يختلف نص "حريق الأخيلة" الروائي عن ثلاثية الخراط "رامة والتنين"، "الزمن الآخر"، "يقين العطش" من حيث تيمته وبنيته، رغم أنه يشترك معها بالميزة التقنية الجوهرية التي وسمت نتاج الخراط بمجمله إلا وهي محاولته بناء الفصل الواحد كمفصلٍ مستقل، أو كنص لوحده، له استقلاليته النسبية أو الكلية، وهدفه الفني المبرر، ويعود ذلك من وجهة نظري لسببين أساسيين: الأول فقدان الحبكة والنمو الخيطي وغير الخيطي للأحداث المؤدي بالضرورة إلى خلخلة الزمن الفيزيقي المتخيل وخلخلة زمن النص، والثاني هو اعتماد بنية القصة القصيرة – في هيكلة المفصل، ليس في الهيكلة فحسب بل في تيمة المحور وانشغاله. حتى أن كل فصل من كل نصوص الخراط له أسم ينبثق من نسيج المفصل – القصة – المكتمل والبالغ ذروته الخاصة. لذا ليس من المستغرب أن يستطيع القارئ قراءة أي فصل من حريق الأخيلة أو غيره من نصوص الخراط كنص مستقل، أو قراءة المفاصل دون تسلسل، وهذي الميزة التي حيرت النقاد والقراء على حد سواء جهد الخراط طوال عمره الفني المديد على إتقانها، وفي ذروة نضجه الفني أخذ يمارسها بوعي نقدي، ودراية حرفية شديدة المهارة. لهذا نجده ينشر باستمرار في الدوريات العربية، والصحافة اليومية واحدة من هذي المفاصل – القصة – دون أن يشير إلا نادراً كما يفعل غيره من الكتاب كونه فصلا من رواية.
هل ثمة إشكالية في هذا التكوين؟
ألا تؤثر البنية المستقلة للمفصل على بنية العمل الروائي من حيث تماسكه وغائيته باعتبار النص كائنا حيا، محايثا للحياة ودون القارئ لا حياة له؟! ثم ألا يؤدي فقدان الحبكة التام إلى فقدان المزيد من القراء، وقطاع واسع من محبي النص الروائي الذي يقدم لهم متعة التشويق بالإضافة إلى عمق وغزارة المادة لغة وتيمة؟! بالنسبة للأخير اختبرته مع العديد من القراء وزملائي الكتاب الذين اخبروني بعسر القراءة، فقد وجدوا أنفسهم يتوقفون غير راغبين في المواصلة. وهذا باعتقادي أفقد نص الخراط تألقه الشعبي الذي يجعله شائعاً ومقبلا عليه. ألا يؤشر ذلك .. بأن ثمة نقصاً ما، قصوراً، ولد مثل هذي الكينونة العسيرة الصعبة. أتكون حرفية التقنيات المبالغ بها عاملا أساسيا صيرت النص غير جذاب، غير شهي، أم أن القصور في ذهن المتلقي التقليدي كما أسر لي الخراط شخصيا؟!
أسئلة، وأسئلة تثيرها نصوص الخراط الملتبسة .. وهنا سأحاول إلقاء الضوء على التقنية الحرفية شديدة المهارة التي تجعل من الكتابة الجميلة العميقة فاقدة عفويتها. يشتغل الخراط على تيمة جوهرية، ويبقى يحوم حولها طويلاٍ، يغنيها، يقلبها، ينوع عليها وهذا ما يجده القارئ في شخصيتي رامة وميخائيل في توقهما المستحيل للتماهي ببعضٍ مستخدماً العديد من التقنيات لإظهار جوانبهما المتعددة؟
أين تفترق – حريق الأخيلة – عن نصوص الثلاثية؟ في الوقت الذي انشغلت فيه نصوص "رامة والتنين"، "الزمن الآخر"، "يقين العطش" في محاولة أمساك الإحساس العابر، العميق، المنسي في العلاقة بين الذكر والأنثى، الذات والآخر، الكينونة البشرية والأمكنة، الإحساس الخاطف الفريد الذي لا يتكرر هو تيمة أساسية من تيم النصوص المذكورة، والتي آلت بالسارد والسرد إلى التلون بين الفلسفة (فلسفة الأفكار والمشاعر) ووصف الأمكنة بشكلٍ حسي ينزع نحو ترسيم الشباك والباب، الرخام والحجر، الضوء والرائحة، الظلام وخافت المشاعر والأصوات في لحظة الحس القديم المنظور إليه من لحظة آنية (زمن الكتابة) وصولاٍ إلى التماهي الصوفي، حيث يتحول السارد إلى صوفي يستشرق الغيب بلحظة الانخطاف عبر تداخل رامة بالتاريخ، بأمكنة الآثار، اللغات المندثرة، ومفردات العربية الميتة التي يكثر من استخدامها السارد، وما يؤول إليه هذا الانشغال المولد لبنية نص لا ابتداء له ولا انتهاء. (من الممكن أن يضيف الخراط نصوصا أخرى على نفس نمط الثلاثية).
