يعرض الكاتب المصري هنا رواية يمنية جديدة للغربي عمران، يمتزج فيها التاريخي بالمتخيل، والواقعي بالرمزي، ويكشف فيها الروائي عن عوالم يمنية خالصة، تسعى إلى مفارقة المألوف في الواقع والكتابة معا، وتقدم لنا تجاوزها ذاك على صعيد اللغة والبنية السردية على السواء.

مسامرة الموتى من أجل الأحياء

قراءة لرواية الغربي عمران

السيد نجم

مدخل للقراءة:
هناك روايات تتعدى المطروح وتعبر عن طموح الكاتب والرغبة فى التجاوز، بل والسعى بوعى لتحقيقه. رواية "مسامرة الموتى" للروائى اليمنى "محمد الغربى عمران" واحدة من تلك الروايات التى تشى بقدر من الجهد الفني ومحاولة الانزياح بعيدا عن التقليدى والشائع فى كتابة الرواية الآن (2016م). بدت محاولات التجاوز فى عدة ظواهر فنية، وقد دعم تلك المحاولات، التناول الشعرى فى الصياغة السردية وبناء الشخصيات وغيره كالآتى:

اللغة السردية المستخدمة، تتسم بالشعرية وليس المقصود هنا هو توظيف الخصائص الشعرية من تراكيب وخيال ومفردات، المقصود تحديدا هو البناء على المطلق، وكأن كل سطر في الرواية يعبر عن ذاته، من أجل كشف المجهول الغائر في أعماق الكاتب، والداعم لحالة ما بنفس القارىء .. حيث يبدو وكأن الكاتب يرسم صورة لا نهائية بهدؤ.

سوف نتناول آليا بدايات الفقرات مع الفصل الأول (نموذجا) للكشف عن تلك البنائية الشعرية فى السرد:

«ظهر "اليامى" في سوق الوراقين يحفه خيالته ... لم يترك لرفضى مجالا فحملنى عنوة إلى ذي جيلة ... سار بنا اليامى من قلعة إلى أخرى حتى حصن "هران"... إعياء السفر المتواصل جعل كلا مشغولا بنفسه ... أمر اليامى إحكام وثاقي»

هكذا تتركب الصورة بروية وذكاء، بينما يبدو الأسلوب حياديا غير زاعق، يؤكد الحالة ويرسمها. وبالرغم من مأساة الشخصية المحورية فى النص (حوذر أو صعفان)، فلا نقرأ كلمات النحيب والحزن بقدر ما نشعر بحالته ونتلمسها في كل تأملاته وحالاته .. فيبدو وكأننا أمام حالة ذهنية قبل أن تكون حالة واقعية.

وهو ما يثير التساؤل حول تلك السمة فى مجمل أعمال الروائي "عمران" (الروائية)، ولعلنا نجد الإجابة المناسبة بعد متابعة قراءة الرواية.

الصورة الذهنية للشخصيات، هي الملمح التالى، حيث أن مجمل شخصيات الرواية بلا أوصاف جسدية، مع إستثناءات قليلة (مثل شخصية السجان ذا الساق الوحيدة). كما تبدو الشخصيات أحادية السمات .. القاس، المضطرب، العاشق، القوى، الضعيف، وغيرها من السمات الشخصية، بحيث تبدو تلك الصورة للشخصيات قادرة على فرض عالمها الخاص، غير الواقعى غالبا، فيتأكد العالم الشعرى للرواية ... التراكيب الشعرية الثرية والدالة التي تفرض نفسها على البناء الأسلوبى للرواية، مثل: ص26 "أذهب لزيارة قبر أمي .. لا أعرف ما على فعله غير أنى أشعر بمن يمسد شعرى وصوت يردد صلواته .. لذلك كثيرا ما قضيت جوار قبرها أحكى .. لتلفح أنفى رائحة وجهها. ص63 "وبذلك تزداد قناعتى أن العاشق شهيد حيّ وروح لا تموت".

