(مالم تمسسه النار) عنوان رواية الروائي القدير عبد الخالق ألركابي الصادرة عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» في طبعتها الأولى عام 2016 والمؤلفة من 271 صفحة، هي رائعة جديدة من سلسلة روائع الأديب الكبير الركابي. العنوان في المتن إشارة إلى ما تبقى أو افلت من الحرق من «الدفتر الأسود» سجل أحداث الرواية المكتوبة بقلم الراوي على لسان «نديم اسكندر بيك» الشخصية المحورية في الرواية سليل العائلة التركية الثرية الإقطاعية عائلة «اسكندر بيك»، حيث قام بإحراق هذا السجل قبيل انتحاره، لولا أن تمكن من إنقاذ المتبقي منه من قبل صديق نديم الحميم/ عيسى/ من سكنة مدينة الثورة الجوادر وهو احد أقرب أصدقاء نديم.
«انه دفتر قديم، متسخ وملوث بالرماد، يبدو وكأن النار شبت في أطرافه، فلوت أوراقه وجعدتها بعد إن أجهزت على العديد منها» ص9 «عيسى» الذي آوى «نديم» بعد خروجه من الشماعية على اثر تسيب نزلائها وإهمالهم من قبل السلطة وموت اغلبهم جوعا وعطشا، واستضافه في داره في الجوادر ورعايته حتى موته منتحرا بالتهامه كمية كبيرة من الحبوب، علاجه في المستشفى قبل خروجه، وإقدامه على حرق «سجله الأسود» الذي أنقذ عيسى بقاياه واحتفظ به لديه لحين تسليمه إلى الراوي وهو ضالته الكبرى، وهي دلالة على طيبة ووفاء ونقاء هذه الشريحة الاجتماعية رغم فقرها، كما إنها دلالة على كون هذه الطبقة هي حاملة وحامية التاريخ الحقيقي، ناهيك عن كونها الفاعل الحقيقي في أحداثه وتغيراته.
العنوان يحيل إلى ما هو أبعد من ذلك؛ فعلى الرغم من البانوراما الروائية التي شملت الكثير من الطبقات والشرائح الاجتماعية، وفي فترات تمتد لعقود من السنين، لكن هناك ما لم يتمكن من الاحتفاظ به وقد التهمته نيران الذاكرة ونيران الحروب وضيعته السجون وظروف التقشف والتشرد، ويد السلطات ورواتها المزيفون، وسطوة قوى الاحتلال، مما يؤكد للقارئ والمؤرخ وللأديب أن هناك الكثير لم يزل في خانة المستتر أو ما هو ضمن رماد الحرائق، وقد كان الكاتب موفقاً تماماً، وأميناً مع ذاته وصادقاً مع القارئ في المقدار الذي تمكن من كشفه أمامه من حالات تاريخ وحراك وطبيعة المجتمع العراقي وتحولاته في مراحل مختلفة منذ الاحتلال العثماني وحتى الاحتلال الأمريكي.
ولا شك أن الكتاب أو السجل أو الدفتر، يوصف بـ(الأسود) دلالةً على المآسي والظلام والكوارث على مستوى الأفراد أو على مستوى البلاد، فيختزل الكاتب بذلك الحاجة للإشارة إلى مدى عمق مأساة العراقيين على مر عقود من الزمان من احتلال إلى احتلال وفيما بين احتلال واحتلال ، فالسواد هو السائد في (أرض السواد)!
طبقة اجتماعية عليلة ومأزومة:
يشير الكاتب إلى أن (نديم) ابن (اسكندر بيك) ورث عن أبيه مرض (الصرع) بالإضافة إلى الثروة والجاه، وربما ورث أبوه المرض عن جده، وهم من موالي العثمانيين ودولتهم المريضة التي تناهشتها الدول العظمى، وخصوصا بريطانيا وفرنسا، وقد عرّف الأطباء هذا المرض بأنه: «اعتلال في الدماغ أو المخ حيث يحدث خلل في وظيفة خلايا الدماغ والخيوط العصبية فيصدر عنها موجات كهروكيمائية مفاجئة تسبب خللاً في وظيفتها قد تكون على شكل خلل سلوكي، اضطراب نفسي، اضطراب حسي، فقدان الوعي أو تشنجات عضلية، وقد تكون محددة في أجزاء معينة من الدماغ أو شاملة. وتشير العديد من الدراسات الطبية والتاريخية أن العديد من الشخصيات المصابة بهذا المرض تتميز بالحس الفني المرهف أو بالذكاء المفرط ومن أمثالهم: نابليون القائد العسكري الفرنسي المعروف، وكذلك الروائي الروسي العظيم فيودور دستويفسكي، والفرد نوبل صاحب الجائزة العالمية حيث تذكر المراجع إنهم مصابون بالصرع».