نجد الأمر مختلفاً في - حريق الأخيلة – رغم انشغالها بمحاولة مسك إحساس عابر أيضاً، لكن هذه المرة بأمر يتعلق بماضٍ واضح الملامح وبشخصيات مصرية محددة ومعلومة يحاول السارد استعادة كينونتها القديمة التي تغيرت (وفيق مثلا) اندثرت ببحر الزمن المطلق بإعادة تخليقها بالكلمات. وكأنه يكتب سيرته الذاتية أو بعض ما يؤرقه ذكراهم ممن مروا في العمر وتركوا فيه وجوداً مستمراً. هذا الانشغال في تفاصيل الشخصيات حدد بنية النص وجعلها مختلفة عن نصوصه الأخرى (كتب الخراط نصاً له نفس التيمة والبنية – أبنية متطايرة – صدر عن دار الآداب – بيروت 1997). رغم تشابه التقنيات والهيكل الفني من ناحية، التقطيع، ترتيب الفصول، اسمائها، بنية القص: فقدان الحبكة والنمو الخيطي والدائري للأحداث، خلخلة زمن النص، إضافة للتفاصيل التقنية التفصيلية، كدمج المقولات الصوفية بجسد النص، الذهاب بالسرد إلى بنية شعرية خالصة لا علاقة لها بالسرد الروائي، الرسائل، اليوميات، اللهجة العامية، والوصف التفصيلي للأمكنة والشخوص.
أوهمت بنية النص الغريبة وحيرت العديد من النقاد، فأعتبرها العديد منهم بنية اعتباطية، لا معيار لها، أذكر منهم الناقد صلاح فضل في مقالته المنشورة في صحيفة الحياة اللندنية في 8 شباط 1996 الذي وسم النص باعتباطية البناء واختلال مستوياته، بعد أن أعياه البحث عن وحدة الحدث، أو عن حدث، فهو يقول في صلب المقال المذكور: «بالطبع ليس هنالك وحدة حدث، أن كان ثمة حدث أصلاً خارج نطاق اشتغال الذاكرة، وتسربات الماضي إلى الحاضر في وعي الراوي بطريقة اعتباطية ليس فيها أي تخطيط مسبق. أحداث جزئية بسيطة لا تقع أمامنا، بل يتم استدعاؤها مختزلة عارضة لا يجمعها سوى وعاء كبير مثقوب هو ذاكرة الراوي يعيد كتابتها بوعيه الحالي بطبيعة الحال، فإذا رجع إلى قصاصة ورق مخزونة، أو خطاب أو فقرة من مذكرات أو ترجمة وجدت الفرق بين المستويات اللغوية ماثلاً يتراءى خلف محاولات الدمج والاسترسال).
فدون العثور على تيمة النص الجوهرية تنغلق البنية السردية ونذهب إلى تحليل ظاهري، لا يضيء النص بل يغلقه. فبخلاف تحليل صلاح فضل والعديد من النقاد وجدت أن ثمة تقنيات محسوبة وقياساً دقيقاً ودراية حرفية لكل حرف، جملة سردية، مقطع في مفصل، في هيكلة وارتصاف المفصل، في الخيط الواهي الواصل بين المفاصل المكونة للنص كله، كل شيء محسوب ومخطط له تخطيطاً دقيقاً مسبقاً لحدود أفقدت صرامة البناء النص أحيانا عفوية الموهبة الخلاقة للكاتب وجعلت من النص عسير القراءة.
