحدث في المتلقّي التأثير والانفعال الجيّديْن، ونبّه من خطورة تجاهل هذه الآليّات. يقول: "فكم من طُرفة في الخطاب ومليحة من الجواب خلّصت من الهلاك"([xxvi]). وهو ما نجده في مجالس التوحيدي مع الوزير في الليلة الخامسة، والليلة السادسة عشرة، كمثاليْن ممتازيْن، من خلال قول الوزير للتوحيدي:"هات ملحة الوداع([xxvii]). ثمّة، حينئذ، إجماعٌ على ضرورة مراعاة سياق التلقّي. وبحسب معجم تحليل الخطاب، فإنّ مُرسل الكلام مجبرٌ بإدراك السّياق الذي ينخرط فيه التبادل التّواصلي، ومجبر على مراعاته([xxviii])، لأنّ هذا الأخير ليس في موقع قوّة،"فعندما تكون هناك قوة، فإنّ الأقوى يستعمل الصيغة الاعتيادية لمخاطبة الأقلّ قوة، في حين أنّ قوة يستعمل الصيغة المؤدّبة في جوابه"([xxix]).

تُعتبر مجالس "أبي المعافى النهراوني" نموذجًا ممتازا لمثل هذه الخطابات الإقصائية التي تحتوي عليها المجالس الأدبية، والتي تُصبح بمقتضاها الشخصية الثانوية هامشيّة يتمثّل دورها السّردي في تقبّل الطلب (الذي هو في الغالب سؤالٌ من طرف صاحب المجلس) بداية بواسطة "الأذن" التي تقوم، في هذا السّياق الشفهي بدور الوسيط،ثمّ الإجابة عنه في مستوى ثانٍ. 

تقتضي بنيةُ المجالس الأدبيّة إطارًا يتألّف مِنْ صنفين مِنَ الشخصيات أساسيّيْن:
رئيسة(مركزية) تتمثّل عادة في: مَلِكٌ، سُلطانٌ، صاحبُ مجلسٍ، صاحبُ سُلْطةٍ غالبا، وأخرى شخصيات ثانويّة (مُهمّشة) وهي غالبا ما تتكوّن من: شاعرٍ، أديبٍ، مُغنّي، راقصٍ...صاحبِ سُلطة ثقافية (الإبداع) غالبا. والسّياقُ الذي يجمع بين هذه الأطراف هو سياقُ تواصليّ تتحكّم فيه جملةٌ من القواعد. والمتلقّي، في الغالب، مُدركٌ لكلّ هذه المعلومات السياقيّة. تنبني الحكاية السرديّة داخل المجالس في ضوء الطلب أوّلاً والاستجابة ثانيًّا. وتتعطّل هذه الحركة السرديّة بتعطّل أحد هذه الحلقات أو انتفائها.

2. الشخصيات في أدب المجالس من الخطاب التّهميشي إلى الخطاب الاستيعابي الإدماجي:
لم يُنظر إلى المجلس الأدبي بوصفه إطارًا ثقافيًّا تتفاعل فيه الشخصياتُ وتتبادل الخبرات والكفاءات وتتقاسم الأدوار بشكل "مُنصف"، إنّما نُظر إليه بوصفه إطارًا ناظمًا لعلاقة عموديّةٍ بين "الذات" والآخر. من هذا المنطلق تولّدت الرغبة في قراءة أخرى جديدة مُرْضية، ربّما، لهذه المجالس، تبتغي فهمها وتحليلها، وتفكيكها وإعادة تركيبها، لمعرفة كيف تتمّ إنتاج وصناعة الخطاب فيها. وهي قراءة من شأنها أن تُزعزع استقرار الوعي الإقصائي الخاطئ القائم، آنذاك، الذي يكْفل حقّ صاحب المجلس في حين يغضّ الطّرْف عن الجليس الذي يبقى في الغالب مهمّشًا، ذا دورٍ ثانويٍّ. والحال أنه- كما سيتبيّن معنا- لا يقلّ أهمّية، من حيث قيمة الفعل المُنجز، على صاحب المجلس. وبالتالي فهي قراءة تعمل على تكريس خطاب آخر بديل للخطاب المهمّش، هو "الخطاب الاستيعابي" الذي يدعو إلى إعادة النظر في اتجاه إعطاء مزيدٍ من الحريات لهذه الشخصيات الهامشيّة واستيعابها داخل المجلس الواحد.

يُمكن القول، إذن، إنّ الخطابات الإقصائية داخل المجالس الأدبية قد حفظت لنا مكانة صاحب المجلس الذي يتلقّى "الأحاديث المرويّة" ووضعت شروطه وطلباته وضَمَنتْها، ولكنّها قلّما تحدّثت عن دور الجليس، وفيما يمكن أن يقوم به في المجلس وما يمكن أن يلعبه ضمن هذا الطقس من طقوس الإرسال والتلقّي والانفعال، الذي تلعب فيه العواملُ المقاميّةُ والسيّاقيّة والإشاريّة الحسّية دورا مهمّا([xxx]): كالسّمع، والضحك، والتعجّب، والإيماء، والصّمت، والتماهي مع العالم الخيالي الذي يبسطه القاص. وهو ما يساهم في تغيير وضعيّة صاحب المجلس النفسيّة من حال سيّئة إلى حسنة، ويُحقّق له مفهوم الامتلاء حتى "لا تبقى عنده حاجة إلى المزيد"([xxxi]). فلوْ لا التوحيدي في الليلة الثامنة عشرة – على سبيل المثال – لما اسْطاع الوزير أنْ يتخلّص من الجدّ الذي كدّه ونال منه، وملأه قبضًا وكرْبًا على حدّ عبارة الوزير نفسه([xxxii])، وهو ما حقّق للوزير"الاكتفاء". قال في ختام الليلة السّادسة: "لله درّ هذا النّفَس الطويل، لقد كنت قَرِمًا (أيْ متمنيًا مشتهيًا)"([xxxiii]). وفي قوله مخاطبًا التوحيدي لمّا انفضّ مجلس الليلة الثالثة والعشرون: "ما أحسن هذا المجلس"([xxxiv]). وكذا في قوله في الليلة السابعة والعشرين: "أحبُّ أن أسمع حديثًا غريبًا". وقوله في الخاتمة الليلة نفسها: هذا كلام ليس عليه كلام"([xxxv]). وبقوله: "لقد شرّدت النوم عن عيْني وملأت قلبي عجبًا"([xxxvi]) ختم الليلةَ التّاسعة والعشرين. وقوله: "والله لقد وجدتُ روْحًا كثيرًا بما سمعتُ منكم"([xxxvii])، وقوله للتوحيدي: "لقد برّدت قلبي"([xxxviii]).

