يكتب الناقد السوري ان الشاعر يحرص على بناء صورة نمطية له بوصفه شاعرا أولا، ولشعره بطبيعة الحال ثانياً، تكون مضادة تماماً لصورة (الشاعر-النبي) الذي يبشر بالمستقبل تفاؤلياً أو تشاؤمياً عبر رؤاه الكلية الإشراقية، في حين أنَّ في هذا الديوان هوَ ذلكَ الإنسان المُلتصِق بيوميات الحياة المَعيشة، والغائص بالعناصِر الوجودية الأرضية خارج الفضاء الميتافيزيقي الخَلاصيّ.

لمن العالم: منذر مصري في ديوان جديد

مازن أكثم سليمان

صدَرَ هذا العام (2016) عن دار نينوى في دمشق ديوان شعري جديد للشاعر السوري منذر مصري، بعنوان “لمَن العالم؟ وسِيَر مشبوهة أُخرى”، وهو مؤلَّف من خمس قصائد نثرية طويلة مُقسَّمة إلى عدد كبير من النصوص الجزئيّة.

ويُقدِّم الشاعر ديوانه هذا بما يُشبه السِّيرة الشعرية التي يستعرضُ فيها ملامح تجربته، وما أحاط بصدور دواوينه وبمضامينها من أحداث وتفاصيل وانشغالات ذاتية ومُفارَقات عامة، ويتصدَّرُ هذه المُقدِّمة قولُهُ “قصائدُ طويلة كهذه -تُقرَأُ بشُعورٍ من السّأم. تُقرَأُ على عجَلٍ- تُقرَأُ مرّة واحدة، ثُمَّ لا يعودُ إليها أحد”!

احتفى منذر مصري منذ ديوانه الأوّل (آمال شاقة-1978)، وكذلكَ منذ ديوانه الثاني (بشر وتواريخ وأمكنة-1979)، بالمَنسيّ والمُهمَل والهامشيّ، وحافظَ عبر السنين على وفائِهِ القديم للتيار الشعري الذي انتمى إليه مع مجموعة من شعراء سبعينات القرن الماضي في سوريا، والذي شكَّلَ انعطافةً لافِتة في التأريخ الشعري السوري والعربي الحديث، وذلكَ بمُحاوَلة هذا التيار إنجاز قطيعة أصيلة مع قصيدة الحداثة الرؤيويّة في الشعر العربي التي سيطرَتْ بقوّة على المشهد الشعري في ستينات القرن العشرين عبر اقتراح قصيدة مُغايِرة عُرِفَتْ بالقصيدة اليوميّة.

اللُّغة تتماهى إلى حد كبير مع الحكي النثري الأكثر قُرباً من السرد

تنهَضُ التجربةُ اليومية على إعادة النَّظَر في مفهوم الكشف الحداثيّ، حيثُ يتمُّ الافتراق عن القصيدة الرؤيوية عبر مُغادَرة آليات الاحتفاء بتخليق قصائد كشفية كلية تبسطُ وجودَها في وَحدة كونية شمولية، وتُؤسِّسُ عوالمها نهوضاً على مقاربة القضايا الإنسانية الكبرى، لتجيءَ القصيدة اليومية مُتخفِّفةً من البذخ البلاغيّ عبر انتظام إيقاعي هادئ يُؤسِّسُ الكشفَ انطلاقاً من مفردات الحياة اليومية البسيطة، والتي يتمُّ التقاط حركيّة تفاصيلها المَنفية، ومساحاتها الشعورية الصغيرة والعابِرة، حيث تتوالَدُ العوالم الشعرية في قلب الحدَث المَعيش مهما بلَغَتْ هامشيته، وتتماهَى اللُّغة إلى حد كبير مع الحكي النثري الأكثر قُرباً من السرد، والشديد الطُّموح بتقديم شِعريّة بديلة تقوم على المَشهدية العامّة أكثر ممّا تقوم على تخليق الصور والانزياحات اللغويّة والتَّركيبيّة.