فالشخصية المركزية في الرواية هي شخصية (نديم اسكندر بيك)، كان يتميز بحساسية كبيرة ، وذكاء مميز، وحس فني فطري، بدلالة قدرته على عمل تماثيل تمزج بين الفطرية والحداثة، غريبة الأشكال تلفت النظر، استطاع أن يصقلها متمرناً على يد زميله في الشماعية النحات الفطري (حكمت الكردي) والذي قال عنه (نديم): «كان من المحال عليّ مواصلة الحياة في المستشفى خلال تلك الشهور المعدودة لولا صداقتي لذلك النحات الفطري (حكمت الكردي) الذي كان يستلهم – دون أن يدري بطبيعة الحال – طريقة النحات العظيم مايكل أنجلو» ص 58. كذلك قدرته على عمل نموذج مصغر من مطحنة والده بعد مشاهدتها مرة واحدة، وقد كان نموذجا أدهش جميع من شاهده في حديقة المنزل، وكانت له قدرة غير عادية على التنبؤ بالأحداث والفواجع القادمة.
فهذه الشخصية التي عاشت في ظرف مرتبك وفي بيئة غير متوازنة، ورث عن والده الثراء، والصرع، والسوط، وتاريخ غير مشرّف وفضائح يعلمها القريب والبعيد. فهذا الشاب المصروع الذي ولد وفي فمه ملعقة من ذهب كما يقال، لأن والده ورث عن والده أملاكا وعقارات وإقطاعيات مترامية الأطراف، عن طريق ارتباطه بالاحتلال التركي العثماني للعراق آنذاك، حيث وهبوا قومهم وأنصارهم ضياعاً واسعة، وهؤلاء قد استحوذوا على مساحات واسعة من الأراضي دون حساب، قد تميز بحالة من الانطواء على الذات والانعزال منصرفا بالكامل إلى ولعه للعب بالطين وعمل التماثيل، أو القراءة، هذه الهواية التي جرت عليه الكثير من الويلات ولاسيما من قبل والده الذي ضبطه وهو يطالع كتبا يعتبرها الوالد ممنوعة على أمثاله مثل كتاب (ألف ليلة وليلة) وما عداها من الكتب التي تتحدث عن الجنس والممارسات الجنسية واحتوائها على عبارات فاضحة وإباحية، وهنا يظهر مدى ازدواجية مثل هذه الشخصيات؛ ففي الوقت الذي يبح لنفسه ممارسة هذا الممنوع يقمعه عند أولاده وعائلته.
تتميز هذه الطبقة بشراهتها في جمع الأملاك وجمع المال، بالإضافة إلى أنانيتها، وحبها للسيطرة والهيمنة على كل شيء وإقصاء المنافس بشتى السبل والأشكال ومنها قوة القهر والقتل والسجن والتشريد، وقد تمثلت هذه النزعة بسوط (اسكندر بيك) الذي ورثه عن أبيه والذي أوصاه بان لا يتخلى عنه عندما يعجز عقله عن حل إشكالية ما مع فلاحيه أو التابعين له : «عليك الاستعانة بهذا السوط في إدارة أملاكك حينما لا يعينك عقلك في ذلك» ص 180 حيث لم يفارقه السوط حتى وهو يتجول على عربة المعوقين بعد إصابته بالشلل.