إنّ هذه المواقف السرديّة، توحي كلُّها، في حقيقتها، باعتراف ضمْني من صاحب المجلس للجليس بالدور الذي يشغله في استمرارية المجلس. ومن أنصع الإشارات التي تبيّن أنّ دور المُجالس قد يتجاوز مجرّد الانصياع إلى أوامر الملك انصياعًا آليًّا ما تقدّم به التوحيدي –وهو الجليس- بجملة من الشرائط، وإنْ كانت بسيطة، ولكن يُمكن أن نتدبّر منها الكثير. قال التوحيدي مخاطبا الوزير في أولى حلقات مجالسه الليليّة معه، مفترضا أنّ مخاطبه سيتعاون معه، وأنّ هذا التعاون سيعود على الطّرفين بالفائدة: "يُؤذن لي في كاف المخاطبة، وتاء المواجهة، حتى أتخلّص من مزاحمة الكناية ومضايقة المعاريض، وأركبَ جَدَد القول مِن غير تقيّة ولا تَحاشٍ ولا مُحاوتة ولا انحِياش"([xxxix]). يُمكن أن نتحسّس من خلال هذه الشروط التي ساقها التوحيدي وجَعَلَها بندًا سرديّا يجب أن يستوفيه في "العقد" المُبيّن أعلاه، بوادر أُولى واستراتيجيّة لمحاولة ردم الفجوة بينه وبين الوزير من خلال استعمال طرائق وأساليب من شأنها الزجّ بالمتكلّم (الجليس) في قلب الفعل. وهذه في حدّ ذاتها نقلة نوعيّة ولا يُستهان بها، وينبغي التنصيص عليها. فالجليس يعمد، منذ البداية، إلى رفع الحواجز وتقريب المسافات، التي فرضها سياقُ الحال، مع جليسه. وهي مسافةٌ نفسية بالأساس، قد تُمكّن المجالس من رفع الضّغط عليه، وهو ضغطٌ مردّه رفعة المقام بالأساس. مُعلنا بذلك عن ميلاد خطاب جديد نبت وتولدّ من رحم الخطاب الإقصائي؛ هو الخطاب الإدماجي والتّفاعلي الذي يتعاون فيه الطرفان في الخطاب.

ولَئِنْ كان دورُ الجليس في مجالس التوحيدي معنويّا فقط، ووظيفته تقتصر على خلق الشخصيات وابتكار الأحداث في الخطاب، من أجل إدخال البهجة والسرور على قلب المتلقّي الذي هو، بطبيعة الحال، ليس أيّا كان. وهذه مهمّة في حدّ ذاتها جليلة وخطيرة، فإنّ دوره في مجالس "النهرواني" قد تعدّى ذلك كلّه إلى المشاركة في الخطاب بالفعل.

تفيضُ مجالسُ "النهرواني" بعلاقات متعدّدة قوامها ثنائيّة "السؤال والجواب" تجمع بين صاحب المجلس والجليس في إشارة ساطعة على الطابع الاستعماري الذي بُنيت عليه هذه المجالس. وفي خبر "هشام يستدعي حمّاد الرّاوية ليسمع منه شعرًا"، يروي لنا "أبو المعافى النّهرواني" أنّ "هشامًا، أميرَ المؤمنين، قد خطر بباله بيتًا شعريًّا ولم يَدْرِ من قائلُه فكان أن أمر بإحضار حمّاد الراوية، نظرا لما يتميّز به حمّاد من قوة ذاكرة، وطلب منه المساعدة. يظهر ذلك في الخطاب المعروض الآتي: قال هشام: أتدري لِمَ بَعَثْتُ إليك؟ قلتُ: لا، قال بَعَثْتُ إليك لبَيْتٍ خطر ببالي لم أدْرِ من قائلُه، قلت: وما هو؟ قال[...] قلتُ: هذا يقوله عدّي بن زيد العباديّ. فقال: أحسنت يا حماد([xl]). يبدو، من خلال هذا الحوار القائم، أنّ هشامًا هو - مبدئيًّا- المتحكّم الوحيد في خيوط اللعبة، أي المجلس. وهو الطالب (الفاعل) وحمّاد المُجيب، فهو القائم عليه الفعل. لكنّ نظرةً عميقةً فيما يلي من الحوار كافية بأن تُبيّن للقارئ عكس ذلك، فتفضح الهرميّة القائمة بينهما، وتبيّن تهافتها. قال هشامُ مُخاطب حمّادا :سَلْ حوائجك كائنة ما كانت، قلتُ:"إحدى الجاريّتيْن" قال: "هما لك بما عليهما من حُليّ وحُلَلْ"([xli]). يُظهر هذا المقطعُ بوضوح كيفيّة انقلاب الأدوار وتفاعل الجُلاّس فيه. فحمّادُ، الرّامي، أي مُرسل الكلام، سرعان ما يندمج، بعد أن قدّم طلباته للمتلقّي (أي هشام)، في البنية السردية ويعلن عن حضوره، ويصبح طرفًا سرديًّا لازما ومتفاعلاً في هذه البنية. وهشامُ قد أصبح، وقد كان طالبًا للمعرفة، مُجيبًا وقائمًا بدور تلبية رغبة المتكلّم.

هناك خبر آخر يقوّي اعتقادنا في طريقة انقلاب الأدوار في العلاقة التي وصّفها سعيد يقطين بجدليّة الطالب والمجيب([xlii]). ففي خبر "العبّاس بن الأحنف يؤتى به ليلاً لإجازة بيت([xliii])، ملمّحات فعليّة لتصرّف صاحب المجلس الاستعماري والكولونيالي، الذي يُشير لفرض سلطته على الجليس. مضمونُ الخطاب أنّ الرّشيد قد صنع ذات ليلة بيتًا شِعريًّا واضطرب عليه الثاني، فشعُر بانتكاسة نغّصت عليه فرحته، وخلخلت استقراره الذي كان ينعم به. لم يصبر، بسبب ذلك، الرّشيدُ واستدعى عليّا بن العبّاس بن الأحنف، وهو من أحد شُعراء عصره، في جوْف اللّيل، وعلى حالٍ من الذّعْرِ عظيمة، وطلب منه أن يشفعه ببَيْتٍ في الشِّعر مثله. نزولاً عند رغبة الملك هذه التي لا تُردّ، يجدُ العبّاسُ نفسه مُجبرًا على الاستجابة لذلك، (تتمثّل الاستجابة في إضافة البيت الشِّعري الذي عجز الرّشيد عن قوله). وهو ما حقّق للملك الاكتفاء. يُلاحظ ذلك في علامات التغيّر البادية في مظهر الرّشيد، وفي "خطاب الإشادة" الذي توجّه به إلى عبّاس، مُظهرًا تأدّبه والتعاطف معه، ومُبديًا، في الآن نفسه، الإعجاب به. والمقصود "بخطاب الإشادة": "ذاك الخطاب الذي تشيد فيه الذات المُتلفّظة بالآخر (المديح، الغزل، الرثاء) أوبالذات الفردية أو الجماعيّة (الفخر)[...] وهو خطاب يتشكّل نتيجة التعبير عن أفكار بين متحدّث يُشيد بانجازات آخر هو في معظم الأحوال المتلقّي للخطاب بهدف التواصل"([xliv]). وهو ما نفهمه من اعتذاره الآتي ورغبته في التعويض لما لحق عليّا من غُبْن، وإهانة وابتزاز أو جرح مشاعر. قال الرّشيدُ: "أقلُّ ما يجب لك علينا أنْ ندفع إليك دينك إذْ أنزل بك هذا الرّوعُ بعيالك منّا، فأمر له بعشرة آلاف درهم وصَرْفه"( [xlv]).