قبل القيام بتحليل مفصل من مفاصل - حريق الأخيلة – لإيضاح ما ذهبتُ إليه أود الإمساك بعلاقة التيمة الجوهرية وشكلها، أقصد شكل تجسدها ببنية النص، فكما كتب لي الخراط في كلمة إهدائه بأن "الأخيلة وصلٌ وانطفأ أبدا لا تعاد" فأن جهد النص أنصب على محاولة مستحيلة في الاندماج بذلك الوهج الذي أتقد مرة وانطفأ مثله مثل العمر (عمر الفرد الواحد الوحيد). كيف يصل الخراط إلى هذه التيمة، كيف يجسدها ببنية النص؟
أستعار الخراط آلية عمل الذاكرة البشرية عندما توهن لدى كبار السن وتصاب بما يسمى الزيماهير لبنية هذا النص، فيبدو السارد كمسن مصاب بخرف الذاكرة، فاختلطت لديه التواريخ، الأسماء، الأمكنة، الذكريات، فدخل مساحة الحلم البهيجة، هذا الشيخ السارد نراه معزولاً في غرفة العمر يقلب أوراقه القديمة، رسائل يوميات ذكريات، أحلام، فيهذي أحيانا بفيض مشاعره، الطفولية، المراهقة، الناضجة، الحكيمة، النزقة في فوضى مرتبة تشتبك أخيلتها بأخيلة الحس لحظة الحدث تارة ولحظة السرد أخرى. بهذه الكيفية اتخذت التيمة شكل كينونتها في السرد، فتضببت السيرة الذاتية بالأحلام بالأماني، والذكريات غير اليقينية، وهذه العلاقة المدروسة بين التيمة وشكل سردها هي ما تعطينا فخامة هذا البناء الذي يبدو ظاهرياً اعتباطيا في مظهر خادع، إذ يتنافى مفهوم الأعتباط – اللا تناسق – مع مفهوم الفن – التناسق الداخلي – المضمر الذي يجعل من ارتصاف الكلمات نصاً فنيا.
والكتاب يجهر من المفصل الثاني عن خطة تشكله، والية سرده، يقول السارد في ص44 كاشفاً سر بنية النص في هدف مزدوج؛ تبرير البنية السردية فنياً، وإعلام القارئ بأن ما يقرأه من اضطراب ظاهري هو مقصود وتحت السيطرة: «فلعلهم جاءوا فيما بعد .. أم أنني أخلط بين التواريخ، ما همَّ وهو أن عقلي دفتر، كما لا أني أقول؟ ولعلني أيضاً أخلط بين الأشخاص، منابعهم ونوازعهم سواء».
لبنية المفصل كما أسلفت أهمية قصوى في نصوص الخراط كلها، وتحليل مفصل واحد من المفاصل يلقي الضوء على آلية تكون النص لديه، كما في كل نصوصه المتأخرة يختتم السارد كل مفصل تقريباً بتأمل صوفي يدعم حلمية المسترخي، السارد التائه بين الأخيلة والرؤى والأمكنة والساعي لمسكها بالتخيل مرة، وبالتذكر أخرى، وفي تقليب الأوراق القديمة – الرسائل – اليوميات، ليصل في الأخر إلى تأمل صوفي يقود بالضرورة إلى حكمة ما تخدم كما سنلاحظ تيمة النص الجوهرية، لنأخذ نموذج:
1- سرير محترق
بعد أن يحدثنا السارد عن "كامل الصاوي" وأيام نضالهما المشترك في حلقات تروتسكية معزولة، وشخصيته الغريبة ملقياً الضوء على تلك الفترة وتأريخها السياسي والاجتماعي عبر فعل السارد الرومانتيكي الثوري الحالم المنتهي بالسجن يخبرنا بموت الصاوي العبثي حرقاً بسرير نومه المشتعل بسيجارته الساقطة من بين أصابعه في لحظة الغفوة: «قالت لي: لو كنا في الهند فلن أكون أنا الذي أحترق معك في سرير موتك .. ليس مكاني على سريرك الأخير المشتعل. قلت: مكانك اشتعال أخر، حي أبدا. ليس له انطفاء» ص37.