الســــــــــــــــــوط :
رمز الوسيلة القهرية الذي اعتمدته هذه الطبقة الهجينة من البرجوازية الطفيلية والإقطاع وبقاياه الذي اصطلحنا عليها بـ(الاقطوازية)، وهي الطبقة السياسية الحاكمة المأزومة دوماً، والحاملة لكل أمراض هذه الطبقات من الجهل والطمع والقسوة والتبعية لأسيادها من عثمانيين أو انكليز أو أمريكان منذ ولادة الدولة العراقية ولحين التاريخ. وهي وليدة الشرذمة الطبقية في مثل هذه المجتمعات والدول الريعية الاستهلاكية غير المنتجة، حيث قمعت البرجوازية الوطنية المنتجة بفعل التدخل الاستعماري وقطع حلقة التطور الاقتصادي التقليدي، وبالتالي ضعف النقيض القوي من الطبقة العاملة المنتجة، وتبعية وضعف الطبقة الوسطى لكونها طبقة مصنعة من قبل الدولة الريعية لإدارة شؤونها، وليست وليدة النمو الاقتصادي والسياسي الطبيعي التقليدي كما في المجتمعات الصناعية المتطورة، حيث كان لهذه الطبقة دور تنويري مشع باتجاهين الطبقة البرجوازية الحاكمة والطبقة العاملة وعموم الكادحين الطبقة النقيض.
لا نريد أن نسهب في هذا المجال، ولكننا أردنا أن نوضح طبيعة الصراع المزمن وغير المحسوم للطبقات السياسية الحاكمة في العراق وتوالي الانقلابات والصراعات الدموية بين نفس مكونات (الاقطوازية) المرتبط حبلها السري برحم الرأسمالية العالمية مما أدام أزمة الهيمنة الطبقية في الحكم، وبدعم التخادم مع الدول الاستعمارية الكبرى، وبقاء الاقتصاد الريعي منتقلا من الأرض إلى النفط بفضل (نقمة) الثروة البترولية الهائلة، التي تحولت إلى بساط من نار ودمار تحت أقدام عموم العراقيين بدلا من أن تكون بساطاً من ذهب وحرير من أجل الرفاه والحرية والتقدم بفعل جشع الشركات البترولية الاحتكارية وأدواتها من الطبقة الحاكمة المحلية.
إن هذا السوط هو ما فجر الصراع العنيف بين الابن (نديم) ووالده (اسكندر بيك)؛ لأن هذا الابن حاول تمزيق قناع والده وفضائحه بالاطلاع على تاريخ ضحاياه ومنها تاريخ خادمته المغتصبة (فردوس) وابنتها سفاحاً (هاجر)، حينما عثر الوالد على (الدفتر الأسود) وملاحظات ولده حول هاتين الامرأتين، وهذا ما لا يمكن أن يسمح به، لأن فيه كشف النقاب عن وجهه الكريه وتمريغ هيبته وغطرسته المزيفة، وتمزيق قناعه المهلهل بالشرف والفضيلة حتى وإنْ كان ولده لا يقصد ولا يعلم بمدى علاقة والده بـ(فردوس وابنتها سفاحاً هاجر)، فاستل سوطه كما هو حال طبقته في التعامل مع من يكشف زيفه، وألهب به وجه ولده الذي دخل معه في صراع ضارٍ أدى إلى سقوطه بسبب إصابته بنوبة قلبية مفاجئة. وهو مصير هذه الطبقة على طول الخط بسبب المرض والعجز الكامن في بنيتها كما ذكرنا آنفاً.
ولكن هل هذا الفعل من قبل الابن، والرغبة في تجريد والده من سوطه القاسي يعني أن الجيل الوريث لهذه الطبقة سينتصر لقيم الحرية والجمال؟ إن فطنة ووعي الكاتب وموضوعيته تجيب بلا! حيث إن الابن حمل والده على عربة المعوقين وسوطه في حجره بطلب من أمه التي أرادت لزوجها أن يحتفظ بوسيلة بطشه رغم إنها إحدى ضحاياه، وخضوع (نديم) لإرادة أمه كونه وأمثاله أعجز من أن يكونوا مشاعل للحرية ورفض الظلم والظلام، مما له دلالة على دوام البطش والتسلط ضد الفقراء والمعدمين وجمهور الفلاحين في إقطاعيات أبيه حتى وهو مشلول فلا زال هناك من يدفع عربته ويضع طربوش عليائه على رأسه. «تنقّل لحظات بنظراته بين الطربوش المنتصب على رأس أبيه والسوط المهمل في حضنه مستعيدا بلمحة خاطفة تاريخ سلالة أجداد عثمانيين فرضوا سطوتهم على آلاف الناس بهاذين الرمزين» ص 210
