أثناء الحرب الباردة، حين كان العالم ينقسم إلى معسكرين متناقضين في الأيديولوجيا وأنماط الحياة، دأبت الولايات المتحدة الأمريكية ومعها بعض دول غرب أوروبا على رصد ميزانيات ضخمة للتأثير على الرأي العام في دول الاتحاد السوفيتي السابق، ودول المعسكر الاشتراكي في شرق أوروبا، بهدف اختراق البنية الثقافية والاجتماعية لإحداث تغيير في البنية السياسية وأشكال الحكم في تلك الدول، واستعانت الولايات المتحدة لأجل ذلك بالأقمار الصناعية وكل أشكال التجسس، وكذلك وظفت عشرات الأقنية التلفزيونية والمحطات الإذاعية التي كانت تبث برامج حصرية لشعوب الدول الاشتراكية، تظهر شكل الحياة الديمقراطية المبهج في الغرب.
وظلت هذه السياسة قائمة لا تتغير مع تغير أحد الحزبين الحاكمين في الولايات المتحدة، كإجراء ثابت في سياسة أمريكا الخارجية، بل على العكس فقد توسعت وتطورت اشكال تدخل الولايات المتحدة في العالم، فقد ابتدع الرئيس الأمريكي السابق رونالد ريغان في بداية ثمانينيات القرن الماضي ما سمي مشروع بناء البنية التحتية للديمقراطية في الدول النامية، واعتبر حينها نمط جديد في محاولة هيمنة أمريكا على العالم.
بعد تفتيت الاتحاد السوفيتي وانهيار المعسكر الشرقي برمته وانفراد الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة العالم بوصفها القوة الوحيدة القادرة على فرض أنماطها الثقافية بالقوة الاقتصادية والهيمنة العسكرية، انتشرت المنظمات غير الحكومية في الدول النامية ومن ضمنها العالم العربي "Non-governmental organization" اختصاراًNGO منظمات خيرية، بيئية، منظمات حقوق الإنسان، وهي منظمات يجب أن تعمل بشكل مستقل عن الدول وعن المنظمات الحكومية، وأن تكون أطرا غير ربحية ويتم تمويلها من التبرعات غير المشروطة، وتعتمد بشكل أساسي على مجموعات عمل بشرية تعمل بشكل واسع في الكثير من الدول.
الولايات المتحدة الأمريكية التي سبق وأن وظّفت أجهزة مخابرات في بعض الدول العربية ودول المنطقة من أجل تأسيس البنى التحتية للديمقراطية بحسب المفهوم الأمريكي، عملت جاهدة لتوظيف بعض من هذه المنظمات غير الحكومية في خدمة أهدافها في المنطقة، وذلك من خلال استقطاب وتدريب ثم تجنيد قطاعات كبيرة من الشباب المتعلم في الدول النامية، فأصبحنا نلاحظ في منطقتنا نشاط عدد كبير من المنظمات غير الحكومية الممولة من الولايات المتحدة الأمريكية أو من دول الاتحاد الأوروبي. "الأراضي الفلسطينية وحدها تحتضن عددا كبيرا من هذه المنظمات بسبب أن القضية الفلسطينية تحتل أولوية خاصة عند دوائر اتخاذ القرار وصنّاع السياسة الأمريكية والغربية لحرصهم على أمن وسلامة اسرائيل، ومحاولة نشر ثقافة الأمر الواقع والتصالح وثقافة الطاعة والانصياع لدى الشباب".
