يكشف لنا الناقد العراقي هنا من خلال تحليله لقصة محمد خضير «منزل النساء» ثنائية النواة السردية في هذه القصة الشيقة، وكيفية تعبيرها المراوغ عن كثير من المسكوت عنه، وعمل جدليات الإيحاء والإضمار من خلال الحوار المستمر بين النواتين السرديتين فيها.

ثنائية النواة السردية

في زيارة إلى «منزل النساء»

باقر جاسم محمد

-1-

في صمت الورقة، وعلى سطحها الصقيل، تولد حياة القصة بضجيجها وعنفوانها الداخليين، فتحدث جديداً، فتخلق، ليس على مثال الطبيعة أو المطلق، وإنما وفقا ً لقانون داخلي يستجيب لحاجات إنسانية راسخة في جبلة الإنسان هي الحاجة إلى الحكايات. على أن ذلك القانون سيكون عاماً وشاملاً وليس مقصوراً على القصة بوصفها مفهوما ً وإنجازا ً أدبيين فحسب لأن السرد عامة "ظاهرة تتجاوز حقل الأدب تجاوزا ً كبيرا ً، فهي إحدى المقومات الأساسية لإدراكنا للحقيقة."(1) إذن، فإن القصة بهذا المعنى جزء أصيل من بنية معرفية شاملة تتعلق بنظرية المعرفة من جهة، وبالإحساس الجمالي من جهة أخرى. وهذه البنية مستمدة من الواقع الاجتماعي ولكنها تتجاوز حدوده إلى أبعاد ميتافيزيقية وجمالية. وفضلا ً عن ذلك، يؤسس السرد، نفسه بوصفه فعلا ًرمزيا ً واجتماعيا ً معبرا ً عن اللاوعي السياسي.(2) ذلك أن ما تنتجه القراءة النقدية، أو ما تنسبه للنص من آراء سياسية لا ترتبط بقصدية المؤلف بقدر ما تعبر عن مجموعة من الإجراءات والأفعال التي تجعلنا نستطيع أن نؤسس رؤيتنا للنص.

إن السرد الأدبي يرتبط على وجه الخصوص بالبنية اللسانية، بنية الأداء الكلامي لأن من تعريفات الأدب أنه خلق لعالم متخيل بوساطة اللغة؛ لذلك فإن تحليل أسلوب الأداء الكلامي للنص القصصي بالارتباط مع شبكة العلاقات الداخلية الناشبة بفعل التكوين اللساني، فضلا ً عن التقسيمات والمنظورات المكونة له، يكشف عن أدلة وعلامات هادية أساسية تؤدي إلى استكناه معنى النص الأدبي أيا ً كان جنسه. ولسوف يتطلب الأمر، من الناحية الإجرائية، أن نبدأ بوصف الوقائع الملموسة في النص صعودا ً إلى مراحل أخرى لعل أهمها فهم الشكل الأدبي، في النص المعطى المدروس، بوصفه دالا ً، أو signifier، لدلالة تتولد من تفاعل هذا الدال بسياق اتصالي مخصوص، أو communicative context، يتصف بالشمول هو التجربة الأدبية كتابة وتلقيا ً. أعني أننا سنحاول تحديد فلسفة الشكل الأدبي ورمزيته ودلالاته. أما اشتغال شفرة هذا السياق الاتصالي فهو الحصيلة المعرفية المتراكمة والمترشحة من أعراف وتقاليد وحدود العملية الأدبية في سياق التجربة الوجودية الإنسانية عامة. وسيترتب علينا في المرحلة النهائية من قراءتنا هذه أن نقيم تأويلا ً للنص السردي المدروس بوصف أن هذا التأويل يمثل رؤيا الناقد critic's vision للنص. وهذا يعني أن تغدو القراءة فعلا ًإبداعيا ً موازيا ً للنص لكونه ينتج نصاً جديداً يجاور النص المنقود من دون أن يتماهى معه بالضرورة.

-2-

في المألوف من خبرتنا بالنصوص السردية الأدبية، في مجال تلقي القصص تحديدا ً، أن القصة عادة تتكون من نواة سردية واحدة تتجمع حولها مادة النص، فتكون هي بؤرته. ويشكل هذا البناء التقليدي للنص القصصي مستوى قرائيا ً موحدا ً. لذا فإن أية تجربة لبناء نص قصصي بنواتين تقترح بالضرورة مستويين للقراءة، ومن هنا فإنها ستكون تجربة إشكالية على مستوى التلقي وعلى مستوى القراءة النقدية؛ فالنص ذو النواتين يقع في باب التجريب والتحديث للشكل الأدبي قياسا ً إلى الأعراف الإجناسية المستقرة. ولعل قصة "منزل النساء" للقاص محمد خضير(3) واحدة من القصص العربية التي نجحت في إنشاء شعرية خاصة ومتفردة تنبع من مخالفة إحدى أقانيم الشكل القصصي المألوفة، وأعني أن تتشكل القصة في مجرى موحد لا أن تتشكل في مجريين متجاورين مكانيا ولكنهما مستقلان شكليا ً وأسلوبيا ً مما ينبئ بأن كلا ً من هذين المجريين يمثل نواتا ً سردية مستقلة ومختلفة. كما إن هذا الشكل الجديد في بناء القصة سيثير أسئلة حول وحدة أركان القصة الثلاثة: السارد والقصة (المسرود) والمسرود له. إذ كيف يتفاعل هذا الشكل المتفرد مع هذه الأركان الثلاثة؟ وكيف يؤثر فيها ويتأثر بها؟ وما هو المغزى الشامل المتحقق نتيجة هذه النزعة التجريبية؟ تلك هي بعض الأسئلة التي سنحاول الإجابة عليها في سياق هذه القراءة.