كذلك فإن (نديم) بدل أن يسعى لإنصاف ضحايا أبيه ومنهم أخته (اللاشرعية) هاجر من خادمة أبيه المغتصبة (فردوس)، فإنه يتابعها ويتربص بها شراً محملاً إياها ما أصاب أباه من الشلل فهي عار العائلة: «لن أغفر لهاتين المرأتين، فهما السبب الحقيقي لكل ما حصل بيني وبين أبي» ص 212
فكمن لـ(هاجر) عند شريعة النهر ليقوم بقتلها غرقاً، متوهماً أنه بذلك أفلح من ستر فضائح أبيه والتخلص من كل ضحاياه وكتم أصواتهم للأبد، وقد انبرت له أمه ببذل المال والجاه لغرض تبرئته من جريمته الشنيعة هذه، رغم أنها تعرف تماماً مدى إجرام الأب والابن وأن (هاجر) وأمها محض ضحايا أبرياء، وبذلك نرى دوام تذبذب وعنف ولا إنسانية هذه الطبقة، ودوام أزمتها النفسية والروحية وهي تحمل تناقضاتها وتشظياتها التي لا تنتهي، فيؤدي به الحال أخيراً إلى الانتحار. إنها طبقة محكومة بالفشل والموت والتقهقر إن آجلا أو عاجلا، وهذا أمر مرهون بعوامل داخلية وخارجية وما إقدام الديكتاتور على احتلال الكويت ومحاربة (33) دولة كبرى إلا شكل من أشكال الانتحار جرت عليه وعلى الشعب والوطن الويلات التي لا تنتهي فكان الحصار والاحتلال والفوضى العارمة فتحققت نبؤه (نديم): «الشماعية امتدت وستمتد أكثر وأكثر لتسع كل شيء ... كل شيء» ص 254
وها نحن نعيش الآن في شبه جنون غير مسبوق، حرائق وإرهاب وفساد وتشرد وجوع في كل مكان على طول البلاد وعرضها منذ انتحار واندحار الديكتاتورية ولحين التاريخ. «تخيل وجود ناس عقلاء يهاجمون مستشفى يؤوي ناسا فقدوا عقولهم لأجل السرقة.
الشيوعيون في طليعة ضحايا (الاقطوازية) الحاكمة:
الصدف هي التي حكمت بإيجاد علاقة بين (نديم) وبين المنفي السياسي المثقف الشيوعي (فريد عمران) كانت إحدى المصائب التي حلت على رأس هذا الشاب، حيث أعاره ذلك عدداً من كتبه حينما التقاه مصادفة في المقهى التي يرتادها المنفيون عادة، ومنها طبعة تجارية لرواية (الجريمة والعقاب) لدستويفسكي، وهي إشارة من الروائي إلى واقع ذلك الوقت حيث يقبع خيرة المناضلين والمثقفين العراقيين، ولاسيما الشيوعيون في السجون والمنافي على طول الوطن وعرضه، مما جعلهم، رغم هذه الحواجز، بؤرة إشعاع فكري وثقافي كبير، أينما حلوا حتى وإن كانوا في السجون والمنافي، وهذا يذكرني برواية رائعة للروائي هشام توفيق الركابي بعنوان (المبعدون) وهي تحكي أيضا حال المناضلين في السجون والمنافي ولاسيما في بدرة التي كانت من المنافي الرئيسية آنذاك للمناهضين للحكومات وخصوصاً من الشيوعيين واليساريين عموما. وقد أشار الروائي إلى هذا الدور الهام لهؤلاء المناضلين في مقاومة الظلم والقبح وانتصارهم للكادحين من عمال وفلاحين ومقاومتهم للاستعمار الانكليزي، وما حدث من حالة فوضى وصدام بين الشرطة وأنصار فريد عمران أثناء عرض فيلم يشيد بالاستعمار الانكليزي ويستعرض احتفال تسلم الملكة (إليزابيث الثانية) لمقاليد المملكة، معرجاً على الصدفة التي كان (نديم اسكندر) حاضرا للتفرج على هذا الفلم في السينما السيارة وبالتالي استدعائه إلى مركز الشرطة، وغضب والده عليه رغم انه ليس طرفا في ما حدث.