وفي العديد من الدول النامية بما فيها الدول العربية والافريقية، وفي جزء من الدول الآسيوية وجنوب أمريكا، انتشرت هذه المنظمات الغربية وتوسع نشاطها وتعدّد ليلامس تقريباً كل شأن من شؤون حياة الناس، وأصبحت هذه المنظمات أدوات واذرع للدول الغربية في البلاد التي يوجدون فيها، ويقومون بإعادة رسم حياتنا، وإعادة تأهيلنا لإنتاج وعي جديد تماماً بالمعنى الحرفي للكلمة، كي يصار إلى قولبة هذه المجتمعات بما ينسجم مع مصالح وأهداف الغرب، عبر تدريب ومن ثم تجنيد الآلاف بل عشرات الآلاف من الشباب المتعلم في هذه الدول، والذي يمتلك قدرة التأثير المباشر على محيطه، أصبحنا نلاحظ وجود هذه المنظمات في كل شأن من شؤون الحياة العامة في الدول المستهدفة، العجيب أن نرى مؤسسة أمريكية مثل مؤسسة راند الأمريكية Rand Corporation والتي هي في الأساس مركز أبحاث وتطوير يقدم خدمات ودراسات للقوات المسلحة الأمريكية، مؤسسة راند هذه تم تكليفها من إحدى الدول العربية لإعادة صياغة المناهج الدراسية لتلك الدولة، في حين تقدم شركة بوز ألن Bozz Allen العالمية للاستشارات نصائح لتنظيم وزارة أوقاف دولة أخرى في المنطقة، ناهيك وعلى سبيل المثال لا الحصر عدم إجراء أية عمليات انتخابية في المنطقة دون حضور مندوبين عن مركز كارتر "The Carter Center" وكأن لا مشروعية لنتائج أي انتخابات لا تمنحها هذه المؤسسة الموافقة على نزاهة ونظافة العملية برمتها، بالرغم من أن كارتر نفسه الرئيس الامريكي الأسبق والذي يرأس هذه المؤسسة التي تحمل اسمه، هو نفسه كان قد دعّم بعض الديكتاتوريات في المنطقة، وساهم في إعادة رسم الخارطة السياسية للعالم العربي في أواخر سبعينات القرن الماضي.
حتى المؤسسات العسكرية والأمنية في الدول النامية لم تسلم من تدخلات هذه المنظمات غير الحكومية عبر التسلل من نظام المعونات الاقتصادية والعسكرية من الدول الغربية لتثبيت ركائز أنظمة الحكم القائمة، فتصبح هذه الدول رهينة أهواء ومصالح الغرب، أنتم تتلقون منا مساعدات سنوية بقيمة مليارات من الدولارات، إذن أنتم لا تستطيعون منع المنظمات غير الحكومية من العمل في بلدانكم، بل عليكم احترام وتسهيل عمل هذه المنظمات وإلا قطعنا عنكم المعونات، هكذا تجري الأمور بالمعنى المطلق للكلمة.
الطامة الكبرى مع لجان حقوق الإنسان، التي كانت المعزوفة المتواصلة للسياسة الخارجية الأمريكية والغربية أثناء الحرب الباردة في مواجهة الشيوعية وتقويضها في المعسكر الشرقي وتفنيد المنظومة الأخلاقية للدول الاشتراكية وتغيير أنظمة الحكم فيها. وقد استمرت حكومات الولايات المتحدة والغرب في استغلال شعار حقوق الإنسان كذريعة لقلب انظمة حكم قائمة، حتى بعد إنشاء منظمة العفو الدولية Amnesty International في العام 1961 بغرض الدفاع عن حقوق الأفراد بغض النظر عن الحقوق الجماعية، وتبنت المنظمة قضايا سجناء الرأي، "سجناء الضمير" الذين يعتقلون بسبب عقيدة أو فكر أو دين، ونجحت المنظمة في تسليط الضوء على كثير من قضايا القمع والاضطهاد الفردية، لكنها رغم ذلك كانت تخضع في عملها لمصالح وحسابات الغرب في ترتيب الأولويات حتى في القضايا الإنسانية. وفي العام 1978 تم إنشاء منظمة هيومن رايتس ووتش "Human Rights Watch" بميزانية ضخمة وإمكانيات كبيرة من أجل رصد خروقات الاتحاد السوفيتي السابق لاتفاقيات هلسنكي "Helsinki Convention" التي وقعت في العاصمة الفنلندية العام 1975 التي نظمت أسساً جديدة للأمن والتعاون بين الدول الأوروبية، والاتفاق على تطويق الأزمات، وترسيخ الأمن والاستقرار، وتغيير نوع العلاقات الدولية القائمة. ثم في سنوات لاحقة تطورت هذه المنظمة بشكل لافت وتم تأسيس فروع لها في القارة الأمريكية وآسيا في القارة السمراء ولاحقاً في منطقة الشرق الأوسط.