-3-

تتكون قصة "منزل النساء" من مستويين أو نواتين سرديتين. وتتقاسم هاتان النواتان كل صفحة من القصة فيكون القسم الأعلى من الصفحة للنواة الأولى، والقسم الأسفل منها للنواة الثانية. وسيظهر من التحليل اللاحق أن لهذا الشكل الطباعي دور كبير في إنتاج مغزى القصة الشامل. وفي حدود وصف المعطيات الشكلية الماثلة للنص، نقول إن النواة التي تحتل أعلى الصفحات هي النواة الأولى، أما النواة التي تحتل أسفل الصفحات فهي النواة الثانية. وهذا الترتيب المعبر في جوهره عن تراتب له مغزاه هو إحدى نتائج الشكل الطباعي. ونعتقد بأنه تراتب مقصود. وسنقترح لقراءة كل من النواتين السرديتين أن نقرأ النواة الأولى (العليا) أولا ً، ثم بعد الانتهاء من ذلك نقرأ النواة الثانية (السفلى). وقد وجدنا أن هذه القراءة هي الطريقة الأفضل في قراءة قصة تبني على صيغة غير مألوفة. فالقراءة العمودية لكل صفحة بالكامل لن تنتج سوى تشويش يجعل النص غير ذي دلالة مما يستحيل معه فهم مغزى النص الشامل المتحقق من هذا التجاور بين النواتين.

استخدم الكاتب، في النواة السردية الأولى، نمطا ً سرديا ً يسمى بـ(عين الكاميرا)، وهو أسلوب يعتمد أساسا ً على الراوي الذي لا يكاد يعلم بشيء لا تعلمه الشخصية.(4) لذلك فإن النص يستخدم أداء ً كلاميا ً وصفيا ً ينزع إلى الإعلاء من شأن الأشياء من جهة، و(تشييء) الإنسان من جهة ثانية. فالوصف بارد وخال من أي انفعال أو تعبير عن رأي أو موقف. وأسلوب الوصف هذا صيغة لسانية محايدة ظاهريا، وهو يعبر عن أقصى حالات إقصاء الإنسان من المشهد. فنحن لا نرى غير أشياء تحتل مركز المشهد الوصفي ومركز الفاعلية السردية معا. أشياء وأشياء وأشياء تتراكم دون انقطاع. ويعد الكاتب ذلك بعناية بأن يظهر أرجحية الأشياء على الإنسان حين يسند الأفعال إلى الأشياء في أغلب الأحيان، منحيا ً الإنسان جانبا ً وجاعلا ً منه في موضع المفعولية فنقرأ:

"صفوف الآجر المتآكل تنقطع بدعامات النوافذ الكبيرة القريبة من الأرض، وهنا ينتشر الضوء من مخرمات خلف نوافذ الطوابق الأرضية المغلقة ومن نوافذ وشرفات الطوابق العلوية، كما تلتمع أسلاك الكهرباء بهذا الضوء الداخلي وبأضواء المصابيح الخالية من المظلات، المثبتة بدعائم شرفات الخشب وأضلاعها السفلى أو لفسحات الجدران الخالية من النوافذ. غير أن هناك نوافذ مستطيلة عالية مخرمة أو مقطوعة بأعمدة حديدية تشغل واجهات غرف الطوابق العلوية الخشبية، وتبرز زوايا الغرف العلوية خارج جداري الزقاق الشاهقين، في شكل نتوءات هرمية متتالية، وتتقارب من الجانبين بما يشبه أسنان منشارين ضخمين، ومن بين الأسنان المتقابلة تظهر فيما يبدو أنها سماء. تحت سقوف الزوايا المنشارية يغذ ُّ رجل السير في قبو الزقاق، فلما ينعطف به يقل الضوء، ويزداد تقارب الزوايا الركنية المتعامدة للغرف الناتئة، وتبدأ بالظهور بين صفوف الآجر، بمستوى رأسه كوى مستديرة مظلمة تتجمع أعمدتها الحديدية..." (ص 116-117)

والآن، ما هي مزايا هذا الأسلوب في السرد؟ وما الذي يمكن أو يوحي به من دلالات؟ نلحظ أولا ً أن هذا المقطع احتوى على (12) فعلا. وقد أسند (10) أفعال منها ً إلى الأشياء في حين لم يسند إلى الإنسان سوى فعل واحد هو (يغذ ُّ)، وهناك فعل واحد مسند إلى السارد هو (يبدو) لأننا نعتقد بأن الفعل (يبدو) يستدعي حكما ً أن هذا البداء هو لشخص السارد لكون السرد من خارج الشخصية. ومن الناحية الإحصائية، فإن النسبة هي: 833% للأفعال المسندة للأشياء مقابل نسبة 083% للأفعال المسندة للإنسان أو الشخصية، و083% للسارد. ولهذه النسبة الغالبة دلالتها. فهي تعني أن الأشياء هي الأكثر حضورا ً وفعالية في هذا النص. كما نلحظ بأن السارد قد اختفى كليا ً من النص سوى ما أشرنا إليه من إسناد الفعل (يبدو) إليه. ولكن هذا الاختفاء ظاهري فقط، بمعنى أنه اختفى من سطح الأداء الكلامي وسطح النص. أما التحليل الذي يتجاوز السطوح، فإنه يظهر كمون السارد في قلب النص وفاعليته في آن واحد. فالأداء الكلامي المبرأ من أيما إيماء ظاهر إلى انحياز أو انفعال أو تعبير مباشر عن رأي ما يخص السارد يبطن غير ذلك لأن اختفاء السارد اختفاء شكلي محض، بدلالة أن انحيازه يظهر، بصورة غير مباشرة، في زاوية النظر وفي التركيز على الأشياء دون الإنسان. أما دلالة الفعل ( يبدو) فإنها تشير إلى زاوية النظر التي اتخذها السارد الواصف، وهي زاوية تؤكد حضوره في قلب الأشياء. إذن فإن الموقف ضمني. وهو موقف يكشف عنه إسناد الأفعال إلى الأشياء بنسبة 833% منها للأشياء دون الإنسان. ومع كل هذا نعتقد بأن السارد، من خلال اختياره شكلا ً سرديا ً معينا ً وأسلوبا ً في الأداء الكلامي مناسبا ً له، إنما يعبر عن موقف فكري وفلسفي مبثوث في النص. ويظهر المشهد الذي أوردناه تعبيرا ً غير مباشر عن ضآلة الإنسان وسط الأشياء، حتى إذا ما تنازعت الأشياء وهذا الإنسان الضئيل الفاعلية (وأعني بها فاعل الجملة) فضلت الصياغة الكلامية أن تنسب الفعل للأشياء لا الإنسان. فالنص لا ينسب فعل الانعطاف في قوله: "فلما ينعطف به" إلى الرجل الذي يغذ السير، وإنما إلى قبو الزقاق! على أن "للأشياء مرتبطا ً بتاريخ الأشخاص" كما يقول ميشيل بوتور.(5) لذلك فإن هذا الاختيار الأسلوبي يعني بالضرورة الإشارة ضمنا ًإلى مرحلة تاريخية جديدة بين الأشياء والإنسان، مرحلة تكون الأشياء فيها في موقع السيد ويكون الإنسان في موقع المسود. وهي مما يشكل إثارة لمسألة مهمة للغاية. لأن انقلاب العلاقة إلى ضدها، وتشييء الإنسان يكشف عن مرحلة متقدمة من الاغتراب الروحي. على أن هذا المعنى الفلسفي لا ينبع من موقف تجريدي، وإنما يتولد بالارتباط الوثيق بالزمان الخارجي التاريخي والمرجعي، كما سنوضح لاحقا ً.