2- وسوسة الهواجس الراسخة
في هذا الموقع لازال حياً أوزير سيدنا الحسين حتحور مارا جرجيس والسيدة زينب ستنا دميانه، لم يمسهم عنف الظلام ولا دوي الديناميت والكلام، ليسوا أضيافا بل هم معي، الآن، هنا، أهل البيت، ما أبعدهم فيما يبدو، أيضاً، لا، ليسوا بعيدين. في ذلك الموقع الذي لا نوافذ له سعة لا حدود لها. كيف أصل إليه؟ لا أعرف! فكيف لي أن أعرف؟ لماذا ينبغي لي – ينبغي بحرقة – أن يكون ملء المعرفة.
3- مراسي الأوهام
نشوة النبيذ تخامر نشوة المحبة وترجيع التراتيل العلوي في مزاج مشعشع يحفز روحي إلى التحليق، وكأن لي أجنحة الحمام الذي يرفرف فرحاً بمعمدانية يوحنا أو المسيح. قلت، من زمان، أنه ليس للأوهام من مرسى!
المفاصل الأربعة المتبقية، سطح بيت في شارع إسكندراني، أمواج غائمة في السماء، نورس وحيد على صخرة، لا وقت للنوستالجيا، تشترك بالخاتمة المتأملة ذاتها الشديدة الانسجام والاتساق (يعمد الخراط إلى هذي الخواتم كإحدى أدوات الربط بين المفاصل عوضاً عن النمو المتدرج المؤدي إلى ذروة وحيدة) والملخصة الجهد المفصل في تيمته الجوهرية إلا وهي محاولة الإمساك بطيف خيال من أخيلة العمر الذي يكاد يندرس .. كامل الصاوي الذي أحرقته سيجارته بسريره وهو غافٍ، فتوح العياش الذي أصيب بالطرش ومات دهساً في القطار، ووفيق الذي هاجر ليموت روحياً باختلاف حياته إذ خفت وهجه المضيء. ذلك الوهج الذي غطى غالبية مفاصل النص من خلال رسائله الحارة المتأملة، المتفلسفة، المتغزلة بالحياة والموت على حد سواء. من تلك الرومانتيكية الجامحة إلى موتٍ روحي في كنف حضارة غربية حيث يزوره السارد الباحث عن جذواته القديمة المندثرة، المفزوع من وحده موحشة، اغتراب الشيخوخة المر، والكل انشغل عنه موتاً بشكلٍ ما، وبقى وحده الحالم بأخيلة العمر التي مرت وعادت مستحيلة، فيقول في لحظة يأس بارقة: "قلت لنفسي – لم تجد وفيقاً ولا وفيقة، قط، ولن تجد أبداً كأن الثور عند لحظة الابتداء» ص229
أما في مدخل ومتن المفصل الواحد فقد راكم الخراط العديد من التقنيات الكتابية مزاوجاً بين نثر مركز متأمل في فحوى الفقد الأكيد، ويوميات تقريرية يخبرنا السارد أنها قديمة، ورسائل متبادلة بين تلك الكائنات الخاطفة، وبالرغم من وضع تواريخ قديمة لليوميات والرسائل لا يعني ذلك أنها مستلة من كدس أوراق مخزونة وترصف بكولاج اعتباطا بل القراءة المتأنية تبين أن ثمة صياغة جيدة لهذي الرسائل واليوميات أستوجبها إيقاع النص الداخلي وحداثة كتابته، مما جعلها متسقة مع بنية النص الكلية. ضفر الخراط كل هذي التقنيات في مفاصل تبدو اعتباطية لكنها جاءت محكمة لتفضي كما ذكرت إلى تأمل فلسفي، صوفي، في فحوى الدنيا، الوجود، الذات البشرية المفردة الفانية، الحالمة، الذاهبة لا محال إلى نقطة الاندماج في السكون، الظلمة، العدم، الصمت المرعب الذي يخافه الشيخ الهرم فيصاب بالزيماهير، والمبدع فيصاب بهوس مطاردة الأخيلة لأعادتها إلى الحياة بنسيج الكلمات.