إن نشاط وعمل منظمة مراقبة حقوق الإنسان الدولية سالفة الذكر توسع ليشمل العالم بأسره، ولدى هذه المنظمة مراقبون في جميع الأماكن التي تشهد حروب وصراعات مسلحة، وكذلك في العديد من الدول التي تُعتبر ساحات ساخنة، إلا أنها للعجب نأت بنفسها عن كل ما يجري من انتهاكات صارخة من قبل اسرائيل بحق الإنسان الفلسطيني تصل إلى درجة جرائم حرب. وبالرغم من وجود آلاف التقارير حول دور المنظمات غير الحكومية وتحليل تأثير دور هذه المنظمات على المجتمع المدني على سبيل المثال في دول شرق أوروبا وأمريكا الجنوبية، إلا أنه يلاحظ تقريبا انعدام الدراسات والتحليلات المقارنة لمنطقة الشرق الأوسط في الغرب الذي يمثل المقر الرئيسي للغالبية العظمى من المنظمات الغير حكومية، وعادة ما تميل مراكز التحليل الغربية للنظر إلى منطقة الشرق الأوسط على أنها كتلة من الحكومات الاستبدادية المتحجرة يحكمها طغاة ظالمين بالوراثة، وبالرغم من صوابية هذه النظرة الاستشراقية إلا أنها تتميز بالإبهام والغموض ولا تستند إلى رؤية تاريخية، ولا تلحظ بعض المحاولات الإصلاحية التي أجرتها وتجريها بعض الدول العربية في خططها للتنمية، فبظني أن الشرق الأوسط ليس كله كتلة متجانسة، فعلى سبيل المثال هناك دول تعمل فيها أكثر من ألف منظمة غير حكومية، بينما لا نجد أثراً لها في دول أخرى نتيجة القوانين التي تمنع وجودها.
حسناً، لكن هل جميع المنظمات غير الحكومية هي منظمات تتسم بالنفاق وازدواجية المعايير ولا تهتم إلا بمصالح الدول الغربية؟ فيما يتعلق بالصراع العربي الاسرائيلي على سبيل المثال، لايمكن لهذه المنظمات أن تشير إلى الخروقات المتعمدة والمتواصلة من قبل الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة بحق الإنسان الفلسطيني بعيداً عن مصطلح "الموازنة" في التقارير التي تصدرها، وهذا يعني أن يتم وضع الجلاد والضحية في الإدانة ذاتها وفي التقرير نفسه، بذريعة ان رد الفلسطينيين على القصف والقتل التي تقوم به اسرائيل لم يكن موجهاَ ضد أهداف عسكرية، وكأن اسرائيل لا تستهدف البشر والحجر في حرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني.
ثم ان هناك نوع من ترتيب الأولويات بالنسبة لمعظم هذه المنظمات لجهة تبني قضايا دون أخرى، وهو في الغالب يخضع لمصالح وأهواء وعقائد القائمين على هذه المنظمات، فإن كان الموضوع على سبيل المثال لا الحصر يتعلق "بالمثلية الجنسية" تجد كل هذه المنظمات تتسابق في الدفاع عن هؤلاء الاشخاص، وتجعل من قضيتهم شغلها الشاغل، وتطلق أشنع التوصيفات على تلك الدول التي يوجد فيها مثليين مضطهدين، وتبدأ حملات المناصرة والتضامن معهم تنتشر في أرجاء الأرض، بينما نفس هذه المنظمات لا تحرك ساكناً اتجاه قضايا إنسانية أخرى. كما تقوم بنشر ثقافتها وفهمها للحقوق التي تنادي بها، إن المفهوم الأمريكي والغربي لواحد من أهم الحقوق البشرية التي تستميت في الدفاع عنه، وهو حق حرية التعبير، وهو فهم يحمل الكثير من النفاق والازدواجية، فبعض هذه المنظمات، الأمريكية منها خاصة لا تتبنى قضية عشرات آلاف المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، ولا حتى قضية عدد من سجناء الرأي الذين تعتقلهم بعض الأنظمة العربية إن لم يكن هناك حاجة لتوظيف قضيتهم في موضوع سياسي، أو إن كانوا معتقلين في تهم دعم نضال الشعب الفلسطيني، حينها لا نسمع لهذه المنظمات صوت.