وينتظم أسلوب تشكيل المشهد الوصفي السابق في سياق سيميولوجي. فإذا حللنا جملة واحدة من جمل النص الوصفية، لرأينا أنها، وبالتضافر مع بقية عناصر الإشارية في المشهد السردي، تتحول إلى علامة سيميائية متجذرة في التصور الكنائي والمجازي الشامل الذي يتجاوز دلالات الأداء الكلامي المباشرة ويرتبط بالمغزى العام للنص. فنحن نقرأ وصفا ً للمكان على النحو الآتي: "ومن بين الأسنان المتقابلة، تظهر فيما يبدو أنها سماء." فالأسنان، في هذا المشهد الوصفي، تفتح آلية التأويل لتشمل معاني تتولد من الصورة الكلية ذات الجوهر الكنائي. وبما أن الأسنان تستدعي الفم، فإن بإمكاننا القول هذا المشهد يعبر عن فم هائل يغرز أسنانه في السماء، تلك السماء التي تراجعت عن الموثوقية إلى مرحلة البداء أو المظهرية. وهذا الأمر يتطلب العودة إلى الفعل (يبدو) وما قلناه عنه من أنه يعبر عن حضور السارد، فنضيف إلى ذلك بأن هذا المشهد موصوف من داخل فم (الوحش) أو فم الأشياء. أعني أن السارد موجود في فم هذا الوحش. ولذلك تبدو له السماء وقد تضاءلت فلم تعد رمزا ً لما هو روحي وما هو رحيب وما هو متعال. ولعل هذا التضاؤل الذي أحدثته سطوة التشكيل الصوري واللساني يعبر عن انسحاق المرموز له، وهو الإنسان الذي، وإن لم يذكر، فإنه حاضر بإيماء من غيابه باعتبار أن الغياب حضور سلبي.

إن عنصر المكان هو المكون الثابت في النواتين السرديتين، ذلك أن "منزل النساء" هو المكان الذي تدور فيه وحوله أغلب أحداث النواتين، وبهذا فإن المنزل يقوم بوظيفة توحيد وربط بين جزء النص الأعلى وجزئه الأسفل. وهو فضلا ً عن ذلك يظل متشظيا إلى إيماءات ودلالات رمزية عديدة. ولنا عودة إلى ذلك. لقد كان تأثير أسلوب السرد الموضوعي، في الظاهر، حاسما ً في جعل الأداء الكلامي يعبر ضمنيا عن مواقف فكرية شاملة لا يستطاع الوصول إليها إلا عبر عملية التأويل. ولعل من الظواهر الدالة على مثل هذه المواقف ظاهرة موقف السرد الذي يدعي الحياد والموضوعية من مسألة اللون في المشهد الوصفي المكاني. فالألوان التي تذكر قد أخضعت لعملية ترشيح صارمة لم تبق سوى اللون الأسود ومشتقاته. لذلك فإن قراءة النص لونيا تكشف عن حذف لوني متعمد، بكل ما يشير ذلك من معان ٍ تشف عن رؤيا النص، وتدعمها. فالنواة السردية الأولى تحفل بإشارات إلى الظلمة والظلام ومشتقاتهما، فنقرأ كلاما ً عن: "شحوب ظلام المساء، وهي جملة توطئ لحضور الظلام الثقيل لاحقا. وحين يتناول السارد (المحايد) اللون السماوي الأزرق، يعدل عامدا ً عن ذكر اللون, ونقرأ بدلا ً من ذلك:" وهنا نلاحظ النقاوة الداكنة للسماء المنجمة." ونلاحظ هنا أن السارد الكامن قد أفصح عن نفسه وحضوره بقوله (وهنا نلاحظ)، ثم يذكر النص، من واقع المكان الموصوف، جملة ذات محتوى لوني فيتحدث عن "الزوايا المظلمة". وهكذا تتكشف حقيقة أن تنويعات الاسم والصفة المشتقة من الأسود هي التنويعات السائدة في النواة السردية الأولى من النص. وهو ما يعبر عن جو من الكآبة سائد كانت له سيادة دالة. وقد يعمق النص الإحساس بالظلام حين نقرأ:" كذلك أطفأت نوافذ الطابق الأرضي المطلة على الرحبة." مما يشير إلى تقلص مساحة الضوء إزاء اتساع مساحة الظلام. وحتى حين يظهر النص اهتماما ً بالتفاصيل الدقيقة فإنه لا يهمل سوى اللون، إلا إذا كان اللون له صلة بالأسود. فحين يركز عدسته على المداميك الملساء المستديرة الحافات تحت حزمة الضوء نقرأ:" يوضح الضوء فيها (يقصد المداميك) مسامات داكنة." ولم يذكر لون تلك المداميك قط. ولا يسود اللون الأسود الأشياء فحسب، وإنما هو صفة تذكر مقرونة بالشخصيات كذلك. فحين تتحدث عوفة، وهي إحدى الشخصيات النسوية، عن لون بشرتها ولون بشرة زوجها الذي يرد ذكره في الحكاية الفرعي، لن تذكر لونه الأبيض تصريحا ً فنقرأ:" قالت عوفة: ولوني، ألم يفتح لوني؟