المُلاحظ أنّ الرّشيد، صاحب المجلس، لم يأبه، بداية، في هذا المقام بحال علي بن العبّاس(الجليس)، ولم يَعِرْ اهتمامًا للحيّز الزمني الذي استدعى فيه عمر(في جوف من الليل)، لا ولا حتىّ لِلْحالة النفسيّة التي كان عليها الشاعر، والتي تتجلّى في قول الراوي: "أُوتي به على حال من الذّعر عظيمة"([xlvi])، سيما أنّ الغاية من الخطاب تُحدّد كلّ وسيلة فيه. فالذي يعنيه، إذن، تحقيق مطلبه كيفما كانت الطُرق ومهما كانت التّكاليف. لكنّ النّظرةَ الخفيفةَ في محتوى الخبر تُبرز أنّ الفاعل الحقيقي هو علي بن العبّاس(الشاعر الجليس) وليس الرّشيد(صاحب المجلس)، فهو الذي يحتلّ القيمة الأساسيّة في الخطاب. ومطلبُ الرّشيد مرهونٌ به. فهو، إذن، في موقع القوّة لا الضعف كما يصوّره ظاهر المقام. ففي حين يتوسّل الرّشيد بمركزه الاجتماعيّ لتعزيز سلطته، وفرض مطالبه وشروطه، يستعين الجليسُ – الشّاعر بالمعرفة والإبداع ليقوّي مكانته ويتموضع في الخطاب فيستوعبه هذا الأخير. وهو، أي الجليس، القطبُ الذي يدور عليه المجلس برّمته ولو لاه لما قام المجلسُ من أصله، ولَلَبَثَ الرّشيد، الذي طُعن في ثقافته وخبرته، وظهر ناقصًا لا كاملاً، في حيرته. فقد صعُب عليه قولُ بيتٍ شعري. وبمجيء الشاعر يتحقّق مطلبُ الرّشيد، وينتقل من حال يشوبها القلقُ والاضطرابُ إلى حال حسنة توصف بالتوازن والهدوء.

يمكن أن ننتخب ههنا دليلاً آخر من "الجليس والأنيس" كفيلاً بأن يُشيع هذه المناخ الاستعماري الذي تشيع فيه بنية المجالس الضيّقة، وهو خبر "يُصلح بين عبد الملك وزوجه فينال حكمه"([xlvii]). في هذا الخبر يصوّر لنا النهرواني "عبد الملك بن مروان" في صورة الشخصيّة المركزيّة التي عليها مدار الحكْي. يطلب عبد الملك، الذي غضبت عليه زوجته فقاطعته وجعلت بينها وبينه حِجَابًا، من أحد جلاّسه، هو "عمر بن بلال الأسدي" المساعدة في إرجاع زوجته. ويكون ذلك بأن يسترضيها عُمرُ حتى تعود إلى عبد الملك. لا يتردّد هذا الأخير، أي عمرُ، في قبول الطلب بداية لأنّه في مقام ضعف. لكنّ هذا الجليس الذي يتوسّل بمصلحة الملك وبمنفعته، هو يخفي، من حيث لم يشعر الجميعُ إلاّ محلّلُ الخطاب، في توسّله هذا قصْدًا مكينًا. وسنرى أنّه يلجئ، في مرحلة ثانية وبما يمتلكه من ذخيرة ثقافية، إلى حيلةٍ سرديّة ومحاولة "اندماجيّة" تمنح طلباته مقبوليّة. فهو، الآن، في مقام قوّة نادرا ما تتكرّر منحها إيّاه المقامُ التواصليُّ، هي قوّة الفعل. وهو لم يعد مُطالبًا بالالتزام ببنود العقد الاستعماري، بلْ صار يبحث عن طريقة ينتفض بها انتفاضةً "ناعمة"، إن صحّ القول، تُسهّل عليه الاندماج شيئًا فشيئًا في المقام الجديد بعد أن كان شبه مُستبعد منه. والبحث، من ثمّة، عن فُرصة تناسب حاجته لاكتشاف قدراته. لقد لاحظ أنّ الملك في موقف ضُعف وإذهان. لذلك لم يتردّد، وهو المُهمّش، في استغلال محنة الملك التي يجد فيها مواساة له، فيستقدم مقترحه الذي به يرتقي إلى مستوى الفعل. الآن سيُصغى إلى صوته بعد أن كان مُغيّبًا. وكان ذلك بإرسال طلبه إلى صاحب المجلس عبد الملك بن مروان، في شكل جُملة من المتواليات السرديّة المترابطة التي تتجلّى من خلال الحوار التالي الذي نستطيع أن نستمع، من خلاله، إلى صوت الجليس المهمّش وقوّته التي تتصاعد في نفسه كنافورة من الغضب القاتل، على حدّ عبارة الناقد العراقي عبد الله إبراهيم([xlviii]). قال عبدُ الملك بن مروان لعمر: "حاجتك؟ قال عمر، بطمأنينة الواثق، : "مزرعةً بعبيدها وما فيها، وألفَ دينارٍ، وفرائضَ لولدي وأهل بيتي، وإلحاقَ عُمّالي"([xlix]). إنّ من يطلب هذه الطلبات من "عبد الملك بن مروان" لا يُمكن أن يكون حضوره هذا حضورًا صُوريّا باهتًا أو هامشيًّا. وهو ما تحقّق له في قول الملك لعمر اعترافا له بالجميل أو خوْفًا منه: "لَكَ ذَلِكَ"([l]). والأكيد أنّ هذا الإدماج، بالفعل وفي الخطاب، لم يكن آليّا، إنما فعله هو الذي خوّل له ذلك، وهو الذي جعله في موقع الطالب لا المُجيب. لقد أصبح في موقع المُرسل المُعالِج (بكسر اللاّم) وعبد الملك بن مروان هو المُتلقّي المُعالَج(بفتح اللام)([li]). وفي موقع القوة والفاعليّة لا الضعف والمفعوليّة. حتمًا، إنّ من يملك الفعلَ يملك القوّة في هذه المجالس وفي الحياة الدنيا برمّتها. وهو ما مكّن الجليس من أن يستغلّ موقعه، ليخرق الثنائيّة المتفق عليها في هذا السّياق المخصوص من التّواصل، وليكتسب قدرًا من الاحترام لم بمنحه له المقامُ التواصلي ولِيَخْرَق العقد الذي بُنيت عليه المجالس الأدبيّة. لقد تيقّن صاحب المجلس، أي عبد الملك، أنّ حبورته وكماله لم يكتملا بعدُ، وأنّه لا زال محتاجًا إلى الآخر (عمر). وفي المقابل، تيقّن المُجالسُ، عمر، أنّ سياسة (الأنا) في تقبّل الأمر والانصياع له انصياعًا آليًّا، لم تعدْ وحدها كافيّةً لانتزاع الاعتراف من (الآخر) صاحب المجلس.