عتبة النص "العنوان":
يبدو تعبير "مسامرة الموتى" وكأن الروائي يسعى إلى إبلاغ القارىء بداية، بحجم العزلة التى تعيشها الشخصية المحورية في الرواية .. وإلى حجم البغض والكراهية التي يلاقيها من الآخرين وداخله.. فلم يجد غير الموتى يحاورهم. لكن تقع أحداث الرواية فى أغلبها خلال الزمن البعيد (بين 470 حتى 532 هجرية) فى بلاد اليمن أو جزيرة اليمن حسب ما تكرر فى متن الرواية. وهو ما يشى بضرورة توافر قناعة أكيدة أن كل ما يدور من أحداث بين الشخصيات هى فى عتاد الموتى.

لكن (أيضا) أليس الراوى بالعمل ضمن شخصيات تلك الفترة، وهو ما يفيد أو يوحى للقارىء  أن المسامرة والتحاور هى فى الحقيقة بين الراوى/ الروائى وشخصيات الرواية (التاريخية والمتخيلة). ويبدو السؤال منطقيا الآن: ماذا يريد الروائى السارد من تلك المسامرة مع الموتى؟ حتى أنه قال فى ص151: «أكثر من عشرين سنة عشتها فى عزلة سقف فسيح.. توصلت إلى وسيلة التحدث مع الموتى.»

مقاربة شكلية:
تقع الرواية في 201 صفحة حجم متوسط، أظن أن الإخراج الفنى للرواية وطباعتها فى كتاب، عمد إلى ضغط بونط الكلمات والتنسيق الداخلى، حتى تخرج فى هذا الحجم الذى يبدو أصغر من حجمها الطبيعى، لأسباب تتعلق بالتكلفة الإقتصادية.. فهى من الروايات كبيرة الحجم متعددة الخصائص والملامح. قسمت الرواية إلى ثلاثة أقسام: "أسماء -470هجرية"/ "سيدة - 510هجرية"/ "أروى-532 هجرية". كل قسم يحمل اسم واحدة من الشخصيات النسائية (من طبقة الحكم)، حيث تعتبر تلك الفترة من فترات النزاع السياسى والصراع على حكم جزيرة اليمن .. منها (الملك "ذى جبلة" وزوجته الحرة "سيدة"- أروى .. وشخصيات تاريخية أخرى من سلاطين وآمراء القلاع، فضلا عن تلك الشخصيات/ الحكام من مصر وغيرها.

هل "مسامرة الموتى" .. رواية تاريخية؟
تشي العديد من المعلومات التى نثرها الكاتب بين طيات الشخصيات والحوار والأحداث، أن الصراع على الحكم هو العمود الفقري ومحرك البعد الزمنى للرواية. ها هو ذا رسام حروف الكلمات أو الخطاط "جوذر" وقد أصبح اسمه "صعفان" بعد حبسه فى قلعة الحرة "سيدة" دون جريرة إرتكبها، ما يعنى دخوله مرحلة جديدة ومختلفة من حياته، وهى سمة من تقاليد القصور الملكية فى اليمن. لكنه إكتشف أنه أصبح كاتب رسائل السيدة (الأولى) في القلعة، وله دوره الهام تحت الحبس (لعشرين سنة)!

من خلال تلك الرسائل الملفوفة بالشرائط الحمراء والمطعمة برائحة الريحان، تتوالى بعض الأحداث التى هى فى الحقيقة من تاريخ اليمن الحقيقى .. كما إستخدم الروائى حيلة أخرى لرصد البعد التاريخي هذا، ألا وهى رحلة بحث الخطاط على حبيبته "شوذب" (ابنة المعلم صاحب الدكان، الذى تعلم على يديه وعمل في دكانه من قبل منذ طفولته، حيث كان يلعب معها، وكبرا معا). ما حدث أن تم القبض عليه ثم علم بأنها (أى حبيبته) أصبحت من جوارى الحرة "سيدة"، لتبدأ رحلة البحث عنها بين الجوارى القادمات يوميا لتسليمه الرسائل، أو حتى بين من تصله لمحات منها مصادفة إذا تحرر من محبسه، لسبب أو لأخر.