ضحكت النسوة. وأخذت عوفة تتكلم: أتصدقوني؟ كان لي زوج كالحليب" (137)

وإذا كررت الإشارة إلى لون بشرة زوجها، لم تصرح باسم هذا اللون "كان لي زوج كالحليب." (138) وفضلا ً عن ذلك فإن الحياد الذي يطفو على سطح الخطاب السردي يخرق حين ينسب النص اللون إلى الصوت، أي ينسب المرئي إلى المسموع، مستثمرا ً لعبة تراسل الحواس فنقرأ: "تضحك النساء من أمكنة مجهولة، ويستمر صوت مظلم صعب النفاذ في التدفق." ص (139) ذلك أن تراسل الحواس يشير إلى وجود الذات التي تعيش هذه الحالة، كما أن صعوبة النفاذ التي يوصف بها الصوت هي بالنسبة لشخص ما حاضر في المشهد أو مراقب له. وبذلك ينتفي الحياد الظاهري للأداء الكلامي، ويظهر السارد الكامن الذي يرى ويصف بدلا ً من عين المحايدة للكاميرا التي شاهدناها في استهلال النواة السردية الأولى. كما نلاحظ أن هذه الحالة قد اقترنت بالظلام أيضا. وهو مما يشي بأن الوظيفة اللونية كانت قد تمركزت على الأسود وتفريعاته لإشاعة إحساس بالكآبة والتجهم الذي يسود المشهد. وفي ختام النواة السردية الأولى، تتكرر الإشارة إلى طغيان الظلام، فنقرأ: "فيما يتأصل الظلام، كان الصوت يبتعد في غور لا يرى ويفقد نبرته الإنسانية ... كل شيء يتلاشى في العتمة ... ظلام" ص 140.

وهكذا يبتكر النص من خلال استثمار الصمت المعبر عنه بالنقاط والأسطر الخالية المعبرة عن اختفاء الأشياء بعدا ً جديدا ً يتجاوز مفهوم الأداء اللساني المعتاد لأنه يعتمد على علامات غير لسانية تسهم بشكل جوهري في إنتاج دلالة النص. ولا ينبثق من وسط النقاط سوى كلمة (ظلام) التي تنبت في الفراغ والصمت سيدة على كل شيء، نقول، ينسج النص لوح غنية بالدلالات الرمزية التي تكشف عن الفراغ الروحي وسيادة الألم والصمت في (منزل النساء) الذي قد يكون قرينا رمزيا للوطن الجريح.

يقرر النص، في سياقه الوصفي المحايد، صفة ضمنية أخرى هي خلو المشهد من عناصر الطبيعة. فالضوء هو ضوء مصابيح، كما أن المكونات النباتية تختفي كليا. أما الزهرة التي سيرد ذكرها فهي زهرة من الآجر الدائري وسط زخرفة من النجوم الصغيرة المتماسكة في حشوات بارزة. فإذا أضفنا إلى ذلك خلو المشهد من اللون لصار هذا المشهد بمثابة فيلم بالأسود والأبيض. ونحن نعرف جيدا ً أن التصوير بالأسود والأبيض لا يمثل خيارا ً تقنيا ً حاليا ً من الدلالة الفكرية. لذلك يمكن القول أنه مشهد قابل لأن يؤول تأويلا ً له صلة وثيقة بالمعنى العام للنواة السردية الأولى. وعلينا هنا أن نشير بأن اللون ذكر صراحة حين يصف السارد المكافئ لعين الكاميرا مطرقتي الباب الخارجي اللتين "تمثلان طائرين مضمومي الأجنحة، من البرونز الأخضر." ولكننا نلاحظ بأن هذا الذكر للون يصف ما هو متحول عن طبيعته، أعني أنه إشارة إلى تحول الحي، وهما الطائرين، إلى كتلة برونزية خضراء جامدة. والحقيقة أن لون البرونز هو اللون الأصفر. أما تحوله إلى اللون الأخضر فهو كناية عن الصدأ الذي بغلو الطائرين نتيجة كون البيت يعاني من عزلة أدت إلى عدم استعمال مطرقة الباب.

ويبدو من تحليل أسلوب السرد أن السارد يقف هناك، خلف شخصية الرجل، يتابع حركتها ويروي ما تمر به دون أن يذكر ما يدور في داخلها من أفكار أو انفعالات. لذلك فإن النص يوحي بما يدور في عقل الشخصية من خلال وصف سلوكها الخارجي، فنقرأ: "لم يحاول الرجل تحريك أحد هذين الطائرين من مكمنه، فقد كان الباب مواربا ً يأتي من خلاله نور داخل المنزل كما هذا النور من كوة تنفتح في قمة العقد." ولنلاحظ هنا أن الإدراك العقلي للشخصية المرتبط بالحواس قد جرى التعبير عنه بملاحظ السلوك خارجيا ً وبفعل منفي في قوله (لم يحاول الرجل). وهذا يعني أن النص قد سلب الرجل الفاعلية. أول جملة تدل على فاعلية من نوع ما للرجل هي الآتية: "في الركن، خلف الباب، كانت الحنفية تصب خيطا ً رفيعا ً في صفيحة طافحة بالماء، فأوقف الرجل تدفق الماء." إلا أن ذلك التحول نحو الإنجاز والفاعلية سرعان ما يرتد إلى ما كان عليه من مصادرة فاعلية الذات البشرية. فإذا ما أراد النص التعبير عن حركة الرجل نسبها إلى حذائيه فنقرأ: "كان حذاءا الرجل يتحركان في الرواق الغربي المتعامد مع الضلع الشمالي المضاء وقاربا نوافذ مفتوحة." ثم يواصل النص وصف السياق الحركي بما يشبه عدسة الكاميرا: "انتهى الرواق بدهليز معتم، وعثر الرجل فيه على أول درجة من سلم غير متسع" ص 123.