إنّ الصّراع بين الجليس وصاحب المجلس – إن جاز لنا أن نعتبره كذلك- هو صراعٌ وجوديٌ بالأساس يسعى من خلاله كلُّ طرفٍ إلى استلال الاعتراف من الآخر داخل هذه الرقعة الضّيقة من الإبداع: المجالس. فالشخصياتُ التي اُصطلح عليها بالهامشيّة في أدب المجالس تعرف أنّها ليست كذلك في عالم الحياة الواقعي. وهي، في هذه المجالس السردية، تعرف أنّها ليست مجرّد كائنات ورقيّة سرديّة صورية ثابتة، إنّما هي شخصيات تريدُ وتفكّر، وتفعل أيضا. ولئن حصر الفيلسوفُ الفرنسي "رينه ديكارت" ماهيّة الوجود البشري ومفهوم الذات في الفكر، وهو ما نفهمه من خلال الكوجيتو الشهير "أنا أفكر إذن أنا موجود"، "فإذا انقطع الإنسان عن التفكير انقطع عن الوجود([lii])، فإنّنا يُمكن أن نضيف إلى هذا الكلام المهمّ، أنّ مفهوم الذات ووجودها وماهيّتها عند الجليس في "أدب المجالس" ربّما تتجاوز ذلك، فتنتصر للفعل لا للفكر وحده، وتتجاوزه. إنّ الكوجيتو الجديد "أنا أفعل إذن أنا موجود" يبدو ههنا مُقنعًا ومُرضٍ (satisfaisable) أكثر قدرة على تصوير حالة الجليس. لذلك تجاوز المُجالس تقبّل الفعل إلى الطلب الذي يرضيه ويحقّق ذاته، ومركزيّته، فينتزعها انتزاعًا، ويقترح درسًا ونظريّةً أخرييْن في الحياة مفادهما: أنْ لا سبيل للقوّة من طرف واحد في هذه المجالس- وفي الحياة عموما- ولا صداميّة، إنمّا تبادل الأدوار والمهامّ بين الجلاسّ والتحاور فيما بينهم والتفاعل هي وحدها المفيدة، وأنّ المشاركة في الفعل لا المغالبة هي قانون تواصل المجلس الأدبي. بل إنّ هذا القانون، أي قانون المشاركة، هو العمود الفقري للنشاط الكلامي برمّته.

يُمكن أن نتكشّف من خلال هذه الأمثلة أنّ استراتيجيّة الجليس- هذا الذي كنّا نحسب أنه خُلوٌّ من الفعل- تتضمّن الاستماع أوّلا، أيْ تقبّل الوضع، والاستجابة له ومجاراته، ومن ثمّة تغييره في مرحلة ثانية. وفي داخل هذه الحلقة المغلقة تُنثر المراوغة والاحتيال وكلّ ما من شأنه أن يساعد هذا المهمّش على إثبات وجوده. لقد كان هذا الجليس – سواء في مجالس التوحيدي مع الوزير، أو مجالس النهرواني- يسعى، في الغالب، جاهدًا إلى إبطال مفعول الهرميّة المتكرّرة ضمن بنية المجالس الضيّقة. وهي هرميّة لا يُمكن أن يُعوّل عليها كثيرا في فهم حقائق ما يمور في هذه المجالس، من مطارحاتٍ ومسائلَ وأجوبةٍ ونشاطاتٍ سرديّةٍ وأسبابَ وُجودٍ. فالجليسُ عادة ما يسعى - عكس صاحب المجلس- إلى فرض حضوره ووجوده والإشادة به، لا بالضجيج والحديث إنّما بالفكر والعمل. إنّه كان يُطالب – على حدّ عبارة "كلود كاهان" الواردة في كتاب "الهامشيون" لمحمود طرشونة - "بمكانة له في مجتمع لم يُجعل له، لا غير، إذ عمله عملٌ طبيعي إن شئنا[...] وهو نوع من الاسترجاع المبدئي"([liii]).

وعليه، وإذا ما اعتبرنا النتائج التي توصّلنا إليها آنفًا صحيحة، فإنّ إعادة ترتيب العلاقات بين الجُلاّس داخل المجلس الأدبي الواحد وتعديلها، والكشف عن خباياها وعن الجانب الآخر المسكوت عنه، أصبح ضرورةً تقتضيها نزاهة البحث العلمي. ولا شكّ في أنّ هذا الأمر كفيلٌ بنسف التراتبيّة القائمة بينها وانهيارها، ويكون ذلك بالتأسيس لبنية ونظام خاصيْن بالمجالس، قادريْن على استيعاب الهامشيّ واحتوائه ضمن إطار متّسع يكشف عن عدم وجود "مركز" على نحو ما ذهب إليه "بيل أشكروفت" و"غاريث غريفيث" و"هيلين تيفن" في كتابهم المشترك "الردّ بالكتابة"([liv]). أيْ إنّ الجليس هو -  كما صاحب المجلس- الوجهُ الآخر للمجلس الواحد، وجزء لا يتجزّأ من الخطاب المجلسي برمّته. وإنّ هذا المجلس يغتني بحضورهما معًا، وعلى القدر نفسه من المساواة. وهما ينصهران مصاهرةً حقيقيّة يذوب فيها كليهما. إنّهما كالوجه والقفا للعملة الواحدة. فوُجود الواحد مرتبطٌ ارتباطًا لا انفصام له بوجود الآخر. وبالعقول وحدها تتفاضل الناس. ومنطقُ الفعل، الذي يضمن للإنسان إنسانيّته، هو وحده- أويجب أن يكون- المنظّمُ لبنية هذه المجالس السّرديّة، وليس الموقع الاجتماعي. فهذه الأعمال هي التي تُسهّل إعادة إدماجهم ضمن خطابٍ جديد هو "الخطاب الاستيعابي" واندماجهم فيه. وهو اندماج سيكولوجيّ واجتماعيّ بالأساس. وهو خطاب تكريس لهويّة الشخصيات الثانويّة، هوية سرديّة جديدة، وانتماء جديد أفضل من الانتماء الأوّل، بعد أنْ ظلمها "الخطاب التّهميشي" ونسف هُوّيتها، وجعلها متعدّدة الهُّويات، أو بلا هويّة.