ما سبق أتاح للروائي إمكانية سرد بعض الصراعات بين حكام اليمن، ونقل صورة عن شكل البناء السياسى والعسكرى فيها، سواء بما تحتويه من قلاع وقوات على شكل مجموعات تخضع لأمير ما. أو ذلك الدور السياسي والعسكري الخفي الذى تلعبه الجوارى، سواء بتكليفات من الملكة لنقل معلومة أو خبر أو أمر ما. ثم هناك الدور السري العسكري الذى قد تنهض به الجارية لأسباب تخصها، وقد تقتل بسبب فعلتها وتدخلها فى شئون الدولة عن جهل، أو حتى من باب الإخلاص دون أمر مباشر لها!

يشى النص الروائى بقدر من التاريخ القديم لليمن، ومع ذلك هناك ما يشى إلى أحداث وأحوال وكأنها الآن، أو على الأقل تشير إلى وقائع آنية ترميزا وإحالة .. منها: ص165 (كان رحيل "ذى جبلة" حدثا عظيما يجلجل أركان البلاد وليس القصر وحده .. فالصراع على الحكم باد فى تفكير كل أمراء القلاع، فكانت الفكرة .. كلفت رسولا يحمل رسالة سرا الى أمير المؤمنين الأمر بأحكام الله فى القاهرة. شرحت فيها خطر المناوئين للدعوة المستعلية. وتطاول بعض الأمراء بإعلان إتباعهم الدعوة النزارية .. متوسلة إنتداب مستشار لمساعدتنا.)

هكذا بدت الجماعات الدينية المتصارعة (تلك الظاهرة العربية القديمة والمعاصرة). وبدت حقيقة تاريخية وهى طلب العون من القاهرة، ثم مهاجمة هذا التدخل من حاكم القاهرة، وهو ما يعبر عن بعض الإسقاطات التي تبناها الروائي، وهو ما بدى في المثال: ص180 (أعلنت فصل دعوتنا عن مصر التي أمست نزارية .. وكان ذلك على نهج الملكة سيدة .. لتستقل جزيرة اليمن بدعوتها الطيبية .. كما أعلنت تكريس أنشطتنا فى الدعوة بعيدا عن التسلط، وبذلك ابتعدت بذي جبلة عن مخاطر التجاذب بين الأمراء وصراعاتهم المذهبية")

لعل الأحداث التى تشير إلى التاريخ القديم والمعاصر فى هذه الرواية، تغرى البعض بالنظر إلى الرواية بإعتبارها رواية تاريخية،  بقليل من التريث يلاحظ القارىء ما ينفى عن الرواية تلك السمة، للأسباب التالية: رؤية الكاتب طغت بحيث أتاحت له توظيف التاريخ دون كتابته (حرفيا أو حتى فنيا). فقط عمد إلى التقاط ما هو مناسبا ومعبرا عن وجهة نظره. تمثلت رؤية الكاتب في: التنقيب في الماضي وكشف ما به من أحداث وأحوال، ربما تماثل بعض ما يرى من أحداث وأحوال آنية ومعاصره، منها ظاهرة الصراعات الدينية أو صراع الجماعات الدينية- أن الصراع في العالم العربي ومنذ قديم الزمان، في حقيقته هو صراع على السلطة، وليس على مصالح الشعب وتحقيق رفاهيته .. الإفتقار إلى الحرية، حيث تم القبض على "حوذر" وسجنه دون جريرة منطقية، بينما من هم خارج محبسه مكبلون بالأغلال غير أحرار ولا يرونها لكنها فاعلة فيهم، حتى يقتل بعضهم دون أسباب معلنة. بالتالى من طرف خفى، يستشرف الروائى المستقبل الخالى من منغصات الماضى تلك.

الوجه الآخر الذى يرسمه الروائى:
فى مقابل تلك المنغصات فى الوطن، بدا "حوذر" على صورة معاكسة ساعيا أن يتحرر من تلك المنغصات، وإن حاول بإعمال العقل والتفكير، وهو ما تبدى في مجمل آرائه وأفكاره حول الأديان (كل الأديان).