ولم يغفل الروائي الإشارة الايدولوجية المناهضة لليسار والمزيفة للحقائق ولأهداف الشيوعيين وما يريدونه من نضالهم ضد القهر والاستغلال ليظهر هذا الادعاء الزائف والمضلل على لسان (إسكندر بيك) حيث يقول لولده نديم محذرا إياه من الشيوعية والشيوعيين: «أنهم يعملون إلى أن يجردوني – انأ والدك – ليس من حقولي وبساتيني ومطحنتي وبيتي فحسب، بل حتى من هذه السكين والشوكة اللتين بين يدي. لأني إقطاعي، وانك بالتالي سليل إقطاعي، ولذا يفترض بهم تجريدك من كل شيء ... كل شيء حتى من دشداشتك هذه» ص66 وللأسف هذا الفهم الخاطئ لأهداف الشيوعيين والخلط المتعمد بين مفهوم الملكية الشخصية كالدار، والسيارة، وأثاث البيت وما إليه من ممتلكات حياتية شخصية، وبين ما يقصده الشيوعيون من الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج المؤدية حتما إلى الاستغلال للعمال عن طريق العمل المأجور، ناهيك من وصم الشيوعيين من أنهم يناصبون نواميس السماء العداء، رغم أنهم الأكثر التصاقاً بالأرض وهمهم منصب على ما يجري على الأرض من حالة القهر والاستغلال.
كما أن الكاتب أشار إلى رجحان كفة السلطة وأعوانها من القوى الرجعية والمحافظة من الاقطاعيين وبعض ادعياء الدين والتدين، ضد قوى اليسار والشيوعية وانصارهم في بدرة خصوصا حيث استطاعت الشرطة قمع أصوات الاحتجاج ضد الاستعمار البريطاني وصنائعه في المنطقة اثناء عرض فلم تنصيب اليزابيث الثانية، وكذلك رجحان كفة امام الجامع ومن اسنده ضد دفن الشيوعي المصعوق بالكهرباء في مقبرة المدينة بدعوى كونه ملحداً ولا يجوز دفنه في مقابر المسلمين، فاضطر رفاقه وانصارهم إلى دفنه على قمة تل منفرد، وهي إشارة واضحة إلى طبيعة الصراع والحراك الاجتماعي آنذاك زمن الحكم الملكي للعراق.
هذه الشخصية (نديم اسكندر بيك) أغرت الكاتب الروائي العليم بكتابة رواية غير تقليدية تتجاوز ما درج عليه من أساليب كتابة الروايات السابقة، باقتراح وإلحاح ومتابعة صديقه (زاهد سلمان)، هذا الراوي العليم وهو موظف بسيط يعمل في إحدى المجلات الحكومية في بغداد وهو من أصول عائلة (بدراوية) غالبا ما يدفعه الحنين إلى زيارة مهد طفولته وصباه، قبل أن يغادرها إلى بغداد العاصمة، كان مرة مختارا ومرة مجبرا تحت تردي الظروف الأمنية في العاصمة عقب احتلال الكويت سنة 1990 وما نجم عنه من اندلاع حرب (عاصفة الصحراء) سنة 1991
وهذا ما جعل الراوي يتابع حياة وحكاية هذا (النديم)، رغم كونه غريمه بعدما تمكن من سلب (بتول) حبيبته وقريبته وموقظة حسه الذكوري وتزوجها، تحت تأثير سطوة عائلته من حيث الثراء والنسب، وسطوة العلوية والدته على عائلة (بتول)، مما أتاح له إمكانية مرافقة نديم ومحاورته والاطلاع على بعض أسراره ... مرة بدعوة من (نديم) ورغبته في توثيق معاناته في رواية، وأخرى بطلب من (بتول) للبحث عن التفتيش عن زوجها (نديم) على أثر تسيب محتجزي الشماعية بعد القصف الأمريكي لبغداد أثناء حرب (عاصفة الصحراء)، مما مكنه من مكاشفة نديم برغبته في كتابة رواية يستعرض فيها تحولاته ومعاناته وسلوكياته الحياتية عبر محطاتها المختلفة، الطفولة، والمراهقة والشباب، والسجن، ومكوثه في (الشماعية)، على الرغم من تردد نديم الشديد في كشف محتويات (سجله الأسود) أولاً، وثانيا إصراره أن يشارك الكاتب غلاف روايته كمؤلف شريك كما لاحظه في رواية (عالم بلا خرائط). وقد قبل الكاتب مضطرا على هذا الطلب، سعياً منه لإنجاز روايته المنتظرة.