ويظهر الوجه البشع لهذه المنظمات حين تعتبر أن العرق الأبيض أهم من بقية الأعراق الأدنى مرتبة، لذلك حين يتم لسبب أو لآخر اعتقال أمريكي أو اوروبي تقوم قيامة هذه المنظمات ولا تقعد، وتصبح قضية إطلاق سراح الإنسان الغربي أولوية تتقدم على غيرها من الأولويات مهما علا شأن القضايا الأخرى، هنا يصبح التضامن مع الرجل الأبيض أهم كثيراً من مناصرة معتقل آخر من عرق آخر.
جزء من هذه المنظمات يعمل على إعادة تعريف مفاهيم كثيرة في حياة الشعوب التي تعمل وسطها، وتحاول فرض المفاهيم والأجندة الغربية التي لا تخدم سوى مصالح الآخر، وهكذا مثلا نجد بعض هذه المنظمات غير الحكومية التي تنشط في الأراضي الفلسطينية، تحاول أن تفرض نوعا من المقاومة السلمية على الفلسطينيين في مواجهة آلة القتل الإسرائيلية، والنتيجة يصبح رمي الحجارة من قبل الشبان الفلسطينيين على آليات الجيش الإسرائيلي التي تقتل الفلسطينيين وتدمر بيوتهم وحقولهم، وتدمر حياتهم، يصبح هذا جريمة حرب! كل هذا يتم باسم الإنسانية والتعاون، الإنسانية نفسها التي تحاول عبرها الدول الغربية السيطرة على أماكن متفرقة من هذا العالم، هي نفسها الإنسانية التي اعتمدتها الولايات المتحدة الأمريكية في مقاربتها للعديد من قضايا العالم، وأدت هذه المقاربة إلى قتل وتشريد ملايين من الناس في بقاع مختلفة من العالم.
لكن هل جميع هذه المنظمات غير الحكومية شر خالص؟
بظني أن الجواب بالطبع لا، إن منظمة السلام الأخضرGREENPEACE التي نشأت العام 1971 عندما آمنت مجموعة صغيرة من المتطوعين الكنديين أن التغيير ممكن، فقاموا بالإبحار برفقة عدد من الصحفيين ومن الناشطين من كندا إلى ألاسكا، ليكونوا شهوداً عيان على التجارب النووية التي كانت تجريها الولايات المتحدة الأمريكية هناك، واليوم أصبح لهذه المنظمة الفاعلة أكثر من 40 مكتب في 40 دولة حول العالم، بجانب ثلاث سفن تجوب محيطات العالم لحماية البيئة، بدعم من ملايين المهتمين بحماية البيئة حول العالم.
وكذلك الأمر بالنسبة لمنظمة أخرى تاسست العام 1863 هي اللجنة الدولية للصليب الأحمر ICRC التي كان هدفها ومازال هو حماية ضحايا النزاعات المسلحة ومساعدتهم عن طريق نشاط مباشر في جميع أنحاء المعمورة، وتعمل على تشجيع تطوير القانون الدولي الإنساني وتعميق احترامه من قبل الحكومات وجميع الأطراف المتنازعة واحترام اتفاقيات جنيف. أيضاً الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر International Federation of Red Cross and Red Crescent Societies الذي تأسس العام 1919 ويضم 190 منظمة عضواَ من جمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر، وهو بذلك يعتبر أكبر منظمة إنسانية غير حكومية في العالم، ويوفر العون والمساعدة والإيواء والحماية لضحايا الحروب والكوارث الطبيعية بدون تمييز بسبب الجنسية، أو العرق، أو المعتقدات الدينية، أو الآراء السياسية، هذا ويُستخدم الهلال الأحمر بدلاً من الصليب الأحمر في العديد من الدول الإسلامية .