وهكذا نرى أن الوصف الحيادي الظاهري يتحول بالتراكم إلى نهج سيميائي وإشاري شديد التعقيد في سياق الخطاب السردي الشامل الذي يصف سكان المنزل من النسوة بأنهن "يتكدسن في غرفة خالية من النوافذ." في تعبير كنائي عن الانغلاق على الذات من جهة وعن الاحتواء الذي تفرضه الأشياء على الشخصيات الإنسانية، والشخصيات النسوية على وجه الخصوص من جهة أخرى. وحين يشير النص، في مفصل التقاطع بين زمن الواقعة الأدبية الموصوفة في النص، والزمان الخارجي إذ يذكر صفارة الإنذار وانقطاع التيار الكهربائي، نقرأ: "واختفت الغرفة في سواد تام اتصل بأنطقة السواد في الخارج وألغى الأوضاع الواضحة للنساء، وبقية أشياء الغرفة." وإذ نلاحظ هنا استثمارا ً لأسلوب التشكيل في رسم صورة تكدس النسوة، فإن هذه الصورة تذكرنا في الوقت نفسه بأسلوب السينما في التعتيم. كما إن الاختفاء والإلغاء الصوري يرمز إلى الاختفاء والإلغاء للجوهر الإنساني ولسيادة الظلام. ويتمفصل هذا المشهد مع الواقع الموضوعي، أو الواقع الاجتماعي لأنه يتصل به بدلالة كلام النص حول السواد التام الذي " اتصل بأنطقة الظلام في الخارج." فالحال الذي تعيشه الشخصيات، حال التعطيل والإلغاء، إنما هو حال شامل متصل بسواه من حالات الظلام، وليس حالة خاصة ً. على أن النص، في الواقع، لا يتحدث إلا عن شخصيات حاضرة ولكنها مغيبة الملامح وفاقدة لخصائص الحضور الفاعل، أو يتحدث شخصيات غائبة أصلا ً، كناية عن عمق واقعة الغياب والتغييب والاغتراب الروحي والجسدي. تقول عوفة توكيدا ً على ما قلناه: "الليلة جمعة، بخور للغائبين والغائبات" ص 136. وتلعب حكاية عوفة عن ماضيها، وهي حكاية ضمنية داخلة في الحكاية الإطارية التي هي النواة السردية الأولى، نقول تلعب هذه الحكاية دورا ً مهما ًفي توكيد ذلك الغياب والتغييب. فعوفة تتحدث عن زوجها الغائب، ذلك الذي اختفى كالنجمة كما تقول، ولكنه لم يفعل ما يؤاخذ عليه، تتحدث قائلة: "ولم نكن نفعل شيئا قبيحا. الأعمال القبيحة تحدث خلف الجدران." وهذه إشارة إلى الجوهر الاجتماعي للإشكال الذي تعيشه الشخصيات عموما. وهنا يمكن الاستنتاج بأن شكل السرد الموضوعي الذي نحى نحو التركيز على الأشياء والغض من قيمة الذوات الإنسانية قد أحدث تماثلا ً بين الشكل الفني المحض والدلالة المراد إيصالها عبر رسالة الخطاب السردي. وهو هدف مهم وعسير نجحت النواة السردية الأولى في تحقيقه على نحو متفرد.

-4-

 تبدأ النواة السردية الثانية (السفلى) بحضور إنساني كثيف تجسده الجملة الخبرية الآتية: "أسمي (علي) من مواليد 1945، أعزب، تسلمت قبل يومين عملا ً في مصلحة نقل الركاب بصفة محصل تذاكر، تسرحت من الخدمة قبل أسبوعين، إني ذاهب الآن، تحت غطاء هذا الليل الشامخ، إلى بيت أهملت زيارته طيلة الأسبوعين الماضيين، ولكني غير قادر على تجاهل جدرانه وصمته وساكنيه أكثر من ذلك." ويظهر التحليل الدلالي لهذا الاستهلال الثاني هيمنة الذات الإنسانية على المتخيل السردي. وشخصية علي هي نفسها الشخصية المشار إليها ب(الرجل) في النواة السردية الأولى. فالإنسان هنا مذكور بالاسم والصفة فضلا عن كونه قطب الفاعلية النص المسرود سردا ذاتيا من راو ٍ هو البطل نفسه. وسيكون الراوي مصدرا ً أساسيا ً لهموم وانشغالات ستكون دافعا ً لتدفق السرد وعنفوانه الدائم. ذلك التدفق والعنفوان اللذان سيقودان النواة السردية الثانية، عبر التذكر، إلى استحضار ماض ٍ بكامله، ماض ٍ سحيق، وماض ٍ قريب. فالذاكرة هنا فاعلة ومولدة لمادة القصة لأن السرد مستعاد.