«العمالقة الغيلان التي ترود جبال، ووهاد النفس، تفترش أو تحتضن المسافر الضال، حسب الأحوال، هذه الكتابات.
متى ينتهي سفري، وظلالي؟ ورحلة المسافرين في دواخلي» ص161.
كيف صهر الخراط هذه التقنيات المختلفة ليطوع مادته في نسق محكم آسر؟ شيد النص كبناء على هشاشة الذاكرة البشرية مما أتاح للسارد قدراً مفتوحاً من الحرية في الخوض بأي اتجاه في الذاكرة وحسبما يستدعيه إيقاع النص وتيمته، ولكي يلحم شظايا حيوات النص ومكوناته، يذكرنا السارد بين آونة وأخرى بلعبته السردية بتدخل مباشر في جمل عرضية مثل (للرسائل، فيما أظن دور في هذه الكتابة أيضاً). أو في صلب النص بمحاورة الأحداث المنبثقة لحظة والتذكر وذلك أما بالتشكيك بحدوث ما يسرده علينا. أو بالسرد غير اليقيني. «وضعتُ في صدري شيئاً من الحمية، والعزم، وذهبتُ وقابلت إلهام مردلي، بالفعل، أتخونني الذاكرة أم تصور لي خيالاتي شيئاً أكثر واقعية من أي – واقع – فعلي، أم أن – ما حدث – فعلاً؟ ما شأن ما أكتب هنا بما – حدث – فعلاً؟ هل - ما حدث – أكتبه؟ وما أكتبه – حدث؟ ثم ماذا يمكن أن يكون قد حدث؟ ذهبت إذن فعلاً إلى – المنطقة – "إدارة منطقة وزارة المعارف العمومية، أليس كذلك؟" ولقيت الهام مردلي» ص91.
أن مثل هذي الاستطرادات المنلوغية الهازة ليقين الحدث مناسبة جدا لبنية نص حطم فيزيقية الزمن والأمكنة، مشتغلا على ذاكرة حالمة، خرفة تحاول التيقن من إحساسها بالحدث، الأوقات، الأمكنة، التواريخ، الشخوص، فلا تفضي إلا إلى مزيد من الأوهام والأخيلة التي تبدو وكأنها واقعية وغير واقعية بذات اللحظة مما جعل النص شديد التناسق، مبررا فنياً في مجمله، مرتبكاً، ملتبساً في التفاصيل.
لنتخيل المشهد التالي: شيخ طاعن السن يسترخي قبالتنا ويروي ما مر به من أحداث في شبابه وطفولته، في شيخوخته ومراهقته، في صباه وأحلامه، وشيخنا الراوي مصاب بخرف الذاكرة فينتقي من الأحداث ما يخطر بباله في اللحظة غير معني بنسقها الزمني يلاحق خيال اللحظة – لحظة الروي – وهذا بالضبط ما قام به السارد في – حريق الأخيلة – وللسيطرة على سرد له مثل هذي البنية الإشكالية، شديدة التعقيد يحتاج الكاتب إلى قدرة استثنائية لتطويع مادته الخام لتشكيل النص في كينونته الناجزة على الورق. كلما فرغت من تجربة قراءة نص من نصوص الخراط أشعر بامتلاء ولذة فريدة، لذة من شاهد متأملاً في صمت ووحده بناء فخم، إسلامي، قوطي، وجه في معبد قديم، في متحف تاريخي أو لوحة فنية، وهذا بالضبط ما يجعل القارئ يعاني من المواصلة، إذ تتكرر الأحاسيس، والمفردات، والمشاهد أحيانا في دورة لا تنتهي، ودون خيط حدثي رابط، يحرض هذا الدوران على التشتت الذهني مما يستدعي غالباً إعادة المقطع المقروء للتو وهذه الحالة أكثر بروزاً في بنية الثلاثية كما هو حال المتأمل في سقف كنيسة مزين بالرسوم، أو جدار مسجد جامع ضائع بتيه الزخرفة.