وهناك الكثير من المنظمات غير الربحية والتي تحظى بالمصداقية والاحترام وهي أكثر من أن يتم تعدادها هنا وإن رغبنا في ذكر بعضها للتدليل على على الفكرة, ومنها منظمة الإغاثة الإسلامية التي تأسست العام 1984 Islamic Relief Organization وكذلك منظمة أطباء بلا حدود Doctors without Borders Organization التي تأسست العام 1971 والمنظمة العالمية لمناهضة التعذيب World Organization against Torture وتأسست العام 1986، ومنظمة قرى الأطفال العالمية التي تأسست العام 1949 " "SOS Children's Villageوكذلك المنظمات التي تساعد اللاجئين في العديد من دول الاتحاد الاوروبي. ولا يتسع المجال هنا لذكرها، وكذلك المنظمات التي تهتم بإزالة الألغام الأرضية التي تخلفها الحروب وتتسبب في مقتل وتشويه الآلاف سنوياً، وبالطبع لن ننسى الدور الهام والطليعي التي تلعبه منظمات التضامن الدولي على اختلاف جنسياتها، وفي المقدمة تأتي لجان التضامن مع قضية الشعب الفلسطيني الوطنية في نضاله لاستعادة حقوقه وإقامة دولته المستقلة.
أخيراً، بالرغم من إيماننا العميق إننا أصبحنا نعيش في عالم سريع التغير، تقاربت فيه ثقافات الأمم وتداخلت فيما بينها، ولم يعد من الممكن أن نعيش منفردين، كما أصبحت الشعوب والأفراد والهيئات والدول تتأثر بشكل مباشر بجميع الصراعات السياسية وكذلك بكافة التحولات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تحصل في هذا العالم، إلا أننا نؤكد أيضاً بالمقابل على عدم فتح الأبواب على مصراعيها دون رقيب أو حسيب. في هذا السياق يمكن لبعض المنظمات غير الحكومية والتي لا تتبنى استراتيجية تخدم مصالح بعض القوى، من أن تلعب دوراً مهماً في مد يد العون والمساهمة في تطوير قطاعات ومفاصل متعددة في المجتمع، ونشر ثقافة التطوع، وحث الأفراد على المشاركة في التنمية المجتمعية، وكذلك توعية المجتمع لأهمية العمل الخيري الذي يعمل على سد العجز الناتج عن عمل القطاعين الخاص والعام، على أن لا يكون همها الأساسي هو البحث عن مصادر تمويل بعيداً عن الحاجة الحقيقية للمتطلبات المجتمعية، وكلما حافظت هذه المنظمات على استقلاليتها كلما كانت أكثر فاعلية وحظيت بالاحترام والمصداقية، خاصة في ظل العولمة الغير متوازنة، يمكن أن يكون هنا دور هذه المنظمات مؤثراً بما لها من مبادئ أخلاقية وإنسانية لوضع الضوابط الأخلاقية للعولمة، ونعتقد أن هذا الدور سوف يتسع في ظل العجز والشلل الذي تعيشه منظمة الأمم المتحدة والهيئات التابعة لها بسبب البيروقراطية وهيمنة بعض القوى الكبرى بما لها من نفوذ على هذه الهيئات التي تستعملها لخدمة مصالها على حساب بقية الدول، وليس أدل على ذلك مما يدور في مجلس الأمن على الصعيد السياسي، وسياسات صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة الدولية على الصعيد الاقتصادي.
شهدت الثلاثة عقود الأخيرة انتعاش مصطلح المجتمع المدني كتعبير عن عدة تنظيمات للعمل الطوعي في المجتمعات المعاصرة، نتيجة أزمة دولة الرفاهية في الدول الغربية، وجاءت الأحداث الصاخبة في دول أوروبا الشرقية في نهاية ثمانينات القرن الماضي لتسليط الأضواء على الدور الهام الذي لعبه المجتمع المدني في إحداث تغييرات مجتمعية جوهرية على طريق التحول الديمقراطي، فكيف سوف تكون علاقة الأنظمة الحاكمة في الدول العربية مع منظمات المجتمع المدني، وهل ستختار العلاقة القائمة على الثقة والشفافية والمصداقية والتكامل؟ أم سوف تترك لها فقط أن تقوم بملء الفراغ في القطاعات التي لا تهتم لها الدولة؟ أم أنها سوف تعتمد سياسة عقد شراكة مؤقتة مع هذه المنظمات نتيجة للأزمات المتعددة التي تعاني منها معظم الدول العربية؟ وكذلك نتيجة للضغوط التي تمارسها المؤسسات الدولية من أجل التسليم بدور المنظمات غير الحكومية واحترام استقلاليتها.
كاتب فلسطيني مقيم في الدانمرك