3. من دلالات الخطاب التّهميشي في أدب المجالس:
إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ لكلّ بثّ – لاسيما البثّ المكتوب- رؤيته المتعلّقة بالعالم، وإذا ما أعدنا تشكيل سياق الحال الخاص بالنصّ، سهّل علينا ذلك معرفة أنّ هذا النموذج المخصوص من الوعي لأدب المجالس قد تظافرت لإنجاحه عواملُ كثيرةٌ سياقيّةٌ غير لغوية؛ تاريخية واجتماعية من شأنها أن تُساعدنا على فهمه وتأويله. ولا ترْشحُ من بنية المجالس الضيّقة دلالةٌ واقعيّة إنّما رمزيّة تتّصل بتأويلٍ خاطئ عن رقعة من الإبداع ضيّقة يلزم أن "تسلّط عليها الأضواء لكي يغمرها الحقُّ واليقين، على حدّ عبد الله ابراهيم([lv]).

من الصّعب القول، إذن، إنّ هذا الوعي المخصوص لخطاب المجالس كان بلا مسوغ. فهو نتيجة لفهمٍ خاطئ لواقع الإنسان. وهو يُمثّل انعكاسًا آليَّا لحياة المثقّف العربي في فترة من فترات ماضيه المعيش. إنّ لدراسة سياق الحال أهميّةً كُبرى تتمثّل في الوقوف على المعنى وعلى الخطاب الضمني واستخراجه من الخطاب الصريح المُنجز. ومن وجهة نظر تداولية، فإنّه من دون دراسة هذه السياقات المحيطة بالنصّ والتي يغتني بها الأخير، ومن دون الخبرة بها، ومن دون معرفة الكاتب ومعرفة كلّ ما يتّصل بشخصيته وحياته ومهنته ومكانته في المجتمع، من دون هذه الأشياء جميعًا، لا يمكن- بحسب لوسيان غولدمان–  "دراسة تلك الواقعة بكيفيّة إجرائيّة وفهمها"([lvi]).

إنّ سيطرة الشّخصيات المركزيّة على الخطاب داخل رُقعة المجالس، مردّه عوامل القهر السّياسي الصارخ والمصلحة والإذعان الاجتماعييْن وتزييف الوعي القائم، ومن ثمّة رغبة هذه الطبقة الحاكمة في مواصلة تكريس هيمنتها الخارجيّة والاستمرار في أخذ القرارات حتى في أقلّ الأمور بداهة. ونكاد لا شكّ في أنّ المؤلّفيْن، التوحيدي والنهرواني، قد قصدا، من أجل فضح مراكز الخلل والتّهميش الثقافي التي يُعاني منها مُثقّفو القرن الرابع والخامس الهجرييْن، و"مرض" الهيمنة الاجتماعية العُضال، إلى تصوير بنية المجالس الأدبيّة على هذه الشاكلة من التحكّم و"الاستعمار" وتجريد للإنسان من رأيه ومن إنسانيّته. فالمُتلقّي حين يواجه هذه النوعيّة من الخطابات لا يكون- أو لا يجب عليه- خاوي الوفاض وخالي الذهن([lvii])، إنما يستعين بمعارف سابقة تجمّعت لديه بخصوص كاتب النصّ. ولا يمكن أن يكون في ذلك مبالغة ولا غرابة، لاسيما إذا أدركنا الظروف الاجتماعيّة القاسيّة والمتشابهة، من فقر وحرمان وخصاصة، التي أناخت بكَلْكَلِها على المؤلفيّْن- التوحيدي والنهراوني على حدّ السواء- وعلى كتاباتهم. فهما قد عاشا الظروف الاجتماعية نفسها تقريبا. إنّ اللغة، في هذه الخطابات، هي "أسلوبُ عمل"([lviii])، وأداةُ توصيلٍ وتبليغٍ أكثر من كونها مجرّد أداة تواصلٍ وتخاطب طبيعي. نعني بالتوصيل وبالتبليغ أنّها قد وردت مشحونة ببُعد وظيفيّ لا بنيويّ، وأنّ مُرسل الكلام، ليس مجرّد ذاتٍ ناقلةٍ نقلاً آليًّا للكلام حتّى يجوز مماثلتها بجهاز إرسال، بل هو يستحقّ، بحسب الناقد طه عبد الرحمان، أن يكتسب صفة "المبلّغ". بمعنى "الذات التي لا تقصد ما لا تظهر من الكلام فقط، بل تجاوزه إلى قصد ما تبطن فيه، معتمدة على ما أوردت في متنه من قرائن وما ورد منها خارجه"([lix]). وعليه، فإنّ المتلقي، محلّل الأدب، معني، وهذه حاله دائمًا، بضرورة فهم الخطاب المُضمر(Le discours implicite) ومضامينه غير الصريحة على النحو الملائم، كي تكون نتائج تأويله مقبولةً وناجعةً ومُفيدةً. فأبو حيان التّوحيدي كان قد عاش عيشةً ضنكًا، و"لم تمنعه غزارة علمه من حرق كتبه لأنّها لم توفّر له لُقمة عيشه، وانتقامًا من دهره الذي عانده([lx])، والأمرُ نفسه ينطبق كذلك على النهرواني الذي ذاق الخصاصة والحرمان الكثير، حتى قال فيه "ياقوت الحموي"، صاحب معجم الأدباء، نقلاً عن أبي حيان التوحيدي نفسه: "رأيته في جامع الرّصافة وقد نام مستدير الشمس في يومٍ شاتٍ وبه من أثر الفقر والبؤس أمرٌ عظيمٌ، مع غزارة علمه، واتّساع أدبه، وفضله المشهور ومعرفته بأصناف العلوم ولا سيما علم الأثر والأخبار وسير العرب وأيّامها، فقلت له: مهلاً أيّها الشيخ وصبرًا فإنّك بعين من الله ومرأى منه ومسْمع"([lxi]). لايمكن إذن أن تكون هذه الصراعات والمسائل والأجوبة والمحاورات والتراتبيّة القائمة بين الجلاّس إلاّ مرآة عاكسة لما يدور في الحياة الحقيقيّة.