وتتضافر الإشارة إلى سنة ميلاد علي، وهي 1945، مع الإشارة السابقة في النواة السردية الأولى إلى صفارة الإنذار والتعتيم الذي يعم المكان في توكيد التمفصل مع الزمان الخارجي أو التاريخي. ذلك أن عليا ً هذا مولود في العام 1945. وهو متسرح حديثا ً من الخدمة العسكرية. إذن لا بد وأن يكون قد أمضى حولي ثلاثة أعوام في الخدمة العسكرية. فإذا ما علمنا بأن العراقيين من الذكور يؤدون الخدمة الإلزامية في الجيش عندما يتمون التاسعة عشرة من العمر، لصار ممكنا أن نقدر عمره باثنتين وعشرين سنة. وهذا يعني أننا في العام 1967، أي في عام نكسة حزيران. ولذا فإن صفارة الإنذار ستكون مما استعمل في حرب حقيقية ترتبط بواقع سياسي واجتماعي معين هي حرب الخامس من حزيران. وهذه هي الإشارة الوحيدة إلى الإطار التاريخي المرجعي. من هنا يمكن القول أن الأداء الكلامي للسرد في النواتين الأولى والثانية قد كان ينحت باتجاهين شكليين مختلفين كليا. إلا أنهما يصبان في النهاية في إنجاز يرى في وظائف الأداء الكلامي وسطا ً شفافا ً يكشف ويوحي وإن بدا على هيئة قوام صلد. فإذا كان الكلام يحاول أن يجسد، بحياد، سردا ً وصفيا ً له علاقة بالتصوير السينمائي والتسجيلي في النواة الأولى، فإنه سينحو منحى آخر في النواة السردية الثانية. فالأداء الكلامي هنا سيكون على لسان راو ٍ مشارك في الأحداث، وهو سرد يعبر عن مواقفه وآرائه الذاتية. إذن نحن بإزاء شخصية داخلية مكشوف لنا ما تفكر به أو تشعر. لذلك فإن الآراء والتقويمات التي ترد في السياق السردي يمكن أن تنسب إلى شخصية (علي)، الذي هو نفسه الموصوف بالرجل في النواة السردية الأولى. ولكن لا يمكن نسبة أية آراء إلى راوي النواة السردية الأولى (العليا) لأنها مروية بأسلوب السرد الموضوعي الذي يكاد يكون الغاية في الموضوعية. ففي النواة العليا، كان تدخل الكاتب الذي يسمح له بالتعميمات الفلسفية والتأملات الفكرية أو بإيراد ما يشاء من معلومات يراها ضرورية للنص قد جرى التنازل إراديا َ عنها لصالح بناء سردي خال من أية آراء يمكن أن تنسب للكاتب.(6) وقد ترتب على تغيير المنظور السردي من الموضوعي إلى الذاتي تغييرا ً مناظرا ً في الأداء الكلامي. لذلك تميز الأداء اللغوي في النواة السردية الثانية بكونه دافق وذاتي وتمتزج فيه الانفعالات والذكريات، وهو يقوم على مبدأ الانزياح المتوالي والأداء المجازي استثمارا ً للحرية التي يبيحها السرد الذاتي. ومن هنا يمكن أن ينسب كل ما فيها من استعارة ومجاز إلى شخصية علي، راوي النص في النواة السردية الثانية، وبدءا ً من التشبيه الأول في قوله: "تحت سماء تبين من شق الزقاق كمملحة ملح أسود" ستتوالى انفجارات وانزياحات الأداء الكلامي لتشكل ملمحا ً مميزا ً وحافلا ً بالانفعالات وبما هو دال على تصورات الذات القائمة بفعل السرد. وهي تصورات مجازية، فنقرأ: "وأشق طريقي بين أنفاس الساكنين الأسلاف وقد تخلفت في ثقوب الجدران وممراتها." ومن الواضح أن هذا التصور الشعري لأنفاس الأسلاف يوحي بالارتباط الروحي بين علي ( الشخصية) وبين سكان البيت السالفين. بيد أن هيمنة الكاتب بوصفه ساردا على نصه السردي ستجد لها أثرا ً هنا أيضا. فإذا كانت الرؤيا المتشائمة ظاهرة ملموسة من خلال الوصف الموضوعي المحايد الذي وصفناه في النواة السردية الأولى، فإنها هنا تعبر عن البعد النفسي الخاص بالشخصيات وعن انسحاقها الشامل إزاء الواقع الموضوعي المرتبط بالظلام واليأس الروحي العميق. يقول على: "ليل بديل لنهار أبدي، ليل متسع ومتصل يحل دون أن ينتبه إله أحد، فاجر وغير علني، تؤدي إليه الزخارف والأقواس أسفل القباب والشرفات، تسيب كلابه في الشوارع والساحات والخرائب. حل هذا الليل في رأسي وطرد الليل الآخر المليء بالوساوس الذي رافق نشأتي الأولى في الضواحي." ص 118. ولنا هنا أن نلحظ أولا ً أن الليل الذي يحل بديلا ً لنهار أبدي لا يد أن يكون هو نفسه ليلا ً أبديا ً. وهكذا يظهر النص عبر التشبيه وعبر البنية الكنائية، كيف تولد لفظة الليل معاني غير المعاني المعجمية المألوفة، فإذا هي تعني قتامة الواقع الاجتماعي الذي يسحق الشخصية فيجعلها فريسة ليل أدبي بما أنه بديل لنهار أبدي. فالغربة الروحية القائمة قد فجرت في بنية الأداء الكلامي نهرا ً من المجاز المتصل. وقد أسهم السرد الذاتي المنسوب إلى شخصية علي، تلك الشخصية المنغمسة في واقعها بكل أبعاده النفسية والروحية، في إبراز البعد الميثولوجي لمخيلة الشخصية من خلال عقل الراوي وسياحته في أقاصي الروح، تلك الأقاصي التي تتجسد في انثيال مركب من العقل والمخيلة كما في قوله:" ثم كنت أغيب في مسيرات مشعة بين كومات تراب عبر الأنهر حتى أتلاشى تماما ً ولا أتعرف على روحي التي اندمجت مع الأبخرة المتصاعدة من الشقوق المظلمة في أجراف الأنهر المظللة بأوراق الأشجار الكثيفة التي يرافق حفيفها روحي في تجوالها خلال الليل في غابات النخيل المظلمة وهي تلتقي بالضفادع المتناسل، بطبول النساء الراقصات، بأشباح ساحرات المقابر، باللصوص، حتى إذا عبرت روحي دربا ً ضيقا ً بين حائطين خربين سمعت الهمس المبهم المخنوق للأرواح المدفونة سرا ً في الأسس العريضة وهي تغادر أمكنتها فتهز أجراس السعف وتتجول." ص  120(التوكيد لكاتب المقالة). ويجسد هذا المقطع السردي البعد الميتافيزيقي في علاقته الحميمة المتشابكة بالمجسد والواقعي والتاريخي لعالم يعيش الاغتراب والاستلاب في أبعاده التاريخية والواقعية. فمن الوقائع التاريخية، نعرف بأن العصر العباسي قد شهد قتل ودفن المعارضين في الأساسات العريضة للأبنية الكبيرة كما يروي أبو الفرج الأصفهاني. فضلا عن أن هذا النص يكشف عن واقع اجتماعي موصوفٍ بعين ترى ما هو أبعد من سطحه الخارجي. على أن هذا الفيض المجازي لا ينشأ حين يجري الحديث عما هو روحي وميتافيزيقي فحسب، وإنما يتدفق أيضا عندما تـُقدم لنا أحداث مستقاة من ذاكرة الراوي السحيقة. فالمخيلة السردية تفترض أن بإمكان الراوي تخيل أو تذكر عمليات الرضاعة حين كان رضيعا ً. ووصف الأم وصدرها في مزيج كلامي من فاعلية الشعر والوقائع المستعادة، فنقرأ: " آخر وجه لأمي كان وجها ً غير واضح أتت على ملامحه أشعة الشمس النافذة من خلال أوراق العنب في بريق خاطف يؤجج الحمرة القانية في شفتيها المطليتين بصبغة (الديرم)(7) وحضرة صلبان الوشم المنحدرة من عنقها إلى ثدييها الضخمين المضمخين بعبير صابون الرقي الذي طالما عببته مع الحليب، ومع العجب المبكر ومع الذعر من التوهج المباغت لفصوص الخواتم في أصابع يدها التي ترفع الثدي." ص 122.