فان عجزت (الاقطوازية) عن كتابة تاريخها فهي تجبر المثقف المبدع أن تكون شريكها في إبداعه بالرغم عنه. فكان للكاتب عين لاقطة وفطنة كبيرة في إلقاء الضوء على الكثير من الشخصيات والأحداث والأماكن عبر مسيرة عائلة (اسكندر بيك) وابنه (نديم)؛ فكانت الشخصيات الفرعية للرواية تتألف من:
أولا: بتول، وفردوس، وهاجر، وهن نماذج للنساء المستلبات ضحايا المجتمع بتركيبته الشبه إقطاعية وتحت سطوة الحكام الديكتاتوريين وحواشيهم من المتنفذين طوال العهد العثماني والانكليزي والجمهوري وما بعده وبعد الاحتلال الأمريكي، فان لم يكن الأمر أسوأ مما كان عليه لم يكن أفضل بالمرة، حيث جعل الكثير من (التقدميين) واليساريين يتحسرون على عهود ماضية فارتضوا أن يطلق عليهم مصطلح (الرجعيين) وهم كانوا من اشد أعداء الرجعية عندما كانوا يحلمون بعصر الرخاء والحرية والتقدم، وليس بعصر الحريم والفساد والإرهاب والارتهان للإرادات الدولية المتصارعة. وقد كانت هذه النماذج وغيرها إحدى اهتمامات بحث ( نديم بك) واضمامة دفتره الأسود، حيث كانت احصائياته تدل على عدد المنتحرين من الرجال يساوي عددهم من النساء في بدرة مع اختلاف الوسيلة فالرجال ينتحرون بشنق أنفسهم، في حين تعمد النساء إلى الانتحار حرقاً في أوساط الطبقات الشعبية المسلط عليهم سوط السلطة وسوط الإقطاعيين وسوط التقاليد الاجتماعية المتخلفة: «تقارب عدد المنتحرين من الرجال إلى المنتحرات من النساء، وكان الرجال يتخذون أسلوب شنق أنفسهم في الغالب على العكس من النساء، وكن يفضلن إحراق أنفسهن بالنار» ص109
وقد وصف حالة انتحار إحدى النساء المأساوية حرقا وأمام أنظار الجميع، ما يراد به أن القهر والاستعباد موجه ضد الجنسين ولا فرق بين الرجل والمرأة وأن كانت حصة المرأة أكبر في ذلك الزمان وهذا الزمان وقد اهتم (نديم) بمتابعة العواهر والمشردات في بلدته مما دله على (فردوس) و(هاجر)، وعلى الكثير من الشخصيات الغريبة ومن الأشقياء ووو.
ثانيا: هوبي، غريب، وأضرابهما من الشخصيات التابعة كتبعية الكلب إلى سيده مسلوبة الإرادة مجبولة على الإذعان والعبادة لأسيادها في ظل مجتمعات الاستلاب والقهر، وهي شخصيات أخذت بالتزايد عبر العقود بحيث أصبح وجودهم ظاهرة واضحة للعيان في ديكتاتورية الفرد القائد الضرورة وفي عصر الديمقراطية أكثر من أي وقت مضى. إنهم القطيع المهووس بالقائد و(الهارب من الحرية) على حد تعبير اريك فروم.
ثالثا: حكمت الكردي النحات المبدع «لم أحول الحجارة إلى طائر، بل أطلقت سراح الطائر الذي كان حبيس الحجر» ص 43 وغافل أبو الحشيش نماذج للإنسان العراقي النشيط والمبدع المتهم بالجنون والمودع في الشماعية «مثل العديد من المرضى الذين يأتي بهم ذووهم إلى هنا لا لعلاجهم بل للتخلص منهم» ص172. وهنا إشارة واضحة إلى مدى فعل الظروف المعاشية الصعبة التي أدت إلى تجريف القيم الإنسانية لدى العديد من العوائل العراقية مما اجبرها للتخلي عن الأب والأخ وإلام والأخت وحتى الأبناء، تحت ضغط العوز والفاقة.
محنة المثقف طواعية بناءً على عدم قدرته على التأقلم مع الواقع السلطوي والمجتمعي القائم أو جلب بقوة القانون لإطفاء جذوة فطنته وذكائه في الشماعية، ولنا في مختلف الحقب الجمهورية والديمقراطية الكثير من الأمثلة على هذا الحال ووجود مثل هذه العقول العبقرية الفذة التي ادعت الجنون للخلاص من قهر السلطات وملاحقاتها وعصفها ولنا في الراحل الكبير (خضير ميري) وغيره خير مثل على ما نقول، ناهيك عن من سلك طريق الصعلكة وادعاء العته والجنون وركب قصبة (البهلول) ليتمكن من امتلاك حريته بالإضافة إلى نقده اللاذع للسلطة.