من الدلالات التي يسعى الخطاب المجلسي، كذلك، إلى تكريسها، السّخرية  (l’Ironie). وفي الحوار الذي دار بين الملك وعمر المبيّن أعلاه دليلٌ على ما نقول. وفي هذا المثال يبلغ الراوي بسخريّته شأوًا كبيرا. فهو يتوسّل بالسرد، هذه الوسيلة الجبّارة([lxii])، تقنيةً لإبراز وَهَنَ صاحب المجلس(الملك) وهشاشته الثقافيّة والنفسيّة. فجعل سلطته، في هذا السياق، صوريةً لا غير. ذلك أنّه لم يكن قادرًا حتى على إكمال بيتٍ من الشعر. بل إنّ مجرّد بيت شعري قد نغّص عليه راحته، وحرمه النوم وأدخله في عزلة نفسية. ولا مراء في أنّ هذا التوظيف المخصوص قد يعكس موقفًا غير معلنٍ يزدري من خلاله الجليسُ سُلطةَ الملك ويحتقر ثقافتَهُ. السخريةُ "وسيلةٌ من وسائل اشتغال الغضب والاحتقار([lxiii]). وهي تقوم على "المفارقة والتناقض عبر النقد والهزْء والإضحاك، دافعها ردّ الاعتبار للنفس، فتكون سلاحا دفاعيا أمام الخصوم، ولها وظيفة تصحيحيّة([lxiv]).

على سبيل الختام:
إنّ هذه المحاولة، التي نقترحها في فهم حقيقة المجالس الأدبية، تنبع من كون هذه المجالس بنيةً ونظامًا متكامليْن تأخذ بعين الاعتبار كلّ الأطراف الداخلة في العملية الإبداعية، من أجل إنتاج وصناعة خطابٍ استيعابي خاصّ بهذه المجالس، قادرٍ على لمّ شتات هذه الأطراف جميعها وجعلها على القدر نفسه من المساواة. ومن الصعب القول: إنّ القدماء قد أوفوا، آناء تحليلهم لخطاب المجالس، الجليس حقّه. فمن الواضح أنّ صاحب المجلس كثيرًا ما كان مركزَ الثّقل والقُطبَ الذي تدور عليه "رحى" المجلس. لقد جرى تقديم المجلس الأدبي بوصفه شكلاً ووعاءً ضيّقًا لا يكاد يتّسع إلاّ لفئات محدودة وفي مجالات مخصوصة ويحوي علائقَ مخصوصةٍ وخطابًا واحدا هو، غالبا، خطابٌ تهميشيٌّ. ولقد غطّت طبيعة المجلس المخصوصة هذه ما يمور فيه من محافل ونشاطات ثقافيّة وحركات "سرديّة" على دور الجليس الحقيقي، وحالت دون كشف العلاقة بينه وبين صاحب المجلس، ومدى تأثير الأوّل في الثاني. ولكنّنا، ههنا، نحتاج إلى تفكيك هذا الخطاب التّهميشي وتفتيته. فنستبدل طريقة النظر إليه، ونوسّع فيه ونقترح وعيًا مُختلفًا به. ليصبح هذا الخطاب نسيجَ خطابات، وحاويًا لشخصياتٍ وتجاربَ متعدّدة وعلائقَ متعدّدة أيضا. ولا مبالغة إذا قلنا إنّه هو الفضاءُ الوحيدُ القادرُ على منح المهّمش "المثقّف" مكانته السرديّة الحقيقة الجدير بها داخل هذه المجالس، خاصّة في وقت أصبح يعاني  فيه خارج هذا الإطار من تهميش.

يحقّ لنا، إذن، اعتبار تاريخ الجُلاّس في "أدب المجالس" تاريخًا رسميًّا، هو تاريخ "الهامشييّن"([lxv]). وهو تاريخ غير مدوّن في مواجهة تاريخ السّلاطين والأمراء وأصحاب القرار. هو التاريخ الذي فضحه السّرد وقام بتعريته وإعطائه حقّه، وبيّن أنّ الاستعمار الذي لحق بالجليس، في هذه الرقعة المحدودة من الإبداع (المجلس) ليس استعمارًا أصيلاً. إنّما دخيلٌ عليها، مردّه بالأساس زاوية النظر إليه. كما بيّن السّرد، في المقابل، أنّ بنية المجالس، منظورٌ إليها من هذه الزاوية، هي بنية هشّة، لا تصمدُ أمام أيّ فحص نقدّي، ولا تستمدّ طاقتها وأصالتها ولا تشتدّ كثافة إلاّ بتوفّر الجليس وصاحب المجلس باعتبارهما، معًا، أركانًا لازمة في الخطاب المجلسي. وهي أركانٌ سرديّةٌ، لأنّ مجال الحديث، في هذا السياق، هو مجال تخييليٌ بالأساس ولا يخضع إلى معيار الحقيقة، وإنْ كانت الشخصيات فيه حقيقيًّة وذات أسماء علم حقيقية. ولكن، في النهاية، هي أسماء علم سرديّة بالأساس. وعليه، وإذا ما فترضنا أنّ العلاقات التي وصّفناها في هذا البحث صحيحة، فإنّه يلزمنا تعديل النظرة إلى خطاب "المجالس" بترحيله من كونه خطابا مهمّشا إلى خطاب جدّي "استيعابي"؛ متنوّع وثريّ، قادرٍ على احتواء هذه الأركان الثلاثة الأساسية: صاحب المجلس(الطالب) والجليس (المُجيب) والعمل المُبدع الرابط بينهما (أسئلة، أجوبة، شعر، روايات وسرود...إبداع). 

قائمة المصادر والمراجع
المصادر:
- التوحيدي، أبو حيان
: الإمتاع والمؤانسة(ج، 1- 3)، اعتنى به وعلّق عليه، محمد الفاضلي، دار الجيل، بيروت، ط، 1، 2003.

- النّهرواني، أبو الفرج المعافى بن زكريا: الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي(ج1-4)، تحقيق، إحسان عباس، عالم الكتب، بيروت، ط، 1، 1987.

  • الردّ بالكتابة، النظريّة والتطبيق في آداب المستعمرات القديمة، ترجمة، شهرت العالم، مركز دراسات الوحدة العربيّة،بيروت،لبنان،ط، 1، 2006.

- إبراهيم، عبد الله:  موسوعة السّرد العربي، المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنشر، بيروت، طبعة جديدة موسّعة، 2008،ج، 1.