وانطلاقاً من هذا الفَهم، يحرصُ منذر مصري في ديوانه هذا كُلَّ الحرص على بناء صورة نمَطيّة لهُ بوصفِهِ شاعراً أوَّلاً، ولشعره بطبيعة الحال ثانياً، تكونُ مُضادّة تماماً لصورة (الشاعر-النبي) الذي يُبشِّرُ بالمُستقبَل تفاؤلياً أو تشاؤمياً عبرَ رُؤاه الكُلِّيّة الإشراقيّة، في حين أنَّ الشاعر لدى منذر مصري هوَ ذلكَ الإنسان المُلتصِق بيوميات الحياة المَعيشة، والغائص بالعناصِر الوجودية الأرضية خارج الفضاء الميتافيزيقي الخَلاصيّ، ولذلكَ يُحاوِلُ أنْ يُؤكِّدَ أنَّ قصائدَ هذا الديوان -إنْ في مُقدِّمتِهِ، أو في القصائد نفسها- ليسَتْ سوى ذلكَ الإخفاق المَلعون أو النَّقص الوجودي الحادّ الذي يتلقَّفُ المَنبوذ والمَرفوضَ والشّاذ، ويحتفي بالمَشبوه والخطير والرَّديء، لهذا يصِفُ قصائدَهُ هذه قائلاً عنها بأنَّها “أطوَل وأسوأ قصائد في الشعر العربي الحديث”.

الشاعر هو ذلك الإنسان الملتصق بيوميات الحياة المعيشة

وهكذا، تُؤسِّسُ عتبة عنوان الديوان البُؤرة الدَّلاليّة التي تقودُ المُتلقِّي مُباشَرةً نحوَ الصُّورة التي يرغَبُ الشاعر بإيداعِها في ذهن ذلكَ المُتلقّي وفي انفعالاته، ذلكَ أنَّ “السِّيَر المَشبوهة” ليسَتْ سوى سيرة الشاعر نفسِهِ التي يُريدُ -إنْ لم نقل أنْ يتقمَّصَها- أنْ يُسبِغَها على ذاتهِ الشاعرة، وعلى أساليب وجود ذاتِهِ الشِّعريّة في عوالم قصائده أيضاً، ولهذا نجدُهُ يَصِفُ نفسَهُ قائلاً “عزَمْتَ بأيِّ ثمَنٍ أنْ تُصبِحَ شاعِراً/وما دمتَ لا تستطيعُ أنْ تكونَ إلّا شاعراً رديئاً/فليكُن… شاعرٌ رديءٌ/ أفضلُ من بائعِ مُنظِّفاتٍ منزليّةٍ على الرّصيف”.وعلى هذا النَّحو، تأتي قصيدة الشاعر “سِيرة ذاتيّة مَشبوهة -رغمَ أنفي، لتؤكِّدَ هذا الجُنوح غير البريء لديه نحوَ تخليق صورة نمَطيّة مُغايِرة للشاعر وللشعر انطلاقاً من خلخلة صورة نمَطيّة سائِدة أو لنقل سادَتْ لعُقود، فنحنُ هُنا أمام شاعر يمكُر مُدَّعياً عدم مُبالاتِهِ بقيمتِه الإبداعيّة لا بوصفِهِ ذاتاً شاعِرة مَوجودة في العالم الوقائعيّ المَعيش، ولا بوصفِهِ أيضاً ذاتاً شِعريّة افتراضيّة مَوجودة في عوالم القصائد النَّصِّيّة. ولذلكَ يُؤكِّدُ منذر مصري مراراً وتكراراً بأنَّهُ غير مَعنيٍّ بمدى شرعيّة ما يكتُب، ولا بكيفيّة تلقِّي هذا الأثر الذي يرميهِ للقرّاء مُستخفَّاً كما يدَّعي بأيّة نتائج مُتوقَّعة.

ولكي يستكمِل الشاعر بناء صورتِهِ المَلعونة هذه، يُحاول في مَواضِعَ كثيرة من قصائدِهِ هتكَ المُحرَّمات والتّابوهات، مُتَّكِئاً تحديداً على موضوعة الجسَد والجنس، فنراهُ يقولُ مثلاً في قصيدتِهِ “سِيرة ذاتيّة مَشبوهة، الأمرُ الذي كانَ يدفَعُني للسَّماح لنفسي/دونَ الجميع/بانتقاءِ أجملهِنَّ/ومدِّ يدي إلى فُتحَةِ قميصِها”. ويقولُ في مَوضِعٍ آخَر من القصيدة مُحتفياً بفضائحيّة البُعد الدّونجوانيّ إذا صحَّ التعبير، إلى جانبِ التلذُّذِ بمَكْرٍ يتعلَّقُ باكتسابِهِ صفةَ (زير نساء)، حيثُ يقول وتزوَّجْتُ بعدَ صُمودٍ طويلٍ/سقَطَ فيهِ أقراني حتَّى آخرِهِم/امرأةً طيِّبةً/قبِلَتْ بشَرْطي الوحيد/أنْ أبقى عازباً”.