*قضية الدين: فى ص33: تسأله ابنة المعلم: "أنت يهودى؟".. أجاب: "كنت أود أن أرد عليك بأنى لا أعرف لى دينا".. فقالت: "أعلم بأن أمك يهودية" .. خلال الحوار نفسه ينفى عن نفسه صفة اليهودي، وأنه يجيد سحر رسم الكلمات، وهى تجيد أعمال الوشم وقراءة أسرار الكف والإستعانة بالنجوم. ثم ذهب الكنيس اليهودى وقابل العيلوم (كبير الكهنة) وسأله: هل يؤمن بوجود الله، وأن الله فريد في نوعه؟ ليس له جسم وهو أزلي؟ فلما كان يهز رأسه، طلب منه أن يذهب للصلاة .. إن الله يكافىء الأخيار ويعاقب الأشرار .. قاعة الصلاة يعلوها الضجيج ويتبادلون الحلوى فيها" ص42: "شاركتهم الصلوات متذكرا نصيحتك: إفعل مثلما يفعلون .. إن طبيعة الإنسان تكمن في غضبه وشهوته وكأسه .. إشرب لتكتشف من أنت؟"

وفى موضع لاحق تسأله الجارية: "ماذا تقصد؟ .. "أقصد بأنى لا أصدق بأنك تؤمنين بتلك الحكايات والأساطير، فلتكونى مسلمة أو يهودية؟ ألم تباغتك أسئلة دون أن تجدى لها أجوبة؟ ألم تتساءلي عمن يعبدون؟ وأين هو؟ ولم هم يقولون بأنه دين يخصهم دون الأغيار؟.. ولم علينا التصرف باسمه بينما يتشرنق في غيابه؟ فى ص44: "ألم أقل لك بأنك مخير" .. فمن تعبد؟ "لا أظنني أعبد أحدا .. كهنتهم يعون ما يصنعون من وهم، ولكنها مصلحتهم وجل المسلمين يعبدون محمدا ومراقدهم وإن أنكروا" .. "والنصارى جاهروا بعبادتهم ليسوع، كائن حى غير موجود" قالت: "أنت لست يهوديا" .. فرد عليها معترضا: "لماذا  وشمتني وتعرفي أن اليهودي لا يوشم؟

لعل أوضح آراء "حوذر- صعفان" فى قضية الدين فى ص180 يقول: "السلطان لا يؤمن إلا بنفسه .. يستخدم كل شىء بما فيها الأديان كوسيلة لتكريس ربوبيته دون أن يصرح بذلك .. وإخضاع رعيته واستغلالهم .. بالدين يمنح نفسه حق القتل والاستغلال .. فيستخدم ذلك لمزيد من بسط سلطته."

وهو ما يؤكد أن رؤية الروائى هى السمة الفاعلة روايته (وروايات سابقة) وما التوظيف لبعض الأحداث التاريخية إلا وطئة يمتطيها لبلوغ هدفه/ أهدافه التى تتكشف للقارىء بعد الإنتهاء من السطر الأخير من الرواية.

الجديد أن أضاف الروائى هنا فى روايته "مسامرة الموتى" ما قد يوحى بالتمرد والمواجهة والبحث عن الخلاص فى فقرات خاتمة الرواية حيث يقول (بتصرف): "ذلك اليوم كان يقينى بنهاية "أروى" بالقلعة ... ونهاية أيامى وأنا أمسك بمشعلي ... لم أكن واهما حين إرتفع صوت الطفلة "طيبة" آمرا: لن نعود إلى توابيتنا .. سنخرج ندعو الناس لنملأ الأرض عدلا .. سريعا إشتعلت النار .. أنا الهث بإتجاه بداية السلم وصعدت السلم."

إلى حيث نور الشمس صعد، ألم أشر سلفا أن الروائى الغربى عمران لا يكتب رواية تاريخية؟!

 

Ab_negm2014@yahoo.com