 ونلاحظ هنا أن حضور اللون والضوء قد جاء مقترنا ً بكائن حي وحبيب إلى النفس هو الأم؛ فهو والحالة هذه لون ذو بعد روحي أكثر من كونه طلاء ً خارجيا ً. بيد أن هذا الفيض من الأداء المجازي يكون مفهوما ً طبقا ً لطبيعة الشخصية التي تعبر عن رحابة وسعة البعد الروحي لهذه الشخصية. ذلك فلا غرابة أن تقرر هذه الشخصية الآتي: "وحتى لو دمر جسدي تدميرا ً كاملا ً فإن الحياة المصبوبة فيه لن تكف عن الانبثاق والتجدد والاستمرار والتطواف في طرق شديدة التعرج كطرق الفجر الأقدم." ص 125. ولعلنا نتفق على أن هذا الكلام يكشف عن نزعة حلولية تجسد بعدا ثقافيا راسخا لدى شخصية علي. فهو يعيش الواقع بحس عرفاني لا عقلاني. إنه حس غنوسي (gnostic) ناجم عن تفاقم إحساسه بالظلم الاجتماعي دون أن يبذل محاولة لفهم موارد هذا الظلم ومسبباته، ودون أن يحاول تقديم تصورات فكرية عنه. ولذلك فإن الطلب إليه أن يبحث عن مكانه يدفعه إلى القول: " بذلك كانت تناديني الأوراق الجافة وضفادع الأنهار وصراصير الحيطان. "هكذا صارت الأشياء والحيوات البائية جزءا أصيلا من بنية الأداء الكلامي المجازي. تلك البنية التي وجدت في تطابق التبئير ووجهة النظر مفتاحا ً للأداء المجازي الحر. أما في النواة الأولى، فإن التبئير ووجهة النظر يتضاءلان لصالح أداء كلامي حيادي إلى حد بعيد، وبذلك يوازن النص السردي بين الصوغ الكلامي وحاجات النص الموضعية في نواتيه. فالتبئير وصيغته " تهم مقطعا ً سرديا ً محددا ً قد يكون قصيرا ً جدا ً."(8) فهو بذلك سمة متغيرة بتغير حاجات النص وليس سمة كلية فيه. إن من يرى ومن يتكلم يتطابقان في كل نواة من النواتين السرديتين. ففي النواة الأولى يكون الناظر، أو لنقل حامل الكاميرا الذي ينظر من خلف الشخصية مستنكفا ً من إبداء أي وجهة نظر مباشرة، وهو ما جعل الأداء الكلامي يميل إلى التجسيد لما هو ظاهري دونما محاولة للغوص في الجانب الشعوري للشخصيات. أما في النواة السردية الثانية، فإننا بإزاء أداء كلامي تتطابق فيه شخصية على مع ذلك الذي يرى وينقل لنا كل شيء. ويجلو هذا التطابق صيغة مكثفة للبعد الروحي والمزاج العقلي للشخصية الراوية للنواة السردية الثانية، تلك الشخصية التي ترتقي مجازيا ً بما هو جسدي وملموس وواقعي ومحدود إلى مصافات دلالية متقدمة. ذلك أن الراوي (علي) كان يتحرك، بصورة متسارعة، من زمن الحلم إلى زمن المرارة، زمن الوقائع الصادمة المعراة من مما هو جميل وبهيج. ومن هذه الحركة المتسارعة ومن وقائعها وجوانبها المادية الملموسة صاغت الشخصية الراوية انزياحات كلامها. فقد رأيناها تصف الوسادة، مثلا ً، بأنها وسادة "محشوة بأشلاء أصوات بعيدة." أو "على وسادة محشوة بالنواح واحتضارات الكائنات التائهة." وعلى هذا النحو تمارس الذات الإنسانية حضورها وتفرضه على الأشياء فتمحو حدودها المألوفة لتحيلها إلى موضوع لفاعلية المخيلة ولتولد منها بنيات أدائية مجازية لها وظيفتان: جمالية وتوصيلية. وهكذا صرنا نتوقع أن ينعطف نهر المجاز في أية لحظة فالنسوة في نومهن الهادئ " تمسدهن أنامل النوم الجريئة." وتلك المرأة التي تنظر في مرآتها فإنها " تنمو على سطحها [ أي على سطح المرآة] كبرعم أو ريشة."

وفي مواضع قليلة من النواة السردية الثانية، يتنحى الراوي المشارك في الحدث مفسحاً المجال أمام السرد الموضوعي الأقل حيادا. وذلك جين يترك الفتاة التي يحب هو أن يسمع مرآتها تتكلم، فيتحول إلى سارد غير مباشر أو ظاهر أو مشارك في الحدث. وهذا يؤكد حقيقة أن اصفاء أسلوب وحيد من أساليب السرد في النص القصصي الحديث قد لا يكون علامة نقاء نظرية لا نعثر ‘لى أثر لها إلا في مقاطع معدودة من النص. أما أسلوب السرد في كل نواة فهو يكاد يكون مجمع أساليب سردية بسبب تهشم الحدود من جهة وتعدد حاجات السرد من جهة ثانية.