- المتخيّل السّردي، مقاربات نقدية في التناصّ والرؤى والدلالة، المركز الثقافي العربي، ط،1، بيروت، 1990.

- العين الاستعماريّة (مقال)، جريدة الرياض، السّعودية، 12 مارس، 2016.

- باختين، ميخائيل: الماركسيّة وفلسفة اللغة، ت، محمد البكري ويُمنى العيد، دار توبقال للنشر،ط،1، المغرب، 1986.

- بالمر، أف: سياق الحال، ترجمة، محمد الماشطة، كلية الآداب، جامعة المستنصريّة، بغداد، 1985.

- برنس، جيرالد: مقدّمة لدراسة المروي عليه، ضمن كتاب، نقد استجابة القارئ من الشكلانيّة إلى ما بعد البنيويّة ،جين تومبكنز، ترجمة، حسن ناظم، علي حاكم، المجلس الأعلى للثقافة، ط، 1، القاهرة، 1999.

- بن طباطبا، أبو حسن: عيار الشعر، دار الكتب العلميّة، ط،1، بيروت، 1982.

- التهانوي، محمد علي:كشّاف اصطلاحات الفنون، تحقيق لطفي عبد البديع، الهيئة المصريّة العامّة للتأليف والنشر، القاهرة،  1969،ج، 2.

- تودوروف تزفيتان: شعريّة النثر، منشورات الهيئة العامّة السّورية للكتاب،ط، 1،دمشق، 2011.

- الجاحظ، أبو عثمان بن عمرو: البيان والتبيين، تحقيق وشرح، عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط، 7، 1998،ج،1.

- الجبوري، يحي وهيب: مجالس العلماء والأدباء والخلفاء مرآة للحضارة العربية الإسلاميّة، دار الغرب الإسلامي، ط1، بيروت 2006.

- الحُصري، إبراهيم : جمع الجواهر في الملح والنوادر، إبراهيم الحُصري، جمع الجواهر في الملح والنوادر، ضبط وتحقيق محمد علي البجاوي، دار إحياء الكتب العربية، ط1، 1953.

- الحموي، ياقوت: معجم الأدباء، دار الغرب الإسلامي، تحقيق إحسان عباس،ط 1، 1993،ج6

- حيدر، فريد عوض:سياق الحال في الدرس الدّلالي، تحليل وتطبيق، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، د.ت.

- خطابي، محمد: لسانيات النصّ مدخل إلى انسجام الخطاب، المركز الثقافي العربي، ط، 1،بيروت، 1991.

- ديكارت، رنيه: تأملات ميتافيزيقيّة في الفلسفة الأولى، ترجمة،كمال الحاج، منشورات عويدات، باريس،ط، 4، 1988.

- شارودو باتريك، ودومينيك منغنو (إشراف): معجم تحليل الخطاب، ترجمة، عبد القادر المهيري، حمّادي صمّود، المركز الوطني للترجمة، تونس، 2008.

- شميث، جان كلود: تاريخ الهامشييّن، ضمن كتاب: التاريخ الجديد، إشراف جاك لوغوف، المنظمة العربيّة للترجمة، بيروت، لبنان،ط،1، 2007.

- طرشونة، محمود: الهامشيّون في المقامات العربيّة وروايات الشطّار الإسبانيّة، (أطروحة دكتورا دولة) ترجمة المؤلّف، مراجعة، محمد قوبعة، دار سيناترا، المركز الوطني للترجمة،تونس، 2010.

- عبد الرحمان، طه: اللّسان والميزان أو التكوثر العقلي، المركز الثقافي العربي، ط، 1، الدار البيضاء، المغرب، 1998

- غولدمان لوسيان، وآخرون: البنيويّة التكوينيّة والنقد الأدبي، ت، محمد سبيلا، مؤسّسة الأبحاث العربية، ط، 2، لبنان، 1986.

- موشلر جاك، آن ريبول: القاموس الموسوعي للتداوليّة، تحليل الخطاب وتحليل المحادثة، ترجمة، عز الدين المجدوب، المركز الوطني للترجمة، تونس، 2010

- يقطين، سعيد: السرد العربي، مفاهيم وتجليّات، الدار العربية للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف، الرّباط، ط، 1، 2012.

- يوسف، عبد الفتاح: سيميائيات الثقافة والذات في خطاب الإشادة، مجلة فصول، الهيئة العربية العامّة للكتاب، ع، 91، 92، القاهرة، 2010.

  • Fontainier Pierre: Les figures du discours. Ed. G. Flammarion.1977.

Mueck D.C. Irony and the ironic. Ed. Nethuen. London. New york. 2end. Ed. 1982.

 

[i]) جان كلود شميث، تاريخ الهامشيين، ضمن كتاب: التاريخ الجديد، إشراف جاك لوغوف، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، لبنان، ط،1، 2007، ص، 436.

[ii])المرجع نفسه، ص، 440.

[iii]) سعيد يقطين، السرد العربي، مفاهيم وتجليات، الدار العربية للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف، الرباط، ط، 1، 2012، ص، 136.

[iv]) دليلنا على كونها غير كافية، أنّ الناقد المغربي قد تحدث في كتابه عن شروط السّامع- الدّاعي الذي هو صاحب المجلس، وعن العقد الكلامي بينه وبين المتكلّم لكنه لم يولِ الجليس حقّه. انظر

  • سعيد يقطين، المرجع نفسه، ص ص، 136- 137- 140.

[v])أبو حيان التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة، اعتنى به وعلّق عليه، محمد الفاضلي، ج، 1، ص، 21.

[vi]) المصدر نفسه، ج، 2، ص، 190.

[vii])المصدر نفسه، ص، ج، 1، ص، 54

[viii])إبراهيم  الحُصري، جمع الجواهر في الملح و النوادر، ،إبراهيمالحُصري،جمعالجواهرفيالملحوالنوادر،ضبطوتحقيقمحمدعليالبجاوي،دارإحياءالكتبالعربية،ط1، 1953، ص 18.

[ix])  يجعل فريد عوض حيدر من النهايات المرغوبة عنصرا أساسيّا من عناصر سياق الحال. انظر كتابه:

  • سياق الحال في الدرس الدّلالي، تحليل وتطبيق، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، د.ت، ص، 14.

[x]) التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة، ص، 22.

[xi]) ميخائيل باختين، الماركسية وفلسفة اللغة، ت، محمد البكري ويُمنى العيد، دار توبقال للنشر، طن1، المغرب، 1986، ص، 32.