وبالضد من – اعتباطية السرد - خرف الذاكرة البشرية التي تخلط بين الأحداث والشخوص والأزمنة والأمكنة، تبدو ذاكرة اللغة في نص الخراط متينة، واعية، تتحكم بدقة في إيقاع المفردة والجملة السردية، وما تكتنز من إحساس عند ارتصافها في بنية المفصل – النص – (المقطع السردي، المقطع النثري، مقتطفات اليوميات، هيكل الرسالة، الإنشاد الصوفي، المقطع الوصفي، المقطع الشعري).
ليس هذا فحسب فالسارد يصوغ أسلوباً مناسباً لتيمة النص، وذلك باستخدام تقنيات كتابية تعطي للتيمة بنيتها المنبثقة من داخلها. لنأخذ نموذجا تطبيقياً يوضح ما ذهبتُ إليه، لقاءه بالهام مردلي مثلا ص 92 يصف السارد الأشياء وصفا غير يقيني مضفياً على المكان غلالة من ضباب تفعل في نفس القارئ ما يفعله فعل التذكر لدى السارد، إذ يجلو هذا الضباب الأمكنة ويرتقي بها من واقعيتها وتجريدية أشكالها إلى مصاف التخيل الذي يمنحها حركة دون ثبات التذكر المؤكد – الوصف المحفوظي – إذا جاز التعبير، بمعنى أخر حاول السارد أن يزعزع ليس قرار الذاكرة المستعيدة لأمكنة قديمة فحسب بل يجعل تلك الأمكنة تطفو في مساحة حلمية تفصل الواقع والوهم وذلك بصياغة اللغة الوصفية صياغة رجراجة، تتمايل في عصف الشك الراسخ واليقين الأريب، فبدلا من الوصف المألوف في التذكر الواعي كما هو في المقطع الذي سأعيد صياغته مجردا من تقنيات الخراط الكتابية التي أشرت إليها:
(كانت الغرفة معتمة قليلا، والشباك القديم طويلا، والمصباح الكهربائي العاري المدلى من السقف يسكب ضوءه الأصفر الشحيح في النهار. رأيتُ الملفات الكثيرة، مكومة غبار وأغلفتها رمادية من القدم، كل دستة بدوبارة).
نجد السارد يصيغه بما يجعله هلامياً، رجراجاً، وذلك بوضع أداة الاستفهام – هل – قبل الجملة الوصفية، وتكرار الفعل الناقص – كان – مباشرة خلف أداة الاستفهام، وانتقاء أفعال مناسبة لهذي الصياغة المدروسة مثل الفعل – نتخايل – في زمن السرد المؤكد بظرف الزمان – الآن – مما عمق هلامية المشهد وسطوعه بذات اللحظة.
أن هذه الصياغة مناسبة لبنية النص المرتكز على هشاشة الذاكرة التي تبدو في مظهر خادع خرف، مختلطة، تحاول أن تقتنص في إبحارها المطلق خيال من الأخيلة المحترقة على حد تعبير الخراط نفسه – وصل ثم انطفاء أبداً .. لا تعاد الأخيلة – لكنه هنا يأسرها مخلفاً كينونتها الجديدة القديمة القائمة من بين حروف سرده المتين.