ما من شكّ أنَّ منذر مصري يُمسِكُ بأدواتِهِ الشِّعريّة بحنكة وذكاء، ويتَّكِئُ على مَخزونٍ نظَريٍّ واضِح المَعالِم في تخليق مَسارِهِ الشِّعريّ ذاتاً ونصّاً، وهوَ في مَكرِهِ -القديم الجديد- الباحِثِ عن منطقةٍ مُختلِفة لصورة الشاعر، وطبيعة الشعر ووظيفتِهِ، لا ينجو من قصديّة مُتعمَّدة تكشفُها أحياناً بعض المَواضِع النَّصِّيّة، فهو القائل في أحد عناوين نصوصه هذه “أيُّ هُراءٍ سوفَ أخطُّهُ سوفَ يُكتَبُ لهُ الخُلود”!

تنهض التجربة اليومية على إعادة النظر في مفهوم الكشف الحداثيّ، حيث يتمُّ الافتراق عن القصيدة الرؤيوية عبر مغادرة آليات الاحتفاء بتخليق قصائد كشفية كلية تبسط وجودها في وحدة كونية شمولية، وتؤسس عوالمها نهوضاً على مقاربة القضايا الإنسانية الكبرى

غيرَ أنَّ اللّافِتَ في هذا الديوان هوَ انزياحُهُ إلى حدٍّ ما باتّجاه الاهتمام ببعض القضايا الوجودية الكُبرى، وهيَ وإنْ لم تستند في توليدها على آليّات الخَلْق المَعروفة في قصيدة الرُّؤيا، لكنَّها في الوقت نفسِهِ تمتَحُ من ينبوعِ نبرةٍ تأمُّليّةٍ مَشوبةٍ نوعاً ما بالعبَثيّة أو ربّما بالبوح العدَميّ، وهوَ الأمر الذي لم يُخفِهِ الشاعرُ في مُقدِّمتِهِ حينما قالَ الوهمُ الذي سوَّغَ لي، عاطفيّاً وذهنيّاً وعمَليّاً، كتابة هذهِ القصائد الطّويلة المُسهَبة إلى الحدّ الذي يخال للقارئ أنَّها لن تنتهي، حولَ كُلّ شيء، وحولَ لا شيء، حولَ القضايا الكبيرة: الحياة والموت، الخلود والعدم، الوطن والغربة، الوَحدة والآخَرون. وحولَ أتفهِ الأمور”.

لعلَّ هذا الانزياح الذي أشير إليه هُنا بخُصوص تجربة الشاعر يستحقُّ أنْ تُفرَدَ لهُ دراسة نقديّة خاصّة، لكنَّ الذي يَعنيني الآنَ على نحوٍ عاجِل هوَ التَّساؤل الآتي: هل هوَ العُمْرُ يا منذر؟

على مُستوى المعرفة الشخصيّة القديمة لا أُصدِّق أنَّ منذراً يكبر! وعلى مُستوى موقفي النَّقديّ من تجربة منذر التي أتذوَّقُها بلهفة، وفي الوقت نفسِهِ أختلِفُ معها نظَريّاً، ومع الاستقطاب القائِم بينَ تجربتَي الشعر الرُّؤيوي والشعر اليوميّ، حيثُ دعوْتُ في أكثر من مادّة نظَريّة ونقديّة لي إلى مُجاوَزة هذه الثنائية الميتافيزيقية نحوَ تدشين حقبة شِعريّة جديدة، أشدِّدُ (على هذا المُستوى النَّقديّ) على ضرورة قراءة موضوعة تحوُّلات الشِّعريّة”تحديداً عند منذر مصري، والتي مرَّتْ بانعطافات جادّة عبر تجربتِهِ الطويلة، وفَهْم صلة ذاتِهِ الشِّعريّة الافتراضيّة جدَليّاً معَ ذاتِهِ الشاعرة الوقائعيّة التي ارتَمَتْ في عالَمِها المَعيش الغنيّ، ومع نسبيّة الاتّفاق أو الاختلاف النظَريّ والنقديّ هذا، لا أستطيعُ إلّا أنْ أكونَ مُنحازاً عاطفياً لمنذر شخصاً وشِعراً، وأشدُّ على يدِهِ الماكِرة وهوَ يكتب “هذا ما أُسَمِّهِ شعراً/ دمٌ لا تقبَلُهُ الأرضُ/ وعرَقٌ ليسَ يقطُرُ مِنَ الجبينِ فحسب/ بل من فَروةِ الرَّأسِ وتحتَ الإبطِ/ وبينَ الفخذين/ وجِلْدٌ ولحْمٌ وعظْمٌ/ فسَمِّهِ أنتَ/ ما/ شِئتَ..”.

 

عن جريدة العرب