محنة المثقف في زمن الديكتاتوريات والديمقراطيات الزائفة:
زاهد سلمان، وأبو ربيع نعيم الشطري، والكاتب، وهي نماذج من المثقفين العراقيين الغير متزلفين للسلطات والحالمين بالحرية والتقدم لشعبهم والباحثين عن الجلال والجمال، نراهم يعيشون حالة من التشرد والفقر وشظف العيش فيضطرون على بيع كتبهم للحصول على لقمة العيش بعيدا عن سطوة الحزب والسلطة: «الكتب فقدت أهميتها لقاء لقمة الخبز، المثقفون يعرضون كتبهم بالجملة للبيع» ص 14 وكم كان زاهد سلمان بارعاً في تمثيل دور المسئول - وهو خريج أكاديمية الفنون الجميلة - ودخول الشماعية هو والراوي وصديقهم (أبو سارة) للبحث عن (نديم بيك) ومن ثم الاستدلال عليه عن طريق (رجب) مختار الشماعية كما وصفوه.
ياسر، ميسور الحال دوماً والباذخ دوما نتيجة قدرته الكبيرة على التلوّن والحربنة والتسول الأخلاقي والثعلبة في مختلف الظروف والأحوال، وهذه ظاهرة كانت وقد استفحلت في عصرنا الراهن، حيث أصبحت ظاهرة وهو الشاطر الفهلوي القادر على مسح الأكتاف وهز الأرداف وتقبيل الأيدي أو عضها وحسب متطلبات حال القوة والضعف، فقد خلع الربطة الحمراء وارتدى الزيتوني ثم خلع الزيتوني ولبس العمامة وأطلق اللحية والعكس صحيح، فلا حدود ولا موانع ولا مبادئ أمام المصلحة الشخصية.
رجب/ مدعي الفلسفة والتبحر في الأدب والثقافة المتطفل الدائم على من يحتاجه أو يطلب مساعدته، رجب من يستطيع كل ظرف مهما كان للحصول على المال وتمشية أمور حياته، وهو يتأبط كتابا على طول الخط متصيدا فرائسه في كل محفل ومكان بما فيها (الشماعية) ومن ضمنهم (نديم بيك) وأمثاله. كذلك لا يمكن إغفال قدرة الكاتب على توصيف وتعريف القارئ على الشخصيات من حيث المظهر والجوهر الذي يناسبها، وهو لا ينسى توصيف الأمكنة والحارات والشوارع وحال المؤسسات، سواء في مدينته بدرة أو في بغداد العاصمة.
إننا، وأثناء قراءة الرواية هذه وغيرها من روايات المبدع الكبير عبد الخالق ألركابي، نشم ونرى خيال شخصيات (دستويفسكي) بتنوعها وعمقها وحقيقية وجودها في المجتمع العراقي، وهنا لا نريد أن نقول بوجود تناص بين الركابي ودستويفسكي، ولكننا نريد أن نشير إلى عبقرية عبد الخالق ألركابي روائياً بلغ العالمية في قدرته وحنكته وهندسته الروائية المبدعة.
ولا نرى أن بنا حاجة للحديث عن رصانة الحبكة الروائية والأسلوب السردي المشوق والكلمة الدالة الرشيقة المعبرة التي كتب بها الركابي روايته، فهو الكاتب القدير المحترف المبدع؛ فليس غريباً عليه وعلى أمثاله مثل هذه القدرات الفائقة في إتقان السرد الروائي والملم بشروطه وأدواته. ولا يسعنا في الختام إلا أن نستشهد بتعريف جان غوستاف لو كليزيو للرواية المبدعة ومنها روايتنا محل الدراسة (ما لم تمسسه النار) للركابي القدير: «تقوم الرواية على قدر من اللايقين والتساؤلات وإعادة النظر. إنها قريبة من لا اكتمال الحياة، والرواية جنس تعبيري للحاضر، أنها وصف لحالة العالم والمجتمع والذات، وبهذا المعنى فهي تلائم تماما عصرنا، الذي هو عصر شك وعدم تيقن من المستقبل» ص40 الرواية العربية ورهان التجديد محمد برادة.