لا يختلف اثنان حول تصنيف هذا النص كسيرة ذاتية، مقدمة بصياغة مبتكرة التقنيات فوسمت بنية النص بآلية سرد يبدو غريباً، أما أن يحب ويشغف به، أو أن يلقى جانباً بعد صفحات قليلة أو بعيد فصل أو فصلين. يبدو السرد وكأنه ينحت في كل مفصل شخصية مصرية معاصرة مهمشة، منسية، ليماهيها في صوفية التأمل العميق بالشأن البشري، بكينونته التاريخية في أمكنة الحضارات الدارسة، بأمكنة الأسواق الشعبية والأزقة الضيقة القائمة، وكأنه يقول: أن هذه الذوات الحية بين سطور السرد، المحفورة بحروف النص، في الأمكنة المضببة الساطعة، هي ذاتها أو تكمن فيها أرواح المندثرين والقائمين في رموز البرديات والحيطان المدفونة في باطن التراب، في رسوم الجدران، في الخشب المنحوت، في صمت المعابد في زمن الإنسان الأسطوري. في مسعى أخر يوهمنا السارد باستواء النص والحياة في لحظة السرد التي تبدو هنا مستقلة تماما في نقطة خارج الزمن، وذلك بتصوير نصوصه السابقة ككيانات حية، إذ يدمج السرد مقاطع من نصوص سابقة أو يحدثنا عن أمكنة النص المشيدة بخيال الكاتب وكأنها جزء من أمكنة الذاكرة المخرفة، الحالمة، فيشير مثلا إلى نص – أضلاع الصحراء – المكتوب في 1959 من خلال الإشارة إلى الأمير الفرنسي الذي أسر المنصورة وإلى قلعة (قايتباي) المملوك الذي صد الحملات الصليبية على مصر وهزمها في حركة صاعدة من مستوى تفاصيل السيرة الذاتية إلى تفاصيل السيرة الفنية ذات الأبعاد التأملية الباطنية في أحجار وحيوات ماض رسمها لنا في نص روائي سابق (وهنالك على البعد قلعة قايتباي التي لم ترمم بعد ولا وصول إليها أبدا عبر لجة السنين وهجمات بحر اللازمن، لا وصول إليها) ص 133. سطح بيت إسكندراني.
أو يدمج مشاهد من نصوص سابقة وكأنها شظايا ذكريات حية مرت به، يتذكرها في حلمية السارد السادر في زمنية رجراجة تشبه الحلم. «هل ستغسلين قميصي الآن – كما كنت تفعلين في الزمن الآخر – من لوثات الأمل الخداع؟) ص195. ثم يسرد ذات المشهد الوارد في نص – الزمن الآخر – بصياغة جديدة مموهة ويكون ذلك عند الاقتراب من مسك ختام المفصل، فيغور النص في حلميته إلى حدود قصوى، يستوي فيها النص بالحياة، السيرة الذاتية بالسيرة الفنية. لنقرأ نموذجاً:
«متى ينتهي سفري وظلالتي؟ ورحلة المسافرين في دواخلي. محباتي الكبرى – والصغرى – قد ولدت وعاشت وسوف تموت في حضن هذه الغيلان العمالقة. فقط لأنها جسيمة – عمالقة فقط لأن جرمها – وجرمها كبير – التنين العظيم، ند رامة، كان رفيقاً بل حانياً بل محباً. لكنه مع كل ذلك كان مفترساً ونهاشاً. ضوء الزمن الآخر مازال يشع على العتمات الممتدة على تراب من زعفران. عمالقة؟ أم بنات الإسكندرية – وغيرهن – أم فقط عرائس مصنوعة من مطاط) ص161.
وحتى يمعن السارد في لعبته يتدخل كما أسلفتُ معلقاً بين أقواس (ليست هذه سيرة ذاتية، بمعنى ما، وإنما أريدها أن تكون رواية يعني) ص26. لعب الخراط بالسرد في حيلة أسلوبية للتمويه على السيرة الذاتية وأخيلتها الطاغية مستخدماً تقنيات حرفية شديدة المهارة، وظفها في سياق سعيه الحثيث من أجل كتابة نص جديد مختلف كما في التصريح المجتزئ من النص والمنقوش على صفحة الغلاف الأخير مغامراً بالقارئ المتوسط وباحثاً عن القارئ النشيط الجديد، والنادر كما أسر لي في حوار مباشر معلقاً على انطباعي حول انحسار مثل هذي النصوص الجديدة في واقع ثقافي هو الأسوأ تاريخياً.
المصادر
1- حريق الأخيلة .. دار المطابع المستقبل بالفجالة والإسكندرية 1994
2- نصوص روايات أدور الخراط.