-5-

إن المقارنة بين أسلوبي السرد في النواتين تظهر بجلاء أن هناك تغيرا ً جوهريا ً على مستوى وجهة النظر والأداء الكلامي أسهم في دعم الثراء الدلالي وأفق التأويل للنص بوصفه وحدة شاملة. فهذا الصنيع الفني قد جعل الدلالة تنصرف إلى معنى الشكل السردي لمحض، وإلى معنى تعاقب أسلوبين سرديين مختلفين كل الاختلاف. وواقع الحال أن الأسلوب السردي الغالب على النواة السردية الأولى هو الأسلوب السردي الذي يحتمل الحياد ظاهريا ً. من هنا كانت تسميته بأسلوب عدسة الكاميرا أو الأسلوب الشيئي الذي عرفته الرواية الفرنسية عند ألان روب غرييه. وفي هذا الأسلوب تعاني الذات الإنسانية إقصاء ً شبه مطلق. لذلك يقترن هذا الأسلوب بنوع من الزمكان السردي من نوع (هنا والآن). أي أنه يعنى أن ما تعيشه الشخصية إنما هو واقع الإلغاء والتهميش إزاء سيادة العناصر الشيئية على المشهد السردي. أما أسلوب السرد في النواة السردية الثانية فإنه أسلوب قريب من أسلوب التداعي الحر وتيار الوعي كما تجسد في الروايات النفسية وفي قصص جيمس جويس وفرجينيا وولف. من هنا فإن النواة السردية الثانية هي رؤيا ثانية للموضوع نفسه الذي تحدثت عنه النواة السردية الأولى، رؤيا داخلية بإزاء الرؤيا الخارجية السائدة في النواة الأولى. والفرق بين الرؤيا الموضوعية والرؤيا الذاتية هو أحد أهم آفاق التأويل لقصة "منزل النساء". فهو مؤشر على انقسام وتفكك الذات الإنسانية نفسها بين التحام بالطبيعة والأشياء كانت سائدة في مرحلة مبكرة من حياة البطل الذي هو ممثل للمجتمع البشري، وتمزق هذه الذات وترديها إلى مستوى أدني في سلم الوجود يقع دون منزلة الأشياء. إذن فإن ترتيب النواتين مغاير لزمن السرد الداخلي، إذ يمكن أن تكون النواة السردية الثانية ذاكرة للنواة السردية الأولى، بمعنى أنها تحدث بعد النواة الثانية وليس قبلها. أي أن الرؤيا التغريبية مقدمة على الذات التي تتذكر. وهذا أحد أعمدة الدلالة المهمة التي تتولد من القراءة المحكمة وتدعم ما ذكرناه توا ً. فنحن هنا إزاء موقف من الوجود يضع الأشياء قبل الإنسان. وهو موقف فلسفي واجتماعي في آن واحد. ولعل المغزى الفكري العام يتجاوز محنة البطل إلى مسألة مهمة هي موقع المرأة في صلب هذه التجربة الوجودية. تلك المرأة التي يمكن أن نقول عنها أنها بقيت موضوعا ً لموضوع ذكوري، أي أنها موضوع يهم الرجل الذي هو بحد ذاته موضوع للاستغلال والقهر والغربة. بمعنى أن المرأة كانت مهمشة مرتين. وهي فوق كل ذلك موضوع مسكوت عنه، كما أنها لا تحتل أهمية مركزية في النص في أي من النواتين لكونها مجرد حافز للزيارة التي يروم البطل فيها إرواء أشواقه الشخصية إلى الماضي. وحتى حين تتحدث عوفة عن ذكرياتها، فإن ذلك لا يجعلنا نعرف الكثير عن عذابات المرأة وآمالها، وهذا مما يلحق بها ظلماً مضاعفاً أشار إليه النص ضمنيا ً. أليس كذلك؟

 

كلية الآداب/ جامعة بابل

 

الهوامش والإشارات:
1. ميشيل بوتور (1971) " بحوث في الرواية الجديدة " ترجمة فريد أنطونيوس. عويدات. بيروت. (ص 5)

2. أنظر كتاب: Jameson, Fredric. (1981) The political Unconscious:Narrative as a Socially Symbolic Act. London: Methuen.

3. اعتمدنا النص المنشور في مجموعة "في درجة 45 مئوي" الصادرة عن دار الشؤون الثقافية في بغداد.

4. تثير مسألة ترجمة المصطلحات السردية مشكلة أكبر هي وجود ترادف في الترجمة. فمثلا ً، ما الفرق بين السارد والراوي، وكلاهما ترجمة لكلمة narrator؟ ويرى أحد الباحثين العرب في السرديات أن تستعمل مصطلحات: الراوي والمروي والمروي له حين يكون الاشتغال على مستوى كلام الشخصيات في النص السردي. أما المصطلحات: سارد ومسرود ومسرود له فهي من المصطلحات التي تستعمل على مستوى الخطاب السردي، أي أنها تتعلق بالمؤلف ساردا ً والنص السردي برمته بوصفه مسرودا ً والمتلقي بوصفه مسرودا ً له. وأجد أن لهذا المقترح مسوغات علمية مقنعة. راجع عبد الحكيم المالكي ( 2006) " تحولات الخطاب الروائي العربي" ورقة ألقيت في ندوة جامعة اليرموك 2006 م. ضمن المحور السادس " الخطاب من الروائي إلى السردي".

5. ميشيل بوتور. مصدر سابق. ص 5.

6. روسو-غويوم، فرانسيس فان، (نظرية السرد أو المنظور السردي: نظريات وتصورات) في كتاب "نظرية السرد من وجهة النظر إلى التبئير" تأليف مشترك. ترجمة ناجي مصطفى. مطبعة الكوثر. الدار البيضاء. 1989. ص 8.

7. الديرم صبغة للشفاه من النبات الطبيعي. وهي بلون بني فاتح.

8. جيرار جينيه، " المنظور" المصدر السابق في (5) أعلاه. ص 62.