[xii]) أبو الفرج المعافى النهرواني، الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي، تحقيق، إحسان عباس، عالم الكتب، بيروت، ط، 1، 1987، ج، 1، ص، 321

[xiii]) المصدر نفسه، ج،1، ص، 527.

[xiv]) المصدر نفسه، ج، 1، ص، 527.

[xv]) جيرالد برنس: مقدّمة لدراسة المروي عليه، ضمن كتاب، نقد استجابة القارئ من الشّكلانية إلى ما بعد البنيوية، جين تومبكنز، ترجمة، حسن ناظم، علي حاكم، المجلس الأعلى للثقافة،ط، 1،القاهرة، 1999، ص، 73.

[xvi]) تزفتان، تودوروف، شعريّة النثر، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، ط، 1، دمشق، 2011، ص، 45.

[xvii])نفسه، ص، 46.

[xviii])شارودو باتريك ودومينيك منغنو (إشراف): معجم تحليل الخطاب، ترجمة عبد القادر المهيري، حمّادي صمّود، المركز الوطني للترجمة، تونس، 2008 ، ص، 133

[xix]) أبو عثمان بن عمرو الجاحظ، البيان والتبيين، تحقيق وشرح، عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط، 7، 1998، ج،1، ص، 14.

[xx])الجاحظ، نفسه، ص، 136.

[xxi])بن طباطبا، أبو الحسن، عيار الشعر، دار الكتب العلمية، ط،1، بيروت،1982، ص، 22.

[xxii])أف، بالمر، سياق الحال، ترجمة، محمد الماشطة، كلية الآداب، جامعة المستنصرية، بغداد، 1985، ص، 61.

[xxiii])يحي وهيب الجبوري، مجالس العلماء والأدباء والخلفاء مرآة للحضارة العربية الإسلامية، دار الغرب الاسلامي، ط1، بيروت 2006، ص، 70

[xxiv])معجم تحليل الخطاب، ص، 94

[xxv]) إبراهيم الحصري، جمع الجواهر، ص، 12

[xxvi])نفسه، ص، 18

[xxvii]) التوحيدي، ج، 1، ص، 54، ج، 2، ص، 153،

[xxviii])شارودو باتريك ودومينيك منغنو (إشراف): معجم تحليل الخطاب، ص، 133

[xxix]) بالمر، علم الدلالة، ص، 63.

[xxx])جاك موشلر،آن ريبول، القاموس الموسوعي للتداوليّة، تحليل الخطاب وتحليل المحادثة، ترجمة، عز الدين المجدوب، المركز الوطني للترجمة، تونس، 2010، ص، 509

[xxxi]) سعيد يقطين، المرجع نفسه، ص، 138

[xxxii]) التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة، الليلة الثامنة عشرة، ص، 190

[xxxiii]) التوحيدي، نفسه،الليلة السادسة، ص، 70.

[xxxiv]) التوحيدي، الليلة الثالثة والعشرون، ص، 225

[xxxv]) التوحيدي، الليلة السابعة والعشرون، ص، 264.

[xxxvi]) التوحيدي، الليلة التاسعة والعشرون، ص، 287.

[xxxvii]) التوحيدي، الليلة الثانية والثلاثون، ص، 331.

[xxxviii]) التوحيدي، الليلة الخامسة عشرة، ص، 150

[xxxix])التوحيدي، الليلة الأولى، ج، 1، ص، 22.

[xl]) أبو الفرج المعافى النهرواني، الجليس والأنيس، ج، 3، ص، 359.

[xli])الجليس والأنيس، ج، 3، ص، 359

[xlii]) سعيد يقطين، مرجع مذكور، ص، 135

[xliii]) الجليس والأنيس، ج، 1، ص، 321.

[xliv] ) عبد الفتاح يوسف، سيميائيات الثقافة والذات في خطاب الإشادة، مجلة فصول، الهيئة العربية العامّة للكتاب، ع، 91، 92، القاهرة، 2010، ص،269.

[xlv])الجليس والأنيس، ج، 1، ص، 321

[xlvi])المصدر نفسه، ج، 1، ص، 321

[xlvii])المصدر نفسه، ج، 2، ص، 36.

[xlviii]) عبد الله إبراهيم، موسوعة السرد العربي، المؤسّسة العربية للدّراسات والنشر، بيروت، طبعة جديدة موسّعة، 2008، ج، 1، ص، 200.

[xlix])الجليس والأنيس، ج، 2، ص، 37

[l])الجليس والأنيس، ج، 2، ص، 36

[li]) عبد الله إبراهيم، المرجع نفسه، ص، 199

[lii])رنيه ديكارت، تأملات ميتافيزيقيّة في الفلسفة الأولى، ترجمة، كمال الحاج، منشورات، عويدات، باريس، ط، 4، 1988، ص، 74

[liii]) محمود طرشونة،  الهامشيون في المقامات العربيّة وروايات الشطّار الإسبانيّة،(أطروحة دكتورا دولة) ترجمة المؤلّف، مراجعة، محمد قوبعة، دار سيناترا، المركز الوطني للترجمة، تونس، 2010، ص،  425.

[liv]) بيل أشكروفت وآخريْن: الردّ بالكتابة، النظرية والتطبيق في آداب المستعمرات القديمة، ترجمة، شهرت العالم، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، ط، 1، 2006، ص، 178. 

[lv]) عبد الله إبراهيم، العين الاستعمارية(مقال)، جريدة الرياض، السعودية، 12 مارس، 2016.

[lvi])لوسيان غولدمان، المرجع نفسه، ص، 36

[lvii]) محمد خطابي، لسانيات النصّ مدخل إلى انسجام الخطاب، المركز الثقافي العربي، ط، 1، بيروت، 1991، ص، 61.

[lviii]) بالمر، المرجع نفسه، ص، 61.

[lix] ) طه عبد الرحمان، اللسان والميزان أو التكوثر العقلي، المركز الثقافي العربي، ط، 1، الدار البيضاء، المغرب، 1998، ص، 216.

[lx]) أبو حيان التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة، ص، 5.

[lxi])ياقوت الحموي، معجم الأدباء، دار الغرب الإسلامي، تحقيق إحسان عباس، ط 1، 1993،ج6، ص2702

[lxii] ) عبد الله إبراهيم، المتخيّل السّردي، مقاربات نقدية في التناصّ والرؤى والدلالة، المركز الثقافي العربي، ط،1، بيروت، 1990، ص، 116.

[lxiii](Fontanier Pierre: Les figures du discours. Ed. G. Flammarion. 1977.p. 146

[lxiv](Mueck D.C. Irony and the ironic. Ed.Nethuen. London. New york. 2end. Ed. 1982. P. 4

[lxv]) المصطلح لجان كلود شميث، مرجع مذكور، ص، 436.